الشهيد الثاني ـ بقلم : المرجع الديني آية الله العظمي السيد فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
انطلق منذ ذلك الوقت في المسيرة، وهو تلميذ ابن عمّه الشهيد السعيد محمد باقر الصدر(رض) حيث عاش حياته معه، وكان الشهيد الصدر قد تنبأ في مقدمة كتبها لأحد مؤلفات السيد محمد الصدر من (موسوعة الإمام المهدي عج) بأنّه سيكون له شأن كبير في حركة العلم والبحث والانفتاح. وعاش آلام شهادة الشهيد السعيد الصدر وأخته العلوية (بنت الهدى)، وعاش مأساة .العراق ودخل السجن وعانى الاضطهاد
وانطلق في خطّ المرجعية وظَلمه الكثيرون ولا يزالون يظلمونه عندما قالوا عنه أنّه (مرجع السلطة في العراق) وقالوا عنه كلمات كنّا نرى منذ البداية أنهّا كلمات يأثم صاحبها على قولها وإنّني أعتقد أنّ بعض هؤلاء لو كانوا في زمن أئمة أهل البيت ع .لاتهموهم بالممالئة للسلطة لأنّ الذهنية هي نفس الذهنية
إنّني لأتصور طيبته وطهارته وصفاء نفسه، وأنّه كان يرى ـ سواء ناقشته فيما يرى أو لم تناقشه ـ بأنّه يستطيع أن يقوم بخدمة للإسلام من خلال ما قد يعتبر تقية أو ما أشبه ذلك. ولم ينقل عنه في كل حركة مرجعيته أنّه قال كلمة في السلطة بالطريقة التي توحي أنّه يؤيدها من الناحية الفكرية أو السياسية، فأنا على الأقل لم أسمع ولم ينقل لي شيء من هذا.
وربما كان هناك نوع من الهدنة أو من المداراة التي كان يرى باجتهاده أنهّا مشروعة لا سيما في وضع كالوضع الذي عاشه في العراق في ظلّ نظام من أكثر الأنظمة شراسة في الجريمة في العالم. فأن تكون خارج العراق لتعلّق على بعض المواقف شيء، وأن تكون في داخل الزنزانة حتى وأنت تتحرك في مدينتك شيء آخر. من هنا لا بدّ لنا أن ندرس ظروف كل أهلنا وإخواننا هناك، وعلى الإنسان المؤمن عندما يريد أن يحكم على أيّ شخص لا سيما في مثل هذا الرجل الذي أتحف الثقافة الإسلامية علماً وفقهاً، أن يدرس ظروفه النفسية وظروف الساحة والواقع الذي يحيط به ويعيشه. فلقد أصبحنا نقلّب كلمة الإمام علي (ع) التي يقول فيها "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"(1) حيث أصبحت: ضع أمر أخيك على أسوئه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك خيراً وأنت تجد لها في السوء محملاً. ولقد أصبحنا نغلّب احتمالات الشرّ على احتمالات الخير ونظلم النّاس على هذا الأساس، ونحن نعرف القاعدة الحضارية الإنسانية التي تقول "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" والإدانة تحتاج إلى حيثيات دقيقة في دراسة الموقف والكلمة، لأنّ من الممكن أن تكون هناك بعض الظروف الدقيقة التي قد تسمح للإنسان بأن يتكلم بكلمة معينة أو يقف موقفاً معيناً. ونحن نقرأ في أحاديث أهل البيت(ع) كيف كانوا يواجهون الظروف الصعبة التي كانت تحيط بهم بالمداراة حفظاً للخطّ ـ حتى يستمر الخطّ الأصيل ـ ومن .أجل حماية المعارضة والجهات الممانعة
ومن الطبيعي فإنّ للتقية حدوداً ولها برامج وقوانين، ولكن علينا أن لا نعذر أنفسنا فيما لا نعذر فيه الناس:"إجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك"(2). فالكثيرون ممّن يسجلّون ملاحظات قاسية لو كانوا في نفس الموقع ترى ماذا كانوا يفعلون؟
إنّنا لا نريد أن نتبنّى كل الأسلوب، فقد يكون لنا رأي فيه، وربما نؤيّد أسلوباً ونعارض آخر، ولكن هناك فرق بين أن تعارض أسلوباً معيناً لتجد أنّه خطأ أو أن تحكم على الذي يمارس هذا الأسلوب بالخيانة وما أشبه ذلك ممّا يتحدث به البعض. فقد يخطئ ..إنسان معين في فكرة ولكنّه قد يكون معذوراً في خطأه.. ألسنا نقول بأنّ للمجتهد أجران إن أصاب وأجراً إن أخطأ
