محاضرات رمضانية / التقوى زاد الآخرة
محاضرات رمضانية / التقوى زاد الآخرة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 ـ20].
محاسبة النّفس
في هذه الآيات الكريمة، يريد الله تعالى للإنسان أن يجلس مع نفسه في عمليّة حسابٍ دقيقٍ لكلّ تاريخه، في كلّ ما فعله، وفي كلّ ما قاله، وفي كلّ ما أقامه من علاقات، وفي كلّ ما خطّط له من مشاريع، وفي كلّ ما دخل فيه من تحدّيات، أو واجهه من تحدّيات؛ حتى يدرس طبيعة ذلك كلّه، وحتى يعرف نقاط الضّعف ونقاط القوّة، لأنّ الإنسان قد يخطئ من خلال استسلامه لنقاط ضعفه الذاتيّ، وقد يصيب فيما فعله، وقد يواجه السلبيات في قضاياه، وقد يواجه الإيجابيّات.
ويختصر الله تعالى هذه المسألة، بأنّ هذا التّاريخ الذي عاشه الإنسان في عمره الّذي مضى، أيّاً كان عمره، هو ما يقدّمه بين يديه أمام الله لغد، وهو يوم القيامة، لأنّ الإنسان عندما يُحشر يومها، فإنّه يقدّم أمامه كلّ عمله، خيراً كان أو شراً.
وأنت عندما تتحرّك في الدّنيا، فإنّك تقدّم نفسك من خلال جهدك ونشاطك ليوم القيامة. ثم بعد أن تدرس ذلك كلّه، وتعرف الخير والشرّ من نفسك، يأمرك الله بأن تتّقيه فيما تستقبل من عمرك، وأن تنظر ما قدّمت لغد في العمر الباقي.
ثم يؤكّد الله أنّه خبير بما تعملون، فهو سبحانه لا يغيب عنه شيء مما تفكر فيه من حقّ أو باطل، أو مما تحركت به من خير أو شر، أو فيما مارسته من طاعة أو معصية. فعليك أن تشعر بأنّك مكشوفٌ أمام الله، وأنّ الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19]، فتحسب حساب حضور الله في كلّ أمورك وأوضاعك، لتشعر بأنّ الله مشرفٌ عليك في الداخل وفي الخارج، بحيث تخاف الله في نفسك لأنّ الله مطّلع عليك، ولذلك ورد عندنا: "خف الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، ولا يكن الله أهون النّاظرين إليك، لأنّ بعض النّاس يخجل من المعصية حتى أمام الطّفل، ولكنّه لا يخجل من المعصية أمام ربّ العالمين.
فالمطلوب، أوّلاً، أن يقوم الإنسان بعمليّة حساب، وقد ورد في الحديث: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا"، لأنك تعرف نفسك ماذا عملت وماذا قدّمت وماذا أخّرت. وقيمة هذه المسألة، أنّ الإنسان إذا درس تاريخه الماضي في كلّ أعماله، فإنّ ذلك سوف يدفعه إلى أن يصحّح نفسه عندما يخطئ أو ينحرف في هذا المجال أو ذاك.
نسيان الله أساس المعصية
والنّقطة الثانية التي تعالجها الآية الكريمة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}[الحشر:19]. عليك أن تذكر الله دائماً، لأنّك إذا نسيت الله نسيت مسؤوليّتك ونسيت إصلاح نفسك وتربيتها ومصيرها، وإذا كنت في غفلة عن هذا، فمعنى ذلك أنك سوف تتخبّط في الأوحال، أوحال الشّهوات والانحرافات، وبعدها سوف تسقط سقوطاً فظيعاً.
فالإنسان إذا نسي ربه، فإنه ينسى نفسه، وبذلك يعيش حياته من دون ضوابط، ومن دون قاعدة، ومن دون انفتاحٍ على قضايا المصير، ويؤدّي به ذلك إلى الفسق.
وقد عالج الله تعالى في أكثر من آيةٍ جزاء نسيان الإنسان لربّه، أو نسيان يوم الحساب، لأنّك عندما تتذكّر يوم الحساب، فإنك تتذكّر مسؤوليتك. يقول الله تعالى عن بعض الناس: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ـ لم يلتزموا دينهم بقواعده وفرائضه، بل أخذوا بأسباب اللّهو واللّعب، وبعضهم يتحرّك في دينه بأن يلعب بدينه ويلهو عنه ـ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ـ استسلموا لشهواتها وملذّاتها ـ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ـ أي نهملهم، نعتبرهم فئةً مهملةً لا نعتني بها ـ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف:51].
ثم يحدّثنا الله عن المنافقين والمنافقات كمظهرٍ من مظاهر النّاس الذين يهملهم الله، يقول تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ـ يمثّلون مجتمعاً واحداً ـ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ـ يشجّعون الناس على ارتكاب المحرّمات والانحراف عن الخطّ المستقيم ـ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ـ ينهون الإنسان عن الصّلاة، وينهون المرأة عن الالتزام بما فرضه الله عليها من العفّة والحجاب ـ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التّوبة:67].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ـ فإذا كنت تتحرّك في حياتك وتذكُر الله، وصارت لديك حالة نسيان بفعل أشغالك وأعمالك وشهواتك، فتذكّر الله لتنطلق في طريقه المستقيم ـ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}[الكهف:24]، اطلبْ من الله أن يهديك لتقترب من الرّشاد.
ذكر الله أساس الطّاعة
وقد ورد عن الإمام عليّ(ع): "الذكْر ذِكْران ـ ذكر الله ـ ذكرٌ عند المصيبة ـ أن تذكر الله عند المصيبة فتصبر ـ حَسَنٌ جميل، وأفضلُ من ذلك ذكرُ الله عند ما حرّم عليك، فيكون ذلك حاجزاً"، يحجزك عن معاصي الله. وورد عن الإمام الصّادق(ع): "أشدّ ما افترض الله عزّ وجلّ على خلقه: إنصاف النّاس من نفسك ـ إذا كان للنّاس حقّ عليك، فإنّ عليك أن لا تنتظر القاضي ليحكم لهم بحقوقهم، بل اعترف لهم بحقوقهم ـ ومواساتك لأخيك، وذكر الله في كلّ موطن. أمّا إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كلّ موطن إذا هجمت على طاعته ـ اذكر الله حتى تأتي بالطّاعة ـ أو معصيته"، اذكر الله حتى تجتنب معصيته.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرّعد: 28]، لأنّك عندما تذكر الله الرّحمن الرّحيم الودود، تشعر بالسّكينة ولا تشعر بالقلق، والله فرض علينا الصّلوات الخمس في اللّيل والنّهار من أجل أن نذكر الله في كلّ أوقاتنا، ولنعيش الإحساس بحضور الله، وقد ورد أنّ الصّلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذّاكرين.