الأبعاد الفلسفية للفكر الإجتماعي والسياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر
د. محمد عبد اللاّوي
[align=justify]
نلاحظ، ابتداء من السيد جمال الدين الأفغاني، بروز قابلية على استحضار الفكر الاسلامي للمفاهيم القرآنية المرتبطة بالمجتمع وبالتاريخ، وقدرة على ربط حالة الأمة الاجتماعية والسياسية والثقافية بلغة القرآن الكريم.
ثم تطور الفكر الاسلامي إلى مستوى آخر، حيث بدأ يتعامل، بشكل مباشر ومن منظور قرآني، مع المذاهب الاجتماعية والسياسية وبدأ يرصد الآيات ويستخلص دلالاتها من أجل اكتشاف إطار للمذهب الاجتماعي والسياسي والاسلامي.
وتعبر كتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر، في هذا السياق، عن مرحلة جديدة في تطور الفكر الاسلامي وانتقاله من المبادىء والأفكار العامة إلى مستوى التنظير وتحديد المفاهيم ونقد النظريات والمذاهب الاجتماعية والسياسية الغربية.
وهنا يبرز فكر الشهيد كفكر اسلامي بالمعنى الشرعي للكلمة، فهو فكر يختلف عن التيارات التي حاولت أن تصوغ فكراً اسلامياً بالاعتماد على مناهج فكرية غير اسلامية. فهذه التيارات تبرّر الواقع باسم التوفيق بين الإسلام والمعاصرة، أما فكر الشهيد فهو فكر يرفض كل تأويل أو تفسير يختلف مع مقاصد الإسلام ومضامينه.
لقد حرص الشهيد على أن لا يسقط في فخ النزعة التوفيقية التى سقط فيها الفلاسفة المسلمون قديماً والمحدثون في العالم الاسلامي في عصرنا. انطلاقاً من هذا التحفظ المبني على التقوى ذات الأبعاد التعبدية والمنهجية، حاول الشهيد السيد محمد باقر الصدر استنباط المفاهيم القرآنية المؤطرة والموجهة لتنظير الفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي. فتصنيف الشهيد لهذه المفاهيم هو تصنيف يؤكد على وحدتها وترابطها وتكاملها. (فتصنيف الشهيد لهذه المفاهيم هو تصنيف يؤكد على وحدتها وترابطها وتكاملها). فهو يتجنب النظرة التجزيئية كما يتجنب الاسراف في التأويل والتسرع في الاستنتاج. فالفكر الاجتماعي السياسي هو جزء من كل، فالشهيد السيد محمد باقر الصدر يرى أنه من الخطأ العلمي والمنهجي فصله عن النسق العام الذي يتمحور حول العقيدة الإسلامية، فالشهيد انطلق في تنظيره للمذهب الاقتصادي الاسلامي، ولسائر القضايا الاجتماعية والسياسية والفلسفية التي عالجها ـ من استيعاب هذه القضايا في كليتها أي في ترابطها مع كل جوانب النظرة الإسلامية إلى الكون والإنسان. فالشهيد يرى أن فهمنا وتنظيرنا للحياة الاجتماعية يتوقف على النظرة الكلية إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة لا على النظرة الانتقائية.
أصول الفقه كاطار معرفي ومنهجي للفكر الاجتماعي السياسي
تحرر الشهيد من العائق الإبستمولوجي المتمثل في فقه الفروع والذي وقف أمام ظهور المذهب الاجتماعي الاسلامي.
فبفضل منهجية أصول الفقه وصل الفكر الاسلامي في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عند الشهيد محمد باقر الصدر إلى مستوى صياغة المفاهيم كأساس ضروري للمذهب الاجتماعي.
ذلك أن مبحث أصول الفقه هو الذي يسمح للفكر الاسلامي بطرح القضايا الاجتماعية والسياسية طرحاً كلياً لا جزئياً، فعملية التنظير الاجتماعي كانت معطلة من طرف فقه الفروع أو النزعة الفقهية التي تتناقض مع الرؤية الكلية للقضايا في الشريعة الإسلامية.
فالشهيد، باعتماده على أصول الفقه ومنهجيته، قد اتخذ الفكر المتريث والنظرة الشمولية لصياغة المذهب الاجتماعي الاسلامي على أساس أحكام الشريعة. فالفكر الاجتماعي ـ السياسي عند الشهيد تمت صياغته ضمن فقه مُفلسف، أي ضمن أصول الفقه كاطار نظري. فمبحث أصول الفقه هو الذي جعل الفكر الاسلامي يستعد، منذ السيد جمال الدين الأفغاني، لاستيعاب مشكلات الحياة الإنسانيّة ومستجداتها والنهوض بالدور المطلوب ازاء معطيات الحضارة الحديثة.
