..| السيد محمد حسين فضل الله - فقيه المفكرين ومفكر الفقهاء |..لــ محمد محفوظ
مفتتح :
لم يستطع أحد أن يحول موضوعات العالم الخارجي – الطبيعي والإنساني – إلى موضوع للتأمل ولإنتاج المعارف والأفكار والتصورات والأنساق النظرية كما استطاع العالم ذلك ، محولا عملية التفكير (وهي نشاط ذاتي ) إلى ممارسة اجتماعية تنشأ عنها بنيات ذهنية تصير ( بفعل التمثل الجماعي لها ) إلى حقائق مادية موضوعية .. نظرتنا المنظمة إلى الكون وإلى المجتمع والمؤسسات وظواهر الوجود المختلفة تدين إلى الفعالية العلمية التي مارسها هذا الكائن المتميز عبر التاريخ .. إنها مساهمته الكبرى في المجتمع والحضارة والتاريخ ، في تحقيق الإدراك الإنساني للعالم ..
فالعالم شاهد عصره ، ورسول ربه من دون وحي أو نبوة ، ونذير الناس في كل ما يواجههم من قضايا ومشاكل في الحاضر والمستقبل إنهم ورثة الأنبياء في العلم والدعوة ، فلا بد أن تقوم بهم الحجة على الناس من خلال ما يريد الله لهم أن يكونوا في مستوى إقامة الحجة عليهم من قبله ، تماما كما هو النبي الذي تقوم به الحجة على الناس من قبل الله .. وهم أمناء الرسل ، فلا بد لهم من الارتفاع إلى المستوى الرفيع من وعي الحياة بالإضافة إلى وعي الإسلام ، لأنه لا معنى لقيادة لا تعرف كيف تخطط لحركتها ، أو تواجه جمهورها بالتوعية الشاملة ..
وسماحة السيد المرجع الديني محمد حسين فضل الله ( رضوان الله عليه ) ، هو أحد أعلام الأمة وعلمائها ، الذي جسد مفهوم العالم في حركته المعرفية والفكرية والسياسية والاجتماعية ، وكان لعطاءاته الفكرية وجهوده الإصلاحية الدور الأساسي في مسيرة العديد من الوجودات والمجتمعات العربية والإسلامية ..
وشكل العلامة فضل الله خلال الخمسة عقود الماضية ، نموذجا ومدرسة متكاملة في الفكر والعطاء والممارسة السياسية ، وهي تجربة ثرية تستحق البحث والتفاكر المشترك حولها والدراسة المتأنية حول حركة تطورها التاريخي ومآلاتها المستقبلية ، وأهم الدروس والعبر التي يمكن أن نخرج بها من خلال دراسة تجربة هذه الشخصية الرسالية الفذة ..
وهذه الدراسة هي محاولة في هذا السبيل .. وهي تتكون من ثلاث محاور :
المحور الأول : الإطار النظري الذي يوضح بعض المقدمات النظرية والفكرية التي تساهم في فهم واستيعاب حركة السيد فضل الله .. وتجربته متعددة الجوانب ..
المحور الثاني : بيان أهم خصائص هذه التجربة ، التي تركت تأثيرات عميقة في مسار العمل الإسلامي في العصر الحديث ..
والمحور الثالث : دروس مستفادة من هذه التجربة ، نعمل على تظهيرها ، حتى تكون جزء من وعينا وحركتنا الراهنة ..
المحور الأول مقدمات نظرية :
1-في معنى التجربة الإنسانية
ثمة ضرورات اجتماعية ومعرفية، لدراسة التجارب الدينية والفكرية والسياسية.. لأن هذه التجارب، تمثل إضافة نوعية في مسيرة الأمة.. والعمل على دراستها التأمل في أحوالها وإدراك طبيعة التطور الذي حدث فيها، كلها تساعد في استيعاب هذه التجارب وأخذ العبر والدروس منها ..
فالمجتمع حين دراسته لتجارب علماءه ومصلحيه ورواده ، لا يبدأ من الصفر ، وإنما يبدأ من حيث وصلت إليه هذه التجارب .. بمعنى إنه سيتجاوز العديد من القضايا والأمور ، التي تم بحثها في العطاء الفكري لهذه الشخصية ، أو الجهد الإصلاحي الذي بذله هذا العالم أو ذاك الفقيه ..
ولعل من أهم مؤشرات الحيوية والفعالية في أي مجتمع ، حينما يسارع إلى إخضاع تجاربه المختلفة إلى الفحص والدراسة والمراجعة .. لأن هذا أحد المعطيات الأساسية التي تجعلنا ندرك أن هذا المجتمع بنخبته الدينية والثقافية والاجتماعية ، ينشد التطور والتقدم ، ويعمل على مراكمة عناصر القوة في مسيرته وتجربته .. ودراسة تجارب العلماء والمفكرين والإصلاحيين ، هي أحد روافده لتحقيق ذلك ..
، ولاريب أن تسجيل التجارب وفحصها يساهم في أن تتعرف الأجيال الطالعة باستمرار على تجارب الأمة في مسيرة الإصلاح الديني أو التغيير الثقافي والاجتماعي ..
.. ونحن هنا لا نود الترويج لهذه الأطروحة أو تلك ، وإنما ما نود بيانه أن التجارب الإنسانية وبالذات في الحقول الدينية والفكرية والسياسية ، بحاجة دائما إلى التفاكر المشترك حولها والدراسة المتأنية حول حركة تطورها التاريخي ومآلاتها المستقبلية ..
وفي سياق التأكيد على ضرورة الاهتمام ، بتوثيق التجارب وقراءتها قراءة فاحصة وموضوعية للاستفادة القصوى منها على صعيد الراهن والمستقبل أود التأكيد على النقاط التالية :
1-إن القراءة العلمية والموضوعية تقتضي قراءة هذه التجارب بمختلف مراحلها وأطوارها في إطار سياقها التاريخي وشروط الزمان والمكان الذي تبلورت فيه هذه التجربة أو تلك الممارسة .
لأنه لا يمكن أن نفهم التجارب على حقيقتها ، إذا ألغينا سياقها التاريخي أو شروطها الاجتماعية والثقافية والسياسية التي نتجت في ظلها أو تحت تأثيرها .. فمفارقة السياق التاريخي للتجارب الإنسانية ، يساهم في تشويه قراءة التجربة ، أو تحميلها شروط زمان غير زمانها ، أو مكان مختلف في خصوصياته وشروطه عن مكانها .. لهذا من الضروري أن تقرأ هذه التجارب في ظل سياقها التاريخي وشروطها الاجتماعية وظروفها السياسية والثقافية ، حتى يتسنى للقارئ أو الباحث قراءة التجربة قراءة صحيحة ودقيقة وبعيدا عن عملية المسبقات الأيدلوجية أو الإسقاطات التاريخية والاجتماعية .. فالمطلوب دائما قراءة تجاربنا وتجارب غيرنا من خلال معرفة سياقها التاريخي وظروف نشأتها المختلفة .. لأن هذه القراءة السياقية هي التي تفتح عقولنا ونفوسنا ، لاكتشاف عناصر القوة في التجربة ، وكيف تمكن أصحابها من اجتراح فرادتهم في ظل ظروف وسياقات مجتمعية ليست مواتية .. فالمطلوب ليس الانبهار بالنتائج ، وإنما معرفة كل الأسباب والعوامل التي أسهمت في صناعة التجربة وتذليل كل الموانع والعقبات ..
2-لأن التجارب الإنسانية متعددة الوجوه والصور . فهي ( أي التجارب ) توفر إمكانية حقيقية للنظر إليها من أكثر من بعد وزاوية .. لهذا فإن من الخطأ الذي يصل إلى حد الخطيئة ، حينما يتم النظر إلى التجارب الإنسانية من زاوية واحدة فقط .. وإنما من الضروري أن تتعدد زوايا النظر والقراءة للتجارب الإنسانية ، وذلك حتى تتمكن جميع القراءات أن تنجز رؤية متكاملة أو قريبة من التكامل لهذه التجربة أو تلك .. فالقراءة المتكاملة والشاملة للتجارب ، هي التي تخرجنا من محنة الانبهار الأعمى بالمنجز دون الاستفادة الحقيقية منها .
وأود هنا أن أؤكد وبالذات على المنبهرين بالتجربة ، والذين هم وبدوافع نفسية معروفة ، يصرون على أن تكون قراءتهم للتجربة هي القراءة الصحيحة وهي التي تحضا بالقبول والرضا ..
فالتجارب مهما كان قرب الإنسان من صانعها ، ليست ملك أحد ، بل هي ملك الإنسان والمجتمع ، وبإمكان كل باحث إذا تسلح بسلاح العلم والمعرفة والموضوعية أن يقرأ هذه التجربة ، من الزاوية التي يراها مناسبة ، وبالطريقة التي تمكنه من فحص كل جوانب وزوايا التجربة ..
وفرص الاستفادة من التجارب ، تتضاءل حينما تقرأ هذه التجارب بنمط واحد وبزاوية واحدة فقط .. فالتجارب الإنسانية لن نتمكن من اكتشاف ثراءها وحيويتها ، إلا بقراءات متعددة لها في كل مراحلها وأطوارها ..
3- إن المجتمعات المتقدمة والتي تسعى دوما للقبض على أسباب التقدم والتطور ، تعمل عبر وسائل عديدة لقراءة تجاربها والإفادة منها .. لأنها جزء من ثروتها الإنسانية والمعرفية ، والتي تحتاج بشكل دائم إلى الفحص والاكتشاف واستيعاب دروسها وميكانزمات حركتها وتطورها الأفقي والعمودي .. لذلك فهي تعمل على تشجيع المؤسسات والمعاهد البحثية إلى العناية بالتجارب وضرورة قراءتها قراءة واعية ونقدية وبعيدا عن نزعات الإطراء والتهريج الإعلامي ..
