عن دور الفلسفة البعثية في ادارة الدولة الجديدة..
يا قهوتك عزاوي.. تشرب الدم بالقلاص لو بالاستكان؟
كثيراً ما ينتقد البعثي نظام صدام البائد.. هو غالباً ما يقول انه لا يحب ذلك العصر.. ويعبر عن سعادته بالخلاص منه. "صدام سرق السلطة منا.. هو فقط المسئول عن تجاوزات العصر البائد."
ولكن كل بعثي يتفاخر بدوره ووظيفته خلال ذلك العصر. من كان مسئولاً عن إدارة مجلة يتفاخر بإدارته لها، حتى لو كانت تلك الإدارة قد حولت المجلة الى بوق يغني للسلطة وساهمت في تدمير ثقافة التسامح التي شاعت في العصور السابقة. من عمل في مجال التعليم يتفاخر بأنه خرج أجيالا ، متناسياً الأفق الضيق، وفكر الكراهية (لكل ما هو فارسي مثلاً) الذي قام بتدريسه للاجيال الجديدة.
وحتى البعثي الذي شارك في المجازر البشعة ضد أبناء الجنوب والأكراد، يقول:" لم نفعل سوى إطاعة الأوامر..وعلى كل حال من قتلناهم كانوا عملاء. خانوا الوطن وتواطئوا مع ايران، وهم لصوص وقطاع طرق. كان إسلامهم زائفاً " وهكذا، وفي اللحظة التي تجد فيها البعثي يشجب النظام البائد، يقوم بتبرير ممارساته.
وهذه الازدواجية تستحق الانتباه والدراسة. اذ تدل على رغبة حقيقية في إخفاء الحقائق لا على الناس، بل على الذات كذلك..
والواقع انك لو شاهدت يوما ما بعثيا وسط اسرته، لشعرت انه شخص سوي تماما، يحب أبناءه ويقتر على ذاته في سبيل شراء الملابس لهم في العيد. هناك جانب من الشخصية البعثية يبدو طبيعيا تماما.. بل وحتى حين قبضت الدولة الجديدة على بعض من ارتكبوا جرائم كبيرة منهم، قال جيرانهم: "لم نشعر بشيء من هذا. كانوا لطافاً وجيراناً طيبين."
اعتقد ان جذور المشكلة التي نلاحظها هنا أخلاقية: فالفكر البعثي قد يدعي انه يسعى وراء قيم مثالية بعضها لا غبار عليه.. وفكرة الحرية مثلاً لا يوجد نظرياً من يرفضها. وحتى فكرة الاشتراكية في السبعينيات كانت مقبولة لغالبية شعوب المعمورة. ووصلت الأحزاب اليسارية الى قمة السلطة في أوربا الغربية ذاتها.. ولكن مشكلة البعث تكمن في التطبيق: فهذا الحزب آمن بان الغاية تبرر الوسيلة. وان سفك الدماء مقبول في سبيل تحقيق هدف نبيل. وهكذا تم تبرير الكثير من الممارسات الشريرة التي انتهكت حياة الإنسان، وقتلت الكثير من أبناء شعبنا بحجة النتيجة الإيجابية المرغوبة.
والواقع ان الغاية الجيدة لا تبرر وسيلة قتل الناس وتعذيبهم، سواء اكان من ارتكبها بعثياً، او أمريكيا، وهو ما يحدث اليوم.
الشخصية التي أدارت برنامج اجتثاث البعث – السيد مثال آلوسي – ذاته كان يوماً بعثياً متنفذاً.. اذ عمل في المدرسة الحزبية المعروفة التي تخرجت منها كل الشخصيات البعثية القيادية. والسيد آلوسي كان يذهب الى المكتب وفي جيبه مسدس. ويقول حين يتحدث عن أيامه مع البعث: "كان البعث سحراً. حول الإنسان العادي الى شخص قوي مهم. تم إدخال الحزب الى المؤسسات الاستخبارية والأمنية. في عصر صدام، كان الانتماء للحزب ضروريا للوصول لوظائف في الدولة. وكان البعثي ملزماً بكتابة التقرير ضد الأصحاب والجيران والبعثي الآخر. " والسيد الآلوسي مثل باقي البعثيين يبدو أحيانا متشوقاً لهذا الماضي الذي يشجبه علناً...
