السلفيــــــــــــــــــــــ عرض و نقد ـــــــــــــــــــــــة
[align=justify]
[align=center][frame="7 80"]_______________________________
السلفيــــــــــــــــــــــــــة
..عرض و نقد ..
_______________________________[/frame][/align]
السلفية الدينية في المجال التاريخي الاسلامي .. مقاربة نقدية
ا. نبيل علي صالح
اولا - مقدمة ضرورية تعتبر دراسة التاريخ الاسلامي - وما فيه من احداث وافكار - بتقنية علمية وموضوعية من المسائل الشائكة والصعبة..وهي لا تتوفر الا للقلة من الباحثين نظرا لطبيعة المادة التاريخية التي قد تتشابك نصوصها، وتتضارب احداثها ووقائعها، وتتلون تحليلات الكتاب والمؤرخين حولها بمختلف الوان الاتجاهات السياسية والمذهبية المتبناة من قبل هذا المؤرخ اوذاك.
واذا كان التاريخ الاسلامي لا يزال مصدرا اساسيا من مصادر الفكر والمعرفة الاسلامية، فان المنطق العقلي والعلمي يلزمناجميعا - كمفكرين وباحثين ومنتجين للمعرفة - ان نقوم بدراسة مواقع (ومواضع) هذا التاريخ دراسة نقدية واعية لا تكتفي بنقل مخزوننا التراثي التاريخي الهائل الحجم والاتساع كما هو الى عصرنا الراهن، ولكنها تنفذ الى عمق حركة هذا التاريخ لتبحث عن افكاره واحداثه ورموزه ومواقعه، وتقوم بتوثيقه من حيث رواته ومضامينه ومحتوياته، وتدرس امكانية انسجامها او عدم انسجامها مع حقائق الاشياء والظروف الموضوعية التي تحيط بهذه الفكرة او الواقعة او تلك الشخصية التاريخية.
وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم في ضرورة ان نتعاطى مع التاريخ - باعتباره حركة الانسان في محيطه خلال الزمان -من موقع العبرة والدرس والعظة والاستذكار الايجابي الفعال، ليغدو - هذا التاريخ - مدرسة نعرف نتائجها في حجم التجربة، ولنصنع التاريخ في مدرسة نحرك نتائجها في المستقبل..
يقول تعالى: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (الانعام:55)..
وهذا ايضا ما تؤكد عليه نصوص السنة الشريفة من خلال ضرورة «عقل الخبر عقل رعاية لا عقل رواية.. فرواة العلم كثيرون ورعاته قليلون»، كما يشير الحديث الشريف.
ونحن عندما نتحدث تاريخيا عن فكرة او رمز او موقف تاريخي ماض، فاننا نريد لبحثنا التاريخي ان يدخل الى العمق الروحي والفكري للرمز والقيمة والمفهوم، وان نستقدم من التاريخ الماضي للشخصية التاريخية المدروسة - التي ابتعدناعنها كثيرا في حساب الزمن المادي - كل المبادئ والقيم الروحية والعملية مما كان يتحدث عنه، او يوجه اليه، او يعظ به..من خلال ما كانت تمثله من صورة مضيئة ومشرقة للاسلام كله على مستوى الفعل والقول والحركة والموقف.. وهذا يضعناامام مدخلية فكرية منهجية اراها ضرورية للبحث في اي مادة تاريخية.. وهي مسالة كيفية دراسة المادة التاريخية،والادوات الواجب استخدامها، وضبطها في سياقها الطبيعي، سواء كانت المادة فكرا ام رمزا.
ولعل من اهم الامراض التي تصاب بها اغلب الحضارات والثقافات في فكرها وتاريخها وحركتها - والتي تفضي حتماالى تخلف الشعوب وانحطاط الامم - هو مرض التمسك الشديد لنخبها بافكار ونظريات ومبادئ ومواقف عاشت ونشات في الماضي، وتجاوزها الزمن، وسبقتها عجلة التطور، ولم يعد لها اي علاقة عملية بالوقائع الجديدة والاحداث المتتالية والمتراكمة، حتى ان العديد من هذه النخب السياسية والثقافية المتمسكة بالقديم ترى تخطئة من يغير مفاهيمه وآراءه لتتلاءم مع روح العصر، وتتكيف مع المستجدات ومنطق التطور التاريخي.. فالتخلي عن المبادئ لديها (حتى لو اثبتت التجربة والايام عقمها وفشلها، وتاثيرها السلبي على حركة الحاضر والمستقبل)، يعتبر اعلى درجات «اللااخلاقية» في العمل السياسي والفكري، ليكون - بحسب اصحاب هذا المنطق - التمسك بالمبادئ والاصول - التي لا تزعزعهاالتحديات، ولا تقهرها المتغيرات.. والراسخة رسوخ الجبال - اعلى درجات «الثورية» والنجاح، فالمهم الانتصار في اللفظ والخطابة واللغة، حتى لو خسرنا الارض والواقع والحاضر كله.. وبهذا يمكن تفسير اسباب الجمود والتخشب الفكري والعملي لدى تيارات سياسية وفكرية تفتخر بانها ثابتة على المبادئ دون الاهتمام بمدى مناسبتها للظروف السائدة،وبمدى وجود فرص حقيقية لنجاحها في الاطار العملي.
ومن هنا تاتي فكرة «السلفية» لتكون فكرة من جملة الافكار التاريخية الدينية التي انطلقت شراراتها الاولى منذ قرون عديدة، واصبح لها انتشار وتاييد واسعين في عالم العرب والاسلام حاليا، ولا تزال رائجة ومتحركة بقوة في داخل اجتماعنا الديني والسياسي المعاصر، حتى باتت تشكل عصب التفكير الحركي للكثير من النخب والتيارات والحركات الاسلامية المعاصرة المنتشرة انتشار النار في الهشيم على امتداد مساحة مجتمعاتنا العربية والاسلامية.
ومنذ بداية التشكل التاريخي لهذه الظاهرة (التي رفع بعض زعمائها وقادتها المحدثين شعار: الحسام البتار، والدرهم والدينار)((348)) لاحظنا كيف انطلقت الخلافات ودبت الانقسامات بين صفوف المسلمين على اختلاف مللهم وانتماءاتهم ومذاهبهم، بحيث نستطيع القول ان نشوء السلفية الدينية هو من اهم المسببات في ايجاد حدود ومداميك مذهبية ايديولوجية بين عموم ابناء الدين الواحد.. وقد تعمقت تلك الحدود والحواجز الفكرية والثقافية الدينية اكثر من تعمق الحدود الجغرافية - السياسية.
وقبل ان نبدا بالحديث عن طبيعة الفكر السلفي، ومقوماته، وكيفية مواجهته بالنقد والتحليل، نسال هنا: كيف يمكن للمرءان يفسر بعقلانية ظهور السلفية (والاصولية) الاسلامية اليوم؟ ثم لماذا في عصر المنطق، توجد اعداد هائلة من اتباع العقلانية والتنوير والاعتدال في العالم الاسلامي قد ينجذبون ويدعمون مفهوما دينيا اصوليا في العالم، من مجموعات اصولية متطرفة على غرار القاعدة وطالبان الى منظمات اكثر نموذجية على غرار (الاخوان المسلمون) في مصر (والجماعة الاسلامية) في باكستان؟! ان الذي يبدو امامنا هو ان المسلمين الاصوليين يسيطرون فعلا على العالم الاسلامي. فاين يمكن البحث عن الاجوبة؟!!يزودنا كل من التاريخ وعلم الاجتماع، بدلا من الفلسفة الفكرية، بعدسة من اجل السعي لتخطي هذه الظاهرة الفكرية -الاجتماعية المتفاقمة.
ثانيا - السلفية: مقدمات فكرية وخلفيات تاريخية ومذهبية لدى مراجعة كتب اللغة ككتاب لسان العرب مثلا، يتحدث ابن منظور عن السلفية قائلا: «سلف: سلف يسلف سلفاوسلوفا:
تقدم... والسالف: المتقدم. والسلف والسليف والسلفة: الجماعة المتقدمون، وقوله تعالى: (فجعلناهم سلفا ومثلاللاخرين) (الزخرف: 56)...
وقال الفراء: يقول جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الاخرون... ويقول الجوهري: سلف يسلف سلفا مثال طلب يطلب طلبا، اي مضى. والقوم السلاف: المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع اسلاف وسلاف... والسلف ايضا: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم من فوقك في السن والفضل، واحدهم سالف... وقيل: سلف الانسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الاول من التابعين السلف الصالح((349))».
اذن، كلمة السلف تعني لغة: الاقدمية الزمني، اي التقدم الزمني كما يقول الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه(السلفية - مرحلة زمنية مباركة لا مذهب اسلامي)((350)) : «كل زمن من الازمان سالف بالنسبة الى الازمنة الاتية في اعقابه وخلف بالنسبة الى الازمنة التي سبقته ومرت قبله». وقد حدد الشيخ البوطي هذه المرحلة السلفية بالقرون الثلاث الاولى من عمر التجربة الاسلامية، وقد اختلف كثيرون معه في ذلك.
اما المراد بمذهب السلف، فيقول احمد بن حجر: «ما كان عليه الصحابة رضوان اللّه عليهم، وما كان عليه اعيان التابعين لهم باحسان، وما كان عليه اتباعهم وائمة الدين ممن شهد له بالامامة، وعرف عظيم شانه في الدين، وتلقى الناس لكلامهم خلفا عن سلف. كالائمة الاربعة، والسفيانيين، والليث بن المبارك النخعي، والبخاري، ومسلم، وسائر اصحاب السنن دون من رمي ببدعة او شهر بلقب غير مرضي مثل: الخوارج والروافض والمرجئة والجبرية، والجهمية، والمعتزلة وسائر الفرق الضالة» ((351)).
وهكذا لا يشير مفهوم السلف او السلفية الى فترة او مرحلة زمنية محددة اختلف المؤرخون في تحديدها، وانما يتعداه الى مصطلح ومفهوم «الخيرية» المنتزع من حديث رسول اللّه المروي في اكثر من كتاب تاريخي: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجي اقوام تسبق شهادة احدهم يمينه ويمينه شهادته».
واذا ما اردنا التدقيق في الرؤية التاريخية السابقة التي تعتبر ان السلفية مذهب ومنهج له بداياته التاريخية منذ زمن الرسول والصحابة الاوائل ومن ثم الذين يلونهم، فانه يمكن التاكيد هنا على ان مفهوم «السلفية» لم يتمظهر تاريخيا كتيار له سمات محددة ومعايير معينة في طبيعة المفاهيم والعقائد والسلوك الا بعد ان بدا الاسلام ينتشر في العوالم المتعددة المحيطة بشبه جزيرة العرب. حيث انطلق المسلمون فاتحين بلاد العالم القديم متسلحين برؤية دينية عقائدية ايمانية محددة،واستطاعوا - خلال فترة زمنية غير طويلة نسبيا - الهيمنة الفعلية على اكبر امبراطوريات التاريخ آنذاك، وقاموا بنقل ارثهماالكبير، كما حاولوا - طيلة قرون عديدة - هضم واستيعاب ميراثهما الحضاري العريق والمتراكم.
ونتيجة لهذا التفاعل والاحتكاك الحي المتواصل والمتراكم مع العوالم الاخرى، كان من البديهي ان يتاثر الفاتحون المسلمون بافكار ومعارف وثقافات الحضارات المتنوعة في افكارها وعاداتها وتقاليدها.. فهؤلاء المسلمون عاشوا في شبه جزيرة صحراوية، ولم يتطبعوا بطباع المدنية، بل سكنوا الخيم في ظروف مناخية بالغة القسوة والشدة، اثرت على طباعهم واخلاقهم، وعلى طبيعة نظرتهم للحياة والانسان.
اذن، بدا التحول يظهر على حياة اولئك الفاتحين، وبدات قيم وعادات جديدة تسيطر على معيشتهم واحوالهم من حيث شكل اللباس وطريقة الاكل والمسكن، خصوصا بعد ان سكنوا المدن واختلطوا مع افراد تلك المجتمعات الجديدة في البلدان الواسعة التي فتحوها والتي اصبحت تشكل - مع مناطقهم الجغرافية - ما يسمى ب -«المجتمع الاسلامي الكبير».
ومنذ ذاك الحين بدات وتائر الدعوات والنداءات المحذرة والمتوعدة تتصاعد من طرف بعض الناس في تنبيههم وتحذيرهم من هذا التحول ومن خطورة نتائجه، وتدعو للرجوع الى ما كان عليه الرسول ومجتمع الصحابة الاول. فامام حركة الترف والتنعم بملذات الدنيا وخيراتها (من امتلاك للمزارع الكبيرة، وبناء الدور والقصور الفخمة، واقتناء الجواري والعبيد والخدم والحشم... الخ) ظهر تيار مناهض لهذه المظاهر وندد بها((352))، داعيا للتقشف والزهد في الحياة الدنيا. على ان ذلك - كما يدعي اصحاب هذا المنطق - من صميم الدين وسيرة السلف الصالح، وهناك محاورة((353)) بين الامام الصادق( وسفيان الثوري (وكلاهما ينتسب لعصر التابعين) تظهر لنا عدم تقبل الكثير من الملتزمين بالدين الجديد -خصوصا من العرب - بعض العادات الجديدة في الملبس والماكل والمسكن. وهذا كله مما يدل على قوة تلك التحولات العميقة وردود الافعال عليها ضمن الدائرة الاسلامية.. حيث لاحظنا - مع مرور الايام وزيادة انغماس المجتمع الاسلامي اكثر فاكثر في الحياة المدنية والترف الحضاري المديني - تصاعد الدعوات الى ضرورة العودة لاقتفاء «اثر السلف الصالح»،وباتت الدعوة لتقليد السلف في ملبسهم وسلوكياتهم العامة خطا او تيارا خاصا متميزا في الوسط الاسلامي بجانب التيارات الاخرى. لكن هذه الدعوة ستاخذ ابتداء من القرن الرابع الهجري بعدا مفاهيميا (فكريا ونظريا) له رموزه وشخصياته ممن يدعون للعودة الى التزام نهج وقيم وآراء ومذاهب السلف الصالح.
ولكننا هنا نطرح عدة اسئلة حول الزمن التاريخي المحدد الذي عاشوا فيه؟ وماهية هؤلاء السلف الصالح؟ من هم؟ ماهو تاريخهم؟ ما هو دورهم في الحياة الاسلامية؟! ما هي ابرز اعمالهم وانجازاتهم التاريخية التي لا تزال باقية حتى الان؟!وهل تنطبق مقولة السلف الصالح على كل من عاش في زمن الرسالة الاولى؟ واذا كان الامر كذلك، فهل كل من كان مع الرسول كان صالحا ومؤمنا وصادقا.. اي تنطبق عليه كل الصفات الحسنة والمحمودة؟! في الاجابة نرى انه عند العمل على تحديد هؤلاء السلف الصالح الذين يقصدهم رموز هذا الخط.. فالمسالة تبدو مبهمة احيانا ومتناقضة احايين اخرى، وغير محددة المعالم على وجه الدقة..
اذ اننا عندما نقرا كتب التراث السلفي - اذا صح القول - نجد انفسنا امام مجموعة غير قليلة من التعاريف المختلفة والمتفاوتة والمتناقضة التي تشرح وتحلل فكرة السلفية..يمكن ان نستنتج معها ان المقصود بالسلف الصالح ليس كل من رافق الرسول الكريم، او عايشه، او رافق من رافقه، وعايش من عايشه، باعتبار ان فيهم المؤمن والمنافق، الصالح والطالح، الصادق والفاسق، الملتزم والمنحرف، لا بل ان بعضهم ارتدواعلن العداوة على الملا.. وبالنتيجة نسال: هل تنطبق على كل هؤلاء مقولة «السلف الصالح»؟! بالطبع لا.
كما اننا نعتقد ان الازمات والنكبات والتجارب الكثيرة التي مرت على عالم الاسلام والمسلمين منذ حادثة «السقيفة» -التي افترق المسلمون بعدها الى مكونين وفرقتين، لكل منهما طريقتها ومنهجها في فهم النص، ووعي رسالة الاسلام،واسلوب الدعوة - تدل دلالة اكيدة على وجوب عدم وجود نظرة واحدة او مستوى واحد في تقدير (وتقييم) كل ما يسمى بالسلف الصالح، وضرورة احترام كل ما جاؤوا به من معارف والتزامات في المستويين النظري والعملي (اذا سلمنا جدلا بان ما انتجوه من تراث ديني يشكل معرفة حقيقية بالمعنى الصحيح للكلمة).. فهم ابناء عصرهم ونتاج بيئتهم، انتجوا فكرامعينا نتيجة ظروفهم وكسبهم هم بحسب ما توصلوا اليه من خلال وعيهم وادراكهم للوجود والحياة، ولا يمكن الجزم مطلقاان تجربتهم هي افضل التجارب، او ان فهمهم للامور افضل من فهم غيرهم لها.. كما ان اختلافاتهم وخلافاتهم كثيرة وواسعة حتى انها ملات الخافقين، وتجاوزت حدود الاختلاف الفكري المحمود لتصل الى حد اباحة سفك الدماء والافتاء بالقتل ضد هذا وذاك، وتكفير الفرق لبعضها البعض، وسحق كل مناؤئ او مخالف او معارض للراي والمعتقد الخاص بهذا الطرف اوذاك ((354)). ولكن بالاجمال العام يمكن القول انه يجب ان نعذر اولئك السلف من الاباء الاوائل ((355))، بان لا ننقل تجاربهم وخلافاتهم وافكارهم المضرة الى عصرنا الحالي، وان تقتصر رؤيتنا لهم على صورة بشرية عادية وليس الهية مقدسة.
وفي تصوري ان المنطق الذي تبني السلفية دعواها التاريخية والفكرية عليه لا يستقيم ابدا مع النظرة القائلة: ان السلف صالح وخير بالمطلق، وان ما ذهب اليه السلف هو الحق، وما دونه هو الباطل، كما هي رؤية كثير من المذاهب والتيارات والنخب الاسلامية السلفية الماضية والمعاصرة. وهذه حقيقة انتقائية فجة، ونظرة ضيقة وسطحية للامور. فليس كل من هومن السلف صالح بالضرورة، وليس كل من هو من الخلف طالح بالضرورة. التقييم والحكم هنا نسبي من حيث المعيارالحقيقي تاريخيا وواقعيا.
ثالثا - التطبيقات العملية للفكر السلفي اننا عندما ندرس «السلفية» كمصطلح فكري، فاننا نفهم منها طريقة التفكير غير الموضوعية التي تتحدد بجملة افكارومعايير دينية يعمل اصحابها ودعاتها على استنطاق التراث بشكل قوالب جامدة وانماط شكلانية محددة غير قابلة للانفتاح على الحياة والعصر، مما يوقع المنتمين اليها في ازمة الابتعاد العملي عن الواقع، والعيش في جنة النظريات والافكار ((356)).