لهذا فإن هذه المجتمعات وعبر ما توفره من دراسات وأبحاث معمقة وجادة لتجاربها ، تمتلك القدرة على تجاوز أخطائها وعثراتها .. لأنها درست أخطاءها بعمق وبعيدا عن نزعات التبرير والتسويغ .. لهذا فإن علاقة المجتمعات المتقدمة بماضيها وتجاربها السابقة ، ليست علاقة مرضية ، لا تستطيع الانعتاق منها .. وإنما هي كأي تجربة إنسانية ، ينبغي أن تخضع للدراسة والفحص الموضوعي ، ويتم من خلال هذه الدراسات الوصول إلى نتائج جديدة ، يتم الاستفادة منها في الأيام القادمة ، دون الانحباس المرضي في شرنقة التجربة أو التعامل معها بوصفها تجربة إنسانية نهائية لا يمكن تجاوزها معرفيا واجتماعيا ..
فالتجارب الإنسانية تقرأ بوعي وموضوعية دون التوقف عن العمل والبحث عن الفرادة .. وهذه العناصر هي المطلوبة لإنجاز مفهوم التجاوز المعرفي والفلسفي للتجارب التي يمر بها الإنسان سواء كان فردا أو جماعة .. فالتجارب الإنسانية لن تبلغ رشدها ، إلا بفحصها وقراءتها بعمق وتمعن وفي سياقها التاريخي وضمن شروطها الاجتماعية وظروفها السياسية وآفاقها الثقافية ..
لهذا فإننا نشعر بأهمية تدوين تجاربنا الوطنية والفكرية والسياسية والاجتماعية ، والعمل على فحصها ودراستها من قبل مختصين ومهتمين ، وذلك من أجل تحديد عناصر القوة لتعزيزها في فضائنا الاجتماعي والوطني .. ومعرفة عناصر الضعف التي ينبغي أن تتراكم كل الجهود من أجل إنهاء وجودها وتفكيك حواملها الأساسية التي تضر بواقعنا الوطني ومستقبله ..
فلننفتح جميعا على تجارب بعضنا البعض ، ليس من أجل توفير مادة للسجال وإنما من أجل اكتشاف الطريق المناسب والحيوي لنهضتنا الوطنية في مختلف المجالات ..
2- جذور التحول الثقافي 00مقاربة نظرية
يتضمن النص القرآني العديد من الآيات والشواهد التاريخية ، التي تؤكد على ضرورة أن يراجع الإنسان أفعاله ، وينقد ممارساته من أجل تقويمها بما ينسجم والقيم الإسلامية العليا . فالباري عز وجل يقسم بالنفس اللوامة ويعلي من مقامها ، لأنها تمارس عملية اللوم والمراجعة والمحاسبة والنقد كي تصل إلى المستوى المثالي في التعامل مع الأمور والأشياء . فقد قال تعالى [ ولا أقسم بالنفس اللوّامة ].
والقسم الرباني بالنفس اللوامة يوضح قيمتها في حركة الوجود الإنسانية في ارتفاعه إلى الأعلى ، بوصفها بأنها تعمل على تخفيف الأثقال الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي تشد الإنسان إلى الأسفل ، لينطلق من موقع إنسانيته في حالات الصفاء الروحي الذي ينفتح به على الله عز وجل .
وبذلك كانت تمثل قمة النموذج الإنساني في أصالة التجربة الحية الواعية في حركة الحياة في داخله . فمقتضى عمق اللوم على الغفلة ، وعلى التقصير ، لا يترك النفس سادرة في هواها وفي غفلتها ولا يقف بها في أجواء اللامبالاة فيما يثار حولها من قضايا ، لا سيما إذا كانت القضية تتصل بالمصير الأبدي ، مما يجعلها في مستوى الأهمية الكبرى في مواقع الفكر والإيمان .
والقرآن الحكيم يثير فينا حس النقد الذاتي ، عن طريق تذكيرنا بحقيقة وجدانية ، ألا وهي بصيرة الإنسان على نفسه ، فإنه قبل الآخرين شاهد عليها وعالم بواقعها ، مهما توسل بالأعذار والتبريرات الواهية . يقول تبارك وتعالى [ بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ] .
ويؤكد القرآن الحكيم في الكثير من الآيات أيضا على مراجعة تجربة دعوات الأنبياء وتشخيص سلوك المجتمعات الغابرة ومواقفها ، حتى نتمكن من الاستفادة منها وأخذ العبر والدروس من محطاتها وانعطافاتها . كما ينتقد القرآن الكريم تقليد الآباء والأجداد . قال تعالى [ بل قالوا إنا وجدانا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجـــدنا آبائنا على أمة وإنا عـــلى آثارهم مقتدون ] .
وبهذا أسس الإسلام عقلا برهانيا ونقديا لدى الإنسان المسلم ، وهذه هي البذور الأولى لمشروع النقد والمساءلة لظواهر الحياة الطبيعية والإنسانية . ولا ريب أن هناك جملة من العلوم قد تطورت وتأسست في الفضاء الحضاري الإسلامي من جراء هذه العقلية البرهانية ـ النقدية . فعلم الجرح والتعديل وعلم الحديث ونقد الرواية كلها علوم تبلورت ونضجت من جراء العقلية النقدية الإسلامية .