والناس تتذكر السيد الآلوسي لانه قام باقتحام السفارة العراقية في ألمانيا مع بعض رفاقه أغسطس عام 2002 . وقضى 13 شهراً في السجن. وخرج سبتمبر 2003، وعاد الى العراق لاحقاً، رغم ان ألمانيا منعته من السفر حينذاك.. وقد أعاد السيد د. علاوي العمل بقانون من قوانين الدولة القديمة لإصدار أمر اعتقال بحق الآلوسي، بعد زيارته السيئة الصيت لإسرائيل.
ومن المحزن بالطبع ان من يدير برنامج اجتثاث البعث بعثي قديم.. ومن المأساوي ان يقوم من يدير البرنامج بزيارة إسرائيل مما سيشوه صورة البرنامج بأكمله أمام أعين شعبنا..
والسيد د. علاوي ذاته كان بعثياً قديما. ويعد اول نشاط سياسي له في غاية التطرف حتى بمقاييس الستينيات. يتذكر أحد أصدقائه، السيد رجاء، ما حدث حينذاك: عمل السيد د. اياد علاوي في تنظيم الطلبة التابع لحزب البعث. "كنا ندرس في كلية الطب. وحين ذهبنا لاداء الامتحانات النهائية، وجدنا السيد اياد مرتدياً الزي العسكري، وفي يده رشاش.. صرخ بنا: "لا اسمح لأحد بأداء الامتحانات. اليوم إضراب." شعرنا جميعاً بالخوف." وحين رفض الطلبة التعاون، ودخلوا الفصول، مؤكدين على ضرورة الفصل بين السياسة والدراسة.. قرر السيد د. علاوي ان يكف عن المعاملة الإنسانية، فقام مع رفيقه – السيد عبد المهدي – وزير الاقتصاد الحالي – باختطاف أول رهينة جامعية في تاريخ العراق الحديث، وهو عميد الكلية حينها.. وقد ذهب الرجلان للسجن، وسرعان ما خرجا بعد الانقلاب البعثي المشئوم.
وقد عمل السيد د. علاوي لاحقاً في قيادة اتحاد الطلبة في أوربا، وهي وظيفة استخبارية تطلبت منه تجنيد الشباب العراقي والعربي لمعرفة ما يدور، وكتابة التقارير عن الرافضين لسياسات الحزب في لندن. وفي يوم ما، استيقظ الضمير، وقرر السيد د. علاوي ان يكف عن كتابة التقارير.. ولكن، ونظراً لتاقلمه مع الحياة الاستخبارية، اتصل بالا م 16 ، جهاز الاستخبارات البريطاني، وحاولت المخابرات العراقية قتله حينها بالطبر سيء الصيت.
وبعد ان أعلن صدام رسمياً الحرب على الطواحين، وغزى الكويت، قام السيد د . علاوي ، بتكوين علاقة بناءة مع صالح عمر (الذي يتذكره الناس لأشرافه الدقيق وأدارته المتميزة لعمليات الإعدام العلنية للنظام البائد). وكون الرجلان تجمع الوفاق الوطني.. وأعضائه مجموعة من البعثيين القدامى الذين وصلوا لمراكز متقدمة في الحزب قبل ان يختلفوا مع صدام.
وهدف المجموعة لم يكن أبدا صناعة ديمقراطية في العراق. بل صناعة انقلاب يضع أعضاء الوفاق والبعث الجديد القريب للولايات المتحدة في قمة السلطة.
ومن الطباع التي ساهمت فيما لاقاه السيد د. علاوي من نجاح طبع التفاخر. فأصدقائه دائماً يتذكرون كيف كان يدعي انه التقى بشخصيات عالمية معروفة أبدت استعدادها لتأييده، ثم يتضح لاحقاً ان القصة مختلقة. والحق يقال: لم يقدر السيد احمد الجلبي البتة على ادعاء صلات بقوى فعالة في الداخل مثلما فعل السيد د . علاوي. وبدأت الدولارات والإسترليني بالهبوط من السماء مثل مطر لندن الغزير.
وقد استخدمت مجموعة الوفاق الوطني خلال اعوام 1994 – 1995 أساليب نسميها اليوم إرهابية.. لانها تسببت في قتل المواطن العادي. تفجيرات في دور سينما وأماكن عامة في بغداد نتج عنها قتل حوالي 100 مواطن. المفكر البريطاني المتخصص في الشأن العراقي، السيد باترك كوكبرن، يملك شريط فيديو يتحدث فيه أحد من قاموا بالتفجيرات، وهو إرهابي سفاك للدماء يدعى أبو آمنة الخادمي، يعيش اليوم في كردستان، يؤكد فيه ان الذي أمر ونظم التفجيرات هو السيد عدنان نوري، مدير الوفاق في كردستان. وهي نظرية لم تحاول مجموعة الوفاق أبدا نفيها .
وفي عام 1996، وبدعم مالي ضخم من السي آي اية، قام السيد د. علاوي اخيراً بمحاولته الانقلابية. وفشلت تماماً – لاسباب منها تحدثه عنها في الواشنطن بوست. والواقع ان المخابرات العراقية كانت قد وصلت لتلفون الاتصال بالقمر الصناعي للمجموعة باكراً. واستخدمته لإرسال معلومات خاطئة لواشنطن. وبعد النجاح في القبض على المجموعة التي خططت للانقلاب، اتصلت مخابرات النظام البائد بالتلفون لآخر مرة ، وأبلغت الأمريكان بان اللعبة انتهت.
وقد أحزنني ظهور السيد د. علاوي في محطة العربية.. فحين سأله المذيع عن أسباب المصافحة المشهورة، قال انه لم يكن يعرف من. ولكن، حتى لو عرف، لصافح.. وعد عدم المصافحة "تخلفاً".. اما مدينة الفلوجة.. فلتصافحها الصواريخ والقنابل. هذا هو التحضر بعينه!!!
ومن نافل القول ان الفلوجة قدمت للعراق شخصيات مثل عبد السلام وعبد الرحمن عارف، حاربها السيد د. علاوي في الستينيات، وسرق البعث في نهاية المطاف السلطة منها. وهم اليوم يكملون العمل الذي بدءوه حينذاك ويدمرون هذه المدينة.
وحين أدرك البعث ان بريمر لن يتحالف معه، صارت عمليات النهب في بغداد اكثر تنظيماً. بل ونهُبت حينذاك مخازن أسلحة الجيش العراقي.
وحين تتم عمليات قتل الشرطة العراقية الجديدة، ندرك ان من وراء هذه العمليات البعث.. لا القوى الإسلامية. فتلك القوى لا تبيح سفك دم المسلم.. ولكن البعث يعتبر هؤلاء عملاء ويبرر قتلهم بيسر. أسأل اي بعثي، وسيقول لك ان العمليات ضد الشرطة العراقية تتميز بطابع بعثي واضح في أسلوبها.
أقول في الختام، مشكلة البعث ليست خللأ في فكرة بعينها، بقدر ما تكمن في استعداد تام لسفك الدماء، وعدم احترام آراء الأكثرية، في سبيل تحقيق قيماً يؤمنون بها. لابد لنا في نهاية المطاف من محاربة المبدأ الأساسي الأكثر سوءاً في الفكر البعثي، وهو مبدأ ان الغاية تبرر الوسيلة.. مهما كانت دموية.
ولابد كذلك من محاربة كل فكر يستبيح سفك الدماء في سبيل قيم بعينها، مهما بدت جميلة ومثالية على الورق.
وكل عام وانتم بخير
المحجوب.
من مصادر المقالة:
The strongman of Baghdad
مجلة: spectator
13 نوفمبر 2004.
Letter from Iraq
John Lee Anderson
8 – 11 - 2004-
The New Yorker