د. جمال حسين: البصرة كما كانت كما هي الآن
البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن - 1
الأنواء البصرية الأولى في تشطيب المعالم الممحوة والمندثرة
البصرة ـ د. جمال حسين:
تطلب الأمر نحو سنتين لكي نقرّ بأن البصرة التي تعرفونها، قد تغيرت جدا، إلى لدرجة لا يمكن اللحاق بحقائق اندثار معالمها وتحطيم إنائها وتلاشي غنائها وطمر جمالها وعتمة وهجها.
سنتان، نمني النفس بعدم تصديق العين والتلاعب بالشعور بأن هذا المحجر ليس هو المدينة الفرحة للغاية، وإن شقوقها ليست سوى ندوب شيخوخة طبيعية.
سنتان نؤجل الحديث عنها والاقتراب منها، فالبصرة ليست فضولاً ولا مشروعاً للكتابة، بل النافذة والشجرة وندى الطفولة ولحاء الصبا والشباب المصقول بالمدينة التي كانت كلها، بمن فيها: صح!
ونظن ان الحين قد أزف لفتح ملفات وجعها وجفافها ومائها الخابط وبساتينها المجدبة ونفطها المهرب وحلمها المسروق، جنائنها المتصحرة وأطيافها المسحوقة بعلب الصفيح وفتياتها المترعرعات تحت أكواخ القصب وجامعات الملح وقطارها الساكن وموانئها العتيقة وجزرها الحصباء.
سنروي لكم على حلقات ما حل بكل ذلك، وعن الزبير وأبي الخصيب والتنومة ومهبط آدم والفاو والسيبة والعشار والكورنيش وشط العرب وأسواقها الشعبية وسينماتها ومسارحها المنقرضة ونواديها المقفلة وشوارعها المتغيرة المنعطفات والأسماء وعن «الصبور» الشحيح والتمر المنفرد والحنـّة المنشقة من أرضها، مكتباتها المتئدة وساعاتها المزالة وساحاتها، مقابرها ومساجدها، تاريخها المجيد وحاضرها المجروح وناقلاتها المصادرة، قواربها وسفن البحارة اللاطمة شواطئها المستباحة، وأنهارها الرخوة بالغرين والمسدودة بالطين والعجلات القديمة ورايات الأحزاب، أبوابها ومزاليجها، مساميرها وأفاريزها وفقاعات مدينة كانت قبل ربع قرن تسمى فينيسيا الشرق، مطلية بالزينة الفطرية ومزوقة بانغماس الحب في مشاعر الجميع.
سنبحث فيما حلّ بها وما أمرها ومن ناهيها، بمنظار عينين تعبتا كثيرا من الغوص في أعماقها وتشطيب معالمها الممحوة بلا فطنة، محجوزة مسبقا لتقديمها الى تلك البصرة التي نعرفها، إبصار قسري لإخراجها للنور ولنمو جوانحها المرهفة.
معالم البصرة ليست أمكنة، بل مداخلها ورشاقتها وخلدها وغرّها وغرورها، تدبير المدينة وطبائعها ومسلك أقوامها، ما هو شائع ونادر في زمانها وإمتاعها.
فليس لمعالمها شبيه لا في العراق ولا في مثيلاتها الخليجيات، فمشهدها جار وتأويلها سحر وتقلبات مضيـّها ترضع التقليد وتزهر حداثة وبضراوة دوما، كانت البصرة تزخر بالجديد وبالإفلات من العادي والفرار من السكون. فلنسترجع ما كانت عليه وما غدت، فبدون هذا المدخل، لا يمكن تصور وجعها ولا تنشيف عرقها وتضميد جراحها.
أمـّنا البصرة
للبصرة غريزة أمومة مع أبنائها وتعرفهم عن بعد وتشم رائحتهم مهما ابتعدوا عنها دهوراً ودهوراً. وكما الأم تماما يحملها البصريون ضميرا وأمرا منفذا بلا حجاب أو حجج وتمهيدات ومهما بلغت بها الخطوب وكثرت تجاعيدها وهرم صوتها واغبرت عيناها تعبر بأسئلتها نحوك: لماذا لم تر الساعة ولا الجسر ولا تجمعات المتناقشين والمتنزهين والضائعين والمطربين الجوالين وكازينوهات الكورنيش والبحارة وميدان الدواليب.. وغيرها.. وغيرها.
وفي أول حوار مع رجل بعمرنا، تأكدنا بأن اندثار المعالم ليس من اكتشافنا، فما أن سألته عن «ألبان البجاري» قال بشكل حاسم: أوه.. أنت بصري أصيل وقديم، راح مع أهله.
ويبدو أن أشياء كثيرة راحت مع أهلها ورحلت مع زمانها، لابد من استرجاعها كتحية ينبغي تقديمها لتلك السنين وبراءة المدينة.
الكسلة
نبدأ بها، لكونها أكبر وأمرح كرنفال شعبي ابتدعته البصرة أيام نوروز التي تتدفق خطانا فيه ضارعة تراص البصرة وفيئها المبعثر. ولا ينافسها في هذا الفرح أي مدينة في العراق والإقليم، ناهيك عن العالم برمته.
فالبصريون يخرجون لثلاثة أيام عن بكرة مدينتهم ليسكنوا على شواطئ شط العرب في الجهة المعروفة بكورنيش العشار حتى السرّاجي. هناك يفطرون ويتغدون ويتعشون، يرقصون ويغنون، ومن الصعب أن تجد مترا مربعا خالياً من البهجة وحركات الناس.
وكان بحارة البواخر والسفن، التي أسعفها الحظ ان يكون دورها في التوجه الى ميناء المعقل في العشرة الأواخر من مارس لتفرغ حمولتها، من كل القوميات والأجناس والشركات العالمية، يساهمون في فتح أبواب جديدة للفرح.
هذه أخلاق وأعراف البحارة، فلا يمرحون في مدينة يضربها الحداد والأمراض والكوارث، بل يشاركون من على اليابسة ويتقاسمون وإياه الألم والزهو على السواء، وحالهم كالأمواج دوما على وشك الرحيل.
وكل باخرة كانت تقدم لأهل البصرة أيام «الكسلة» ما تيسر لها من إبداعات: الألعاب النارية على اختلاف بهجتها، إنارة السماء بمختلف أنواعها وعزف الموسيقى، وحتى أبواقها المعروفة، كانت أجمل معزوفة يسمعها البصري. والكثير جدا من الطواقم كانوا يستضيفون الناس بالآلاف على متن البواخر لينزهوهم في شط العرب ويفتحون لهم كل خزائنهم من أكل وشرب.
كانت «الكسلة» عيداً حقيقياً لأي بصري لا يضاهيه أي فرح ومن الصعب جدا العثور على شخص غير سعيد في تلك الأيام.
وأجمل ما في «الكسلة» انها كرنفال حقيقي، خال من الجمهور، فالكل مشارك فيه، لحظاته دائبة التغيير ومهما كانت زوارق النهر متآكلة، فركابها يزيدون من ألوانها وبريقها. أنها كانت فعلا خروجاً جماعياً الى النور.
لا يعرف من يسكن البصرة الآن وعمره أقل من ثلاثين سنة مؤلمة، عمّ نتحدث!
مخيمات الأنس
ما أن ينقضي العصر، من مارس حتى بلوغ الشتاء، يتدفق البصريون بكل ما أوتوا من وسائل نقل وخيول وحمير الى منطقة الأثل (منطقة صحراوية تكثر فيها الأشجار البرية بما تشبه الغابات في الصحراء).
يخيمون هناك لعدة ليال من «الأثل» حتى «جبل سنام» ووصولا الى البحر.
كان منظر الخيام الملتوية كقنوات داكنة تصب في البحر ليس له مثيل في الإقليم كله وعلـّم البصريون الآخرين، كيفية الابتهاج والرفقة الحسنة.
حاليا، المخيمات للمشردين ومن لا مأوى لهم وللطم والبكاء وتقبل العزاء تلو العزاء.
سينمات الصيف
حسبناها بالذاكرة 17 سينما صيفية في البصرة. كانت الفتيات يرتدين فيها أجمل من ممثلات هوليود! مقسمة الى أربعة أقسام طبقية، القريب من الشاشة كنا نتردد عليه بالطبع ويسمى «أبوالأربعين» (ترجمتها: قيمة تذكرته 40 فلسا لا غير ولا توجد فيه مقاعد بل يكتفون بالمصاطب الخشبية، فرواده الفقراء كثيرون جدا ولا تكفيهم الكراسي وأحيانا تصل الجماهير الى الشاشة).
وما بعده هناك «أبوالثمانين» وفوقه قليلا «أبوالتسعين»، وفي المؤخرة تنتصب الألواج التي كان سعرها لا يتعدى ربع دينار!