والنقد كعملية ثقافية ـ معرفية ، هو عبارة عن فحص لكل ما هو سائد في سبيل واقع آخر مضاد له وفقا لنموذج أو تصور مستقبلي . " فالنقد يعني : الفحص والاختبار ووضع كل شيء في ميزان العقل والاحتكام إلى معاييره " .
ولكن ومع هذا التأكيد القرآني والإسلامي ، على ضرورة المراجعة والنقد ، إلا أن واقع المسلمين يخلو من هذه القيمة ، بل هناك بعض المساحات الاجتماعية التي ترذلها . ولا ريب أن لهذا الغياب أسبابه وعوامله الثقافية والاجتماعية والنفسية . فالقناعات النفسية والثقافية التي لا تراجع ، ويتم التعامل معها كحقائق ثابتة ، تدفع باتجاه التمتع بحق الطاعة والانقياد والإتباع ، دون أن يكلف نفسه ( صاحب القناعة الثابتة ) عناء مراجعة أفكاره وقناعاته ومساءلتها .
وبهذا تتراكم عوامل الغفلة والاستعلاء ، بحيث يتجاوز هذا الإنسان كل ممارسة نقدية ، ويحجم عن ممارسة كل محاسبة إلى سلوكه وأفعاله . وهنا لا بد من بيان أن مجال النقد هو وسائل التطبيق الاجتماعي والسياسي والثقافي والتعليمي ، وذلك لأن الجمود عليها يعطل التقدم . وليس ثوابت الشرع وقيمه العليا . فالثوابت العقدية والتشريعية ليست موضوعا للنقد ، إنها موضوع للبحث والفهم . وبطبيعة الحال فإن المحيط الثقافي التي تنمو فيه حالات ضمور الحس النقدي ، هو ذلك المحيط الذي يردع عن السؤال المساءلة ، ويقف موقفا سلبيا من الاختلاف الثقافي والفكري ، ويحارب الإبداع خوف الابتداع . وهذا يعمق نفسية عامة تحول بين الإنسان الفرد والجماعة وممارسة النقد والمراجعة والمحاسبة لكل ما هو سائد . فالاختلاف المرذول والمذموم ، هو الناتج عن الهوى ، أما الاختلاف الناتج عن البحث الحر والموضوعي طلبا للحقيقة لا إتباعا للهوى فهو اختلاف مشروع ، وذلك لأنه طريق الوصول إلى الحقائق وهو الذي يثري الواقع والفكر والثقافة . والنقد وفق هذا المنظور ، هو الذي يثري الساحة الثقافية بالمضامين الجادة ، كما أنه يفعل الساحة الاجتماعية باتجاه الأمور والقضايا الأكثر أهمية وجدية . فالنقد هو الممارسة الضرورية في الاختلافات الثقافية والمعرفية ، كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية . ولا ريب أن غياب تقاليد النقد والمساءلة ، هو الذي يدفع الشعوب والأمم حين الهزائم إلى التشكيك الصارخ في كل ما هو سائد .
وهذا يقودنا إلى القول إننا بحاجة دائما أن نتعامل مع هزائمنا وانتصاراتنا بموضوعية بحيث إننا لو انتصرنا لا نصاب بداء الغرور والتعالي ، فنلغي الآخرين من خريطة الوجود التاريخي .. ولو انهزمنا ندرس أسباب هزيمتنا بشكل موضوعي وهادئ ، ودون أن يؤثر هذا على جوهر وجودنا وثوابت كياننا . ولا شك أن للإنجازات أسبابها وعناصرها كما أن للإخفاقات عواملها . والرؤية الموضوعية تحتم علينا دراسة المسألة من جميع أبعادها ، لإزالة عوامل الإخفاق وتأكيد عناصر النجاح والإنجاز .
ولا يوجد على المستوى التاريخي أن مجتمع مكتوب عليه أو قدره الهزيمة دائما أو الانتصار دائما .. وإنما هم ( الهزيمة والانتصار ) ظاهرتان إنسانيتان تتحكم فيهما جملة من العوامل الذاتية والموضوعية . فالمجتمع الذي تتوفر فيه عوامل المنعة والتفوق يحقق ذلك على الصعيد العملي ، والمجتمع الذي يتخلى عن تلك العوامل يصاب بالإحباط والتراجع والتقهقر . فالرؤية الموضوعية تعني ، الابتعاد عن التهويل والتهوين ، والبعد عن الشطط والمغالاة وعن اليأس والتيئيس الدافع إلى الاستقالة المعنوية الفردية والجماعية .
وإن فقدان الثقة بالذات من جراء نكسة أو هزيمة ، يؤدي حتما إلى الاستسلام إلى المنظومات الفكرية والثقافية للغالب .. وقد أشار إلى هذه المسألة ابن خلدون بقوله : أن المغلوب مولع دائما بمحاكاة الغالب والإقتداء به لأنه يعتقد أن انتصاره راجع إلى صحة مذهبه وعوائده .