واذا اردنا ان نميز ونحدد بشكل اكثر دقة اهم انماط وتطبيقات السلفية في طبيعة فهمها الجامد للنصوص والافكاروالوقائع والتواريخ، يمكننا تسجيل النقاط التالية:
1 - دعوى امتلاك الحقيقة المطلقة:
ادعاء الفكر السلفي امتلاك الحقيقة التاريخية ((357)) بالكامل (شخصا ام فكرا)، وعدم وجود معيار علمي موضوعي عقلاني لديه للتمحيص والتدقيق والنقد.. وهذا يؤدي على الدوام الى اثارة الفتن والبغضاء بين الفرق والمذاهب والتيارات المتعددة والمختلفة. لانك عندما تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، فلا بد ان تثير لدى الاطراف الاخرى هواجس كثيرة،وتستنفر لديها كل ما بحوزتها من مكونات المواجهة ضدك، الامر الذي يجعل من الصدامات المتبادلة قدرا لا مفر منه،وهذه هي احدى مميزات الحركة السلفية، فحيث تستعر نار الطائفية والخلافات المذهبية، تجد هناك - دون شك او ريب -عقل سلفي يؤجج هذه النار، ويمدها بالوقود كي تشتعل اكثر وتدوم. ولا شك ان من يدفع ثمن وتكلفة تلك النيران المشتعلة هم ابناء مجتمعاتنا على العموم، وبخاصة من ينتمون منهم لمذهبي السنة والشيعة تحديدا.
ولعل المراجع لتاريخنا الاسلامي - الذي كان الفكر السلفي الديني احد عناوينه البارزة المؤثرة بقوة قي كل حركته منذبدايات الدعوة وحتى الوقت الحاضر الذي نبتت فيه حركات واحزاب السلفية الدينية - لا يمكن الا وان يلاحظ وجوداشكالية مهمة يثيرها الاسلوب المنهجي والعملي في طبيعة التعاطي مع قضايا (ورموز وشخصيات((358)) واحداث وافكار) هذا التاريخ في كثير من مفاصلة الهامة، من خلال انه ينطلق ضمن اجواء ضاغطة تتاسس على رؤية ضبابية مختنقة في الجانب الذاتي من التاريخ النظري والعملي.. فيما هو الاستغراق (المنتفخ) - اذا صح التعبير - في داخل الساحة التاريخية، والمعبا بكل ذاتيات هذا التاريخ الزاهي والمتالق، في التركيز على الصيغة التاريخية الميكانيكية الخطابية الجامدة التي لا تنتج الا الانحراف والتحريف في الفكر والممارسة، والفقر في الاغتناء المعرفي الحضاري والانساني.
وعندما يقوم اصحاب تلك الطريقة بدراسة الظاهرة او الحدث البشري او الطبيعي - في محيطه الانساني والتاريخي - فانهم ينظرون الى انسان التاريخ (او الحدث او الفكرة) ككائن ينتمي الى بعد ذاتي واحد، ينفصل عن الزمان والمكان، ويعيش في مركزيته الشخصية بعيدا عن التاثير او التفاعل مع حركة الاحداث التي يعايشها، ويمكن ان يؤثر (او يتاثر) بها فتغتني منه، ويغتني منها.
انها الطريقة التبسيطية التبريرية التي تواجه المشكلة او الهدف بشكل حماسي يتميز بوجود كم هائل من ركام الشعارات المنتفخة والمثيرة، والمهرجانات الصاخبة «غوغائية التقديس المفتعل» الخالية من المحتوى الفكري، والمضمون الاعتقادي الهادف والفاعل الذي يخطط للمستقبل بوعي وايمان، ويرسم حدوده وتفاصيل تحركه بكل تركيز وتخطيط وثبات.
وقد لمسنا هذا الاتجاه في معظم الدراسات التاريخية التي تناولت حياة الرسول(ص) او الائمة(، او حتى كثير من السلف الذين عاشوا حركة الرسالة بالمعنى التاريخي لا الزمني.
والتي تركزت جهودها الفكرية على الجانب الشخصي في امتداده التقديسي المطلق الذي يتعامل مثلا مع المعصوم كرمز مقدس مزروع في دائرته الخاصة (او في فضائه السحيق) بعيدا عن تفاصيل الحركة الحياتية والبشرية. اي عدم وجود اي منطق عقلي او واقعي، من خلال ان لكل ظاهرة او حادثة معينة اسبابها (وعلتها) الطبيعية، ومفاعيلها المتحركة في الواقع.
اننا نعتقد ان المعيار الحقيقي والواقعي الذي يضمن تحقيق استخدام امثل وافعل للمادة التاريخية السالفة فكرا اوشخوصا هو امتلاك المقدرة الفكرية على التعامل مع التاريخ بلغته التحليلية الموضوعية في الاتجاه الذي تتحول فيه وقائع هذا التاريخ وحوادثه العامة - التي عاشها البشر في الماضي - الى فعل حي متحرك تستنبط من خلاله جملة القواعدوالسنن الالهية المهيمنة على مجريات الاحداث، والوقائع التاريخية المتنوعة، على صعيد ملاحظتها ودراستها وتحليلهاوتركيبها واكتشاف خصائصها وطبائعها الايجابية المميزة، وروابطها العلية والمعلولية، واستنتاج ضوابطها العامة الحاكمة، ثم نشر القانون وتعميم قاعدته على الحاضر والمستقبل كمرحلة من مراحل المسيرة الانسانية نحو اهدافها الكبيرة في الحياة.
2 - الفهم الخطير لموضوع الجهاد والقتال:
ولعل من اهم التطبيقات العملية الواضحة للفكر السلفي هي الفهم الخاطئ والملتبس لمعنى مقولة (وركن) الجهاد في الاسلام، فمفهوم الجهاد (الاكبر:جهاد العدو) اساسا يعني الدفاع الوقائي عن الذات والارض في حال تعرضهم لاعتداءخارجي داهم، اما عند السلفيين فانهم يعزلون الجهاد - بما هو فعل قتال دفاعي - عن ظرفه وملابساته ومناخاته المختلفة،فيظهر المعنى عندها حاملا لمعنى القسر والضغط والعنف والاكراه والتسلط كمفردات لتنظيم العلاقة مع الاخر.
وقد يفاقم من حضور هذا المعنى طبيعة الجهاد نفسه في الاسلام، اي الطبيعة العقيدية للجهاد، الامر الذي قد يعني ان الجهاد انما شرع من اجل اكراه الاخرين واكراههم على الدخول في العقيدة الاسلامية. وهذه هي الصورة النمطية الوحيدة الماخوذة حاليالدى العالم كله عن الجهاد.. انها الصورة التي يقدمها السلفيون من حيث تركيزهم على معنى الجهاد في غزو الاخر واجباره على الرضوخ والخضوع الى درجة الاذلال، حتى لو كان هذا الاخر مسلما يدين بالاسلام((359)). وان الجهاد الاكبر لدى هؤلاء هو الاطاحة بالانظمة (الجاهلية) بالعنف وبالقوة المسلحة، فاعادوا من جديد احياء مذهب الخوارج، ولكن هذه المرة بطريقة مؤثرة اكثر ومكلفة اكثر.
وطبعا لو سلمنا هنا بالفكرة السلفية القائلة بان الجهاد المسلح ضد الطواغيت والظالمين والمستكبرين واجبة وحق مشروع في كل زمان ومكان (الجهاد السلمي الحضاري افعل وانضج براينا، واكثر ديمومة عبر الزمان) نسالهم: هل هم الوحيدون المؤهلون اساسا للسير في هذا الاتجاه؟! وهل مهمة الجهاد والدفاع والقتال تقع على عاتق هذا التيار ومنوطة بذاك الحزب، ام هي وظيفة الدولة المدنية العادلة الراشدة التي لا تحصر الجهاد بمعانيه الضيقة (الكامنة اساسا في تعميم ثقافة العنف والقسر والاكراه والتعصب)، ولكنها تؤسسه على بعد انساني راسخ هو الجهاد الاصغر اي جهاد النفس، وتوسع من معانيه السامية حتى يصل الى حدود اقامة حلف عالمي لرفع الظلم والمعاناة عن الانسان اينما كان وباي دين دان؟! ان هذا الخلط العجيب الذي يظهر عند السلفيين في موضوعة الجهاد ادى الى تضييع المعنى الحقيقي لهذا الركن المرتبط اساسا بتقديم تفسير حقيقي ومنطقي وموضوعي للعقائد والمفاهيم الاسلامية ككل من حيث نظرة الاسلام للحريات ((360)) الفردية والعامة، ورؤيته لشروط التكاليف والمسؤوليات، ونظرته للصلح والسلام والامان وغيرها من الموضوعات التي تشكل الاطار الموجه والمعيار الناظم لفكرة الجهاد في الاسلام.
3 - تحريف التاريخ الاسلامي:
اجمع كثير من علماء السنة والجماعة على وجود تحريف كبير في نقل افكار ووقائع وعقائد الفرق والمذاهب الاسلامية قام بها زعماء السلفية ومنظروها.. وسناخذ مثالا على ذلك «شيخ الاسلام» ابن تيمية، الذي كان غير امين اطلاقافي عملية نقل آراء الخصوم والمخالفين له والاستشهاد بها، بل تعمد تحريف اقوالهم. وهذا ما يظهر من خلال الامور التالية((361)):
ا - الكذب في الاجماع على فكرة التاويل:
فقد حكى ابن تيمية عن السلف اقوالا حاول تقديم اجماعات وتفسيرات لهم لا وجود لها في الواقع. كما حكى عن بعض الائمة ما لم يتفوهوا، ولو قال شيئا من ذلك فاتباعهم ادرى واعلم بذلك. مثلا يقول ابن تيمية: «ان جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تاويلها، وقد طالعت التفاسير المقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت على ما شاء اللّه تعالى من الكتب الكبار والصغار اكثر من مائة تفسير. فلم اجد الى ساعتي هذه عن احدمن الصحابة انه تاول شيئا من آيات الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف» ((362)). بهذه الكلمات يدعي ابن تيمية مؤكدا ان احدا من الصحابة لم يتاول شيئا من آيات الصفات ((363))، وعندما يرجع الباحث لكتب التفسير يجدها زاخرة بنقل تاويلاتهم. فهذا الطبري الذي مدح ابن تيمية تفسيره في فتاويه بانه تفسير ليس بدعة، يقول: اختلف اهل التاويل في معنى الكرسي، فقال بعضهم هو علم اللّه تعالى ذكره . ((364)) كما ويؤكد الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه عن السلفية ((365)) خلافا لما جاء به ابن تيمية فيقول:«ليس صحيحا انه لا يوجد في السلف من جنح في تفسير آيات الصفات او بعض منها الى التاويل التفصيلي. ففي السلف من جنح للتاويل التفصيلي ولم يكتف بالاجمال فقط.
من ذلك ما صح من تاويل الامام احمد كلمة جاء في قوله تعالى(وجاء ربك والملك صفا صفا) بمعنى وجاء امر ربك، كما قال تعالى: (او ياتي امر ربك). وقد اورد البوطي بعضا من اسماءالسلف، الذين اولوا الصفات. كما ذهب الى ان ابن تيمية نفسه سقط في التاويل عندما قال بان الوجه الوارد في الاية ليس من الصفات.
ب - تضعيف الاحاديث النبوية المخالفة لاتباع السلفية:
وهذا ما ظهر بشكل واضح عند ابن تيمية الذي كان يرفض الاخذ باي حديث شريف يتعارض مع قناعاته الفقهية والعقائدية حتى لو كان الحديث صحيحا وقوي الاسناد، وكان يعمد الى التشكيك به وتضعيفه.. وقد عبر الحافظ الذهبي عن ذلك اصدق تعبير في قوله الذي يوجهه لابن تيمية: «يا ليت احاديث الصحيحين تسلم منك، بل في كل وقت تغير عليهابالتضعيف والاهدار، او التاويل والانكار» ((366)).
ولم يكن لدى ابن تيمية من حجة في رفض الاحاديث التي لا تعبر عن معتقده ووجهة نظره سوى جراته في التشكيك بها، بحيث يخال المرء ان «الشيخ الاكبر» لديه من الحجج والادلة القوية ما يدعم وجهة نظره تلك.
ج - انتقاء الاحاديث الموافقة فقط:
وقد اعتمد ابن تيمية هذا الاسلوب في انتقاء الاحاديث التي تتوافق مع عقيدته ورؤيته، واستبعاد تلك التي تتعارض مع توجهه. وقد تحدث الدكتور البوطي ((367)) نقلا عن ابن حجر انه «رفض هذا التصرف الذي لا مسوغ له مع انه من المعتدلين في تقويم افكاره وبين فئتي المتعصبين له والمتعصبين ضده».
د - عدم وجود فهم حقيقي عميق لافكار وطروحات المخالفين:
وتجلى هذا العمل مع الصوفية والشيعة بالخصوص، وادى الى استنتاجات وتقريرات خاطئة وفي غير محلها عقلياوتاريخيا، لا تتوافق مع اصحاب اهل المذاهب ذاتها.
ومن هذه الصور المضحكة التي تنقلها كتب التراث في هذا الشان عن ابن تيمية، ان تجد شابا داخل مسجد ما يعلن امام الملا بانه يشهد بان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه، وانه يؤمن بكل ما جاء في القرآن، ويعتقد بكل شرائع الاسلام.
لكن شابا او جماعة اخرى يردون عليه بانه كافر مرتد، لان «شيخ الاسلام» ((368)) حكم بكفر الشيعة وارتدادهم، او انك جهمي معطل (اي منزه)، والجهمي كافر.. او انك تعتقد في الاولياء وتستشفع بهم، ومن يفعل ذلك فهو مشرك ومرتد عن دين محمدوكافر بالاسلام، حلال الدم والمال.
ه - - غلبة الكذب الصريح على خصومهم ومخالفيهم في الراي والمعتقد:
وقد ورد في هذا الشان كثير من الاحاديث والروايات التاريخية الموثقة في كتب اهل السلفية، وبحوثهم، ومتونهم وخصوصا الحنابلة (اتباع احمد ابن حنبل).. واول ما يصادفنا في هذا السياق ونحن ننقب حول هذه الجذور، اطلاق الامام السبكي مصطلح «الخطابية» على الحنابلة. حيث نقل ان كلتا الفرقتين ترى جواز الكذب على من خالفهم في العقيدة((369)).
ويبدو ان هذه الطريقة في التحريف والطعن بالخصوم وتجويز الكذب الواضح عليهم، ساهمت بفعالية منقطعة النظير في التاسيس اللاحق لكل افكار التكفير الممنهج للخصوم، والباسهم لبوس الضلال والانحراف في العقيدة. حتى نكاد نقول ان تاريخنا الاسلامي عموما هو تاريخ التكفير والكذب والانتحال.
و - الطعن في السند، والتحريف في النص التاريخي:
وهذا واضح في كتبهم حيث نجد ان اغلب علماء الجرح والتعديل كانوا من الحنابلة او ممن يتعاطفون مع معتقداتهم وآرائهم((370)) . حيث تراهم يضعفون سند كل الاحاديث التي تتعارض مع معتقداتهم ويضعون حولها الشكوك والظنون والاحتمالات المختلفة التي لا علاقة لها باصل الفكرة، وهذا التشكيك والطعن وادعاء الحرص على دقة السند يزداد اكثرمع الخصوم الشيعة خصوصا عندما يرتكز هؤلاء في دعم افكارهم وآرائهم الفقهية على احاديث ومرويات تصب في خانة تاييد خطهم الامامي، حتى لو كان لها سندها المعتبر في كتب السنن والصحاح المعروفة عند اهل السنة والسلفية.
وفي هذا الاتجاه لا يجد بعض ائمة السلف حرجا في تحريف نصوص واقوال علماء الاسلام اما بالحذف او التحوير اوالاضافة او التعديل .((371))
4 - تحديد فهم القرآن (والنص الديني عموما) في عصر ورجال وتفاسير بعينها:
يرى الفكر السلفي ان الرجوع الى الخلف يعني المشي الى الامام. وان فهم القرآن فهما حقيقيا واضحا وصريحا لايتحقق الا كلما كان المفسر اقرب زمنيا الى عصر الخلافة الاولى، اي كلما غاص اكثر في مغارة الماضي البعيد، فالاقرب للماضي اقرب للفهم الصحيح.. وهكذا فتفسير الطبري افضل من القاسمي، وتفسير القرطبي افضل من رشيد رضا((372)) .
ومقتل الفكر السلفي في هذا المجال هو في انه يحدد فهم القرآن في عصر معين ورجال وتفاسير محددين دون غيرهم.بينما المنطق الفعلي والحقيقي يقول ان التفسير ليس في العصر والرجال، بل في آيات الافاق والانفس. وهو مرجع القرآن.والقرآن طلب بذاته السير خارج القرآن فقال: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدا الخلق) (العنكبوت: 20).
وقال:(يتدبرون.. يعقلون... يتفكروا..).
[/align]
السلفية الدينية في المجال التاريخي الاسلامي .. مقاربة نقدية ..ا. نبيل علي صالح
[align=justify]وهذا السير والتدبر والنظر والتامل هو قاعدة التفكير والاجتهاد الحقيقي الذي اصبحنا بحاجة ماسة الى فتح بابه بكل عناوينه وعناصره، واجراء مراجعة علمية صارمة لا هوادة فيها له، والا فلن يخرج هذا الفكر ابدا من المازق الخطير الذي يتخبط فيه حاليا.
والسلفية عموما التي دائما ما يحتكم اليها العقل التقليدي السلفي - المكون من قوالب ثابتة، ونصوص جامدة، ومفسرين محددين، وانماط تفكيرية واحدية - تجعل كل المستجدات العصرية محكمة (بفتح الكاف) من قبل هذا العقل بما يتماشى مع تقليديته وسلفيته.. فاي متغير جديد، او مستجد او طارئ او قضية جديدة خرجت على المجتمع بحكم تبدل التاريخ وتغير المعطيات والمواقع والادوار، فانها لا بد من ان تمر على محكمة العقل التقليدي (نص يفسره شخص عاش في الماضي، وقوله فصل)، فان توافقت مع ما تعود عليه هذا العقل فان مصير القضية الى القبول، وان لم تتوافق فمصيرها الى الرد بعد عمليات التفسيق والتضليل والتبديع((373)) .
لقد كانت - ولا تزال - المرجعية ا لتي يعتمد عليها الخطاب الديني التقليدي ماضوية الطابع والتفكير والمعيار، فالاحتكام كان ماضويا لكل ما هو عصري ومستجد، ومن هنا يصبح الخطاب الديني واقعا في ازمة الماضوية حتى لو حاول التلبس بالعصرية، فهو تلبس شكلي لا يدخل في صميم الذهنية حتى يعيد تكوينها من جديد والواقع الذي هي منخرطة فيه لامحالة. فالقشرة الذهنية عصرية الشكل لكن الروح الفكرية ما تزال في عصور سابقة على العصر الحديث بمئات السنين، ومن هنا تاتي الازمة العصرية الحقيقية في الخطاب الديني السلفي التقليدي.