ومثل هذا العدد كانت السينمات الشتوية، أي المغلقة. وبالرغم من هذا العدد الكبير للسينمات، إلا أنها لا تتنافس، فكل واحدة تخصصت بنوع معين من الأفلام، ولها أسلوبها الخاص في استقبال الزبائن وحتى طريقة جلوسهم. والشتويات تعمل صيفا، فكل شيء معد حسب التكييف المركزي، حيث الكهرباء لم تنقطع في تلك الأوقات إلا نادرا.
وكان «الأعور» وهو مشغل الفيلم كما يطلق البصريون عليه شخصية مهمة، فهو الذي يقرر عرض اللقطات الخاصة وله حظوة بين رواد السينما الذين يتوسلون إليه لكي يروي لهم تفاصيل اللقطات التي قام بقصها.
وهناك «أبواللايت» الشخصية المهمة الثانية الذي يمكنه أن يدخلك بلا تذكرة لمشاهدة نصف الفيلم بعد التأكد التام من خلو بعض الكراسي، تماما يمكن لـ «أبوالبيبسي» لعب هذا الدور حتى لو بمساعدة «الدرنفيس» الذي يستخدمه لفتح القناني.
وحملة إعلانات الأفلام الجوالون في العشار يعتبرون أكثر شهرة من المحافظ أو أي فنان محلي أو أديب، فلا يوجد بصري أصيل وقديم لا يعرف «تومان» الذي كان يرفع الإعلان بيد ويعزف «الفيفرة» بأنفه!
لم يتحسر البصريون على أي فيلم ظهر في العالم، فكانوا يشاهدونها مع جمهور لندن ونيويورك والقاهرة في وقت واحد ولم يمنع عنهم أي فيلم مهما كان مضمونه.
حاليا، السينمات ممنوعة في البصرة ومن يتفوه بهذه اللفظة يجلدونه!
النوادي الاجتماعية
لكل بصري له مهنة، ناد يستريح به في المساء. وكان أشهرها على الإطلاق نادي الميناء أو «البورت كلوب» كما اشتهرت تسميته لدى كبار الموظفين في تلك الأوقات.
يليه في الأهمية نادي الأطباء والمهندسين والمعلمين والضباط وأساتذة الجامعة. وبالمناسبة هذه لم تكن نواد للشرب والسكر، فقد كانت العوائل والأطفال يقضون أمسياتهم فيها، أما الذين لا مهنة محددة لهم، فكان بوسعهم ريادة الكثير جدا من النوادي الخاصة.
ولكون البصرة جمعت العديد من الملل والقوميات والأديان، فقد اشتهرت بها الأندية المنشأة حسب هذه الأطياف. واشتهرت كثيراً، في وقتها، أندية الآشوريين والسريان والأرمن والصابئة في عقد الأمسيات الثقافية والأدبية والموسيقية.
ولعب «نادي الفنون» دورا كبيرا في مطلع السبعينات كمؤسسة ثقافية حيث كان يقدم نحو 15 مسرحية في يوم المسرح العالمي في وقت واحد، ناهيك عن ان قاعاته لم تخل من معرض تشكيلي على مدار العام.
هذا النادي وغيره التي ذكرناها تحولت إلى إسطبلات ينشر فيها الأميون أيديولوجيا التسلط، وغابت تماما حتى من ذاكرة المدينة.
قاعات الثقافة
على منصاتها ألقى شعره الجواهري وأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وسعدي يوسف والبياتي وبلند الحيدري وكل العمالقة الآخرين. وتجرع عليها دريد لحام من «كأس الوطن» وأطرب الناس منها فؤاد سالم وأنجبت أول أوبريت غنائي في تاريخ الفن العراقي.
لا ينسى البصريون ذلك التدافع الممتع أمام بوابات قاعة الموانئ لحضور جلسة شعر وتلك الناصية المزهوة بالورود أمام قاعة «مبرة البهجة» التي أهدت العراق أكبر مطربيه وفنانيه التشكيليين والممثلين. ولا يمكنهم أن يمحو شعورهم ما أن يمروا على قاعة التربية التي كانت مرضعة للفنانين والشعراء ولا قاعة بهو الإدارة المحلية الذي وقف على خشبته تاريخ المدينة بأكمله، كما كان الحال لقاعة الهلال الأحمر.
قاعات المخلوقات الجميلة وخيرة ما تفجرت به قريحة البصرة تبدلت وأصبح من الصعب التعرف عليها وبدت كأطلال باعثة للأسى.