كما أن تجريح الذات وجلدها على مختلف الصعد والمستويات ، ما هو في حقيقة الأمر إلا إخفاء لابتعاد المثقف أو المفكر أو الأديب والنخبة بشكل عام عن مواطن الإبداع الفكري والثقافي والأدبي وتحولهم في الكثير من الأحيان إلى إحالة للماضي وحجابا لعدم رؤية الحاضر .. فالقراءة الموضوعية إلى الظواهر الاجتماعية والإنسانية المفرحة منها والمحزنة تحتم علينا النظر إلى الأمور انطلاقا من أسبابها الحقيقية وعواملها المباشرة .
من هنا وتأسيسا على حقيقة التطورات السريعة التي تجري في العالم في كل تجاه ، تتأكد ضرورة التقيد بقوانين الموضوعية في دراسة التطورات والظواهر الاجتماعية والإنسانية الأخرى .. لأن توفر هذه القوانين هو الذي يمكننا من قراءة هذه التطورات والتحولات بشكل سليم ودقيق .
والفكر النقدي يقتضي :
1- توفير أسس الفحص والمقدمات العقلية والنظرية لعملية المراجعة، إذ لا يعقل أن تتم المراجعة انطلاقا من ردود أفعال أو مماحكات سياسية أو سجالات اجتماعية . بل من الضروري أن تتوفر كل الأدوات النظرية والمفهومية والعدة التقنية التاريخية والمعاصرة لفحص الظاهرة فحصا موضوعيا متزنا .
2- التقيد بالمنهج الموضوعي دون جلد الذات أو تحميل الأخر المجهول أسباب الإخفاق وعوامل الهزيمة
وبهذا نتشبث بما يسمى بـ ( القوانين الموضوعية ) للظواهر الاجتماعية والإنسانية .. ومن هنا فإن الفكر النقدي يقتضي أيضا دراسة الظاهرة والكشف عن قوانين عملها وحركتها وعن طبيعة العلاقة التي تربط بين عناصرها المختلفة ..وعن طريق هذه الدراسة نصل إلى النتائج الأخيرة بعيدا عن المسبقات الفكرية أو الاجتماعية ، ونتعرف على الأسباب الموضوعية لنمو الظاهرة أو ضمورها .. إننا مع ضرورة المراجعة لمناهجنا العلمية والعملية ، لكنها تلك المراجعة التي تنطلق من حس المسؤولية الذاتية وتحمل الذات مسؤولية الإصلاح .
فالمراجعة والنقد جزء من مشروع الإسلام التربوي ، فلا فلاح بدون محاسبة الذات ومراجعة أفعالها وتقويم سلوكها والعدول عن الأخطاء والزلات . وبالتالي فإن النقد وفق هذا التصور مطلوبا ، لأنه سبيلنا إلى التطور والتجدد والتزكية .
3- النقد والوعي الاجتماعي
يعتقد الكثير من الناس أن الوعي الاجتماعي ، هو مجرد نصوص لفظية أو شعارات يلوكها لسان الإنسان ، وامتلاك القدرة على توصيف الواقع الاجتماعي بجملة من الكلمات والألفاظ البراقة ، يعتبر واعياً اجتماعيا ويضرب به المثال في هذا المجال ،ولقد أضاع هذه الفهم ومتوالياته النفسية والاجتماعية والثقافية ، الكثير من الفرص السانحة ، التي كان بإمكان المجتمع العربي ، لو كان يسوده وعي اجتماعي حقيقي ، أن يغتنمها ويترجمها ، إلى حــقائق اجتماعية وثقافيـــة تطور من واقعه ، وتنهي الكثير من مشاكلــه و أزماته .
ومن جراء هذا الفهم المغلــوط للــــوعي الاجتماعي ، تحولت فرص النمو والانطلاق ، في المجتمع العربي ، إلى مهاوي تزيد من تعقيد المشكلة وتضيف لها أبعاداً أخرى .
وتظهر أعراض هذا الفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي ، في الكثير من الأعراض والمؤشرات والمسارات التي تسير على هداها المجتمع العربي . فهي أساليب التربية والتنشئة الاجتماعية ، تسود قيم التلقين والتلقي والفردية القائمة على نفي حاجة الإنسان إلى التعاون والتآلف مع الآخرين ، لذلك ينشأ الواحد منا وهو لا يفكر إلا في ذاته وفي حدودها الضيقة والآنية أيضاً .
وفي التنشئة الثقافية ، تسود قيم الفرادة الموهومة ووهم امتلاك ناصية الحقيقة المطلقة وضرورة الاكتفاء بما عندنا من علم وثقافة ، وكأن العلم والثقافة وصلا إلى حدودهما القصوى ، وهي مخزنة في صندوق ، وما علينا إذا أردنا العلم والثقافة إلا فتح الصندوق ، ودورنا ينحصر في استهلاك ذلك العلم المكتشف من ذلك الصندوق .
لذلك ومن جراء هذا التركيب المجتمعي القائم ، على فهم مغلوط أو ناقص لمفهوم الوعي الاجتماعي ، نخسر فرص النمو والتطور وتنقلب علينا بشكل سلبي وتتراكم في محيطنا عناوين ويافطات تبرر لنا هذا الواقع المعاش ، وبدون الاستطراد في بيان الأعراض والآثار السيئة للفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي ، نحاول أن نوضح مقصودنا من هذه المقولة .
