اسس البناءات الموضوعيه للتفسير
اذن ما نتوخاه من هذا البحث هو الكشف عن ماهيه هذا المنهج المطلوب , ملامحه , اشكاله , ضوابطه ,والاهم من كل ذلك غايته او غاياته , وان لم يكن هذا البحث وافيا في هذا الكشف وطرح المضامين -لصعوبه الاحتواء - فحسبه دالا على ضروره اتخاذ مثل هذا المنهج واهميه دراسته وشرف غاياته . ولا تبرز غايات هذا المنهج الا عن فهم الحاجه الملحه لاعاده النظر في دور علم التفسير والمفسر , فصحيح ان التفسير ليس ملزما باستخراج نظريات , لكنه في نفس الوقت وحيال المستجدات على الساحه الفكريه والمتغيرات الواقعيه فهو ملزم بايجاد الاسس التفسيريه الكفيله لبناء النظريات , مثلما هو ملزم بتحديد الضوابط العامه لبناء النظريات ..الافق المؤطر لحركه هذه النظريات , وهكذا فان غايات هذا المنهج كثيره ومتشعبه اهمها تحريك عمليه التفسير نحو اهداف حقيقيه جديده وبالتالي تعديل دور المفسر من مستنبط للمعاني القرانيه فقط الى مستنبط لهذه المعاني وواضع اسس ابنيه جديده تـُأسس على هذه المعاني ,دور مزدوج بين التلقي والالقاء , الاصغاء والطرح . نعم ,المقصود الاول والاساس هو اظهار معنى كلام الخالق تعالى اسمه او المراد منه ,لكن الوقوف على هذا المقصد ليس محتوما بالضروره ,بل هو الجانب السلبي في عمليه التفسير فالهدف الاخر هو توظيف هذا المراد لغرض الاستفاده منه في الحياه الفكريه والعمليه , وبمعنى اخر ان المدلول المستنبط في عمليه التفسير ليس موقوفا على كيفيه استخراجه بل ممهدا لما يصلح له من معاني تتفرع منه او ترتبط به وبالتالي يشكل هذا المدلول بدايه حركه تفسيريه جديده تشكل خلال صياغتها وتفاعلها مع غيرها من المدلولات اسس بناء نظريه قرانيه لجانب من جوانب الحياه وتوليد اتجاه تفسيري يبدأ من القران وينتهي بالواقع ,بيد ان الاستفراغ الجهدي الذي يجعجع بالمفسر نحو البحث القراني الخالص يعفيه من بناء نظريه قرانيه - واقعيه ويقتصر منه ببيان الاسس والقواعد التي تبنى على اساسها تلك النظريات التي ياخذ بزمامها المفكرون الاسلاميون , وهكذا يحقق علم التفسير عبر هذا المنهج فائدته الاساسيه باعتباره اساس بناء الفكر الاسلامي او هو الماده الاولى لمجمل البحوث والدراسات والنظريات الاسلاميه , كما ان من غاياته انشاء حاله جديده من الوعي التفسيري تتناسب مع ضروره الارتقاء بهذا العلم الجليل ليخدم مساحه اوسع في مجالات النشاط الديني والانساني والفكري ..اسس البناءات الموضوعيه للتفسير او لنسميه ( التفسير البناءي ) هو التفسير الذي يتخذ من ايجاد اسس وضوابط بناءيه للموضوعات والنظريات الاسلاميه هدفا له مضافا لهدفه الاول (الاستنباطي ) , بل هو يلتقي معه في توحيد الاتجاهين الاستنباطي والتوظيفي , باعتبار عمليه الاستنباط تلازم عمليه التوظيف عن طريق الكشف عن مباني المعنى , والتي سنوضحها فيما سيأتي . ولهذا المنهج قابليه ايجاد منافذ جديده لاستنباط معاني ومدلولات قرانيه جديده , وله قدره على تجديد هذه الاسس والنوافذ لغرض مواكبه تطور النظريات المستجده على الساحه الاسلاميه , وهدفه الاساسي ان يتوصل التفسير عبر حركته الداخليه لايجاد قواعد عامه واسس بنائيه تخرج لحيز الواقع المعاش ومتغيراته , منافذ قرانيه -واقعيه , وحركته العمليه تتجه نحو البحث عن الروابط التي تربط بين المعاني والمدلولات والمحاور لغرض جعلها اسس بنائيه وهذ الحركه تتخذ اشكال تتجه بكل سبلها نحو الهدف المقرر والاشكال هي :المحوريه -التحويليه -البنائيه وسأشرح ماهيه الحركه المحوريه فقط على ان اعود لبيان الحركتين التحويليه والبنائيه مستقبلا اذا اراد الله تعالى ذلك وتيسرت الظروف الملائمه حيث ما زلت افتقد للكثير من المصادر المهمه التي استعين بها كنماذج تصلح للتطبيق .
الحركه المحوريه
هذه الحركه تأخذ الايه باعتبارها محورا لكثير من الايات التي تدور في محيطها العام وترتبط معها بروابط معينه تحمل مباني المعنى او المعاني لهذه الايه -المحور- كما تحمل اتجاهات اسس البناءات الموضوعيه عن طريق استخراج الدلالات المتشكله من هذه الروابط كما تعطي مصاديق هذه الاسس عن طريق ربط هذه الدلالات فيما بينها , او ربط المعاني -ربط الايات التي تحمل مباني المعنى للايه المحور .وقد كانت الاستعانه بايات اخرى لغرض بيان معنى الايه غالبا ما تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي -كما يقول الشهيد الصدر- وهي بالكثير تستعين بايه واحده وبالقليل بايات معدوده لا تخرج عن المراد المقصود , بيد ان هذه الحركه تتجه اولا للكشف عن مباني المعنى - ويمكن للمفسر عن طريق هذا الكشف والبحث فيه استنباط المعنى الحقيقي للايه لاتمام الجانب الاول من عمليه التفسير (الاستنباط) ثم تتجه الحركه نحو استخدام هذه المباني -اي الروابط - لغرض توظيف الاسس المطلوبه , وهكذا تكون حركه العمل التفسيري ذات اتجاهين الاول :عموديا باتجاه التنقيب عن معنى الايه عن طريق المبانيوثانيا: افقيا باتجاه توظيف المباني ,توظيفا انعكاسيا يبدأ من القران ويتجه للواقع.وهنا مسائل لابد من توفرها لحصول الدقه والشموليه لهذه الحركه
1- ان تكون الايات المستعان بها هي معظم الايات التي ترتبط بالايه -المحور- بكافه اوجه الربط .. وسأبين بعض اوجه الربط لاحقا.
2- ان يكون دور المفسر سلبيا في عمليه ايجاد واستخلاص هذه الايات ,لانه في محل التجميع الكمي لا النوعي , ولان الفرز النوعي للايات لن يكون دقيقا ما لم يستوعب كل الايات المطلوبه .
3- ان يكون معنى الايات المستعان بها هو المعنى الاجمالي , او الاشاري , او الضمني , وليس بالتحديد المعنى الحقيقي .
4- ان يكون المعنى موافقا للربط باحد اوجهه
5- ان يكون المعنى موافقا لقواعد وضوابط علم التفسير المعروفه
وتوضيح هذه المسائل ان عمل المفسر في نطاق هذه الحركه يكون كما قدمنا بجعل الايه محورا يبحث من خلالها عن كافه الايات المتعلقه بها , او لنقل المعاني التفصيليه لهذه الايه والمتوزعه في ثنايا السور القرانيه ,وبقول اخر ان منهجيه علم التفسير القائمه على قاعده تفسير القران بالقران تـُطبق من خلال تفسير الايه بكافه الايات المتعلقه بها ولا تاخذ الجانب اللفظي فقط , كما لاتقف عند حود المعنى المستخرج من خلال هذا الجانب , بل توظف بقيه المعاني لايجاد منافذ خارجيه هي اساس البناء الموضوعي -او بالاصح- هي القواعد العامه لهذا الاساس , ولا نحسب ان هذه الحركه هي خروج عن قاعده تفسير القران بالقران بل هي تعطيها مساحه اوسع مما فهمها الكثير من المفسرين وحصروها بنطاق ضيق ومحدود , ودور المفسر في هذا التجميع للكم الاياتي لا بد منه ان يكون سلبيا -اي دون فروضات مسبقه عن معنى الايه- مهما كانت ماهيه هذه الفروض ومصادرها ,وأؤكد على المصادر لان غالبيه المفسرين مع وجود مصدر روائي نراهم يقفون عند حدود هذا المصدر -او المأثور- باعتبار ان هذا النص لايمكن تجاوزه او ابداء الرأي فيه وبالتالي يقفلون حركه التفسير نحو الاتجاهات الاخرى التي قد - بل هي بالتاكيد - لن تكون في موضع التضاد مع المأثور, بل هي تتجه اتجاه اخر , فالتجميع هنا ليس قصده ابداء المعنى النهائي للايه , فالايه قد تـُفسر من خلال خلاصه معاني تلك الايات, او تفسر خلال معاني بعضها , ولا شك ان وجود الفروضات المسبقه والوقوف عندها قد اعاق عمليه الربط بين الدلالات والمفاهيم وبالتالي اغلق اتجاه الحركه التفسيريه نحو الخارج . ولما كانت معاني الايات المستعان بها هي المعاني المرتبطه بالايه -المحور- وبقول اخر ان استخدام هذه الايات هو لغرض الاستعانه بها في تحديد معنى الايه او بيان اشكال الروابط التي تربطها فليس من اللازم ان يكون المعنى المطلوب هو المعنى الحقيقي -التفصيلي او المرتبط بالسياق مثلا- بل يمكن استخدام معانيها الاخرى او ما تشير اليه الايه في احد معانيها شرط ان لا يكون هذا المعنى خارجا عن ضوابط علم التفسير.((يتبع الجزء الرابع -الروابط-))