نظرة عامة في العبادات - محمد باقر الصدر -
نظرة عامة في العبادات
آية اللّه الشهيد السيد محمد باقر الصدر
--------------------------------------------------------------------------------
العبادة حاجة انسانية ثابتة
تـعدد العبادات لها دور كبير في الاسلام , واحكامها تمثل جزءا مهما من الشريعة ,والسلوك العبادي يشكل ظاهرة ملحوظة في الحياة اليومية للانسان المتدين .
ونـظـام العبادات في الشريعة الاسلامية يمثل احد اوجهها الثابتة التي لا تتاثر بطريقة الحياة العامة وظـروف الـتـطور المدني في حياة الانسان الا بقدر يسير, خلافا لجوانب تشريعية اخرى مرنة ومـتـحـركـة , يـتـاثر اسلوب تحقيقها وتطبيقها بظروف التطور المدني في حياة الانسان , كنظام المعاملات والعقود .
ففي المجال العبادي يصلي انسان عصر الكهرباء والفضاء ويصوم ويحج كما كان يصلي ويصوم ويحج سلفه في عصر الطاحونة اليدوية .
صـحـيـح انـه في الجانب المدني من التحضير للعبادة قد يختلف هذا عن ذاك , فهذا يسافرالى الحج بـالـطـائرة , وذلك كان يسافر ضمن قافلة من الابل , وهذا يستر جسده في الصلاة بملابس مصنعة انـتجتها الالة وذاك يستر جسمه بملابس نسجها بيده , ولكن صيغة العبادة العامة وطريقة تشريعها واحدة , وضرورة ممارستها ثابتة لم تتاثر ولم تتزعزع قيمتها التشريعية بالنمو المستمر لسيطرة الانسان على الطبيعة ووسائل عيشه فيها.
وهـذا يـعـنـي ان الـشريعة لم تعط الصلاة والصيام والحج والزكاة وغير ذلك من عبادات الاسلام كوصفة موقوتة , وصيغة تشريعية محدودة بالظروف التي عاشتها في مستهل تاريخها, بل فرضت تلك الـعبادات على الانسان وهو يزاول عملية تحريك الالة بقوى الذرة كما فرضتها على الانسان الذي كان يحرث الارض بمحراثه اليدوي .
ونستنتج من ذلك ان نظام العبادات يعالج حاجة ثابتة في حياة الانسان خلقت معه وظلت ثابتة في كيانه , عـلـى الرغم من التطور المستمر في حياته , لان العلاج بصيغة ثابتة يفترض ان الحاجة ثابتة , ومن هنا يبرز السؤال التالي : هل هناك حقا حاجة ثابتة في حياة الانسان منذ بدات الشريعة دورها التربوي للانسان ,وظلت حاجة انـسانية حية باستمرار الى يومنا هذا, لكي نفسر على اساس ثباتها ثبات الصيغ التي عالجت الشريعة بـمـوجـبـهـا تـلك الحاجة واشبعتها, وبالتالي نفسر استمرارالعبادة في دورها الايجابي في حياة الانسان ؟ وقـد يبدو بالنظرة الاولى ان افتراض حاجة ثابتة من هذا القبيل ليس مقبولا, ولا ينطبق على واقع حـيـاة الانـسـان حـيـن نقارن بين انسان اليوم وانسان الامس البعيد, لاننا نجد ان :الانسان يبتعد ـ بـاستمرار ـ بطريقة حياته ومشاكلها وعوامل تطورها عن ظروف مجتمع القبيلة الذي ظهرت فيه الـشـريعة الخاتمة , ومشاكله الوثنية وهمومه وتطلعاته المحدودة . وهذا الابتعاد المستمر يفرض تـحـولا اساسيا في كل حاجاته وهمومه ومتطلباته , وبالتالي في طريقة علاج الحاجات وتنظيمها, فكيف بامكان العبادات بنظامها التشريعي الخاص ان تؤدي دورا حقيقيا على هذه الساحة الممتدة زمنيا مـن حـيـاة الانسانية , على الرغم من التطور الكبير في الوسائل واساليب الحياة . ولئن كانت عبادات كـالـصـلاة والوضوء والغسل والصيام مفيدة في مرحلة ما من حياة الانسان البدوي , لانها تساهم في تـهـذيـب خـلـقه والتزامه العملي بتنظيف بدنه وصيانته من الافراط في الطعام والشراب , فان هذه الاهـداف تحققها للانسان الحديث اليوم طبيعة حياته المدنية واسلوب معيشته اجتماعيا. فلم تعد تلك العبادات حاجة ضرورية كماكانت في يوم من الايام , ولم يبق لها دور في بناء حضارة الانسان او حل مشاكله الحضارية .
ولـكن هذه النظرة على خطا, فان التطور الاجتماعي في الوسائل والادوات , وتحول المحراث في يـد الانـسـان الـى آلـة يحركها البخار او يديرها الكهرباء, انما يفرض التغير في علاقة الانسان بالطبيعة وما تتخذه من اشكال مادية , فكل ما يمثل علاقة بين الانسان والطبيعة , كالزراعة التي تمثل علاقة بين الارض والمزارع , تتطور شكلا ومضمونا من الناحية المادية تبعا لذلك .
وامـا العبادات فهي ليست علاقة بين الانسان والطبيعة لتتاثر بعوامل هذا التطور, وانماهي علاقة بـين الانسان وربه , ولهذه العلاقة دور روحي في توجيه علاقة الانسان باخيه الانسان , وفي كلا هـذيـن الـجـانبين نجد ان الانسانية على مسار التاريخ تعيش عددا من الحاجات الثابتة التي يواجهها انسان عصر الزيت وانسان عصر الكهرباء على السواء.
ونـظـام الـعـبادات في الاسلام علاج ثابت لحاجات ثابتة من هذا النوع ولمشاكل ليست ذات طبيعة مـرحـلـية , بل تواجه الانسان في بنائه الفردي والاجتماعي والحضاري باستمرار, ولا يزال هذا الـعـلاج الـذي تعبر عنه العبادات حيا في اهدافه حتى اليوم ,وشرطا اساسيا في تغلب الانسان على مشاكله ونجاحه في ممارساته الحضارية .
ولـكي نعرف ذلك بوضوح يجب ان نشير الى بعض الخطوط الثابتة من الحاجات والمشاكل في حياة الانسان , والدور الذي تمارسه العبادات في اشباع تلك الحاجات والتغلب على هذه المشاكل .
وهذه الخطوط هي كما يلي :
1 ـ الحاجة الى الارتباط بالمطلق
2 ـ الحاجة الى الموضوعية في القصد وتجاوز الذات .
3 ـ الحاجة الى الشعور الداخلي بالمسؤولية كضمان للتنفيذ.
واليكم تفصيل هذه الخطوط: الحاجة الى الارتباط بالمطلق . نظام العبادات طريقة في تنظيم المظهر العملي لعلاقة الانسان بربه , ولهذا لا ينفصل عندتقييمه عن تقييم هذه العلاقة بالذات ودورها في حياة الانسان , ومن هنا يترابطالسؤالان التاليان : اولا: مـا هي القيمة التي تحققها علاقة الانسان بربه لهذا الانسان في مسيرته الحضارية ؟وهل هي قـيـمة ثابتة تعالج حاجة ثابتة في هذه المسيرة او قيمة مرحلية ترتبط بحاجات موقوتة او مشاكل محدودة , وتفقد اهميتها بانتهاء المرحلة التي تحدد تلك الحاجات والمشاكل ؟.