ولان الخطاب الديني السلفي يفتقد الى الاقناع (حيث ان ادواته المعروفة هي: القسر والضغط والترهيب والتخويف) في عصر التعددية الفكرية والانطلاقة الحضارية المتجددة، فانه يحاول التمسك بالديني بقدر المستطاع ويوظفه في لغته التقليدية ويجيره لصالحه في اكثر الاحوال عن طريق تفسيرات حرفية الطابع دون الفهم الدلالي للنصوص الدينية عامة((374))، وبهذا يضمن انسياق العام تجاهه ودحض كل ما عدا ذلك، في حين ان الموقف لم يكن مستلزما كل هذاالتعنت الفكري والتحايل التقليدي على حساب المعاصرة التي ربما كان هو المستفيد الاكبر لو فهم سياقات الموقف.
وتبعا لذلك نؤكد ان الخطاب الديني التقليدي في مازق حقيقي حين لا يحاول ان يطور من ادواته التعبيرية قبل الفكرية،واذا اراد ان يكون خطابا مقنعا فان تمثل العصرية (والانفتاح الفكري والعملي) بمنطقها هو ما يمكن الاعتماد عليه لو ارادذلك، لكن هو ادرى بمثل هذه العصرية كونها تفتح عليه ابوابا فكرية يعجز فيما بعد عن الاجابة عنها فضلا عن اقفالها.
وهذا الامر يفرض على الباحثين المسلمين الدعوة الى انسنة القراءة التفسيرية.. اي الى قراءة النص الديني من منظورانساني مع كامل الاحترام المفترض للنص الديني. والمقصود بالمفهوم الانساني ان يكون هناك تمييز واضح وقاطع بين النص المقدس ذاته، وتاريخه سواء الزمني او الموضوعي. وما وجود ما يسمى بالاسرائيليات في كتب تفسير القرآن الكريم سوى دليل قاطع على هذا التمييز الذي يرفض المسلمون الاعتراف به.
فالتفسير الذي يقدمه المفسر يختلف عن النص الديني ذاته، ذلك ان النص المفسر يتضمن العديد من التفسيرات الانسانية القائمة على مدى فهم واستيعاب المفسر للنص،وايضا المصادر التي استخدمها في التفسير.
وللاسف فان كل الكتب التراثية الدينية الاسلامية سواء في التفسير او التاريخ او غيرها من موضوعات لا تذكر لناالمصادر العلمية التي تم الرجوع اليها، وذلك بسبب غلبة المصادر الشفهية على المصادر التحريرية((375)) . وبلغة البحث العلمي الحديث فانه يفترض انعدام القيمة العلمية لكثير من المؤلفات التراثية الدينية لخلوها من المصادر.
وحيث ان هذه الكتب ذات طابع انساني تعتمد الفكر الانساني في الشرح والتحليل للنص الديني، فمن المنطق والعقل ان نقبل المفهوم الانساني عند دراسة النص الديني، دون حرج او اتهام بالتكفير او طعن في النوايا. ولماذا يحل للاقدمين ما لايحل للمتاخرين في مجال فهم النص الديني؟ من جانب آخر يجب ان يتوقف دعاة الفكر السلفي عن اتهام الاخرين بما ليس فيهم حين الكتابة او الحديث عن النص الديني، خاصة ان الجهل وقلة العلم منتشران في شعوب تتفشى فيها الامية (يضم العالم العربي لوحده ما لا يقل عن 68مليون اءمي!)، ومن ثم ليس من حق اءمثال هؤلاء الجهلة الخوض في مثل هذه الموضوعات العلمية المتصلة بدراسة النصوص الدينية. ودليل جهلهم البين ما نراه من شتم وتعريض شخصي غير مؤدب للكتاب المتنورين، مع التجنب التام،بسبب الجهل للموضوع.
وحيث ان فضيلة الحوار العقلاني لا وجود لها في كثير من مفاصل تراثنا الاسلامي، حيث تسود لغة التكفير والارهاب الفكري قبل لغة التفهم والتفاهم، فمن الطبيعي ان لا تزدهر الدراسات الدينية المقارنة كما هو موجود في الغرب.
لهذه الاسباب ندعو - ولو بعد خراب البصرة - الى التعامل مع النصوص الدينية بعيون انسانية مفتوحة، تعتمد العقل في المقام الاول، وهو ما لا يمكن حدوثه لدى العرب والمسلمين ما داموا يرتعون في مناخ التخلف والجهل راضين بالعيش في جنة «الشيخ الاكبر» او غيره.
5- انفكاك النص عن الواقع (اعتبار النص اصلا ):
تظهر افكار السلفيين في حالة صدام شبه دائم مع المجتمعات حتى الاسلامية منها، التي لا يخلو فيها مجتمع من الازمات الكارثية التي تسبب بها اتباع هذا المنهج التكفيري اللاعقلاني لابناء بلدانهم والبلدان الاخرى التي هاجروا اليهاوتربوا وتعلموا فيها. وهذا الامر ناتج عن تحجر وجمود تفكير هؤلاء، واستغراقهم الاعمى في المرويات والنصوص التاريخية القديمة، وعيشهم في جنة احلامهم الوردية البعيدة عن واقع الحركة والتطور الحياتي المتواصل، وابتعادهم عن ملامسة حركة الفكرة في الواقع، وضرورة التواصل مع المستجدات، والتكيف مع الاحوال والمواقع والتطورات، وهذا لايمكن ان يتم الا باعادة قراءة النص من خلال العقل والواقع العملي لحركة التغير والتراكم البشري، حيث ان الكلام لا يمكن ان يرسخ وينمو بدون جدلية تفاعل النص مع الواقع.
والمنطق يقول: انه عند الدخول على اي حقل معرفي لا بد من معرفة الادوات المعرفية كمدخل لفهم حركة النص،ووعي دلالاته ومتحركاته. ولفهم النص القرآني لا بد من استخدام العلوم الانسانية المساعدة الحديثة. فلا يمكن فهم القرآن بتفسير ابن كثير كما لا يمكن فتح جمجمة اليوم بادوات فرعونية عفاها الزمان. وهذا ليس انتقاصا من جراحي الفراعنة اوابن كثير، لانهم اولاد عصرهم ونتاج بيئتهم. ولذا يجب تسليط جراحة فكرية جديدة مثل اشعة ليزر لمعالجة النصوص كمايعالج قصر البصر اليوم فيستغنون عن النظارات.
من هنا، علينا - في هذا الاطار - ان نعيد الاعتبار لدور العقل في فهم النص كما ذكرنا، وان يكون الفقيه والمثقف متحررامن اي قيد معرفي او مزاجي في دراسة النص، وان تكون الحرية هدفه ومنطلقه في ذلك، وهذا ما سيؤدي عبر التجربة وتراكم الفعل الانساني المسؤول والواعي الى تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحول الاجتماعي في مجالنا الاسلامي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تاخذ التعددية في السياسة والتعبير موقعها الاساس في تنظيم الخلافات والصراعات وضبطها، وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني وتعميق موجبات العدل والمساواة والحرية.
ان الفكر الاسلامي الحقيقي لا يمكن ان يعيش ويتطور ويتكامل الا بالتفاعل الصريح والواضح مع الواقع المعاش، وان بقاءالنص غائبا (او مغيبا) عن الواقع سيقلص مساحة الحرية اكثر فاكثر في داخل اجتماعنا الديني والاجتماعي.
فعلا اننا باشد الحاجة لعنصر الحرية من اجل تطور ونمو وتصاعد مجتمعاتنا العربية والاسلامية، لتتنفس الحرية في الهواءالطلق بعيدا عن مناخات القهر والاستعباد والاستبداد التي تقبع في داخل سجونها، وتكبل مواهب وقدرات ابنائها عن العمل والنهوض الفعال لبناء حاضرها ومستقبلها.. اننا نقولها بالفم الملان كما قالها واعلنها احد المثقفين الاسلاميين المعتدلين:نحن بحاجة الى ان نقتحم فضاء الحرية، ونكشف المضمون الثري لهذا الفضاء في قيم الاسلام ومثله. اذ ان هذا الاقتحام سيقدم للفكر الانساني ابعادا ومضامين جديدة، ويزيد من امكانية المسلمين للتفاعل مع العصر وقضاياه الكبرى، ويساهم في خلق شروط الحرية الفعلية والتداول السلمي للسلطة ((376)) واحترام حقوق الانسان. فالافكار التي تنمو في الخفاءوالظلام، بعيدا عن العلم واهله ستكون خطرة وهدامة. اما الافكار التي تنمو في جو الحرية وفي العلن وتناقش ويتم الحوارحولها، فان ولادتها الاجتماعية ستكون يسيرة، وستكون هذه الافكار في مسار البناء لا الهدم. ولهذا شرط اولي هوالانصات الواعي الى تحديات واسئلة الواقع القائم، كي تكون افكارنا وممارساتنا متوازنة ومنسجمة مع قوانين التطورالحياتي ومنطق التاريخ الانساني. بما يؤدي الى جعل خياراتنا واستراتيجيات عملنا واضحة وناضجة وسليمة في المقدمة والنتيجة.
ان فتح عقولنا على الحياة والعصر وعلى كل الافاق التي يتيحها امامنا هذا الوجود الانساني هو الذي يصقل تجربتنا،وينوع في خياراتنا وسبل حركتنا، وبالتالي يزيد من قدرتنا وامكانياتنا على طريق انجاز البناء الحضاري المطلوب لامتناورسالتنا في مختلف مناحي التنمية والعمران الحضاري.
وبالنتيجة ليس لنا من خيار في سبيل الانتقال من الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي القائم حاليا في عالمنا العربي والاسلامي - والمرتكز على وجود ثقافة سلفية شديدة التمركز والانغلاق لاسباب كثيرة ذاتية وموضوعية لا مجال لذكرهاالان - سوى عبر تطوير اساليب وطرائق العمل المدني - السلمي، وتربية المجتمع وتدريبه عمليا على فهم وممارسة ثقافة الحرية والمسؤولية والديمقراطية، وتعميقها شيئا فشيئا داخل البنية الروحية والمفاهيمية لمجتمعاتنا، حتى يتم التحول النوعي في هذه العلاقة بعد تراكم البناء والعمل المتواصل في توطيد اركان المجتمع المدني ومؤسسات الدولة العادلة والمقتدرة والقادرة - في الوقت نفسه - عن الاجابة العملية عن حسابات وتحديات اسئلة الزمن الصعب الذي نعيش في قلبه حاليا. وفي هذا الطريق علينا الا ننجرف وراء الاوهام((377))، وانما ان نحاول ان نبني خياراتنا وقناعاتنا ومواقفنااستنادا الى الحقائق والوقائع القائمة وليس المتخيلة، وذلك ليس من اجل الانحباس فيها او الخضوع الى السيئ منها، وانمالكي تكون حركتنا عاقلة وهادفة ومنسجمة.
وطالما اننا نتحدث عن ضرورة الانخراط في الميدان والواقع، والانفتاح على الحياة والعصر، لا بد لنا من طرح سؤال حول اولوية العقل والنص في سياق اقتناع الخطاب السلفي بالاولوية المطلقة للنص (قرآنا وسنة) على العقل، فهل العقل اولى بالاتباع ام النص؟! اصلا كيف ننخرط بالواقع ونستفيد من تطورات الحياة وتقدم العصور ونحن - في عالمنا العربي والاسلامي - نعيش تحت هيمنة ثقافة قديمة ونصوص دينية قيلت في ماضي الزمان في ظروف مختلفة وبيئة مختلفة ايضا؟! اليس العقل هو الفيصل في الحكم وتقدير مدى الوعي وحجم الاستفادة؟! فالعقل الانساني توصل الى كل مانشاهده ونراه حاليا من منجزات وصناعات وتقنيات وتطورات هائلة على كل المستويات والاصعدة، ونحن كمسلمين نستثمر ونستفيد من كل تلك المنجزات والاختراعات؟! حتى ان اتباع الفكر السلفي انفسهم يستغلون منجزات الحضارة الغربية لشن حروبهم وبث خطاباتهم ضد مجتمعات تلك الحضارة بذريعة هدايتهم واسلمتهم وما الى ذلك؟! طبعا هذا الكلام لا يعني ان الاسلام يناقض العقل، لان التخلف الذي نعاني فكريا هو التخلف المرتبط اصلا باللاعقلانية.وبالنظرة السحرية الى العالم والاشياء. بالنظرة اللاسببية. لذلك فان تحقيق تنمية في الفكر العربي والاسلامي المعاصريتطلب رؤية وفلسفة. اي يتطلب طرحا عقلانيا لكل قضايا الفكر والحياة والعصر.
وباعتقادي ان علاقة الاسلام بالعقل كانت وطيدة ابان العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الاسلامية. وبالتالي فلايمكن باي شكل القول ان الاسلام ضد العقل، والدليل على ذلك هو ان كبار مفكري المسيحية الاوروبية كانوا تلامذة لفلاسفة المسلمين الكبار. نضرب عليهم مثلا القديس توما الاكويني في الجهة المسيحية، وابن ميمون في الجهة اليهودية وآخرين عديدين.. فهؤلاء لم يستطيعوا التوصل الى الفلسفة اليونانية الا بفضل العرب. كلهم كانوا تلامذة لابن رشد وابن سينا والفارابي وابن الطفيل وابن باجة الخ... ولولا الترجمات التي مولها خلفاء المسلمين المستنيرين في بغداد والاندلس لضاعت الفلسفة الاغريقية، ولما حصلت النهضة الاوروبية لاحقا.
ولكن ماساة المسلمين هي انهم تخلوا عن العلم والفلسفة بعد الدخول في عصر الانحطاط اي بعد موت ابن رشد مباشرة عام 1198، عندئذ انتهى العصر الذهبي عندنا، وانتقلت الحضارة الى اوروبا. ويرى مالك شبل ان سقوط الاندلس عام 1492 ادى الى نهاية المشروع الاسلامي المبني على العقلانية ((378)). فبعد ذلك التاريخ لم يعد المسلمون يهتمون باكتشاف الطبيعة كما كانوا يفعلون سابقا.. ومات لديهم الفضول العلمي والفلسفي واخذوا يجترون المقولات الفقهية القديمة وخرجوا من التاريخ كليا. وعندئذ حلت محلهم اوروبا التي ظلت العقلانية لديها متصاعدة دون انقطاع حتى وصلت الى ماوصلت اليه اليوم من تقدم وازدهار.
وقد كان العقل شعار المعتزلة وشغلهم الشاغل، وقد حاولوا عقلنة الايمان قبل المسيحيين بكثير. ولكنهم هزموا في نهاية المطاف للاسف الشديد، ولم تقم لهم قائمة بعد الدخول في عصر الانحطاط والتكرار والاجترار. بل وحتى الفقه الاسلامي لم يتشكل الا بناء على القياسات العقلية المعروفة..
وبالتالي نستطيع الجزم هنا بان المسلمين الاوائل كانوا يهتمون بالعقل على عكس المسلمين الاواخر. ويمكن القول ان موسوعة اخوان الصفاء ساهمت في تقدم العلوم الطبيعية والكيميائية والرياضيات الخ.. ولكن يبقى صحيحا القول ان العلوم العقلية وكذلك الفلسفة انهارت في العالم العربي والاسلامي بعد القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر.
وربما لهذاالسبب توهم البعض ان الاسلام لا علاقة له بالفلسفة والعقل. فمن كثرة ما حصل الطلاق بين الطرفين توهمنا بانها لم توجدقط! وهذا خطا يقع فيه الكثيرون للاسف الشديد((379)) . يضاف الى ذلك ان الفلسفة حتى في اوجها كانت علما هامشيا في المجتمع العربي الاسلامي ((380)).
من هنا، نحن نؤكد دعوتنا مرة اخرى للاهتمام الكبير بالعلوم العقلية والانسانية لا النقلية فقط، في داخل الجامعات العربية والاسلامية لكي 1356المتاخرين عنها. كما اننا ندعو - مع من يدعومن المفكرين والمثقفين - الى بلورة لاهوت جديد غير اللاهوت التقليدي الطائفي (فقه السلاطين والتكايا) الذي يسيطرعلينا منذ مئات السنين. وهذا اللاهوت الجديد او التفسير الجديد للدين هو وحده القادر على تجاوز الانقسامات والتعقيدات الطائفية والمذهبية التي لا تزال تشعل الحروب بين اتباع الاديان التوحيدية الثلاثة، وتمنع حوار الحضارات والاديان.
وهذا اللاهوت الجديد الذي نريده ونسعى له ليحل محل اللاهوت القديم ((381)) هو لاهوت منفتح، متسامح، يرفض الانغلاق والتعصب وادعاء ملكية الحقيقة من اية جهة جاء.
كما انه لاهوت منفتح على كل العلوم الانسانية والمعرفة البشرية.. انه لاهوت الحداثة او ما بعد الحداثة.
6 - اتباع اسلوب العنف ((382)) والترهيب لتحقيق الغايات والمطالب، ورفض النقد الذاتي:
يستوقفني بقوة نمط من اشكال هذا الخطاب الديني السلفي الطاغي حاليا على معظم ساحات واتجاهات العمل في عالمناالعربي والاسلامي، وهذا النمط هو ما ينتهجه الخطاب السلفي المتطرف من اساليب الترهيب والتخويف والتكفير والرجم بالغيب، لا بل ان منهم من نصب نفسه حاكما يحاكم الناس بمظاهرهم، وكانه يعلم ما في قلوبهم وضمائرهم ونواياهم، كي يقيس على ضوء ذلك ايمانهم ويحاكمهم بما في صدورهم. ومنهم من اتخذ نفسه منبرا يصدر فتاوى الحلال والحرام، ويضع الخطوط الحمراء والخضراء، ويصرح بالفتاوى لسفك دم هذا وذاك. وان كنت لا افهم ما الفائدة التي ينتهجها الداعية اوالخطيب نفسه من ممارسة هذا الشكل غير الانساني في الخطاب الديني، مع ان القاعدة الفقهية تقول: الاصل في الاشياءالاباحة ما لم يرد دليل او نص شرعي من القرآن والسنة.
ونحن في عالمنا الاسلامي لم نستطع بعد ان نخرج من عصر الانحطاط والعنف والتكفير((383)) الذي يلفنا، ولم تنتصرعندنا قوى العقلانية والاعتدال والتنوير بعد.. وهذه حقيقة بديهية لا يفيد في شي ان نخفيها. وبالتالي نحن عندما ننتقد هذاالمناخ القاتم المسيطر علينا فلا يعني ابدا ان كل انتقاداتنا - او حتى انتقادات غيرنا - للخطابات الاسلامية خاطئة، بل ربماافادت المسلمين ودفعتهم لكي يفتحوا اعينهم، ويروا الحقائق امامهم، ويقوموا بالنقد الذاتي لانفسهم كما فعل الاوروبيون بدءا من عصر النهضة ثم بالاخص بدءا من عصر التنوير في القرن الثامن عشر. هذه حقيقة اصبحت بديهية لكل من يرى ويسمع.