إنّنا عندما ندرس مبادرته الثورية في صلاة الجمعة التي استطاعت أن تعيد هذه الروح الإسلامية التي غابت عن الشارع العراقي بعد الضغوط التي تسببت في إلغاء مجالس العزاء والمواكب الحسينية وكل الحريات ـ نرى أنّ الناس كانوا يتخففون من أثقالهم بالذهاب إلى زيارة الأئمة(ع) وكانت الزيارات المكثفة التي لم يعرفها النّاس في تأريخهم هي المتنفس الوحيد، حتى أنّنا لم نكن نعرف أنّ هناك أناساً يسيرون على أرجلهم من (البصرة) إلى (كربلاء)، لكن هذه المسيرات كانت تمثّل المعارضة الصامتة والثورة الصامتة
وعندما استطاعت صلاة الجمعة التي يؤمّها السيد الصدر أن تكون المتنفّس للكلمة الإسلامية والموعظة الدينية، أعلنّا تأييدها بكلّ قوة لأنّ صلاة الجمعة هي الصلاة التي حرمنا منها في مدى القرون، فهي الصلاة التي تجمع المسلمين في كل منطقة ليلتقوا في أجوائها وليسمعوا الكلمات التي تتصل بحياتهم. وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة كيف بدأ الشهيد السعيد السيد محمد صادق الصدر(رض) يخرج عن الطوق الشديد حيث راح يتكلم كلمات فيها من المعارضة ومن النقد للسلطة الشيء الكثير، وأعتقد أنّ هذه الجريمة بقتله كانت ردّ فعل أثاره من التهديد للسلطة لا سيما بعد أن قام بتجييش الناس ضدها إذا لم تطلق سراح أئمة الجمعة الذين اعتقلتهم قبل أسابيع.
إنّ هذا الموقف الذي وقفه الشهيد السعيد كان القمة في إطلاق كلمة الحقّ، ولعلّ السلطة لم تصبر على ذلك لأنهّا لا تتحمل أن تقال كلمة قوية في وجهها، ولم تكن تتصور أنّ الوضع سوف يمتّد إلى هذا الالتفاف الجماهيري الكبير، ولذلك ربما خططت لشي ولكنّها حصدت نتائج معاكسة قد تهدد وضعها في المستقبل، لأنّ هناك صلاة تجمع النّاس، وعندما يجتمع النّاس في صلاة واعية فإنّ من الطبيعي أن ينفتح هذا الوعي وأن يتحرك وأن يعبّر عن نفسه لا سيما في هذه الظروف السياسية حيث السلطة محاصرة .عربياً ودولياً ومحلياً
إنّنا نعتقد أنّه الشهيد المظلوم وأنّه الرجل الذي أعطى الإسلام الكثير في كتبه ونشاطه، ولقد انطلق من أجل أن يؤكّد حركية الإسلام بحسب ما يتسع له ظرفه، فلا يجوز الحديث عنه بسوء، وقد يملك أحد أن يتحدث عن خطأ في الأسلوب أو في الاجتهاد كما يتحدث عن كل المجتهدين، ولكن أن يتحدث عنه بسوء فهذا ظلم له، لذلك نقول للذين يتحدّثون بهذا الاتجاه: لقد ظُلم هذا الإنسان الكبير من قبل الطاغية فلا تضيفوا إلى ظلامته ظلامة أخرى… لقد اغتاله النظام الطاغي جسدياً فلا تغتالوه معنوياً، فمن الممكن أن تناقشوا بعض كلماته وأساليبه، ولكنّكم لن تستطيعوا أن تقدحوا في كونه إنساناً صالحاً تقيّاً يخاف الله ويعمل بما يعتقد .أنّ الله يعذره فيه
إنّنا نشعر بخسارة كبيرة، وبظلامة كبيرة جداً، ونشعر بالمأزق الذي يعيشه هذا الشعب الذي تعذّب كثيراً من قبل حاكمه ومن قبل السياسة الدولية، ولا يزال يعذّب جوعاً وتشريداً وسجناً وقتلاً وغير ذلك، ولعلّ من أشد عذاباته ما يعانيه الآن من هذه الجريمة ولا ندري كيف سيكون رد الفعل هناك، لكنّنا سمعنا أنّ هناك ردود فعل غاضبة، فالعراق كلّه يعيش في سجن كبير في بلد تحكمه .المخابرات ويحكمه الحديد والنّار
فليكن الصوت واحداً ضد هذه الجريمة، ولا تتركوا للخطوط هنا وهناك أن تتحرك بين من يشمت وبين من يأثم في كلماته.. ليكن الصوت واحداً.. فلقد كان هذا الرجل شهيداً مظلوماً عاش من أجل الإسلام.. ومات من أجل الإسلام.. وعلينا أن نحفظ البقيّة من .الحوزة العلمية في .النجف التي اغتالها النظام.. ومن المراجع الذين كانوا ولا يزالون في خطر
.رحم الله الفقيد الشهيد السيد محمد صادق الصدر وإلى روحه الفاتحة
الحمد لله رب العالمين