ثـانـيـا: ما هو الدور الذي تمارسه العبادات بالنسبة الى تلك العلاقة ومدى اهميتها بوصفهاتكريسا عمليا لعلاقة الانسان باللّه ؟ وفيما ياتي موجز من التوضيح اللازم فيما يتعلق بهذين السوالين
الارتباط بالمطلق مشكلة ذات حدين
قـد يجد الملاحظ ـ وهو يفتش الادوار المختلفة لقصة الحضارة على مسرح التاريخ ـ ان المشاكل مـتـنـوعـة والهموم متباينة في صيغها المطروحة في الحياة اليومية , ولكننا اذاتجاوزنا هذه الصيغ ونـفـذنـا الـى عـمـق المشكلة وجوهرها استطعنا ان نحصل من خلال كثير من تلك الصيغ اليومية الـمتنوعة على مشكلة رئيسية ثابتة ذات حدين او قطبين ,متقابلين , يعاني الانسان منهما في تحركه الحضاري على مر التاريخ , وهي من زاوية تعبر عن مشكلة : الضياع واللاانتماء, وهذا يمثل الجانب السلبي من المشكلة , ومن زاوية اخرى تعبر عن مشكلة الغلو في الانتماء والانتساب بتحويل الحقائق الـنـسـبية التي ينتمي اليها الى مطلق , وهذا يمثل الجانب الايجابي من المشكلة . وقد اطلقت الشريعة الـخاتمة على المشكلة الاولى اسم : الالحاد, باعتباره المثل الواضح لها, وعلى المشكلة الثانية اسم : الوثنية والشرك , باعتباره المثل الواضح لها ايضا, ونضال الاسلام المستمر ضد الالحاد والشرك هو في حقيقته الحضارية نضال ضد المشكلتين بكامل بعديهما التاريخيين .
وتـلتقي المشكلتان في نقطة واحدة اساسية , وهي : اعاقة حركة الانسان في تطوره عن الاستمرار الخلاق المبدع الصالح , لان مشكلة الضياع تعني بالنسبة الى الانسان انه صيرورة مستمرة تائهة , لا تـنـتمي الى مطلق , يسند اليه الانسان نفسه في مسيرته الشاقة الطويلة المدى , ويستمد من اطلاقه وشـمـولـه الـعون والمد والرؤية الواضحة للهدف ,ويربط من خلال ذلك المطلق حركته بالكون , بـالوجود كله , بالازل والابد, ويحددموقعه منه وعلاقته بالاطار الكوني الشامل . فالتحرك الضائع بدون مطلق تحرك عشوائي كريشة في مهب الريح , تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثر فيها, وما من ابـداع وعـطـاء فـي مـسيرة الانسان الكبرى على مر التاريخ الا وهو مرتبط بالاستناد الى مطلق , والالتحام معه في سير هادف .
غـير ان هذا الارتباط نفسه يوجه من ناحية اخرى الجانب الاخر من المشكلة , اي مشكلة الغلو في الانتماء بتحويل النسبي الى مطلق , وهي مشكلة تواجه الانسان باستمرار, اذ ينسج ولاءه لقضية لكي يـمـده هذا الولاء بالقدرة على الحركة ومواصلة السير, الا ان هذا الولاء يتجمد بالتدريج ويتجرد عـن ظروفه النسبية التي كان صحيحاضمنها, وينتزع الذهن البشري منه مطلقا لا حد له , ولا حد لـلاسـتـجـابـة الى مطالبه ,وبالتعبير الديني يتحول الى اله يعبد بدلا عن حاجة يستجاب لاشباعها.
وحـيـنـمـا يـتـحول النسبي الى مطلق الى اله من هذا القبيل يصبح سببا في تطويق حركة الانسان , وتـجـمـيـدقـدراتـها على التطور والابداع , واقعاد الانسان عن ممارسة دوره الطبيعي المفتوح في المسيرة : (لا تجعل مع اللّه الها آخر فتقعد مذموما مخذولا).الاسراء: 22.
وهذه حقيقة صادقة على كل الالهة التي صنعها الانسان عبر التاريخ سواء كان قد صنعه في المرحلة الـوثـنـية من العبادة , او في المراحل التالية , فمن القبيلة الى العلم نجد سلسلة من الالهة التي اعاقت الانسان بتاليهها, والتعامل معها كمطلق عن التقدم الصالح .
نـعـم من القبيلة التي كان الانسان البدوي يمنحها ولاءه باعتبارها حاجة واقعية بحكم ظروف حياته الخاصة , ثم غلا في ذلك , فتحولت لديه الى مطلق لا يبصر شيئا الا من خلالها, واصبحت بذلك معيقة له عن التقدم .
الـى الـعـلم الذي منحه الانسان الحديث ـ بحق ـ ولاءه , لانه شق له طريق السيطرة على الطبيعة , ولـكـنـه غلا احيانا في هذا الولاء فتحول الى ولاء مطلق , تجاوز به حدوده في خضم الافتتان به , وانتزع الانسان المفتون بالعلم منه مطلقا يعبده , ويقدم له فروض الطاعة والولاء, ويرفض من اجله كل القيم والحقائق التي لا يمكن قياسها بالامتار اورؤيتها بالمجهر.
فـكل محدود ونسبي اذا نسج الانسان منه في مرحلة ما مطلقا يربط به على هذاالاساس , يصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيدا على الذهن الذي صنعه بحكم كونه محدودا ونسبيا.
فـلابـد لـلـمسيرة الانسانية من مطلق , ولابد ان يكون مطلقا حقيقيا, يستطيع ان يستوعب المسيرة الانسانية ويهديها سواء السبيل مهما تقدمت وامتدت على خطها الطويل ,ويمحو من طريقها كل الالهة الذين يطوقون المسيرة ويعيقونها.
وبهذا تعالج المشكلة بقطبيها معا.
الايمان باللّه هو العلاج
وهـذا الـعـلاج يتمثل فيما قدمته شريعة السماء الى الانسان على الارض من عقيدة (الايمان باللّه ) بـوصفه المطلق الذي يمكن ان يربط الانسان المحدود مسيرته به , دون ان يسبب له اي تناقض على الطريق الطويل .
فـالايـمان باللّه , يعالج الجانب السلبي من المشكلة , ويرفض الضياع , والالحاد,واللاانتماء, اذ يضع الانـسـان فـي مـوضع المسؤولية وينيط بحركته وتدبيره الكون ,ويجعله خليفة اللّه في الارض .
والـخـلافة تستبطن المسؤولية والمسؤولية تضع الانسان بين قطبين : بين مستخلف يكون الانسان مسؤولا امامه , وجزاء يتلقاه تبعا لتصرفه , بين اللّه والمعاد, بين الازل والابد, وهو يتحرك في هذا المسار تحركا مسؤولا هادفا.
والايمان باللّه يعالج الجانب الايجابي من المشكلة ـ مشكلة الغلو في الانتماء التي تفرض التحدد على الانسان , وتشكل عائقا عن اطراد مسيرته ـ وذلك على الوجه التالي : اولا: ان هـذا الـجـانـب من المشكلة كان ينشا من تحويل المحدود والنسبي الى مطلق خلال عملية تصعيد ذهني , وتجريد للنسبي من ظروفه وحدوده . واما المطلق الذي يقدمه الايمان باللّه للانسان .
فـهـو لم يكن من نسيج مرحلة من مراحل الذهن الانساني ,ليصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيدا على الذهن الذي صنعه . ولم يكن وليد حاجة محدودة لفرد او لفئة , ليتحول بانتصابه مطلقا الى سلاح بيد الفرد او الفئة , لضمان استمرار مصالحها غير المشروعة . فاللّه سبحانه وتعالى مطلق لا حدود لـه , ويـسـتـوعب بصفاته الثبوتية كل المثل العليا للانسان الخليفة على الارض , من ادراك , وعلم , وقـدرة وقـوة , وعـدل , وغـنـى . وهـذا يـعـنـي ان الـطريق اليه لا حد له . فالسير نحوه يفرض التحرك باستمرار وتدرج النسبي نحو المطلق بدون توقف : : (يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه ). الانشقاق : 6.