الوعي الاجتماعي هو عبارة عن جملة المفاهيم والأفكار والثقافات التي توجه حركة أفراد هذه المسألة و متوالياتها المتعددة . لــهذا يختلف الوعي الاجتماعي من مجتمع إلى آخر ، باختلاف المفاهيم المهيمنة على المسار الاجتماعي ، وطبيعة الفهم الإنساني إلى تلك المفاهيم والحوافز القصوى التي تخلقها المفاهيم في حياة الناس ، لذلك فإن الوعي الاجتماعي ، هو وليد فهم الناس إلى تاريخهم وحاضرهم وقيمهم العليا ، ونتاج التفاعل البشري مع الأطر النظرية المتاحة أو المتداولة .
وبهذا نستطيع أن نحدد مفهوم الوعي الاجتماعي بالعناصر التالية :
1) مجموع المفاهيم والقيم المتداولة في حياة الناس ونظام التفاضل الموجود بينها.
2) تفسير الناس وفق ظروفهم ومستوياتهم المختلفة ، إلى تلك المفاهيم والقيم.
3) تجربة الناس اليومية في الالتزام بهذه المفاهيم ، ونظام علائقهــم الســـائد في أوساطهم ، وبينهم وبين الآخرين .
ووفق هذا المنظور ، فإن الوعي الاجتماعي ليس مفهوما ناجزاً ومكتملاً ، وإنما هو دائم التحول والتطور من جراء تحولات المجتمع المختلفة ، لذلك فإن بقاء الوعي الاجتماعي ثابتاً والواقع الاجتماعي متحركاً ومتغيراً هو الذي يؤسس لفهم مغلوط ومشوه لمعنى الوعي الاجتماعي ، من هنا فإن شرط الوعي الاجتماعي الفعال هو وجود فكر نقدي ، يدعم هذا الوعي ،ويرفده بالآفاق الجديدة ، ويؤسس لحالات تحول اجتماعي متواصل بهدف الرقي والتقدم الاجتماعي ، لهذا ينبغي أن لا نتشاءم أو ننظر بريبة وشك إلى كل الأفكار النقدية للعوائد والمسارات الاجتماعية وإنما من الأهمية بمكان أن نستوعب هذه الأفكار النقدية ونوفر لها الأطر الاجتماعية الطبيعية ، لكي تأخذ هذه الأفكار مسارها الطبيعي في التفاعل مع الواقع الاجتماعي وبهذا التفاعل تنضج الأفكار وتتبلور المسارات وتعم الحيوية الجسم الاجتماعي كله .
وتجارب المجتمعات ذات الوعي المتميز ، تؤكد لنا أهمية حركة النقد وضرورتها القصوى في خلق الوعي الاجتماعي الجديد فلولا الأفكار النقدية ، التي بثها فلاسفة التنوير في أوروبا وما أحدثته من وعي اجتماعي جديد لبقي الظلام والجمود سائدا في أوروبا فشيوع مفاهيم النقد البناء في المحيط الاجتماعي يبدد الجمود وينهي الرتابة ويبث الحيوية والحياة في أرجاء المجتمع ويزيد من مستوى المسؤولية العامة ويساهم في بلورة وإنضاج قوى اجتماعية جديدة ، تأخذ على عاتقها دور التجديد والتطوير في المحيط الاجتماعي .
وإن شيوع حالات الاضطراب والفوضى في بعض المجتمعات ، ليس من جراء حركة النقد السائد وإنما هو في حقيقة الأمر من جراء غياب أطر الاستيعاب لأفكار النقد الجديدة أو من ردود الفعل السلبية وذات الطابع الارتجالي تجاه الأفكار الجديدة . أما المجتمع الذي يوجد لنفسه القنوات الطبيعية لاستيعاب أفكار أبنائه الجدية ، فإنه سيتمكن من إضافة قوة جديدة إلى قوته وسيدخل دماء جديدة تنهي السكون وتحول دون تبلد وتكلس الحياة الاجتماعية .
لهذا فإننا نؤكد على ضرورة ، توفر الأطر المناسبة لاستيعاب وامتصاص الأفكار الجديدة ، والرؤى النقدية الهادفة إلى التطوير وإعادة صياغة وتشكيل الوعي الاجتماعي بما ينسجم ومتطلبات العصر وضرورات التقدم الاجتماعي .
ولا بد أن لا نستعجل في إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف ، تجاه من أجتهد في سبيل تطوير وتجديد الوعي الاجتماعي . وأن التحليل العلمي النقدي للسائد اجتماعيا وثقافياً هو الذي يوفر الأرضية العقلية والنفسية لتجاوز البائد من ذلك السائد ،وإنهاء ما فيه من أنماط بالية ولقد حاول الدكتور ( هشام شرابي ) في كتابه " البنية البطركية .. بحث في المجتمع العربي المعاصر " . أن يوضح الصلة الضرورية بين الوعي الاجتماعي والفكر النقدي .