وقضايا مثل النهضة والتطور والحداثة المطلوبة لعالمنا العربي اصبحت الان في قلب الاهتمام العالمي، وعلى راس جدول الدول الكبرى التي ادركت مؤخرا ان امنها وازدهار حضارتها يرتبط ارتباطا مباشرا بضرورة النظر الايجابي لمشاكل وهواجس المنطقة، واصبح يتاثر سلبا باستمرار وجود مجتمعات متاخرة في اي جزء من العالم الذي يزداد ترابطا.
لكن الذي حدث - ولا يزال - هو ان كثيرا من نخبنا (المثقفة!!) لم تدرك بعد حجم التحولات الدولية، ومخاطر سياسة رفض الاندراج في العصر الحديث والبقاء على تخوم جبال الوهم والتنظير الكلامي، فلا النقد الحقيقي مورس الا ما ندر،ولا المراجعة الجدية لمفاهيمها القديمة - التي لم تعد صالحة للاستخدام في هذا العصر - انطلقت، بل بقينا اسرى اشتراطات ونصوص مفاهيمية جامدة، فبقيت الوطنية تقاس بمدى العداء للشيطان الاكبر والاصغر، وبمدى رفض الهيمنة الامبريالية ومواجهة مخططات ونظريات المؤامرة ((384))، كما بقي الدين محكوما بهواجس الهوية المهددة بالاندثار في زحمة العولمة والحداثة، وو.. الخ.
وفي تصوري ان كل العراقيل التي توضع في طريق التقدم والتنمية لا يمكن ان تقرا الا كمحاولة قوى الاعاقة من مثقفي السلطة ووعاظ السلاطين للهروب من استحقاقات التغيير ومقتضيات الاصلاح والتنمية.
ان تلك القوى تعمل باستمرار على مواجهة ورفض كل ما هو جديد وحديث تحت ذريعة انتهاكه للهوية والتراث، كماانها لا تزال تشتغل على استيلاد الظروف وتعميق الاسباب التي ساهمت في تعزيز وجودها وهيمنة خطابها الديماغوجي على واقعنا الديني والثقافي عموما.. وهي: افتقادنا للديمقراطية والتعددية السياسية، وشيوع الاستبداد والفساد، وانعدام فرص العمل لاجيال الشباب، وانتشار التخلف الفكري والفقر والجهل وعدم التوجه لحل المشكلات القائمة والصراعات العبثية التي هدرت كثيرا من مواهب وطاقات اهل المنطقة.
والطاقة الاهم هي تفعيل وعي وارادة شبابنا العربي المسلم والاستخدام الفعال لمواهبهم في طريق العمل الصالح والنافع لمجتمعهم ككل، ام ما يحدث على الارض فهو عكس ذلك تماما، اذ نلاحظ كيف يهجر كثير من شبابنا بلدانهم واوطانهم الحقيقية ويرتمون في حضن اوطان وهمية.. وحتى الان لا يزال هناك سؤال لم نعثر له على جواب بعد، وباسلوب ومنهجية علمية، وهو: لماذا يتحول هذا الشاب البري الفرح، المتفائل الوديع المؤدب، المقبل على الحياة، المحب لمدرسته واسرته واترابه، الى ارهابي او مشروع ارهابي متوحش، يكره الحياة، ويعشق الدم والدمار، وصناعة الموت، ولا يبالي في مواجهته،بل يتطلع اليه عبر بدعة سموها «زفة الشهيد»؟! هذا السؤال والاجابة عنه، يمثلان البداية للانتصار على الارهاب كظاهرة اجتماعية.
في الحقيقة لا تزال الثقافة التي يتلقاها شبابنا تقليدية جامدة غير قادرة على تقديم اجابات شافية لهم عن واقع الحياة والعصر، وتجري عندنا باستمرار عملية غسل دماغ حقيقية تجري لهذا الشاب على نطاق واسع يقوم بها كثير من رموزونخب ثقافتنا الاسلامية تتمحور حول استراتيجية تجنيدية اغرائية يتلقاها بشكل يومي هذا الفرد، وهنا مصدر القلق المتواصل..
اولا: انه في وجود سيل متدفق من الافكار الدينية المختلفة ونوع من التربية الاسلامية التي يعمل اصحابها على قضاياالتنشئة الاجتماعية لجيل الاطفال، ممهدين السبيل ل - «الصائدين» لسهولة الاقناع، والتجنيد، والتجييش، وبالشحن العاطفي والنفسي، وغسيل الادمغة، وبث السموم الفكرية.
وثانيا: نحن لم نسع جديا وبطريقة علمية الى التعرف على الاساس الفكري والاجتماعي الذي ينتج هذه الشرائح في المجتمع، وبالتالي لا نتوفر - حتى الان - على مناهج تتضمن وسائل مضادة، تحول دون ان يتحول طفل مسالم له وجوده وطموحه واحلامه ودنياه الخاصة، الى مشروع عنف وارهاب في المستقبل، يملك القدرة على تدمير حياته وحياة الاخرين بقسوة، هكذا بكل برود، ودون تردد! وقد نجح هذا الخطاب السلفي المتطرف في جذب انتباه الشباب وشدهم اليه، لانه بقي «الوحيد» في الساحة، اذ لم يجدالشاب امامه خطابا دعويا جذابا، صادرا من المؤسسة الدينية الراسخة، يمكن ان يقدم له اجابات شافية وواعية، متوازنة راشدة، تهديه لموقعه ودوره الطبيعي كانسان في الكون والحياة، يكون اكثر استجابة لحيرته في المسائل الكبرى التي تواجهه كشاب، يدلف الى اعتاب الالفية الثالثة! في حين كان خطاب القيادات الشبابية الدعوية المتشددة سريعا ومبادرا في اعطاء هؤلاء الشباب ما يعينهم على فهم ما يدور حولهم من احداث، فذاع صيتهم على حساب المرجعيات الدينية العاقلة والواعية المعروفة، التي بقي خطابها محصورا في قضايا الدين البعيدة عن الحزبية والتنظيمية، وقليلا ما يتطرق لقضايااجتماعية وسياسية كبرى الا توجيها وارشادا ومن دون الاستغراق فيهما، مما افقد تلك المرجعيات الدينية قدرتهاالتوجيهية الارشادية على الشباب، وحتى شعبيتها المعتادة، وتوارت عن الانظار.
رابعا - خاتمة البحث العقل والحرية والتنمية في مواجهة الخطاب السلفي يعيش العرب والمسلمون في عصرنا الراهن - كما اسلفنا - اوضاعا مصيرية صعبة لا يحسدون عليها، وهذا ما يظهر لناعند التامل والتدقيق في ارقام واحصائيات ومؤشرات ضعف عملية التنمية البشرية في العالم العربي استنادا الى معظم، ان لم يكن كل، مؤشرات هذه العملية.
والجزء الظاهر من هذه المشكلة يتمثل في الفقر واللامساواة، لكن الفقر في الحقيقة ليس سوى جزء من المشكلة. فالى جانبه هناك مؤشرات كثيرة على:
-ضعف مستوى الرعاية الصحية.
-وثمة انحسار واضح في فرص التعليم الجيد.
-وهناك غياب كامل او ضعف مزمن في سياسات الامان الاجتماعي او غيابه بالكامل.
-اما الحرمان واللامساواة في القدرات والفرص، فهما اكثر استشراء من فقر الدخل او اللامساواة الاقتصادية، اذ تشيرالاحصاءات الى ان نسبة الحرمان، بمعايير التنمية الانسانية الاساسية، تبلغ حوالي 32.4% من اجمالي السكان في العالم العربي((385)) .
ولا شك في ان هذه الصورة الاجمالية للدول العربية تخفي التفاوت الكبير بين اوضاعها وتقدمها نحو تحقيق الاهداف الانمائية للالفية الثالثة .((386)) وهكذا، فان التنمية الشاملة هي المفتاح الحقيقي للحصول على القوة والسلطة، واساس هذه القوة حرية الفرد والمجتمعات،وبالتالي للوصول الى اي مستقبل فاعل او مثمر يمكن ان يكون بانتظار العرب خلال العقدين المقبلين، ودون الشروع في اتخاذ خطوات واثقة في طريق التنمية (وبناء صرح الحرية الكبير)، فانه من المؤكد ان مستقبل العرب لن يكون افضل من حاضرهم.
ولكن كيف يمكن للتنمية الشاملة ان تنطلق في عالمنا العربي والاسلامي في ظل وجود عاملين ضاغطين للغاية:
الاول: داخلي، وهو سيطرة خطابين وواقعين مازومين، خطاب السلطة الرسمية المستبدة القامعة لكل ما ومن يؤثر على امتيازاتها وسلطانها وهيمنتها وطغيانها، وخطاب تعبوي شعبوي (ثقافوي) ديني سلفي متشدد، يستعدي العالم ضده،هاجسه الاساسي والجوهري تقسيم هذا العالم الى فسطاطين، وتكفير (وربما الحكم بالموت) باقي الملل والمذاهب والحركات التي تعارضه في معتقده الديني او رايه السياسي او الفكري.
والثاني: خارجي، ويتمثل في جملة التحديات المصيرية التي تحيط بعالمنا حاليا. وهي من الضخامة والهول ما لا يستطيع احد ان يقف في وجهها تماما كالسيل الجارف، ولا بد له من الانفتاح عليها والتكيف معها، على عكس ما نعمل عليه نحن العرب والمسلمون، حيث نواجه تلك المتغيرات الكبيرة بادوات قديمة ووسائل شبه بدائية نعيد من خلالها انتاج الهزيمة والازمات على النحو الاسوا والافدح. لاننا غالبا لا نحسن ادارة مشاكلنا، وسوس خلافاتنا بعقلية مدنية تداولية متوازنة.
اننا نعتقد ان جذر العطالة فيما هو واقع حاليا - في كل هذه المساحة الكبيرة من العجز والاحباط والتردي والتفكك المسيطرة في عالمنا العربي والاسلامي - يعود الى النمط الثقافي المهيمن، واعني به مرجعيات المعنى وانماط الرؤية السائدة المنتجة للفكر والثقافة التي تخطط لحياة الناس والمجتمعات.
فالفكر عندنا له قوالبه ومسبقاته وقواعده واحكامه واستراتيجياته، ولكنه فكر يولد مزيدا من العجز والخواء والجهل والتسلط والاستبداد، لاننا اساسا نتعامل مع الفكر والتفكير - الذي كان من المفترض ان نمارس عبره علاقة ايجابية خصبة، منتجة وفعالة، مثمرة ومتطورة، مع الذات ومع الاخر - بصورة متحجرة ومنغلقة احادية وحتمية وخيالية وفردوسية،نادرا ما تجد فيها شيئا حيا من الواقع.
وواقع (بل وفكر) هو على تلك الصورة غير المنتجة، بل المتكلة، سينتج كوارث وازمات متتالية. ولا يكفي ان نقول:
ان الاقدار هي السبب الدائم والمصدر الحقيقي لتلك الكوارث، كما يصور اصحاب ورموز تلك المرجعيات السلفية.. بل هي ازمات من انتاجنا، صنعناها بعقولنا ومقولاتنا وتصنيفاتنا ومرجعياتنا المهيمنة على واقعنا الثقافي منذ قرون عديدة، والتي لا تزال تتحكم في الخطابات ليس لتبدع وتنتج وتطور وتحسن، ولكن لكي تعيق وتلغم وتضع العراقيل والعوائق((387)) في وجه اي فكر او معرفة او مشروع حضاري انساني مدني يعلي من شان الانسان فردا ومحورا اساسيا للكون والحياة.
طبعا، نحن عندما ننقد التراث والخطاب السلفي بفكره ودعاته، ونظهر عجزه عن العيش المنتج والفعال في العصر الحديث،وعدم قدرته على بناء معرفة مستقبلية حقيقية نافعة للانسان والحياة، ان ذلك لا ينبغي ان يحجم تفكيرنا النقدي عن الوجه الاخر للداعية التراثي السلفي، وهو المثقف الحداثي العربي الذي بقي يتعاطى وينتج مفاهيم الحداثة والتطور والحرية والاستنارة والتقدم من موقع المتلقي والمتاثر ومن دون ان يطورها ويبتكر صيغ جديدة تتعدى محيطه الجغرافي.
لانه اساسا لم يشتغل في المعرفة الحديثة من موقع الخلق والابتكار، وانما من موقع المبشر والمخلص والمروج والمقلد.
الامرالذي جعله (اي المثقف الحداثي العربي) متعبدا لنصوص الحداثة من غير طول تفكير، ومؤلها لافكارها وهويتها من دون تجربة ومعاناة وتامل.
وهذا النقد - حقيقة - لا ينطبق على مجموع مثقفينا ومفكرينا الحداثيين، حيث ان فيهم المبدع المطور والمنتج في شتى ميادين وحقول المعرفة والثقافة والفنون. ولكن هذه الفئة قليلة وضعيفة وغير مؤثرة حتى الان، على عكس الكثرة الغالبة من اولئك الوعاظ عبدة النصوص والاوثان الفكرية الذين يسيطرون على الفضاء والهواء والسلطة التي باتت مضطرة في الاونة ان تقربهم منها وتفتح مجالات العمل (والانتاج!) امامهم ليمارسوا من خلال ذلك افظع فنون التضليل والتزييف والشعوذة الثقافية والتعمية الايديولوجية والتهويل الديني.
بناء عليه فان المشكلة تحددت، وهي في الاساس ثقافية معرفية، ولكن تجلياتها الواقعية يمكن اجمالها في الاتي:
؟ مجتمعات عربية واسلامية ممزقة، وتعيش صراعا وتدافعا مريرا حول الحكم والسيادة، لا تقترب فيه ابدا من تحكيم لغة الحوار، ومنطق التراضي والتدافع السلمي.
؟ فشل ذريع للسلطات السياسية الرسمية الحاكمة في ادارة قضايا الوطن المحلية (تحقيق التنمية الشاملة، توفيرالحريات، القضاء على الفقر والبطالة.. الخ)، اضافة الى فشلها في قضايا الوطن الخارجية مثل قضية فلسطين.
؟ وجود بون شاسع وانقطاع واسع بين حاكم غير شرعي (فرض نفسه بالقوة والقهر، واعتبر ان السلطة حق طبيعي له ولذريته وحاشيته) وبين محكوم مستضعف (مطارد وملاحق وعاجز عن تحقيق الحد الادنى من متطلبات وجوده الانساني الطبيعي)، فقد الثقة في نظمه واجهزته الحاكمة، لانها لم تقم لخياره وزنا، وتجاوزت حدود العدل في الحكم والقسط.
؟ خوف تلك القيادات الدائم من شعوبها، مما يجعلها تتحسب للثورات في كل وقت.. او بتعبير معاوية نفسه: «فان نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري اتكون لنا الدائرة ام علينا».. اي سيادة ثقافة الخوف والخوف المتبادل.
؟ سيادة العلاقات النفاقية والتملقية - اذا صح التعبير - بين الحاكم والمحكوم، واظهار كل منهما للاخر غير ما يبطن،نظرا لانسداد ابواب التعاون الحر، وانعدام التناصح النزيه.
ولعلنا لا نغالي كثيرا عندما نؤكد على ان مشهد الخوف والاحباط والياس والظلم والاستضعاف هو من المشاهد الاكثرحضورا وتاثيرا على حركة الانسان العربي الذي مارست بحقه الدولة العربية الحديثة افظع انواع القسوة والعنف الموزع ماديا ورمزيا على معظم امتدادات وكتل هذه الامة البشرية والطبيعية.. بحيث باتت منافذ التغيير شبه معدومة في ظل هيمنة وسيطرة تلك النخب التابعة والعاجزة كل العجز عن ادارة شؤونه.
ويبدو لنا هنا ان تعميق ثقافة الخوف والرعب والقلق السلبي - الممتدة افقيا وعموديا في جسم الامة منذ بداية ازمة الخلافة والحكم الاسلامي الاول - كان من الاهداف الرئيسة التي كانت تسعى دول الاستقلال الاولى (الوريثة الشرعية لانظمة القمع والطغيان التاريخية) - وكل النظم السياسية (سلطات الهزيمة) التي جاءت بعدها، والتي ارتكزت سياساتهاجميعا على ثلاثية:
القمع والافقار والتجهيل - الى تحقيقها بالقوة على ارض الواقع المعاش.. فكانت النتيجة النهائية لكل تلك المقدمات المازومة ان نظمنا السياسية المتلاحقة لم تتفرغ لشي كما تفرغت للتحكم بموارد الامة، ونهبها بالكامل،والسيطرة على مفاصل السلطة والثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الراسمال المادي والمعنوي المتبقي لافراد المجتمع والامة.. فكان ان وقع الافقار المقصود على الشعب.
لان الفقير لا يجرؤ دائما على رفع راسه (اصلا هو لا يستطيع فعل ذلك)، كما ان الجائع لا يعرف السياسة، ولا وقت عنده للحديث والاستماع للسياسة والسياسيين، حيث انه مشغول كليا بتحصيل لقمة العيش وكفاف اليوم (اللهم اعطنا خبزناكفاف يومنا).. وهكذا يبدا هذا الفقير الجائع والمحروم - مع مرور الايام - بفقدان انسانيته، ونسيان ذاته وفاعليته الوجودية،ويختصر الى جملة من الغرائز والمكبوتات، بما يؤدي لاحقا الى تدمير القيم السامية والاخلاق الحميدة والمثل العليا التي طالما تفاخر بها، واعتز بانتمائه اليها.. وهكذا كانت النتيجة ايضا ان وصلنا الى حافة الهاوية على كل المستويات والاصعدة الاخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي ظل هذا الوضع لا يمكن للفرد المصاب بالوهن النفسي والضعف الذاتي العضوي تحقيق الاستشفاء الذاتي لوحده، بل انه بحاجة ماسة لمن ياخذ بيده قبل كل شي، وبالمثل لا يمكن لبلادنا النهوض بدون مساعدة عاجلة وسريعة من الحضارات الاخرى.
اننا نعتقد ان شعوبنا العربية والاسلامية تواقة للاصلاح والتغيير بالدرجة التي قد تفرض عليها ان تغض النظر عن مصدرالتغيير وآلياته واساليبه.. ويبدو ان انعدام التغيير الداخلي وفقدان الثقة بالنظم والحكومات القائمة في العالمين العربي والاسلامي - وكذلك ان كل مبادرات الاصلاح الداخلية (ان وجدت اصلا) تتم وتبنى في غرف مظلمة وقوالب جامدة بعيداعن هموم الناس وتطلعاتهم وارادتهم - هو الذي يدفع تلك الشعوب باتجاه قبول التغيير الخارجي حتى لو جاء بيد عمرو(الغرب وامريكا).