ويعطي لهذا التحرك مثله العليا المنتزعة من الادراك والعلم والقدرة والعدل , وغيرها من صفات ذلك الـمـطـلق , الذي تكدح المسيرة نحوه . فالسير نحو مطلق , كله علم , وكله قدرة , وكله عدل , وكله غـنـى , يعني ان تكون المسيرة الانسانية كفاحا متواصلاباستمرار, ضد كل جهل , وعجز, وظلم , وفقر.
ومـا دامـت هذه هي اهداف المسيرة المرتبطة بهذا المطلق , فهي اذن ليست تكريسا للاله ,وانما هي جهاد مستمر من اجل الانسان وكرامة الانسان وتحقيق تلك المثل العليا له .
:(ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه ان اللّه لغنى عن العالمين ). العنكبوت : 6.
:(فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فانما يضل عليها). الزمر: 41.
وعـلـى العكس من ذلك , المطلقات الوهمية والالهة المزيفة فانها لا يمكن ان تستوعب المسيرة بكل تطلعاتها, لان هذه المطلقات المصطنعة وليدة ذهن الانسان العاجز, اوحاجة الانسان الفقير, او ظلم الانـسـان الـظـالم , فهي مرتبطة عضويا بالجهل والعجزوالظلم , ولا يمكن ان تبارك كفاح الانسان المستمر ضدها.
ثانيا: ان الارتباط باللّه تعالى بوصفه المطلق الذي يستوعب تطلعات المسيرة الانسانية كلها يعني في الـوقـت نفسه رفض كل تلك المطلقات الوهمية التي كانت تشكل ظاهرة الغلو في الانتماء, وخوض حـرب مـسـتـمـرة ونضال دائم ضد كل الوان الوثنية والتاليه المصطنع . وبهذا يتحرر الانسان من سراب تلك المطلقات الكاذبة , التي تقف حاجزادون سيره نحو اللّه وتزور هدفه وتطوق مسيرته .
:(والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى اذا لم يجده شيئا ووجداللّه عنده ).
النور: 39.
:(ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل اللّه بها من سلطان ).يوسف : 40.
:(اارباب متفرقون خير ام اللّه الواحد القهار). يوسف : 39.
:(ذلكم اللّه ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير). فاطر:13.
ونـحـن اذا لا حـظنا الشعار الرئيسي الذي طرحته السماء بهذا الصدد: (لا اله الا اللّه ), نجدانها قـرنـت فـيـه بين شد المسيرة الانسانية الى المطلق الحق , ورفض كل مطلق مصطنع وجاء تاريخ المسيرة في واقع الحياة على مر الزمن ليؤكد الارتباط العضوي بين هذاالرفض وذلك الشد الوثيق الـواعـي الـى اللّه تعالى , فبقدر ما يبتعد الانسان عن الاله الحق ينغمس في متاهات الالهة والارباب الـمـتـفـرقين . فالرفض والاثبات المندمجان في (لا اله الا اللّه ) هما وجهان لحقيقة واحدة , وهي حـقـيقة لا تستغني عنها المسيرة الانسانية على مدى خطها الطويل , لانها الحقيقة الجديرة بان تنقذ المسيرة من الضياع , وتساعد على تفجير كل طاقاتها المبدعة , وتحررها من كل مطلق كاذب معيق .
العبادات هي التعبير العملي
وكـما ولد الانسان وهو يحمل كل امكانات التجربة على مسرح الحياة , وكل بذورنجاحها من رشد وفـاعلية وتكليف , كذلك ولد مشدودا بطبيعته الى المطلق , لان علاقته بالمطلق احد مقومات نجاحه وتغلبه على مشاكله في مسيرته الحضارية كما راينا, ولاتوجد تجربة اكثر امدادا وارحب شمولا واوسـع مـغـزى مـن تـجربة الايمان في حياة الانسان , الذي كان ظاهرة ملازمة للانسان منذ ابعد الـعصور وفي كل مراحل التاريخ ,فان هذا التلازم الاجتماعي المستمر يبرهن ـ تجريبيا ـ على ان الـنـزوع الى المطلق ,والتطلع اليه وراء الحدود التي يعيشها الانسان اتجاه اصيل في الانسان , مهما اختلفت اشكال هذا النزوع , وتنوعت طرائقه ودرجات وعيه .