وقد وصل الفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي إلى أقوى درجة من العمق في كتابات الشهيد، وهذا العمق لم يكن أبداً على حساب الإسلام ومتطلباته، بل تمت صياغة الفكر الاجتماعي السياسي لدى الشهيد ضمن اشكالية العلاقة بين العقل والنص والواقع على العموم، وضمن أطر أصول الفقه على الخصوص.
ان الفكر الاجتماعي ـ السياسي عند الشهيد لم تتم صياغته كفكر خارج عن بنية الفقه الاسلامي، فلا وجود عنده لفصل أو تمييز بين مصطلح الفقه ومصطلح التجديد. فقضية المذهب الاجتماعي طرحت عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر في اطار العلاقة بين الثوابت والمتغيرات، بين الأحكام والأحوال.
وهذا هو الفرق الأساسي بين الفكر الاسلامي والفكر المحدث، ذلك ان هذا الاخير قد طرح اشكالية التغيير والتجديد كمصطلحات يتم تحليلها وفق المنهج الوضعي الذي لجأ إليه المحدثون كمنهج بديل عن الفكر الاسلامي بكل مكوناته. في حين أن الشهيد يطرح القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من موقع الاستجابة الإسلامية لمستجدات العصر وتحديات الحضارة الغربية. فهو لم يُخضع الشريعة للواقع أي للانتاج القيمي والمفهومي للتفاعلات الاجتماعية المنفصلة عن شريعة الله. لأن الواقع بابتعاده عن هدى الله هو واقع فاسد بالنسبة للشهيد السيد محمد باقر الصدر، وكل لجوء إليه كقوة مرجعية أي كمصدر وحيد لتنظير هو خروج عن متطلبات الشرع واخضاع حكم الله لحكم الواقع. أي اخضاع المطلق للنسبي.
وهذا لا يعني أن منهجية الشهيد هي منهجية أحادية الجانب تنطلق من النص دون أي اعتبار للواقع، بل على العكس فالفكر الاجتماعي ـ السياسي لديه، من حيث هو فكر اجتهادي، يعطي للواقع كل ثقله شريطة أن لا تخرج عملية التنظير عن الثوابت الإسلامية وهنا تتجلى ثورية الفكر الاجتماعي المعتمد على هذا المنهج حيث أن استجابة المفاهيم الاجتماعية والسياسية لحركة الواقع تكون دائماً من موقع تأثير الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة في حركة الواقع لا اضفاء المشروعية عليها وتبريرها.
وهكذا فالفكر الاجتماعي الاسلامي الذي صاغه الشهيد هو فكر تحويل لا فكر تبرير. فكل محاولة للتقدم والخروج من التخلف ليست في جوهرها ـ انطلاقاً من هذا المنهج ـ الا الرجوع إلى النص والى عصر الرسالة، أي اعادة الانتماء للحضارة الإسلامية في مسارها السابق على الانحراف.
فالشهيد حدد مفهوم الفكر الاسلامي بوضوح ودقة وطرح البديل الاسلامي على الصعيد النظري والمنهجي. العقلانية المرتبطة بالنص هي عقلانية مفتوحة تتمتع بقوة لاستيعاب مستجدات الحركة التاريخية. فهي ليست مجرد عقلانية خطابية أو عقلانية مريحة تنمو في عالم المجردات.
والفكر الاجتماعي ـ السياسي الموهّل لاعادة بناء الأمة والحضارة الإسلامية هو ذلك الفكر الذي يرتبط ارتباطاً كلياً بالنص وتتم صياغته في اطار العقلانية الإسلامية.
ومعنى هذا أن الفكر الاسلامي الذي لم يصل إلى مستوى صياغة المفاهيم من منظور أصول الفقه هو فكر عاجز عن انتاج فكر اجتماعي ـ سياسي يحرر الأمة ويحدث نهضة الشعوب الإسلامية فهذا الفكر عقيم ونظرته نظرة تجزيئية تتناقض مع صياغة المفاهيم وتنسيقها. فصياغة المفاهيم هي الشرط الضروري لصياغة المشروع الحضاري الاسلامي.
ان تطويق العلاقة بين الدين والواقع في الاطار الضيق لفقه الفروع أحدث فجوة بين الإسلام والحضارة، بين الأمة وحركة التاريخ. فالفكر الاجتماعي ـ السياسي الذي صاغه الشهيد جاء نتيجة لبعث الحياة في الفقه باستعمال وسائل الاجتهاد ومفاهيمه.
ان الصيغة الجديدة للطرح التي تتجلى في فكر الشهيد الاجتماعي ـ السياسي تختلف عن الفكر الاسلامي المرتبط بالنظرة التقليدية للطرح الديني. لقد كان الفكر الاسلامي قديماً فكراً مجزءاً: فالفقه من جهة، وعلم الكلام من جهة أخرى، والفلسفة من جهة ثالثة. ولم يقدم المفكرون نظرة تركيبية لهذه الجوانب الثلاثة إلاّ نادراً.[/align]