لهذا من الضروري أن نتعامل مع التحليلات النقدية لمسار المجتمعات العربية برؤية منفتحة - مستوعبة بعيدة كل البعد عن لغة النفي والتخوين - وإن النقد الهــادف في أحــد وجوهـــــــه الرئيسة ، يشكل شرطاً ضرورياً لتحقيق التطور الاجتماعي المأمول .
فلا وعي اجتماعي متجدد ، إلا بفكر نقدي ، ولا فكر نقدي بنــــاء ، إلا بــوجود أطر مجتمعية ، تستوعب تلك الأفكار وتموجاتها . وهكذا يصبح الفكر النقدي شرطا من شروط الوعي الاجتماعي الجديد ، بمعنى أن وعي المجتمع بذاته وبالآخرين وبدوره التاريخي ، لا ينجز إلا على قاعدة نقدية مستديمة ، تسائل السائد ، وتجعله على طاولة التشريح والتقويم . وضرورة الحفاظ على الوئام الاجتماعي ، لا تعني بأي شكل من الأشكال قسر الجميع وإرغامهم على نمط اجتماعي محدد . وإنما تعني حيوية التنوعات وفاعليتها في أثراء مفهوم الوئام الاجتماعي ، بأفكار ورؤى وآفاق جديدة .
وبالتالي فإن الإصرار على إيجاد مسافة تفصل الوعي الاجتماعي السائد ، عن الفكـــــر الـــنقدي ، يؤدي فيـــــما يؤدي إليه ، إلى شيوع حالة العجز التي تنتاب المجتمع تجاه مشاكله وتحدياته المصيرية .
وعليه فإنه لا مبرر للخوف من النقد وفحص المسلمات الاجتماعية ، لأن هذا النقد والفحص ، هو الذي يطرد العناصر السلبية والميتة من الفضاء الاجتماعي . والخوف الحقيقي ينبغي أن يكون ، حينما تغيب عمليات النقد ، وحينما تتضاءل فرص الفحص على وقائع المسيرة الاجتماعية . فالنقد ضرورة قصوى لسلامة المجتمع ، لأنه يتجه صوب نقاط الضعف ويعمل على تعريتها وفضحها ، ويشحذ الهمم لتوفير الإرادة المجتمعية القادرة على سد تلك النقاط . فلا قوة حقيقية لأي مجتمع تغيب فيه عمليات النقد والتقويم . فالقوة مرهونة بقدرة أبناء المجتمع على مساءلة سائدهم ، وفحص قناعاتهم العامة ، وذلك ليس من أجل إشاعة الفوضى والهدم ، وإنما من أجل طرد كل الأمراض التي قد تبرز في الفضاء الاجتماعي .
لهذا كله فإننا ندعو إلى عدم الخوف من النقد الاجتماعي والعلمي ، بل من الضروري أن نوفر الأطر البحثية التي تقدم لنا دراسات وأبحاث جادة عن واقعنا الاجتماعي . لمعرفة عناصر قوتنا وضعفنا ، ومن ثم العمل على تأكيد عناصر القوة وطرد عناصر الضعف . فلا حيوية في المجتمع بلا نقد ، ولا قدرة للمجتمع للتخلص من عيوبه بدون تشجيع الباحثين والمختصين على قراءة الواقع الاجتماعي ونقده .
والنقد الاجتماعي لا يؤسس للفوضى والانفلات أو تضخيم السلبيات ، وإنما هو ضرورة من ضرورات تحقيق الأمن الاجتماعي .
وجماع القول : إننا بحاجة دائمة إلى ممارسة النقد والفحص ، حتى يزداد وعينا الاجتماعي وتنضج قدراتنا المجتمعية ، وتتمكن من طرد كل عناصر الضعف والاهتراء من فضائنا الاجتماعي . وعليه فإن الخوف من النقد يضر بالواقع الاجتماعي حقيقة . ولا سبيل أمامنا إذا أردنا الحيوية والفعالية الدائمة ، إلا مواصلة الفحص الدائم والنقد المستمر لكل وقائعنا وحقائقنا الاجتماعية . النقد الذي لا يستهدف التقويض ، بل التقويم وتصحيح الاعوجاج .
4- تحرير الوعي الإسلامي :
ثمة ضرورة تبلورت في مجالنا العربي والإسلامي من جراء أحداث وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر وحرب أفغانستان . ألا وهي ضرورة الانطلاق الجاد في بناء ثقافتنا من جديد على ضوء معطيات الراهن وثوابت الثقافة التي صاغت مسارات واقعنا المجيد .
ولكن هذه الانطلاقة لا تستهدف تبرير ما جرى ، أو تأكيد حقيقة أن هناك ظروف موضوعية وسياسية قادت الأمور إلى ما جرى من أحداث وفظائع . وإنما هي انطلاقة تجتهد في تجسير الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون ، بين حركة الواقع بتعقيداته وتشابكاته وحقائق ثقافتنا التي لا تقبل التأويل والتحوير .