والواضح امامنا - في هذا الاتجاه - ان هناك حقيقتين يعايشهما الناس في مجتمعاتنا، وقد انتقلت تاثيراتهما الى البلدان الاخرى:
الاولى: وصول حال العرب والمسلمين الى هذه الدرجة المتدنية من الانحطاط والتخلف بمختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وو..الخ، نتيجة السياسات الفوقية الظالمة التي طبقتها النخب السياسية والاقتصادية العربية والاسلامية الفاسدة عبر العقود الاربعة الماضية، والتي كانت تحظ ى - حتى عهد قريب - برضى المصالح والسياسات الدولية المتفصلة مع نظيرتها المحلية.
الثانية: نمو حركات العنف والتدمير الدينية السلفية في مناخ الترهل والفساد والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اجتماعنا السياسي والديني، والناتج اساسا عن هيمنة ثقافة عربية واسلامية نصية متعصبة تؤمن بالعنف كخيار اوحد للوصول الى مصالحها وغاياتها((388))، وتضفي طابع القدسية على فكرها ومنظومتها المعرفية، وتلغي اي حلول وسط مع اي كان، كان من ابرز انجازاتها سابقا قتل وتدمير معظم افكار ورموز الخير والسلام والعدالة في تاريخنا الاسلامي.. حيث انه - وبعد عصر الرسول(ص) - تعمقت ثقافة العصبية والقبلية، وترسخت انماط تقليدية عصبوية في طبيعة الحكم السياسي كالحكم الوراثي، وخلافة الحق الالهي المقدس.. اي تحول الاسلام - على ايدي زعامات الانحراف والجور - الى ملك سلطوي عضوض .
ولا شك ان ضغط هاتين الحقيقتين سيدفع العالم العربي والدولي كله نحو تبني خيارات ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية محلية وعالمية يمكن ان تضع حدا لاستشراء مظاهر العنف والفوضى، ونمو الارهاب والجريمة الدولية والتطرف الفكري والعملي في المشهد المعاصر.. من اجل تحقيق مجتمع:
-تسوده قيم الحوار والعقل والعدل.
-يحترم فيه الانسان من حيث انه خليفة اللّه في الارض.
-مجتمع يتحمل الناس فيه بعضهم البعض، وتسوده وجهات نظر متعددة ومختلفة.
-مجتمع يشعر فيه الانسان عمليا بانه سيد نفسه، ولا فرق بينه وبين قيادته الا بتوزيع الادوار وتعدد واختلاف المسؤوليات.
-مجتمع يتبنى النقد والمحاسبة الذاتية الحضارية عنوانا لحركته وتطوره.
ونحن نعتقد ان انجاز تلك القيم الرائعة لن يتحقق الا بعد مواجهة افكار ورموز اقليات التخلف والاستبداد (القابضة بقوة الحديد والنار على عروش السلطة والسياسة والاقتصاد في عالمنا العربي والاسلامي) واقامة حكم تعددي وديمقراطي صالح وعادل منتخب مباشرة من قبل الشعب، وبارادة هذا الشعب الحرة.. بعيدا عن سيطرة مظاهر وثقافة التطرف والتزمت والغاء الاخر من خلال بناء مجتمع معرفي، وتوسيع المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية امام كل افراد المجتمع.
طبعا، هذه كلها توصيفات للمطلوب من اجل الخروج من المازق، ولكن مناخ وفضاء تلك التطلعات والاهداف الكبرى،واطارها وقاعدتها الاساسية تكمن في ضرورة تغيير طبيعة المعنى المعرفي لمهمتنا الوجودية بما فيها تغيير كثير من ادواتناوعدتنا المفاهيمية المعرفية المسيطرة حاليا. بما يؤدي الى تغيير الطريقة والوجهة السائدة حاليا التي اثبت الزمن والتاريخ والممارسة العملية عقمها وفشلها مما جعلنا نعيش على الهامش الدولي والوجودي((389)) .
ويجب ان يكون واضحا للجميع هنا ان النقد الذي نمارسه ليس جلدا للذات او تجريحا للنفس - كما نؤكد دائما - بمقدارما هو محاولة جدية فاعلة للوقوف المتامل امام المشكلة كما هي على الارض، لكي يتوفر لدينا عنصري الوعي والقدرة على اجتراح الحلول، وبناء القدرات وفتح مغاليق الفكر والواقع. خصوصا بعد ان اتخمتنا مشاريع التنمية والتحديث العربية والاسلامية - من اقصى اليمين الى اقصى اليسار - بنضالاتها الفاشلة ودفاعاتها العقيمة التي الحقت بنا العديد من الضرروالخسائر اكثر بكثير مما تسببت به للخصوم والاعداء.
ان احوج ما تحتاجه بلادنا - في مواجهة متغيرات وتحديات العالم كله، وقد اصبح المتغير هو الثابت الوحيد فيه - هوالعمل على ادارة هوياتنا وافكارنا وثرواتنا وعلاقاتنا بالعالم بابتكار الجديد من الصيغ والمهام او الطرق والوسائل والسبل((390)) .
اما ثقافة التطرف والعنف والتعصب والكره والخوف والعداء والصدام والقتل والانشداد الى الوراء وعبادة الاسماء والافكار، فملها عربيا او عالميا تفخيخ العلاقات بين البشر، والانتقال من مازق الى سواه، ومن صدمة الى اخرى،ومن خسارة الى خسارة اكثر فداحة.[/align]
مذاهب اهل السنة والجماعة، دور احمد بن حنبل في الاصلاح و التغيير..الشيخ رسول جعفريان
[align=justify]
احمد بن حنبل وعقيدة التربيع
نحاول هنا ان نوضح دور احمد بن حنبل في مسالة «التربيع».
ومن المفيد ان نذكر بدوره البارز في نشاة وتكوين مذهب اهل السنة، وقد اضطلع بهذا الدور لما له من نفوذ واسع في اوساط اهل الحديث، فنراه قد قاوم المامون بعزم في مسالة القرآن، ولم يتراجع عن عقيدته ويعترف بخلق القرآن، حتى مع اصرار الخليفة المعتزلي، ولاجل هذه القضية صارت له مكانة مرموقة بعده عند المتوكل.
وفي عهد المتوكل الذي قرب اهل الحديث، صار لاحمد بن حنبل - والذي كان يعد رئيسهم - سلطة واسعة، مع ان احمدبن حنبل قد عرف من القرن الخامس والسادس وما بعده كفقيه، واصبح ينسب اليه المذهب الحنبلي، لكنه قبل ذلك في القرن الثلاث الى الخامس كان معروفا كزعيم مذهب، حيث كان يرجع اليه الحنابلة في المسائل العقائدية المختلفة.
وفي اكثر كتب السنة التي تم تدوينها في القرن الثالث وما بعده كانوا يرجعون في اكثر الابواب الى كلام احمد بن حنبل،ويعتبرون قوله القول الفصل في البحوث المختلف عليها، وقد تم وضع فهرسا في نظرياته الموجودة في آثار عديدة من بينها كتاب السنة لابنه عبداللّه، ثم جمعت في كتاب اختص قسم منه بالخلافة((424)) .
وقد اكد الخلال في مواضع عديدة من كتابه، على لسانه او لسان الاخرين، على ضرورة اتباع احمد في المسائل العقائدية.وقد جاء في رسالة تتضمن ردا على احد علماء ترمذ، وقد ذكرت في هذا الكتاب، وفي الواقع هي رد عليه لانكاره حديث جلوس النبي على العرش الى جنب اللّه، اذ كان لا ينفك من تكرار هذا القول لمرات عديدة: «اعاذنا اللّه واياكم من مضلات الفتن، وسلمنا واياكم من الاهواء المضلة بمنه وقدرته، وثبتنا واياكما على السنة والجماعة واتباع الشيخ ابي عبداللّه رحمة اللّه عليه ورضوانه» (ص 227).
وقد ورد هنا وجوب اتباع احمد بن حنبل مباشرة بعد وجوب الثبات على مذهب السنة والجماعة، وقال بعد عدة صفحات من كلام علي بن داود القنطري: «اما بعد، فعليكم بالتمسك بهدي ابي عبداللّه احمد بن حنبل رضي اللّه عنه فانه امام المتقين لمن بعده» (ص 234).
وجاء ايضا في نهاية هذه الرسالة: «اسال اللّه ان يمن علينا وعليكم بلزوم السنة، والاقتداء بالسلف الصالح ابي عبداللّهرضي اللّه عنه، فانه اوضح الامور المحدثات ما هو كفاية لمن اقتدى به» (ص 236).
وجاء تكرار مثل هذه العبارات في مواضع اخر (ص 243).
وفي نهاية البحث عن حديث الجلوس الذي ورد في ذيل الاية (عسى اءن يبعثك ربك مقاما محمودا). قال اءبو الفضل عباس الدوري: «ونحن نقول في هذه الاحاديث ما قاله اءحمد بن حنبل متبعين له ولاثاره في ذلك» (ص 258).
ان هذه التاكيدات تظهر مدى تاثير احمد بن حنبل في نشاة عقائد اهل الحديث. وما يلفت النظر ان محمد بن جريرالطبري - والذي لا يعتبر احمد فقيها - قد استشهد في مواضع متعددة من رسالته صريح السنة - والتي هي رسالته العقائدية - باقوال احمد بن حنبل، ويقول احيانا بعد نقله لكلام احمد بن حنبل: «هذا الكلام يكفينا، وفي الوقت نفسه هوينكر حديث جلوس النبي، ولهذا تعرض بشدة لهجوم الحنابلة المتعصبين في بغداد» . ((425)) ان القسم المهم من هذا التاثير يختص باصلاح راي اهل الحديث في الامام على(ع)، ان اهل الحديث الذين هم استمرارلتيار العثمانية كانوا يكنون العداء للامام على(ع)، فهم لا يعتبرونه خليفة، ولا يرون له اية مزية تميزه عن سائر الصحابة،وكما ذكر ابن قتيبة ان اهل الحديث وبسبب حقدهم على الروافض، فقد انكروا ايضا اشهر فضائله كحديث الغديروالمن -زلة ((426)).
ان احمد بن حنبل قد حطم هذا الطوق، فنجده قد نقل في مسنده او آثاره الاخر روايات كثيرة في فضائل الامام على(ع)،وقد تحدث في كتابه فضائل الصحابة((427)) - مطبوع في مجلدين - حول فضائل واخبار الصحابة وبدا با لترتيب من ابي بكر (ص 65 - 243)، وبعده تحدث عن عمر (ص 244 - 502)، ثم عن عثمان (ص 503 - 527)، ثم عن فضائل اميرالمومنين(ع)ص 528 - 727)، وبعدها الى ص 990 تحدث ايضا عن عدد آخر من الصحابة.
ان تخصيصه لما يقارب من مئتي صفحة ((428)) لفضائل الامام على(ع) في هذا الكتاب وجميع الروايات جاء نقلها عن طريق احمد بن حنبل يثبت الى اي مدى ذهب في كسر طوق اهل الحديث العثمانيي المذهب.
وجاء في هذه المئتي صفحة كثير من المسائل المتعلقة بحياة الامام وفضائله التي من جملتها: حديث الغدير (ص 569)،المن -زلة، سدوا الابواب (ص 582)، الثقلين، نزول آية التطهير في اهل البيت (ص)(588)، اول من اسلم (ص 590)،المؤاخاة (ص 598) واكثر فضائله ومناقبه.
وقد ينقل احمد فضائل لامير المؤمنين قد تكون مثارا للدهشة احيانا ((429)).
ان مسالة نقل مناقب الامام على(ع) قد توسعت بمرور الزمن بين اهل الحديث، ونظرة الى كتاب السنة لابن ابي عاصم تظهر مدى اتساع هذه الظاهرة في كتب اهل الحديث. فقد ذكرت كثير من فضائل الامام على(ع) البارزة في هذا الكتاب،والتي من جملتها حديث الغدير، وقد افرد اللالكائي فصلا خاصا لروايات فضائل الامام على(ع) ((430))، ومنها حديث جابر بن عبداللّه حيث قال: «ما كنا نعرف منافقينا معشر الانصار الا ببغضهم على بن ابي طالب» ((431)).
قد راينا حتى الان ان اهل الحديث كانوا يصرون على ان الاعتقاد بالخلفاء الثلاثة هو كاف للسني الواقعي في حصيلة اعتقاداته، لذا كانت جهود احمد بن حنبل منصبة في اتجاه جعله مسالة تربيع الخلافة بالامام على(ع) امر لا ضير فيه.
يقول عبداللّه بن احمد بن حنبل: سمعت من ابي انه قال في مسالة التفضيل: «ابو بكر، عمر وعثمان»، ثم اضاف: «ولا نعيب من ربع بعلى لقرابته وصهره واسلامه القديم وعدله»((432)) (ص 404).
وقد نقل جماعة من الافراد عن احمد انه قال في مسالة التفضيل: ابو بكر، عمر وعثمان، ولا عيب على من اضاف على[بن ابي طالب) ]ص 406).
وقال في خبر آخر: «ارجو ان لا يكون به باس» (ص 406).
واكد احمد في نص آخر: ان كلا التعبيرين كان صحيحا، اي اذا قلنا ابو بكر، عمر وعثمان وسكتنا، او نضيف اليهم عليا،واما المخطئ فهو الذي يقدم عليا على عثمان (ص 407).
ويبدو ان احمد كان يراعي اهل الحديث، وكان يخشى ان يثير اصراره على عقيدة التربيع غضب الاخرين ووقوفهم ضده،ويمكن اثبات هذا المدعى من بعض النصوص المنقولة، حيث كان يسعى بجد الى نقل فضائل امير المومنين(ع)، فقد جاءفي احد النصوص ان شخصا ساله: ماذا عمن قال: ابو بكر، عمر، عثمان وعلى، في رايك ليس بسني؟ قال احمد: هو سني،لماذا، لانه جاء عن على من الفضائل ما تقشعر منه الجلود، مثل: «انت مني بمن -زلة هارون من موسى» (ص 407).
وقال هارون بن سفيان: قلت لاحمد: هل صحيح اذا قال احد:
ابو بكر وعمر وعثمان؟ قال: هذه مقولة عبداللّه بن عمر،ونحن نقبلها. قلت: كيف اذا قال: ابو بكر وعمر وعثمان وعلى؟ قال:
صاحب سنة، قلت: اذا قال: ابو بكر وعمر؟ قال: هذاقول سفيان الثوري وشعبة ومالك بن انس. قلت: اذا قال: ابو بكر وعمر وعلى؟ قال: هذا الان شديد (ص 408).
ويمكن ادراك حال احمد بن حنبل وما كان يحذره من السنة العثمانيي المذهب من النص الاتي: قد سئل احمد في مدينة حمص المعروفة بعثمانيتها عن مسالة التفضيل فكان رايه ان العقيدة الصحيحة هي الاعتقاد بالثلاثة الاوائل فقط، وعندماسالوا يحيى بن معين عن قول احمد هذا قال: «صدق ابو عبداللّه، هو مذهبي» (ص 408).
هذا وفي الوقت نفسه نراه قد اظهر اعتقاده الصريح في مواضع اخر، فهذا حامد ابن يحيى البلخي كان يقول: «كان احمد بن حنبل يذهب في التفضيل: ابو بكر وعمر وعثمان وعلى» (ص 409).
ومع هذه الصراحة نرى ابا بكر الخلال قد اوضح مباشرة بعد هذا النص مسائل قد تلفت النظر، حيث يقول: ان القول المشهور لاحمد في مسالة التفضيل هو: «ابو بكر وعمر وعثمان»، لكنه كان يقول لعاصم وابي عبيد: «لست ادفع قولكم في التربيع بعلى». وربما كان هذان الشخصان هما اصل عقيدة التربيع.
بعد ذلك نقل عنه جماعة من اكابر الزعماء المعاصرين له انه قال: من كان معتقدا بعلى فهو سني، وكذلك نقل عنه احمد بن ابي الحواري انه كان معتقدا بعلى ايضا، واضاف الخلال:
«وعندي انه لم يحب ان ياخذ عنه اهل الشام ما يتقلدونه عنه في ذلك، لانه امام الناس كلهم في زمانهـ لم ينكر ذلك احد من الناس - فلم يحب ان يؤخذ عنه الا التوسط من القول، لان اهل الشام يغالون في عثمان كما يغالي اهل الكوفة في على. وقد كان من سفيان الثوري ( نحو هذا لما قدم اليمن قال: في اي شي هم مشتهرون به؟ قيل في النبيذ وفي على، فلم يحدث في ذلك بحديث الى ان خرج من اليمن، فالعلماء لها بصيرة في الاشياء وتختار ما تراه صوابا للعامة» (ص 410).
وفي نص آخر يظهر ايضا مسالة جدال المخالفين مع احمد واجاباته التي يكتنفها الغموض، وكان كالتالي: قال ابو حاتم الرازي: سمعت من احمد بن ابي الحواري قوله: جاءنا احمد بن حنبل (لعله في مدينة حمص نفسها) فذهبت اليه وسالته عن اعتقاده في مسالة التفضيل، وقلت: «ما هي عقيدتك في التفضيل؟» قال: «ما يطابق حديث سفينة في مسالة التفضيل والخلافة» (ص 409). وكان حديث سفينة هو حديث:
ان الخلافة بعد رسول اللّه (ص)ثلاثون عاما ثم تصبح ملكا.
ان احمد بن حنبل قد التجا الى لون آخر من الايهام في قضية ادخال الامام على(ع) ضمن دائرة عقائد اهل السنة، ولئلايكون مظنه للاتهام، فنراه قد وضع فرقا بين الاعتقاد بالتفضيل، والاعتقاد بشرعية الخلافة.
فقد جاء في خبر عنه انه في مسالة التفضيل قد ذكر اسماء الخلفاء الثلاثة فقط، اما في مسالة الخلافة فذكر الخلفاء الاربعة جميعهم .((433)) وكان دليله في التفضيل هو القول المنسوب لعبداللّه بن عمر، اما في مسالة الخلافة فحديث سفينة (ص 412) ((434)).
وطبقا للحديث المنسوب للنبي ( والذى جاء فيه: «الخلافة ثلاثون عاما»، وبما ان خلافة الخلفاء جميعهم تكون ثلاثون عاما، فيجب ان تكون خلافة الامام على(ع) خلافة صحيحة وشرعية ايضا. وفي خبر آخر عنه انه اعتبر حديث سفينة هوالدليل على صحة خلافة الامام على(ع) من الناحية الشرعية، وهذه المسالة هي جزء من عقائد اهل السنة ايضا، اي ان السني الواقعي يجب ان يعتقد بها، وقد جاء في تتمة هذا الخبر قول عن احمد فيه:
«على(ع) امام عادل» (ص 412)، وقداضطر احمد لدعم قوله هذا بالادلة والبراهين، ليكون مقبولا عند اهل الحديث، الذين كانوا في طريق التغيير والاصلاح من مذهبهم العثماني نحو التسنن.
