[align=center]هكذا قتلوا الشهيد الصدر[/align]
[align=center]كتابات - جعفر الحسيني[/align]
كنا أربعة سجناء في أربع زنزانات انفرادية في أحد سجون الأمن العامة.
الزنزانة الرابعة كان فيها محمد الناطور و هو من الكوادر السورية العاملة في مجال العمليات الإرهابية التي كانت تشنها مخابرات صدام في سوريا. و يبدو أن ضميره قد صحا و حاول الهرب إلى خارج العراق مع وليد الطالب عضو مجلس الرئاسة السوري في الستينات, الذي عاد إلى بلده سوريا. لكنه لم يتمكن من الهرب, و قبضوا عليه قي تموز 1979, و وضعوه في زنزانة انفرادية, و لا أعلم بمصيره, بعد أن افترقنا في 1985. والشيء بالشيء يذكر, أن الرجل ولطول فترة السجن الانفرادي كان نصف مجنون.
الزنزانة الثالثة, كان فيها السيد محمد تقي الجلالي, المجتهد المعروف, و الذي أعدم في عام 1982 .
أما الزنزانة الثانية, فكان فيها مجيد علي السعد, و هو من مدينة الرمادي, و والده من شيوخ البوفهد بمحافظة الأنبار. و قد صمد هذا الرجل –رغم أنه كان مريضا بالقلب- صمودا بطوليا. و أوجه إليه اليوم التحية حيا كان أو ميتا لأنه كان مملوءا نبلا و شهامة.
لقد كنت في الزنزانة الأولى. و كنا نجد أحيانا فرصة أن نكلم بعضنا لدقيقة أو دقيقتين خلال إخراجنا ظهرا إلى الحمام, حيث لا توجد حمامات في الزنزانات.
ذات يوم قال لي مجيد: أريد أن أقول لك سراّ. إن الزنزانة التي أنت فيها كان فيها السيد محمد باقر الصدر. و الزنزانة التي أنا فيها كانت فيها الشهيدة بنت الهدى.
و لما سألته عن أية تفاصيل أخرى, أجابني : لا أعرف شيئاّ لأنهم كانوا يضعون بطانية تحجب الزنزانتين. و بالطبع أنا لا أدري – و الكلام لمجيد- ماذا عملوا معهم في غرف التحقيق.
إن ما أخبرني به مجيد علي السعد دلني على الشخص الذي يعرف السر. و أقصد بذلك مدير السجن الذي كنت فيه أنا و الذي كان فيه مجيد معتقلا قبلي بعامين, وتحديدا في الفترة التي كان فيها السيد الصدر قد اعتقل. وعرفت في السجن معلومات تفصيلية عن مدير السجن...اسمه, رتبته, مدينته..الخ
وسقط النظام.. و كان مدير السجن قد أحيل على التقاعد منذ فترة طويلة و من سخرية الأقدار أن هذا الجلاد قد أصبح كاتبا عن العشائر و الأنساب. و في الحقيقة إن منصبه كان أعلى من منصب مدير سجن و لكنني بناء على عهد قطعته سأشير إليه بصفته مدير السجن..
يقول مدير السجن: جاء إلى مكتبي سعدون شاكر- وزير الداخلية آنذاك وهو معتقل الآن مع صدام وعصابته- و معه مدير الأمن العام فاضل البراك- الذي أعدمه صدام عام 1989
و بحكم رتبتي وقفت عند الباب لأنفذ أوامر هما و كان هناك معي المقدم سعدون صبري الحديثي-مدير الشعبة الخامسة- و الرائد عادل إبراهيم الأعظمي ضابط التحقيق في الشعبة الخامسة.
أمر سعدون شاكر بإحضار السيد الصدر.. و أجلسناه- حسب أوامر هما- على كرسي أمامهما. و جرى الحوار التالي:
سعدون شاكر: أنا جئت من السيد الرئيس وهو ينتظرني الان... و قرار إعدامك في جيبي (أشر على جيبه).. شيء واحد يوقف ذلك. و هو أن تقرأ هذا البيان في التلفزيون ( و لوح سعدون شاكر بورقة يحملها في يده).. و تقول بأن الثورة الإيرانية هي مؤامرة صهيونية و أنها تعادي العروبة و الإسلام و تتآمر على العراق.. وأن حزب الدعوة عميل للاستعمار و الصهيونية.
فرد عليه السيد الصدر: هذا البيان لا ينفعكم لأن الناس لن يصدقوا به.. ولو قرأته فأن الناس سيعرفون بأنني قرأته بالأكراه.. و في كل الأحوال لن أقرأه مهما كان.. و لن ترتاحوا بعد قتلي.. ولن تهنوا أبدا.. قتلي سيضركم ولن ينفعكم.
فقال سعدون شاكر: أذن سنفذ بك و بأختك الإعدام فورا.
هنا ارتجف السيد قليلا و لكنه ظل متماسكا- و هذا حسب رواية مدير السجن- و رد قائلا: حسبي الله و نعم الوكيل.
عند ذاك طلب سعدون شاكر, سعدون صبري الحديثي فجاء و مساعده عادل إبراهيم الأعظمي, و اقتادا السيد الصدر و بدون أن يربطوا يديه أو يضعوا عصابة على عينيه.
كانت هناك سيارة قد وقفت بباب المكتب. اصعدوا إليها السيد الصد ر, وكان قد ازداد صلابة و تماسكا و تحديا. ثم جاءوا بشقيقته بنت الهدى. و هي أيضا لم تكن مكبلة اليدين ولا معصوبة العينين.