ولكن الايمان كغريزة لا يكفي ضمانا لتحقيق الارتباط بالمطلق بصيغته الصالحة , لان ذلك يرتبط في الـحقيقة بطريقة اشباع هذه الغريزة واسلوب الاستفادة منها, كما هي الحال في كل غريزة اخرى , فـان التصرف السليم في اشباعها على نحو مواز لسائرالغرائز والميول الاخرى ومنسجم معها هو الـذي يـكـفـل المصلحة النهائية للانسان , كما ان السلوك وفقا لغريزة او ضدها هو الذي ينمي تلك الـغـريـزة ويعمقها او يضمرها ويخنقهافبذور الرحمة والشفقة تموت في نفس الانسان من خلال التعاطف العملي المستمر مع البائسين والمظلومين والفقراء.
ومن هنا كان لابد للايمان باللّه والشعور العميق بالتطلع نحو الغيب والانشداد الى المطلق , لابد لذلك من توجيه يحدد طريقة اشباع هذا الشعور, ومن سلوك يعمقه ويرسخه على نحو يتناسب مع سائر المشاعر الاصلية في الانسان .
وبدون توجيه قد ينتكس هذا الشعور ويمنى بالوان الانحراف , كما وقع بالنسبة الى الشعور الديني غير الموجه في اكثر مراحل التاريخ .
وبـدون سـلـوك مـعـمق قد يضمر هذا الشعور, ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الانسان , وقادرة على تفجير طاقاته الصالحة .
والدين الذي طرح شعار: (لا اله الا اللّه ), ودمج فيه الرفض والاثبات معا هو الموجه .
والعبادات هى التي تقوم بدور التعمق لذلك الشعور, لانها تعبير عملي وتطبيقي لغريزة الايمان , وبها تنمو هذه الغريزة وتترسخ في حياة الانسان .
ونـلاحظ ان العبادات الرشيدة بوصفها تعبيرا عمليا عن الارتباط بالمطلق يندمج فيهاعمليا الاثبات والرفض معا, فهي تاكيد مستمر من الانسان من الارتباط باللّه تعالى ,وعلى رفض اي مطلق آخر من المطلقات المصطنعة فالمصلي حين يبدا صلاته ب (اللّه اكبر) يؤكد هذا الرفض , وحين يقيم في كل صـلاة نـبـيـه بـانه عبده ورسوله يؤكد هذاالرفض , وحين يمسك عن الطيبات ويصوم حتى عن ضرورات الحياة من اجل اللّه متحديا الشهوات وسلطانها يؤكد هذا الرفض .
وقد نجحت هذه العبادات في المجال التطبيقي تربية اجيال من المؤمنين , على يد النبي (ص ) والائمة الابـرار مـن بعده , الذين جسدت صلاتهم في نفوسهم رفض كل قوى الشروهوانها, وتضاءلت امام مسيرتهم مطلقات كسرى وقيصر وكل مطلقات الوهم الانساني المحدود.
عـلى هذا الضوء نعرف ان العبادة ضرورة ثابتة في حياه الانسان ومسيرته الحضارية , اذلا مسيرة بـدون مـطـلـق تنشد اليه وتستمد منه مثلها, ولا مطلق يستطيع ان يستوعب المسيرة على امتدادها الـطـويل , سوى المطلق الحق سبحانه , وما سواه من مطلقات مصطنعة يشكل حتما بصورة واخرى عـائقـا عـن نـمـو المسيرة . فالارتباط بالمطلق الحق اذن حاجة ثابتة , ورفض غيره من المطلقات الـمـصـطـنـعة حاجة ثابتة ايضا, ولا ارتباطيؤكده ويرسخه باستمرار, وهذا التعبير العملي هو العبادة . فالعبادة اذن حاجة ثابتة .