ان الشي المسلم به، هو ان احمد ربما لم يؤكد بنحو قاطع على عقيدة التربيع، ذلك لانه كان يراعي اهل الشام في تلك النواحي، لكنه وبشكل عام سعى جاهدا لتثبيت مكانة الامام على(ع) عند اهل الحديث، ولتثبيت عقيدة التربيع ايضا والتي ربما تكون من وضع بعض اهل الحديث المتشيعين.
وقد تطرق احمد في اقوال اخر الى مسالة التمييز بين التفضيل والخلافة، فقد نقل عنه قوله: «اقول: ابو بكر وعمر وعثمان في التقديم وفي الخلافة على عندنا من الخلفاء» (ص 413)، وفي الواقع ان العثمانيين الذين تربوا في العصر الاموي لم يعتبروا خلافة الامام على(ع) خلافة شرعية اساسا، ففي كلام منقول عن احمد - اراد به اثبات شرعية خلافة الامام على(ع) - قال: كان اصحاب رسول اللّه (ص)راضين بخلافة على، اجتمعوا حوله.
وقد اقام على الحدود بحضور جمع منهم ولم يخالفوا، وكانوا يعدونه خليفة، يخطب فيهم ويقسم الغنائم فلم ينكروا عليه.
يقول حنبل ابن اخي احمد: قلت لاحمد: «خلافة على ثابتة؟!ك» قال احمد: «سبحان اللّه! يقيم على(ع) الحدود، ويقطع،وياخذ الصدقة ويقسمها بلا حق، وجب له؟! اعوذ باللّه من هذه المقالة. نعم، خليفة رضيه اصحاب رسول اللّه (ص)وصلواخلفه، وغزوا معه، وجاهدوا وحجوا، وكانوا يسمونه امير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين فنحن تبع لهم، ونحن نرجوامن اللّه الثواب باتباعنا لهم».
ثم قام حنبل بشرح عقيدة احمد في ترتيب التفضيل بين الاربعة فاضاف قائلا: وعلى(ع) امام عدل بعد هؤلاء، امامته ثابتة واحكامه نافذة وامره جائز، كان احق الناس بها بعد عثمان، فهؤلاء الائمة ائمة الهدى (رحمهم اللّه) (ص 413).
وقد اورد الخلال فيما بعد اخبارا حول عدد من احكام الامام على (ع) وتقسيم الغنائم والفي، وقد اتى بها لاجل اظهاراستقرار وثبات السلطة للامام، وفي الواقع ان الدليل الاساسي للامامة في نظر احمد واهل الحديث، هو رضى الصحابة،الذين كانوا ينادونه يا امير المومنين(ع)(ص 414).
قال احمد: قد سماه عمار وابن مسعود امير المؤمنين (ص 415) والجدير بالذكر ان ابن مسعود لم يدرك خلافة الامام على(ع).
ثم اتى الخلال برواية مفصلة عن محمد بن الحنفية، تتضمن وصفا لكيفية وصول الامام على(ع) للخلافة واستقبال الناس له، كما ذكر بيعة المهاجرين والانصار له في هذه الاخبار (ص 415 - 417).
وقد نقل الخلال اخبارا اخر لاثبات صحة خلافة الامام كانت موثقة احيانا من بعض المحدثين، ومن بينها خبر ابي سعيدالخدري، حيث قال: كنت مع على في حربه مع الخوارج، وشهدت قتل ذي الثدية، والتمسه في القتلى فاتي به على النعت الذي نعت الرسول اللّه(ص)، واشهد لسمعت هذا من الرسول اللّه(ص). ثم نقل عن احمد بن حنبل قول -ه: ليس شي عندي في تثبيت خلافة على اثبت من حديث ابي سعيد الخدري هذا (ص 418)((435))، وهذا يثبت ان احمد كان يبحث بجد عن ادلة تعزز من مكانة الامام على(ع)، وقد جاء في تتمة هذا الخبر مطلب حول جهود احمد لتعديل رواة هذا الحديث، وقداورده الخلال دعما لموقف احمد بن حنبل ايضا.
وفي سياق الكلام، وقع بحث حول حديث سفينة: «الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك ملك»، فقد سال سائل من احمدقال له: ان يحيى القطان كان يتكلم في سعيد بن جهمان، فاجاب احمد مغضبا وقد ادرك جيدا بان هذا الطعن انما جاء لاجل انكار خلافة الامام على(ع)، ولهذا السبب قال: هذا باطل، ما سمعت يحيى يتكلم فيه، قد روى عن سعيد بن جهمان غيرواحد، وقال: ابو بكر وعمر وعثمان وعلى هؤلاء ائمة العدل. لقد بلغ من عدل على انه قسم الرمان والابزار، واقام الحدود،وكان اصحاب رسول اللّه (ص)يقولون: يا امير المؤمنين. وجعل ابو عبداللّه يفحش على من لم يقل انه خليفة.
وقال:اصحاب رسول اللّه (ص)يسمونه امير المؤمنين، وهؤلاء لا يثبتون خلافته. هذا يعني تكذيب اصحاب رسول اللّه(ص)(ص 419).
وقد دافع في خبر آخر عن حماد بن سلمة، الذي نقل رواية سفينه عن سعيد ابن جهمان، واكد انه يزداد بصيرة يوما بعدآخر على صحة هذه الرواية (ص 420 و421).
تجدر الاشارة الى ان حديث سفينه هو غير حديث سفينة المعروف في فضائل اهل البيت، والمراد منه هنا حديث:«الخلافة ثلاثون سنة ثم يكون بعد ذلك الملك»، او «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي اللّه ملكه من يشاء». وراوي هذا الخبرهو ابو عبدالرحمن من موالي رسول اللّه، ويقال كان اسمه مهران. وقد نقل عن رسو اللّه(ص) كما مر: «الخلافة بعدي ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك». فطبقا لهذا الحديث اعتبر احمد عهد الخلافة حتى نهاية خلافة امير المؤمنين، وعلى هذا الاساس شيد اسس عقيدته في التربيع.
والخبر المذكور لم يروه عن سفينة الا راويا واحدا وهو سعيد بن جهمان، وعندما سئل: اين لقيت سفينة؟ قال: في بطن نخلة في زمن الحجاج (ص 421) ((436)).
على اية حال فقد تشبث احمد بهذا الحديث بقوة، وحاول الدفاع عن رواته، وما يطرح حولهم من اسئلة (ص 421 -423).
ولمعرفة ما قام به احمد من دور في هذا المضمار، نورد هذا الخبر الملفت للنظر:
قال صالح بن احمد: سالت من ابي: في هذه المسالة، فان قال قائل: فينبغي لمن ثبت الخلافة على على ان يربع به؟ قال:انما نتبع ما جاء، وما قولنا نحن؟ك! وعلى عندي خليفة قد سمى نفسه امير المؤمنين، وسماه اصحاب رسول اللّه (ص)اميرالمؤمنين، واهل بدر متوافرون يسمونه امير المؤمنين، قلت: فان قال قائل: نجد الخارجي يخرج فيتسمى بامير المؤمنين ويسميه الناس امير المؤمنين؟ قال: هذا قول سوء خبيث، يقاس على الى رجل خارجي، ويقاس اصحاب رسول اللّه(ص)الى سائر الناس، هذا قول ردي، افيقول انما كان على خارجيا؟ اذا، بئس القول هذا (ص 424).
ثم قد وقع هنا بعض الاختلاف في الراي ايضا عند محاسبة الثلاثين سنة، ففي حساب احمد بن حنبل او سعيد بن جهمان هكذا: ابو بكر سنتين وشي، وعمر عشر، وعثمان اثنتا عشرة وعلى ست (ص 424) .((437)) (الجدير ذكره ان خلافة الامام على كانت اربع سنين وسبعة اشهر) وجاء في الحساب الدقيق للمسعودي هكذا: ابو بكرسنتان وثلاثة اشهر وثمانية ايام، عمر عشر سنين وستة اشهر، عثمان احدى عشرة سنة واحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما،على(ع) اربع سنين وسبعة اشهر الا اياما، والحسن ثمانية اشهر وعشرة ايام، ومجموع هذا تمام الثلاثين عاما ((438)).
وجاء في خبر آخر ان عبداللّه بن احمد قال: قلت لابي: ان قوما يقولون: انه (عليا) ليس بخليفة، قال: هذا قول سوء ردي، وقال اصحاب رسول اللّه (ص)يقولون له يا امير المؤمنين افنكذبهم وقد حج بالناس، وقطع، ورجم، فيكون هذا الا خليفة؟ قال عبداللّه: قلت لابي من احتج بحديث عبيدة (بن عمرو السلماني) انه قال لعلي: رايك في الجماعة احب الى من رايك في الفرقة، (كلام هذا معناه)، وقال ابي: انما اراد امير المؤمنين بذلك ان يضع من نفسه، يتواضع. قوله: خبطتنا فتنة، تواضع بذلك. [لا انه لم تحصل الجماعة].(ص 425) . ((439)) ان هذه القضايا كانت تطرح في وقت كان فيه غالبية اهل الحديث ترفض خلافة الامام على(ع)، وكانوا يعتقدون من يقول ان عليا امام عادل فقد اهدر دم طلحة والزبير، واجاب بعضهم بان الذي قتل طلحة هو مروان بن الحكم قتله بعثمان، واماالزبير فقد قتله ابن جرموز، وبناء على هذا فان عليا(ع) لا يد له في هذا العمل (ص 425).
لقد كان موقف احمد بن حنبل جديدا تماما، وقد راينا انه ليس اهل الحديث وحدهم الذين واجهوا صعوبات لتبرير هذه القضية، بل ابنه ايضا عانى الكثير في هذا السبيل.
وجاء في خبر آخر ان عبدالملك الميموني قال لاحمد: انا وبعض اخوتي نعجب منك في ادخالك عليا في الخلافة.
قال لي: فايش اصنع وايش اقول بقول على انا امير المؤمنين، ويقال له: يا امير المؤمنين، ويحج بالناس والموسم وتلك الاحكام والصلاة بالناس؟ قلت: فما تصنع وما تقول في قتال طلحة والزبير اياه وتلك الدماء؟ قال: ما لنا نحن وما لطلحة والزبير؟(ص 427).
وفي خبر آخر، قال محمد بن حسان: قلت لاحمد: «كان على اماما؟» قال: «نعم، كان اماما عدلا. وكان عمه حاضرا، فقال لي عمه بحضرة ابي عبداللّه ـ وابو عبداللّه يسمع هؤلاء الفساق الفجار الذين لا يثبتون امامة على - : رجل كان يقسم الفي، ويرجم، ويقيم الحدود، ويسمى امير المؤمنين فكان خارجي يكذب؟ واصحاب رسول اللّه يكذبون؟» وابو عبداللّهساكت يتبسم. (ص 427).
ثم اورد بعده خبرا آخر دافع فيه احمد عن سعيد بن جهمان، وفي رده على شخص ساله: «ما رايك في من يرى ان خلافة على غير ثابتة؟»، قال: «قول غير صحيح»، فقال ذلك الشخص: «هل هو سني؟»، قال احمد: «انا لا اعتبره خارجا عن اهل السنة، فهذا شخص تاول فاخطا».
ال المعترض: «ان احمد بن حسن قال في حديث ابن مسعود، والذي جاء فيه: (تدور رحى الاسلام بخمس وثلاثين).قال: ان المراد بالخمس والثلاثين من بداية هجرة النبى(ص)، وعلى هذا لا تكون شاملة لخلافة على(ع)».
قال احمد: «ان هذا لا معنى له ان يكون مراد النبي من الخمس والثلاثين سنة شمولها لسنوات حياته انما المراد الاعوام التي بعد حياته» فساله مرة اخرى: «هل لدينا شيئا عن النبى(ص)يثبت خلافة على»، اجاب احمد: «من لا يثبت خلافة على فقد اعتبر الصحابة من اهل الفتنة والضلال وان عملهم كان باطلا».
لقد سعى احمد متبعا شتى السبل من اجل نشر عقيدة التربيع في اوساط اهل الحديث، مع ما كان يبديه من تساهل احيانافي هذا المضمار، فنراه يقول: «لا نعيب من ربع بعلى» (ص 404)، لكنه في مواضع اخر يبدو اكثر تعنتا مع المخالف، حيث يقول:
«من لم يربع بعلى فهو اضل من حمار اهله ((440))».
قال الخلال: لو تدبر الناس كلام احمد بن حنبل في كل شي وعقلوا معاني ما يتكلم به، لعلموا انه لم يكن في الدنيا مثله في زمانه اتبع منه للحديث، ولا اعلم منه بمعانيه وبكل شي، ثم قام بتوضيح امثلة، منها ما كان في اثبات خلافة على بن ابي طالب، وكيف كان يستدل بالاحاديث وانكاره على المخالفين، وجوابه لهم في مسالة ما كانوا يقولونه في طلحة والزبير،وما كان يبديه من الردود في النصيحة والشفقة للمسلمين والدعوة الى طريق الحق (ص 430).
وبعد احمد نجد راي «اهل الجماعة» قد استقر على قبول الخلفاء الاربعة على الرغم من بقاء الاقوال المخالفة في الكتب،فابو نعيم الاصفهاني (336 - 430هـ) قد ذكر في مستهل كتاب الامامة بان بعضا كان يعتبر افضلهم: ابو بكر، عمر وعلى، والبعض الاخر: ابو بكر، عمر وعثمان ويتوقف. وآخرين قالوا: ابو بكر وعمر الافضل ويتوقفون عند عثمان وعلى، ويصرح بان راي اهل الجماعة هو ان الاربعة هم الافضل بالترتيب ((441)).
ان كتاب الامامة لابي نعيم هو ايضا يشبه الفصول التي خصصت في كتب اهل الحديث، لبحث مسالة الخلافة من الوجهة العقائدية، فنراه 443في عدد من الفصول قد اورد على الترتيب احاديث مشابهة لتلك الاحاديث والاثار حول خلافة الخلفاء، والفرق بين هذا الكتاب والكتب الحديثية في القرن الثالث واوائل القرن الرابع، هو ان المؤلف مضافا لنقله الاحاديث والاثار، قام بالبحث والنقد، وبالاخص كان لغرض رده على ادلة وحجج الشيعة - حيث كان لهم قدرة كبيرة في زمن ابي نعيم ((442)) - في ابطال خلافة الخلفاء، واثبات خلافة الامام على(ع)، ولهذا السبب اختص قسم كبير من الكتاب لاثبات خلافة الخلفاء الثلاثة الاوائل، والرد على اعتراضات الامامية حول شرعية خلافتهم.
لقد بدا البحث حول خلافة الامام على(ع) من الصفحة 358، وكان اول حديث هو رواية سفينة التي استدل بها اهل الحديث بعد احمد، لاجل اثبات عقيدة التربيع، فابو نعيم وتحت تاثير الاجواء الجديدة بعد اصلاح مذهب اهل السنة، نراه قد اعتبر خلافة الامام على(ع) صحيحة على الرغم من حرب الامام(ع) مع عدد كبير من الصحابة وعلى راسهم عائشة وطلحة والزبير:
«فتولى امر المسلمين عادلا زاهدا آخذا في سيرته بمنهاج الرسول عليه الصلاة والسلام واصحابه رضي اللّهعنهم حتى قبضه اللّه عز وجل شهيدا هاديا مهديا، سلك بهم السبيل المستبين والصراط المستقيم» ((443)).
ثم صرح بان خروج المخالفين لم يبطل خلافته، وما كان ردهم على سؤال: فما هو اذن حكم الن -زاع بين الصحابة؟ الا ان قالوا:
هذا الاختلاف رحمة وما ينبغي ان نتحدث عنه، وقد اورد ابو نعيم اجوبة اخر ايضا تظهر مدى اضطرابه في الرد على هذا الاشكال المهم.((444))[/align]
السلفية ونظرية الصفات الالهية ..د. يحيى محمد
[align=justify]وهنا نعود لنتساءل عن منهج ابن تيمية واتباعه: هل حقا ما يدعونه من ان حمل الصفات الالهية على ظاهرها لا يستلزم التشبيه والتكييف؟ واقع الامر هناك عدد من الامارات تدل على صعوبة تقبل هذا النحو من الجمع المتنافي. فالقول بالصفات السابقة وغيرهايماثل القول بصفات الانسان، عضوا عضوا، وحالة حالة.
فمثلا ان القول بان للّه صورة وانه خلق آدم على صورته لا يفهم الا بهذا المعنى من التمثيل والتكييف. ثم ان القول بان له عينين، والتعويل في ذلك على الحديث الذي يتضمن المقارنة بين عين اللّه وعين المسيح الدجال، لا يفهم الا على نحو التشبيه والتكييف. وكذا القول ان له اصابع، وفي بعض الاحاديث المصححة نجد التمثيل على ذلك بقبضة يد النبي، ومثل ذلك ان له يدين وقبضة وقدمين وساقا وجنبا، وانه يضحك ويعجب ويستحي ويغار وينزل ويهرول ويتكلم بصوت وحرف، فكلها تدل على التشبيه.
وعلى هذه الشاكلة القول بان للّه كرسيا هو موضع للقدمين كالذي يرويه ابن تيمية عن ابن عباس ((302)) ، وما يسلم به من ان اللّه يهبطيوم التجلي في الاخرة على كرسيه، وان الانبياء ياتون فيجلسون على منابر تحف بهذا الكرسي، اذيستشهد بقول احد ائمة المالكية، وهو محمد بن ابي زمنين، الذي عد من قول اهل السنة ما رواه عن انس من انه اذا كان يوم الجمعة في الاخرة هبط اللّه من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجي النبيون فيجلسون عليها ((303)).
ومثله القول بان للّه عرشا استقر عليه، وقد ذكر ابن تيمية ان اللّه لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم اكبر من السماوات والارض ((304)). وكذا قول ابن القيم ان اللّه اجلس نبيه على هذا العرش، مستشهدا عليه بقول جماعة كبيرة من السلف والعلماء المتقدمين، كما استشهد عليه ببعض من ابيات الشعرلابي الحسن الدارقطني ((305)). وهناك عدد من الروايات تروى عن علماء السلف بان المقام المحمود المنصوص عليه في آية الاسراء يعني اجلاس النبى(ص)على العرش، كالتي يذكرها ابن ابي يعلى الحنبلي، ومن ذلك ما اسند عن النبي وابن عباس ومجاهد في عدد من الطرق، وفي بعضها ان اللّه يجلسه معه على العرش او السرير، وهو معنى قوله تعالى: (عسى اءن يبعثك ربك مقاما محمودا) (الاسراء/ 79). وروي عن عبد اللّه بن احمد بن حنبل قوله: «انا منكر على كل من رد هذاالحديث» ((306)).