فسألته: ما الأمر
فأجابها: لقد قرروا إعدامنا أنا و أنت الآن
فأخذت بنت الهدى تبكي فقال لها مبتسما و بالحرف: يا أخية لا تبكين إن موعدنا الجنة.. ألا تريدين أن تذهبين إلى الجنة؟
قالت بنت الهدى: أنا أبكي عليك
فقال لها السيد الصدر: إن الموت أحب إلي مما يدعونني إليه.
هنا صعد إلى السيارة كل من سعدون الحديثي و عادل الأعظمي. كان أحدهما يقود السيارة و الآخر جالس على الكرسي الأمامي.. وانطلقوا...
هذه رواية مدير السجن لما شاهد ه بنفسه.. أما الجزء التالي فقد رواه له المقدم سعدون الحديثي..
يقول: كان السيد الصدر طيلة الطريق يرتل آيات من القرآن الكريم, و كانت بنت الهدى ترتل معه.. حتى وصلنا بسماية.. أنزلناهما.. ربطناهما على عمودين.. رفض السيد الصدر أن نغطي عينيه ولكننا غطيناهما.. كان مستمرا في قراءة القرآن و كان في قمة الصلابة والتماسك و كانت بنت الهدى في مثل تماسكه و قوته. ثم تشهد و أطلقنا عليهما النار أنا و الرائد عادل.
و اعتقد أنهم لم ينفذوا جريمتهم بالسيد الصدر في مديرية الأمن العامة لأنهم كانوا يأملون أن يراجع السيد الصدر نفسه خلال الطريق.
بقي أن أشير بسرعة إلى الجلادين الأعظمي و الحديثي. فأما الأعظمي فهو بائع سجائر سابق في سينما الأعظمية. كان يعيش مشردا منبوذا. أصبح- بعد انقلاب 17 تموز 1968- ثالث أهم ضباط في الأمن العامة و كان اسمه الأمني (الرائد عامر).
كان ينام في الأمن لعامة و يتناول وجباته الثلاث في غرفة التحقيق, فلم يكن لديه الوقت لتناول طعامه في مكان آخر. تزوج عام 1983. في عام 1986 استدرجه شخصان كانت تربطه بهما علاقة تجارية و قتلاه و قطعاه أشلاءا و دفناه في مزرعته التي منحها صدام له في أطراف بغداد. و كان دافعهما الاقتصاص لضحاياه إذ كان يتحدث أمامهما باستمرار عما فعله بهم. وللأسف إن أحدهما-و بعد عام من الحادث-اعتقل لسبب آخر و لكنه اعترف تحت التعذيب على قتلهم الجلاد و دلهم على بقايا جثته.
أما سعدون الحديثي واسمه الأمني( العميد زهير) فهو مدير الشعبة الخامسة حتى عام 1986 و هو المسئول عن قتل وإعدام عشرات آلا لاف من الأبرياء و ذات مرة استدعى – في شباط 1982- السيد محمد تقي الجلالي في نفس المكتب الذي روينا قبل قليل مقابلتهم للسيد الصدر فيه و قال للسيد الجلالي و هو يضحك: هنا تعاملنا مع بنت الهدى.. هنا حققنا معها.. و لكنها كانت بقوة أخيها.. ثم أخذ يتكلم عنها بكلمات نابية. و قد نقل لي ذلك السيد الجلالي رحمه الله.
أصبح مديرا لأمن البصرة حتى عام 1990و مديرا لأمن الكويت حتى شباط1991.
اختفى عندما انفجرت الانتفاضة عام 1991لدى صديق له في مدينة الموصل. و لكثرة جرائمه عفا عنه صدام و لم يعاقبه على اختفائه و عينه مديرا للأمن الاقتصادي و هو المسئول عن مذبحة التجار. أشرف على اغتيال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر و نجليه الشهيدين مؤمل و مصطفى و بقي بعد العملية مسئولا عن الأمن في النجف لأربعة أشهر و ليست لدي معلومات محددة عنه الآن, هناك.من يقول أنه مسجون, و هناك من بقول أنه في اليمن, وهناك من يقول أنه في البحرين في ضيافة رئيس وزرائها, و الذي تربطه به علاقة حميمة, من أيام التنسيق الأمني بين العراق و البحرين في الثمانينات. ولقد ورد ذكره في الوثائق التي عرضت في محاكمة صدام.
ملاحظات :
* أحب أن أشير إلى أن هناك أكثر من كاتب يحمل نفس الاسم واللقب (جعفر الحسيني ).. ولذلك في كل مرة سأنشر فيها مقالة سأقرن اسمي بكتابي ( على حافة الهاوية, العراق1968-2002)
* هذه المقالة هي جزء من الملاحق التي أضفتها إلى الطبعة الجديدة من كتابي (على حافة الهاوية) و التي تأجل صدورها قليلا ريثما أنتهي من كتابي القادم (بين تموزين, العراق 1958-1968 ) و الذي آمل أن يكون بين يدي القراء في الصيف القادم.
*أنني أطالب السلطة العراقية الحالية أن تحقق مع سعدون شاكر- المعتقل الآن مع صدام وعصابته- عن جريمة استشهاد السيد الصدر و أظن أنه يعرف أين دفنت الشهيدة بنت الهدى.ش
كتابات