الموضوعية في القصد وتجاوز الذات
فـي كـل مـرحلة من مراحل الحضارة الانسانية وفي كل فترة من حياة الانسان يواجه الناس مصالح كثيرة , يحتاج تحقيقها الى عمل وسعي بدرجة واخرى , ومهما اختلفت نوعية هذه المصالح وطريقة تحقيقها من عصر الى عصر ومن فترة الى اخرى فهي دائمابالامكان تقسيمها الى نوعين من المصالح : احدهما مصالح تعود مكاسبها وايجابياتها المادية الى نفس الفرد الذي يتوقف تحقيق تلك المصلحة على عمله وسعيه .
والاخر: مصالح تعود مكاسبها الى غير العامل المباشر, او الى الجماعة الذين ينتسب اليهم هذا العامل , ويـدخـل في نطاق النوع الثاني كل الوان العمل التي تنشد هدفا اكبر من وجود العامل نفسه , فان كل هدف كبير لا يمكن عادة ان يتحقق الا عن طريق تظافرجهود واعمال على مدى طويل .
والنوع الاول من المصالح يضمن الدافع الذاتي لدى الفرد في الغالب توفيره والعمل في سبيله , فما دام الـعـامـل هو الذي يقطف ثمار المصلحة وينعم بها مباشرة , فمن الطبيعي ان يتواجد لديه القصد اليها والدافع للعمل من اجلها.
وامـا النوع الثاني من المصالح فلا يكفي الدافع لضمان تلك المصالح , لان المصالح هنا لاتخص الفرد الـعـامـل , وكـثـيـرا ما تكون نسبة ما يصيبه من جهد وعناء اكبر كثيرا من نسبة مايصيبه من تلك المصلحة الكبيرة . ومن هنا كان الانسان بحاجة الى تربية على الموضوعية في القصد وتجاوز للذات في الدوافع , اي على ان يعمل من اجل غيره , من اجل الجماعة . وبتعبير آخر: من اجل هدف اكبر من وجـوده ومـصالحه المادية الخاصة .وهذه تربية ضرورية لانسان عصر الذرة والكهرباء, كما هي ضـروريـة لـلانسان الذي كان يحارب بالسيف ويسافر على البعير على السواء, لانهما معا يواجهان هـمـوم الـبـنـاءوالاهـداف الـكبيرة والمواقف التي تتطلب تناسي الذات والعمل من اجل الاخرين , وبـذرالـبذور التي قد لا يشهد الباذر ثمارها. فلابد اذن من تربية كل فرد على ان يؤدي قسطامن جهده وعمله لا من اجل ذاته ومصالحها المادية الخاصة , ليكون قادرا على العطاءوعلى الايثار وعلى القصد الموضوعي النزيه .
والـعبادات تقوم بدور كبير في هذه التربية الضرورية , لانها كما مر بنا اعمال يقوم بهاالانسان من اجـل اللّه سبحانه وتعالى , ولا تصح اذا اداها العابد من اجل مصلحة من مصالحه الخاصة , ولا تسوغ اذا اسـتـهـدف من ورائها مجدا شخصيا وثناء اجتماعياوتكريسا لذاته في محيطه وبيئته , بل تصبح عـمـلا مـحـرما, يعاقب عليه هذا العابد, كل ذلك من اجل ان يجرب الانسان من خلال العبادة القصد الـموضوعي , بكل ما في القصدالموضوعي من نزاهة واخلاص واحساس بالمسؤولية , فياتي العابد بعبادته من اجل اللّه سبحانه وفي سبيله باخلاص وصدق .