والعجيب ان الكرسي موصوف في القرآن بانه يسع السماوات والارض، وان العرش اكبر من ذلك بما لا يعلمه الا اللّه، كماهو مقرر لدى القائلين بحقيقة الصفات المذكورة ((307))، لكنهم مع ذلك يقرون ايضا ان اللّه قد اقعد نبيه على عرشه، فاي نوع من الاقعاد هذا، والنسبة بين الطرفين معدومة من حيث الحجم والسعة؟! كما ذكر ابن القيم انه قد ورد بان السماء منفطر به تعالى، الامر الذي لم يسمح بنقله المتاخرون جبنا وضعفا، بل قاله المتقدمون ((308)) .
ومن المؤشرات التي تؤكد معنى التشبيه في المنهج السالف الذكر، ما اضافه ابن القيم من استدراك حول بعض الصفات،فعلى رايه ان ذكر الساق والجنب لا يدل على ان للّه واحدة لكل منهما. وهو استدراك صحيح، لكن استقباحه واستشناعه ان يكون الرب عبارة عن شخص له وجه وعلى ذلك الوجه اعين كثيرة وله جنب واحد عليه ايد كثيرة وله ساق واحد كماوردت هذه الصفات في القرآن والحديث، كل ذلك يدل على ما في النفس من انه متصور كما في الشاهد، اذ ما المانع ان يكون للرب مثل هذه الصفات بلا تشبيه ولا تمثيل؟ وبعبارة اخرى، ما الذي جعل ابن القيم يعد هذه الصفات قبيحة وشنيعة لا تتناسب مع اللّه، مع انها مذكورة في القرآن والاحاديث المصححة؟ اذ ورد ان للّه اعينا وايد، وورد ان له جنبا وليس اكثرمن ذلك، كما ورد ان له ساقا ولم يرد ساقان او اكثر. فلماذا يستنكر ابن القيم الاخذ بهذه المنطوقات لولا تاثره بالشاهدوتطبيقه على الغائب؟ اذ كان الاولى به تجويز مثل هذه النتائج التي اوردها بعض اصحاب الدائرة العقلية ليظهر من خلالهاشناعة القول باثبات الظواهر اللفظية للصفات ((309)).
وهناك من نقل عن ابن تيمية امورا لها دلا لة صريحة على التمثيل والتجسيم، لكنها تخالف ما هو معلوم من كتبه، ومن ذلك ما نقله صاحب (كشف الظنون) من ان لابن تيمية كتاب العرش ذكر فيه «ان اللّه تعالى يجلس على الكرسي وقد اخلى مكانا يقعد معه فيه رسول اللّه (ص)ذكره ابو حيان في النهر.. وقال: قرات في كتاب العرش لاحمد بن تيمية ما صورته بخطه» ((310)). ونقل عنه في بعض تصانيفه بان اللّه بقدر العرش لا اكبر ولا اصغر((311)) . كما نقل انه قال في الكلام على حديث النزول المشهور: ان اللّه ينزل الى سماء الدنيا الى مرجة خضراء وفي رجليه نعالان من ذهب ((312)). ونقل ايضا انه في يوم كان يخطب فذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين وقال كنزولي هذا((313)) .
هذا ما ينقل عن ابن تيمية، وهو مخالف لما هو معلوم من كتبه.
لكن لا يعني ذلك ان ما تبناه من اتجاه لا يبعث على التشبيه، بل على العكس كما راينا، وربما لهذه العلة كان السلف يامرون بامرار النصوص في الصفات التي يبدو عليهاالتشبيه دون تفسير وبحث وتنقيب، فربما كانوا يدركون ان الخوض فيها يجر الى التشبيه ولو مع قيد (ليس كمثله شي).خاصة ان بعض النصوص يعطي انطباعا مباشرا بالتشبيه دون ان يؤثر فيه قيد عدم التشبيه والتكييف، كما هو الحال مع حديث الصورة الذي مر معنا. لذلك فقد كان بعض السلف يتمنى لو ان اصحاب الحديث يتركون عشرة احاديث في الرؤية،كالذي يروى عن يحيى بن صالح، وقد علق عليه احمد بن حنبل بقوله: كانه نزع الى راي جهم ((314)) . بل كان من الحنابلة من لا يتقبل احاديث الصف ات، معتذزا بانها اخبار آحاد، كالذي عليه ابن سنينة (المتوفى سنة 610هـ)((315)).
هكذا ان الاتجاه الذي سلكه ابن تيمية في الجدل والتدقيق ياتي على خلاف ما اوصى به علماء السلف. فحاله في هذاالموضع كحال ابي الحسن الاشعري، حيث اراد ان يدافع عن موقف الامام احمد بن حنبل وغيره من السلف بطريقة الجدل والكلام، لكنها مع ذلك لم تكن مرضية لدى اتباع هذا الامام، ربما لانهم ادركوا ان النهج الذي سلكه في الجدل الكلامي سيفضي الى تجاوز تلك النظرية، الامر الذي تحقق لدى المتاخرين من الاشاعرة، حيث اصبحت نظريتهم في الصفات بعيدة كل البعد عما كانت عليه لدى شيخهم الاشعري، مثلما هي بعيدة عما هو سائد لدى السلف، ومنهم الامام احمد.
وكذا يمكن القول بالنسبة لطريقة ابن تيمية، ذلك انه يكثر الجدل والخوض في امر الصفات بما لم يسبق اليه ائمة السلف المعروفين، وان ذلك قد افضى به الى التشبيه. وهو امر يذكرنا بما قاله ابن هبيرة (وهو من حنابلة القرن السادس الهجري):تفكرت في اخبار الصفات، فرايت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها، مع قوة علمهم، فنظرت السبب في سكوتهم، فاذاهو قوة الهيبة للموصوف، ولان تفسيرها لا يتاتى الا بضرب الامثال للّه، وقد قال عز وجل: (فلا تضربوا للّه الامثال((النحل/ 74). لذلك راى ان الصفات لا تفسر على الحقيقة ولا على المجاز، لان حملها على الحقيقة تشبيه، وعلى المجازبدعة .((316)) فالنتائج السلبية للخوض في البيان هي كالنتائج السلبية للخوض في العقل كما عليه اهل الكلام، فاولئك اورثهم التشبيه،وهؤلاء اورثهم الشك، حتى صرح الكثير منهم بندمه او بنكوصه الى تبني عقيدة الاباء والعجائز او الاعتراف بعدم الدراية بشي او غير ذلك مما هو معلوم ومشتهر.
تلاقي ابن تيمية مع الفلاسفة والعرفاء يوجد تشابه ملفت للنظر بين الطريقة البيانية كما لدى ابن تيمية وبين ما عليه طريقة العرفاء في نظريتهم حول المشاكلة((317)) . فكلاهما اتبع ذات النهج في الموقف من النص الديني تبعا للفظ الظاهر مع اعتبارات الاستخدام اللغوي ومراتب المعاني اللفظية. فقد اعتبر الفيلسوف الاشراقي صدر المتالهين ان الطريقة التي اقتبسها عن الغزالي هي ذات طريقة اهل الحديث في الاعتماد على الظاهر اللفظ ي من غير تاويل. وكما صرح بان الطريقة التي تبناها تحمل الايات والاحاديث على مدلولها الظاهري ومفهومها الاول، كما هو المعتبر عند ائمة الحديث وعلماء الاصول والفقه. وقد طبقت على الكيفية التي عليها الصفات الالهية، فاقرت هذه الصفات على ظواهرها ومفهوماتها الاصلية من غير صرف وتاويل، وكذا من غيرتشبيه ونقص وتجسيم مثلما يدعو اليه اصحاب البيان السلفي ((318)). فعلى راي صدر المتالهين انه لو لم تحمل الايات والاخبار على ظواهرها ومفهوماتها الاولى فلا فائدة في نزولها وورودها على عموم الخلق وكافة الناس، بل كان نزولهاعلى ذلك التقدير في باب «فهوم متشابهات» ((319)).
وهو ذات التبرير الذي تقدمه الدائرة البيانية في تعويلها على الظواهراللفظية من غير تاويل وتحريف.
كما اضاف صدر المتالهين بان هذا الابقاء لظواهر الالفاظ على معانيها الاصلية يقترن مع تحقيق هذه «المعاني وتلخيصهاعن الامور الزائدة وعدم الاحتجاب عن روح المعنى بسبب غلبة احكام بعض خصوصياتها على النفس واعتيادها بحصركل معنى على هيئة مخصوصة له، يتمثل ذلك المعنى بها للنفس في هذه النشاة، فلفظ الميزان مثلا موضوع لما يوزن به الشي مطلقا. فهو امر مطلق يشمل المحسوس منه والمتخيل والمعقول، فذلك المعنى الشامل روح معناه وملاكه من ان يشترط فيه تخصيصه بهيئة مخصوصة، فكل ما يقاس به الشي باي خصوصية كانت، حسية او عقلية، يتحقق فيه الميزان ويصدق عليه معنى لفظه، فالمسطرة والشاقول والكونيا والاسطرلاب والذراع، وعلم النحو وعلم العروض وعلم المنطق وجوهر العقل، كلها مقاييس وموازين توزن بها الاشياء، الا ان لكل شي ميزانا يناسبه ويجانسه((320))».
وهذا التباين في الاستخدام اللغوي هو ذات ما تؤكد عليه الطريقة البيانية كما لدى ابن تيمية، حيث اللفظ لديه لا دلالة له في حد ذاته ما لم يستعمل. فالاستعمال يجعله قابلا لان يصير ذا معان حقيقية عديدة. فمثلا ان لفظ (راس) تاتي مقترنة في الاستعمال باشياء عديدة مختلفة، كراس الانسان وراس الطائر والدابة والماء والامر والمال والقوم، وكذا لو قلنا جناح الطائروالسفر والذل، فكل لفظ بعد الاستعمال يصبح له حقيقة من المعنى الذي يناسبه، وهو ما يبرر اعتبار صفاته تعالى المذكورة في القرآن والحديث، كمحبته ورضاه وعلمه وسمعه وكلامه واستوائه، كلها تجري مجرى الحقيقة دون المجاز، ومع ذلك فهي ليست بالصفات الشبيهة مع المخلوقين . ((321)) وذات هذا الشي ما صرح به الفلاسفة والعرفاء ممن تبنى نظرية المشاكلة، حيث بحسب هذه النظرية فان للفظ مراتب من المعنى بعضها يتشاكل مع البعض الاخر، كحال ما عليه الوجود الخارجي، حيث ان له مراتب مختلفة تتفاوت بحسب المشاكلة والسنخية. فهناك عوالم متشابهة بعضها يفوق البعض الاخر من حيث الكمال، وكل ما يذكره الخطاب الديني من اشياء كالميزان والعين واليد والتردد والاستهزاء وغير ذلك، فان لها حقائق متطابقة ومختلفة في الكمال. اذ تبعا لمنطق السنخية يستلزم ان تكون عوالم الوجود متطابقة ومتشاكلة، وبالتالي كان من السهل تفسير ما يتعلق بعالم الغيب الموصوف في النصوص الدينية تبعا لهذا التشاكل والتسانخ، فما من شي محسوس في الطبيعة يذكره النص الديني الا ويكون اشعارالما موجود في الاخرة تبعا لمشاكلات الوجود ومشابهاته. وهو الاسلوب الذي استخدمه الغزالي في (القسطاس المستقيم)، وارتضاه صدر المتالهين بالاعتراف والتاييد ((322))، فوفق في تطبيقه بحيث يرضي ما عليه اصحاب الفلسفة والذوق، وماعليه اتباع البيان السلفي، مما يفضي الى ان تكون النتيجة بين مذهب الفلاسفة العرفاء من جهة، وبين مذهب البيانيين متطابقة الى حد كبير. حيث المتفق عليه بين الجانبين هو جعل الاوصاف الدينية حقة من غير تحريف للنص او حمله على المجاز والتشبيه. فالفهم عند الطرفين قائم بحسب هذه الاوصاف الظاهرة التي يدل عليها اللفظ الحرفي. وطبقا لذلك اقرهؤلاء بان للّه تعالى الاوصاف التي تدل عليها الظواهر اللفظية، وان كانت غير معلومة الكيف تبعا لقوله تعالى: (ليس كمثله شي)، وهي التي سلم بها الكثير من علماء السلف واتباعهم كما علمنا.
ويتعمق التوافق بين الطرفين بما اكد عليه اتباع البيان السلفي من وجود القدر المشترك في معنى اللفظ المستخدم بين مايدل عليه في المشاهد المحسوس، وما يدل عليه في الغيب غير المحسوس، كالذي قام بتبيينه ابن ابي العز، حيث ذكر بان النبي اخبر العرب بامور لم تكن معروفة لديهم، كتلك المتعلقة بالايمان باللّه وباليوم الاخر، فاخذ من اللغة الالفاظ المناسبة لتدل على القدر المشترك بين المعاني الغيبية المجهولة والمعاني الشهودية التي يعرفها العرب، وقرن بذلك من الاشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد. فاذا اخبرهم النبي عن تلك الامور من الغيب، فلا بد ان يعلموا معنى مشتركا وشبها بين مفردات تلك الالفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم. فاذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد،واراد النبي ان يشهدوه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، امكنه ذلك بان ياتي بقول يكون حكاية له وشبها، فيعلم المستمعون ان معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الامور الغائبة، ويكون ذلك عبر درجات ثلاث، اولها ادراك الانسان المعاني الحسية المشاهدة، وثانيها عقله لمعانيها الكلية، اما ثالثها فتعريف الالفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب، فاذا اخبرنا النبي عن الامور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والشبه الذي بينهما، ومن خلال تعريفنا الامور المشهودة امكننا معرفة الامور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما امكن ذلك قط.
كما اشار ابن ابي العز الى ان التعريف بالامور الغيبية ياتي عن طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينها وبين معقولات الامور المشاهدة، وذلك تبعا للتشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل اقوى، كان البيان احسن والفهم اكمل ((323)) .
وهذا الذي ذكره ابن ابي العز هو ذاته الذي اكد عليه الغزالي وغيره من العرفاء مما يطلق عليه بالاعتبار والتمثيل والمشاكلة وغير ذلك. فالمقصود بالاعتبار هو ذلك المنهج الذي يدعو الى العبور من ظاهر النص الى باطنه لقرينة مناسبة دالة على هذا الامر او منبهة عليه، فهو لا يلغي الظاهر، كما انه لا يتوقف عنده. وسمي بالاعتبار تبعا لقوله تعالى: (فاعتبروايا اولي الابصار)(الحشر/2)، او قوله: (ان في ذلك لعبرة لاولي الابصار) (آل عمران/13). اما التمثيل فكما ذكر صدرالمتالهين من ان معظم آيات القرآن هي امثال تذكر للناس لتشير الى ما تتضمنه نظرية المشاكلة من اعتبارات ما للوصف الظاهر في النص من مراتب متعددة ومتكاملة في الوجود، مثل الميزان والقلم والاصبع وغيرها ((324)) . كذلك فان ما اشاراليه ابن ابي العز من وجود المشترك المعنوي للفظ الذي منه يتحول الفهم من المشاهد المحسوس الى الغائب غيرالمحسوس، هو قريب المعنى مما تراه نظرية المشاكلة، حيث انها لا تعول على ظاهر النص فحسب، بل تاخذ بعين الاعتبارما لدى هذا الظاهر من لفظ له معان متعددة ومتشاكلة يصح من خلالها اقرار الحقائق العليا من غير تاويل. فيكون الظاهرهو اللفظ المشترك العام الذي يحمل نظائر المعنى وامثالها على ما فيها من تفاوت في القوة والكمال. اما الحقيقة المرادة من هذا الظاهر فهي تلك الامثال الباطنة التي تنتزع من ذلك الظاهر العام. فسواء استخدمت الامثال بحسب ما يبدو عليها من معنى حسي، او معنى آخر صوري مجرد عن الحس الطبيعي، فان كل ذلك يعد من النظائر والامثال التي تتفاوت فيما بينهابحسب المشاكلة، لذلك فان اخذ المعنى الظاهر بحسب ما عليه الحقيقة الباطنة من المعاني الصورية المجردة لا يعد من التاويل بشي. وعلى حد قول صدر المتالهين فان حقيقة التمثيل الذي جاءت به نصوص القرآن ليس الغرض منه مجردالتاثير والوقع في النفس، بل بيان حقيقة الامر وملاكه وروحه، ففي قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما اضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) (البقرة/17)، ان الالفاظ المذكورة في الاية كالنار والاستيقادوالاضاءة والنور والظلمات وغيرها كلها محمولة على الحقيقة ومشهودة بنظر البصيرة، فهي حقيقة احوالهم الباطنة، اما تلك التي هم عليها من الاحوال والافعال الظاهرة فهي مثال لتلك الاحوال الباطنة، وذلك تبعا للمشاكلة والمسانخة، حيث ان مافي الدنيا هي امثلة لما في الاخرة، وحيث ان المماثلة لما كانت من الجانبين، فانه يجوز استعمالها في كل من الطرفين،فالمثل في اصل الكلام هو بمعنى المثل، وهو النظير ((325)) .
فهنا نجد تشابها بين نظرية المشاكلة الوجودية للعرفاء وبين النظرية البيانية في تحديد طريقة الفهم الخاصة بالامور الغيبية وعلى راسها مسالة الصفات الالهية. فكلا النظريتين تقيمان الفهم طبقا للظاهر، كما انهما تعترفان بان معنى اللفظ يظل مشتركا وعاما يحدده السياق العام للنص، ان كان يتحدث عن امر حسي شهودي او معنوي غيبي. وكلاهما يقولان حسب ذلك الفهم بان الصفات الالهية تحمل على ظاهرها وان معناها يفهم دون تاويل، وان هذا المعنى له بعض الشبه بما عليه الشاهد المحسوس، مع بقائه محكوما بقاعدة (ليس كمثله شي).
لكن ما يترتب على ذلك من معنى هو القول بوحدة الوجود كالذي صرح به الفلاسفة والعرفاء باتساق. ومن ذلك القول بان الوجود عبارة عن جسم له مراتب متعددة تتفاوت فيما بينها في الشدة والضعف، او الكمال والنقص، كالذي صرح به صدرالمتالهين.