وتنبع أهمية العمل على إعادة بناء ثقافتنا من النقاط التالية :
إننا كأمة ومجتمعات وأوطان ، نتعرض لزخم متدفق من الإنتاج الثقافي والإعلامي الغريب الذي يتجه إلى تشويه صورتنا وتحميلنا كأمة وعقيدة مسؤولية ما جرى من أحداث .
فالكثير من عناصر الثقافة ومواد الإعلام التي أنتجت بعد الحادي عشر من سبتمبر ، تدفع الأمور باتجاه تحميلنا مسؤولية تلك الأحداث . وإن الخيار المطروح إمامنا لقبولنا في حركة العصر والنادي الحضاري العالمي ، هو التخلي عن الكثير من القيم التي فهمها بعضنا بشكل خاطئ ومغلوط أو تم قراءتها من قبل دوائر الغرب الثقافية والإعلامية بشكل ملتبس وغامض . مما أدخل واقعنا في دوامة العمل على تبرئة عقيدتنا مما جرى . وإن ما جرى هو وليد تطورات سياسية إقليمية ودولية ، هيأت الأرضية السياسية للانطلاق في مشروعات عنيفة ضد الولايات المتحدة الأمريكية .
وعلى كل حال فإننا نود القول في هذا الصدد : أن ما جرى أدخلنا في واقع جديد وتحديات حضارية بعناوين ويافطات حديثة ، وإن كل هذا يدفعنا إلى أن نستخرج من معادن ثقافتنا الغنية عناصر حيويتها ونطورها حسب حاجات واقعنا وشعوبنا ، ثم نعيد صياغتها وننتجها بشتى ألوان الإنتاج مقروءا ومسموعا ومرئيا .
كل يوم نعيش تحديا حضاريا جديدا, ونواجه أحداثا ووقائع لا نعرف أحكامها ومنهج مواجهتها, حتى جعل الكثيرين منا يعيشون التردد والغبش في الرؤية تجاه كل ما جرى من أحداث وتطورات.
ومن هنا ومن أجل مواجهة الثقافة الغريبة التي تريد وتسعى أن تحملنا كأمة ومستقبل مسؤولية ما جرى, ومن أجل مواجهة المشاكل اليومية العالقة التي زادتنا ترددا وضياعا والتباسا, فإن علينا إعادة بناء ثقافتنا وتحرير وعينا من القوالب الفكرية والثقافة التي تريد مؤسسات الإعلام والثقافة الغربية إدخالنا فيها, وجعل أولوياتها هي أولوياتنا, وأجندتها هي أجندتنا. ومن المشاكل اليومية التي إذا فقدنا البوصلة تزيدنا ضياعا وغبشا وبعدا عن أولوياتنا الصحيحة.
ومن الطبيعي القول : أنه من دون الثقافة الواحدة ذات القيم الإنسانية والحضارية السامية والثابتة التي يؤمن بها الجميع إيمانا راسخا يبعثهم على العطاء من أجلها والتضحية لها بكل شيء يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة.
ومن دون الهدف, ذو التجربة التاريخية, الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات وحركة الأمة, ينهار الجدار المادي لبناء الأمة,
وإن بوابة كل ذلك أو بالأحرى إن شرط القبض على كل ذلك }الثقافة الواحدة والهدف الواضح{ , هو تحرير وعينا الإسلامي المعاصر من كل الأوهام والأغلال التي تكبل تفكيرنا وتحرف أولوياتنا وتجعلنا نعيش الغبش في كل شيء.
إننا كأمة نتعرض اليوم لتهديد حقيقي بضياع شخصيتنا ولا سبيل أمامنا إلا تحرير وعينا من كل الرواسب التي تحول دون انطلاقتنا الحضارية والإنسانية.
إن ما جرى من أحداث ومآسي ليس نهاية التاريخ, وإنما هو لحظة تاريخية تحملنا مسؤولية العمل على بناء ثقافتنا حتى يتسنى لنا جميعا المشاركة الفعالة في حضارة العصر. وحتى نتمكن من خلال وعينا وتقدمنا الحضاري, أن نجابه كل التصورات التي تحاول أن تلصق صفة التخلف والتأخر بالإسلام.
إن مسؤوليتنا تتجسد في الهروب إلى الأمام, عبر تحرير وعينا وبناء واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي على أسس أكثر إنسانية وحضارية . وينبغي أن ندرك جميعا أن الزيادة في الدين حرام, لأنها نوع من الغلو الممنوع. وإن هذا الأخير كان هو المسئول المباشر عن تمرد طائفة كبيرة من الناس على الدين.ولا يخفى علينا جميعا أنه في العالم المسيحي كان الغلو في الدين هو السبب المباشر لانتهاء سيطرة الكنيسة وتحول الناس إلى اللائكية والإلحاد.
وحين تراجعت الكنيسة تحت ضغط الظروف عن إضافاتها اللامعقولة إلى الدين عاد العالم الغربي إلى الكنيسة. من هنا غضب الباري عز وجل على طائفة من الناس لأنهم حرموا ما أحل الله لهم وقال } قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون* قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون{ . (الأعراف الآية 32-33 )..