وسبيل اللّه هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الانسان , لان كل عمل من اجل اللّه فانما هو من اجل عباد اللّه , لان اللّه هو الغني عن عباده . ولما كان الاله الحق المطلق فوق اى حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيز له الى جهة , كان سبيله دائما يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء.
فـالـعـمل في سبيل اللّه ومن اجل اللّه هو العمل من اجل الناس ولخير الناس جميعا, وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك .
وكـلـما جاء سبيل اللّه في الشريعة امكن ان يعني ذلك تماما سبيل الناس اجمعين , وقدجعل الاسلام سـبـيـل اللّه احد مصارف الزكاة , واراد به الانفاق لخير الانسانية ومصلحتها, وحث على القتال في سـبـيل المستضعفين من بني الانسان , وسماه قتالا في سبيل اللّه : (وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه والمستضعفين من الرجال والنساءوالولدان ). النساء: 75.
واذا عـرفـنـا الى جانب ذلك ان العبادة تتطلب جهودا مختلفة من الانسان , فاحيانا تفرض عليه جهدا جسديا فحسب كما في الصلاة , واحيانا جهدا نفسيا كما في الصيام , وثالثة جهدا ماليا كما في الزكاة , ورابعة جهدا غالبا على مستوى التضحية بالنفس او المخاطرة بها كما في الجهاد..
اذا عرفنا ذلك استطعنا ان نستنتج عمق وسعة التدريب الروحي والنفسي , الذي يمارسه الانسان من خـلال الـعبادات المتنوعة .. على القصد الموضوعي وعلى البذل والعطاء,وعلى العمل من اجل هدف اكبر في كل الحقول المختلفة للجهد البشري .
وعـلـى هذا الاساس تجد الفرق الشاسع بين انسان نشا على بذل الجهد من اجل اللّه ,وتربى على ان يـعـمل بدون انتظار التعويض على ساحة العمل , وبين انسان نشا على ان يقيس العمل دائما بمدى ما يحققه من مصلحة , ويقيمه على اساس ما يعود به عليه من منفعة , ولا يفهم من هذا القياس والتقييم الا لـغـة الارقام واسعار السوق , فان شخصا من هذا القبيل لن يكون في الاغلب الا تاجرا في ممارساته الاجتماعية , مهما كان ميدانهاونوعها.
واهتماما من الاسلام بالتربية على القصد الموضوعي , ربط دائما بين قيمة العمل ودوافعه , وفصلها عـن نـتـائجـه . فـليست قيمة العمل في الاسلام بما يحققه من نتائج ومكاسب وخير للعامل او للناس اجـمعين , بل بما ينشا عنه من دوافع ومدى نظافتهاوموضوعيتها وتجاوزها للذات . فمن يتوصل الى اكـتـشـاف دواء مرض خطير وينقذبذلك الملايين من المرضى , لا تقدر قيمة هذا العمل عند اللّه سبحانه وتعالى بحجم نتائجه وعدد من انقذهم من الموت , بل الاحاسيس والمشاعر والرغبات التي شـكـلـت لدى ذلك المكتشف الدافع الى بذل الجهد من اجل ذلك الاكتشاف , فان كان لم يعمل ولم يبذل جـهـده الا مـن اجـل ان يحصل على امتياز يتيح له ان يبيعه ويربح الملايين , فعمله هذا يساوي في الـتـقـيـيـم الرباني اى عمل تجاري بحت , لان المنطق الذاتي للدوافع الشخصية كما قد يدفعه الى اكـتـشـاف دواء مرض خطير يدفعه ايضا بنفس الدرجة الى اكتشاف وسائل الدمار, اذا وجد سوقا تـشـتـري منه هذه الوسائل . وانما يعتبر العمل فاضلا ونبيلا اذا تجاوزت دوافعه الذات وكان في سبيل اللّه وفي سبيل عباد اللّه , وبقدرما يتجاوز الذات ويدخل سبيل اللّه وعباده في تكوينه يسمو العمل وترتفع قيمته .