وكذا فان ما يقوله البيانيون من وجود بعض حالات الشبه بين اللّه من جهة وخلقه من جهة اخرى يتسق والقول بوحدة الوجود. وقد قيل ان القول بالجسمية مثلما عليه مذهب مقاتل بن سليمان يفضي الى القول المبطن بهذه الوحدة((326)) .ومثل ذلك ان ما يقوله اتباع الطريقة البيانية من اثبات الظواهر اللفظية للصفات كوجود الوجه والصورة والعينين واليدين والقدمين والساقين والاستواء والاستهزاء والتعجب والتردد والضحك والفرح والمجي والذهاب وما الى ذلك، كل هذا يفضي الى الاقرار المبطن بوحدة الوجود الجسمية، وهو لا ينافي قولهم بنفي التكييف مع اعترافهم بوجود شي ما من المشابهة بين العالمين. فهذا الاعتقاد هو على شاكلة ما يقوله الفلاسفة والعرفاء القائلين بنظرية المشاكلة. مع فارق ان التاسيس الذي قامت عليه نظرية المشاكلة لدى اتباع النظام الوجودي هو تاسيس قائم على النظر الى (الوجود العام)، فمن حيث الاعتمادعلى النظر الى هذا الوجود امكن للفلاسفة ان يسقطوا نظريتهم في المشاكلة على النص الديني، فاصبحت المشاكلة بين المعاني اللفظية للنص تستمد تبريرها من المشاكلة الوجودية. في حين ان التاسيس الذي نظر اليه اتباع الطريقة البيانية مستمد من النص الديني، ومن ثم تم اسقاطه على الوجود العام، حيث المعول عليه هو اللفظ المشترك الذي يحمل المعاني المتشابهة، ومنه تم تطبيقه على الوجود.
وتظل المحصلة بين المذهبين متقاربة بهذا الخصوص.
كما تلاقى ابن تيمية مع خصومه الفلاسفة فيما ذهب اليه من عدم وجود بداية محددة للحوادث، وهو اقرار بازلية الاشياءمن حيث النوع لا الافراد، حيث على رايه ان كل فرد حادث يسبقه فرد حادث قبله وهكذا من غير بداية محددة، وهوذات ما يقره الفلاسفة. ومع ان ما ورد في التراث ان هناك عددا محدودا من الاشياء قد سبق خلقها قبل السماوات والارض،الا انها تعد بحسب هذا الراي ليست لها بداية باطلاق، ومن ذلك العرش، حيث نقل الدواني عن ابن تيمية انه اعتقد بقدم العرش من حيث النوع ، اي ان كل عرش يسبقه عرش آخر قبله دون بداية((327)) محددة، وذلك ليثبت بان اللّه فاعل ازلاوانه مستقر من عرش الى عرش ازلا ايضا.
وقد نسب ابن تيمية نظريته هذه الى ائمة السنة والحديث، ونقل ما يقوله بعض المتكلمين من ذهاب بعض من وصفهم بالمشبهة بانهم قائلون باثبات حوادث لا اول لها((328)) . كما نقل بعض اتباعه ما قاله عثمان بن سعيد الدارمي: «كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الاوقات معطلا عن كماله، من الكلام والارادة والفعل»((329)) .
ويعد هذا المنقول من الشواذ، حيث لم ينقل عن غيره من السلف ما يفيد النص الصريح في اثبات حوادث لا بداية لها.
بل ليس من البيانيين من يثبت ذلك قبل ابن تيمية بشكل واضح لا غبش فيه. فان من يعزى اليهم القول بذلك هم الفلاسفة.لذلك شنع عليه الخصوم وعدوه ممن تاثر بهم لكثرة الاهتمام بمباحثهم والرد عليهم، كالذي جرى عليه الحال مع الغزالي الذي قيل فيه انه امرضه (الشفاء)، ووصفه معاصره ابو بكر بن العربي في مقولته الشائعة (330)
....شيخنا ابو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم اراد ان يخرج منهم فما قدر. وهو القول الذي استعان به ابن تيمية في الرد على الغزالي ((331))، مع انه في راي المخالفين قد وقع بما وقع به سابقه ((332)). وعادة ما ينسب مثل هذا الاعتقاد الى الملاحدة، ومن ذلك ما قاله ابو يعلى الحنبلي في المعتمد: الحوادث لها اول ابتدات منه خلافا للملاحدة ((333)). وكان من ضمن ما اءحتج به على ابن تيمية انه قد ابتدع فكرة لم ترد عن اهل البيان باستثناء بعض الشذوذ، وبنظر البعض انها مخالفة للاجماع، بل وان الاجماع على تكفير من يقول بها، كالذي حكاه الشيخ عياض وغيره ((334)).
وفي جميع الاحوال ليس في الكتاب والسنة ما يشير الى هذا المعنى الذي تحدث عنه ابن تيمية، بل جاء في بعض الاحاديث ما هو خلاف ذلك، حيث اخرج الطيالسي واحمد والترمذي وحسنه، وكذا ابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابوالشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في (الاسماء والصفات) عن الصحابي ابي رزين انه سال النبي بقوله: اين كان ربناقبل ان يخلق خلقه؟ فاجابه النبي: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء. وعلق الترمذي الذي حسن الحديث بان معنى العماء هو ليس معه شي ((335)).
ومما يزيد في اقتراب هذا الاتجاه من النظام الوجودي للفلاسفة والعرفاء ما ذكره ابن قيم الجوزية من ان اسماء اللّهالحسنى تقتضي مسمياتها ومتعلقاتها، فحيث هناك اسماء فلابد من ظهور اثر هذه الاسماء ووجود ما يتعلق بها، فاقتضت حكمة اللّه ان يتم انزال الابوين من الجنة ليظهر مقتضى اسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما، اذ لو تربت الذرية في الجنة لماظهرت آثار جملة من هذه الاسماء وتعلقاتها، والكمال الالهي يابى ذلك، فاللّه يامر وينهى ويكرم ويهين ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل، لذا انزل الابوين والذرية الى دار تجري عليهم هذه الاحكام ((336)). وهذا المعنى يتسق والقول بازلية الصنع والخلق، كما ويتفق من وجه مع ما يقوله العرفاء في النظام الوجودي من اقتضاء ان يكون لاسماء اللّه تبعياتها،واعتبروا ذلك من حتميات الوجود، وهو خلاف ما يذهب اليه ابن تيمية واتباعه((337)).
كذلك اءتهم ابن تيمية بانه ابتدع فكرة اخرى يقول بها الفلاسفة والعرفاء، وقد نسبها ابن تيمية الى السلف، وهي الاعتقادبانقضاء النار وفنائها، ومن ثم القول بعدم الخلود في العذاب. ومن خصومه من نفى ان يكون احد من السلف قال ذلك، انماروي عن بعضهم كلمات تتاول كما تتاول المشكلات التي ترد وتحمل على غير ظاهرها ((338)) . وقد اورد ابن تيمية عددامن الروايات عن بعض الصحابة كيف ان اللّه يخرج في النار من فيها مثل ابن مسعود وابي هريرة وعمر وابي سعيدالخدري، ورد عليه الصنعاني واعتبر انه لا دلالة في ذلك على فناء النار، كما لا دلالة فيه على خروج المشركين منها،خاصة وان من الايات ما يشير الى البقاء الدائم، مثل قوله تعالى: (ان الذين كذبوا بياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم ابواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين) (الاعراف/40). وفي الحديث يؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار ((339)).
والمهم في الامر ان هذا الاعتقاد جاء موافقا لما يقوله الفلاسفة والعرفاء. وقد استدل عليه بعدد من الايات، فاعتبر بعض الايات دالة على انقطاع العذاب مثل قوله تعالى: (لابثين فيها احقابا) (النبا/ 23)، وقوله: (النار مثواكم خالدين فيها الاماشاء اللّه) (الانعام / 128). اما الايات التي تبدي الابدية والخلود فقد فسرها بقيود وشروطيجعلها دالة على الانقطاع،ومن ذلك قوله تعالى: (ومن يعص اللّه ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ابدا) (الجن/ 23) وقوله: (خالدين فيها لايخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) (البقرة/ 162).
حيث دلل بكون ما ورد في مثل الايتين السابقتين من خلود وابدية انما مشروط ببقاء السماوات والارض، كالذي يدل عليه قوله تعالى: (واما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السماوات والارض، الا ما شاء ربك ان ربك فعال لما يريد) (هود/ 106-107)، وعليه اعتبر الابدية هي استمرار المعذبين في النار مادامت موجودة، مع ان اللّه- على رايه - لم يصرح بان النار باقية ابدا، وفرق بين الحالين كما هو واضح. يضاف الى ان التابيد قد جاء في القرآن مقيدابما لا يتنافى مع الانقطاع، كما في قوله تعالى عن اليهود: (ولن يتمنوه ابدا بما قدمت ايديهم) (البقرة/ 95)، فانما لا يتمنوه ابدا مدة حياتهم في الدنيا، والا فهم في النار يتمنون الموت حيث يقولون كما في قوله تعالى: (يا مالك ليقض علينا ربك)(الزخرف/ 77)، كذلك ما جاء في قول العرب: لا افعل هذا ابدا، ولا اتزوج ابدا «فانما يريدون بذلك مدة منقطعة هي ابدالحياة ومدة عمرهم، وهكذا الابد في العذاب كقوله تعالى:
(له نار جهنم خالدين فيها ابدا) (الجن/23)، انما هو ابد مدة بقاءالنار ودوامها» ((340)).
ولنا على هذه النظرية الملاحظة التالية:
ان الايات التي وردت حول تعليق الخلود في النار على دوام السماوات والارض قد اعقبها ذات هذا التعليق فيما يخص الخلود في الجنة، وكما جاء في النص القرآني: (واما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والارض الا ماشاء ربك عطاء غير مجذوذ) (هود/108). فاذا كانت الايات السالفة الذكر تدل على انقطاع العذاب لاهل النار تبعا للتعليق الوارد الذكر، فان الحال ذاته يدل على الانقطاع بالنسبة الى اهل الجنة. الامر الذي يحتاج الى لون من التخريج والتمييز بين ما يصيب هؤلاء واولئك، ولا يكفي ما ذكر من وجود قرينتين في الاية، احداهما قوله تعالى: (ان ربك فعال لما يريد)(هود/107)، حيث وردت متصلة فقط مع قضية انقطاع العذاب، دلالة على تاكيده، ولم تقترن مع الاستثناء المتعلق بقضية الخلود في الجنة، والاخرى قوله تعالى: (عطاء غير مجذوذ) حيث جاءت عقب الاستثناء المتعلق بالخلود في الجنة، وهي بهذا توحي الى دفع توهم الاعتقاد بانقطاع السعادة ((341)). فلا شك ان وجود هاتين القرينتين لا يمحي صورة الاستثناءالتي وردت في كلا الموردين من الجنة والنار. وقد كان الزمخشري صاحب (الكشاف) يرى ان آية الاستثناء من المعضلات على ما نقل عنه السمعاني. كما ان ابن القيم راى ان الاستثناء في آية الاستثناء في اهل الجنة هو من المتشابه، وان المحكم قوله تعالى: عطاء غير مجذوذ، وظلها دائم، وما الى ذلك ((342)).
وعادة ما يؤول العلماء الاية المتعلقة بتعليق الخلود في النار على دوام السماوات والارض، وهو انها تصدق فيما يخص العصاة من الموحدين دون المشركين، وان بعض العلماء يؤول الاية الاخرى بخصوص الجنة، وهو ان المقصود بان لاهل الجنة نعيما اجل واكبر وهو رضوان اللّه عز وجل وبقاؤه. في حين ذهب الصنعاني الى ان الاستثناء في آية الجنة من باب(حتى يلج الجمل في سم الخياط) وهو تقييد بالمحال، وان من دخل الجنة لا يخرج منها ابدا، بدليل الاجتماع المعلوم ضرورة من الدين، وبدليل قوله تعالى: (عطاء غير مجذوذ) وفي آية اهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين((343)) .
الامور المبتدعة لقد افضت طريقة ابن تيمية الى ابتداع امور لم تكن معروفة في العهد الاول، اهمها تقسيم التوحيد الى توحيد ربوبية والوهية، حيث الاول عبارة عن الاعتراف بالخالق، وانه ليس له شريك في الخلق، وقد عد ابن تيمية ان اثبات ربين للعالم لم يذهب اليه احد من بني آدم ولا اثبت احد الهين متماثلين ولا متساويين في الصفات ولا في الافعال. اما توحيد الالهية فهو الاعتراف بعبادة الخالق وحده ودعائه والتقرب اليه دون وسائط، وهذا الصنف من التوحيد هو الذي ابتلي به الخلق،وظهر فيه الشرك باصناف مختلفة مثل عبادة الشمس والقمر والكواكب والاوثان، وكذا عبادة الانبياء والاولياء والملائكة اوتماثيلهم وما الى ذلك. وقد استدل بالايات القرآنية من ان المشركين والكافرين كانوا يعترفون بان الخالق للعالم واحد هواللّه، لكن مشكلتهم انهم جعلوا له وسائط وشركاء يشاركونه في العبادة او الخلق دونه، كالذي جاء في قوله تعالى:
(ولئن سالتهم من خلق السماوات والارض ليقولن اللّه) (لقمان/ 25)، وقوله: (قل لمن الارض ومن فيها ان كنتم تعلمون، سيقولون للّه، قل افلا تذكرون، قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون للّه، قل افلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شي وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون، سيقولون للّه، قل فانى تسحرون) (المؤمنون/84-89)، وقوله:
(ومايؤمن اكثرهم باللّه الا وهم مشركون( (يوسف/ 106). على ذلك اعتبر ان الرسل قد دعوا الخلق الى توحيد الالهية، وهويتضمن توحيد الربوبية((344)). حيث لم يكن مشركو العرب يعتقدون في الاصنام انها مشاركة للّه في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال امثالهم من مشركي الامم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون ان هذه تماثيل قوم صالحين من الانبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم الى اللّه، وهذا كان اصل شرك العرب، وجاء في حكاية عن قوم نوح قوله تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) (نوح/23). وجاء في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الانبياء وغيرها عن ابن عباس وغيره من السلف ان هذه اسماء قوم صالحين في قوم نوح،فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الامد، فعبدوهم وان هذه الاصنام بعينها صارت الى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس قبيلة قبيلة ((345)).
كما استدل ابن تيمية على مذهبه بقوله تعالى: (لو كان معه آلهة كما يقولون اذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا) (الاسراء/42)، حيث فيه نفي لوجود آلهة مشاركة للّه دونه، ولو كانت آلالهة موجودة لسعت الى التقرب الى اللّه. وقيل لسعت الى مغالبته، وهو على راي ابن تيمية خلاف الظاهر ((346)).
لكن هذا شي وما نفته آلاية الاخرى في التوحيد شي آخر، وهي قوله تعالى: (ما اتخذ اللّه من ولد وما كان معه من اله اذالذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) (المؤمنون/91). فلو فرضنا ان الالهة المذكورة لم تكن في عرض اللّه،وانما دونه، اي لو كان دلالة الاية هو ان الالهة ليست بصدد العلو على اللّه، بل العلو فيما بينها بالتغالب وذهاب كل منها الى الخلق المستقل، فان هذا النحو من الافتراض يناقض ما في الاية التي قبلها، حيث في الحالتين يفترض وجود آلهة، لكن في الحالة الاولى انها تسعى للتقرب الى اللّه، في حين انها في الحالة الثانية تتغالب بينها وتستقل في خلقها، وهو ما لايتسق مع التقرب الى اللّه، كما لا يتفق وان يكون لها القدرة في الاستقلالية على الخلق. وعلى ذلك لا يفهم من معنى الاية الا افتراض وجود آلهة مع اللّه بالتوازي والتنافس والتغالب، ومن ثم ذهاب كل منها الى ما يخلق من عالم، فنفت الاية ذلك والا تعدد العالم ولافضى الامر الى المغالبة او علو البعض على البعض، وهو المعنى الذي يقره ابن تيمية. لكن هذا النفي قديشير الى وجود من يعتقد باكثر من اله خالق للعالم من المشركين، لذلك ان الاية قد ردت على هكذا اعتقاد، مما يعني ان ذلك جاء على خلاف المطلب الذي كرس ابن تيمية جهده لاثباته. والشي نفسه يقال في ما نص عليه القرآن بقوله: (لو كان فيهما آلهة الا اللّه لفسدتا) (الانبياء/22).
واذا كانت لفظة (الاله) تستخدم في القرآن كدلالة على الخلق كما في الاية السابقة، مثلما تستخدم كدلالة على الوساطة بالعبادة والشفاعة، فان ذلك لا يحتم تفسيرها طبقا للمعنى الاخير عند فقد القرينة الدالة، حيث نجد ابن تيمية كثيرا مايستدل على هذا المعنى بالقرينة الدالة وبغير القرينة، ومن ذلك ما استشهد به من آيات كقوله تعالى عن المشركين:
(اجعل الالهة الها واحدا ان هذا لشي عجاب( (ص/5)، وقوله تعالى على لسان يوسف: (اارباب متفرقون خير ام اللّه الواحد القهار(،وكذا قوله على لسان ابراهيم: (اافكا آلهة دون اللّه تريدون(.
فهذه الايات لا تدل على ان المشركين نظروا الى الهتهم نظرة وسائطية او شفعائية، وان كانت هناك آيات اخرى كثيرة تدل على ذلك، وهي القرينة المطلوبة، لكن حيث ان القرآن اورد بعض الصور من الاعتقاد بالالهة المتعددة المفترض فيها الخلق المستقل، فان ذلك يبدي ان الناس كانوا يختلفون في عقائدهم ومصادر شركهم.
على ان التقسيم الذي استحدثه ابن تيمية للتوحيد، ومن ثم جرى عليه تلميذه ابن ابي العز الذي اضاف في شرحه للعقيدة الطحاوية قسما ثالثا للتوحيد هو توحيد الصفات.. كل ذلك فتح الباب امام الدعوة الى تكفير المخالفين في مثل تلك الاصول، وما زلنا نعاني من تبعات ذلك حتى يومنا، مع ان هذا الامر لم يكن مطروقا لدى السلف، وان القرآن الكريم اظهرصفات المشركين في التوحيد ما لا ينطبق على المسلمين، مثل قوله تعالى: (واذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على ادبارهم نفورا) (الاسراء/46)، وقوله: (واذا ذكر اللّه وحده اشمازت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون) (الزمر/ 45)، وقوله: (انهم كانوا اذا قيل لهم لا اله الا اللّه يستكبرون ويقولون ائنا لتاركوا آلهتنا لشاعرمجنون) (الصافات/35-36)... الخ.
فالمسلمون يقرون بالاله الواحد الخالق، وان العبادة مختصة به دون سواه، وان الشريك في الفعل مملوك له لا يسعه ان يفعل شيئا دونه وبما شاءت ارادته كالذي يوافق عليه ابن تيمية((347)) . وكل ذلك يجعل المسلمين في طرف غير الطرف الاخر، آخذين بالاعتبار ما يرد عن بعض الجهلة من الافعال التي تعود الى شي من الشرك، وان بعض الافعال ما تندرج ضمن حالات الخلاف بين العلماء. لكن في جميع الاحوال ليس هؤلاء كاولئك الذين نص عليهم القرآن الكريم من الشرك الواضح الصريح. فاي عذر يعذر به اولئك المكفرون؟![/align]