حي الطرب
ينتشر في منطقة معزولة خارج المدينة، لمن يريد اللهو والاستمتاع وكنس الكآبة من نفسه وشراء الرضا. يعمل 24 ساعة في اليوم وفيه تقاليد خاصة بالغجر الذين يشكلون غالبيته العظمى.
هو واحة السلام والغناء والرقص والهزل والضحك وابتداع الخيالات وطرد الضجر، وكل من «ينحدر» وتطأ رغباته هذا الحي يعد ضمن سكانه ولديه الحق في فتح باب أي بيت بلا حمرة أو تردد، والانضمام الى من فيه ومشاركتهم يسرهم وعسرهم لقاء مبلغ كان بسيطا على الجميع.
ليس لهذا الحي ذكر الآن، إلا في مدونات المدينة وضباع الأنس المتساقطة أنيابهم.
حدائق السلوى
حين تلبس أجمل ما عندك وتخرج من البيت في البصرة، يعني أنك ستتجول في الحدائق المطلة على شط العرب، قبل أن تختتم أمسيتك في واحدة من أماكن الإمتاع والمؤانسة المذكورة.
فحديقة الأندلس، صممت على الطراز الإنكليزي، حيث كان اغلبهم يسكنون هناك بالقرب من الميناء ومحطة السكك. وتوارث البصريون وعمال الموانئ حرفة الاعتناء بأرقى الزهور الأوروبية، التي كانت تنتشر بأشكال هندسية تتناسق مع النافورات الملونة التي تسرح بهاء في النفس وتشجعك لإطالة النظر إليها لترصيع القلب بنشوتها.
ولـ «حديقة الأمة» التي تتوسط الكورنيش رائحة خاصة تدوّر رأسك بالياس وعذوق التمر الدانيات القطوف وذلك الملمس المسموع لنافورتها الموسيقية وحمرة مصطباتها الداكنة والتقدم المهذب للمصورين المتجولين لالتقاط صورة العمر لك.
وكذا الحال في حدائق «السرّاجي» و «الخورة» التي خططتها الطبيعة بالخضرة والماء والوجوه الحسنة وعباب الألفة الفسيحة.
احتلوا النهر والضفاف وزمجرت أبواق التحذير في ذلك اليوم الذي قرر فيه «السيد الرئيس» الاستيلاء على حديقة الأمة وإهدائها الى زوجته ووضع يده على حدائق السرّاجي وبناء مجمع رئاسي من القصور التي لم تسمح له الأقدار حتى برؤيتها، بعد أن قام بإغلاق الكورنيش عند تقاطع الجزائر وحتى نهاية السراجي وأغلق شط العرب بالكامل. وأتعس ما قام به، كان تهديم «قصر السباع» التراثي لصاحبه الشيخ خزعل أمير المحمرة وإزالة تلك الأسود التي لا يوجد «بصري أصيل وقديم» لم يصور معها.
المقاهي
لعبت المقاهي البصرية دور الجرس وأخذت على عاتقها الصيحة وتبادل الكتب المسموحة والممنوعة وتوديع من أوشك على الهروب من الوطن وكسب الصديق الجديد الى الحزب الثوري ومراجعة الدروس والمحاضرات ووضع السيناريو المحكم لمصارحة الحبيبة.
وكانت الأحزاب ومثقفيها يركزون تواجدهم على مقهى بعينه، فكانت أشبه بالصالونات الثقافية والسياسية يجلس فيها أستاذ الجامعة مع القصاب والمراهق مع الشيخ.
وتميزت مقاهي «أبومضر» و«الشناشيل» و«14 تموز» وكازينو البدر التي كانت تطل مباشرة على شط العرب وفيها قاعات للجلوس وممارسة الألعاب كالدومينو والطاولي وقاعة أخرى للمطالعة يرتادها طلاب الجامعة على الأغلب وفيها قسم مظلل بالأشجار يستقبل العائلات.
وغيرها، فان الكورنيش كله ينقلك من مقهى الى آخر، أزيلت جميعها لتنصب مكانها عشرات التماثيل لضباط سقطوا في الحرب وقتلوا بدورهم فرحة الكورنيش.
لا تعثر الآن على مقهى في البصرة تجلس فيه، سوى زوايا لبيع الشاي والحامض ومصطبة واحدة أو اثنتين تخصص لمن يطلب أكلا من مطعم مجاور.
ميدان الدواليب
كل الناس بمختلف الأعمار والأجناس كانوا يتلهون هناك في الأعياد والمناسبات وأحيانا يبتكر الناس هذه الفرص أو يمددون أوقات الفرح.
والفرجة مجانية، غير متعالية وسهلة والمحترفون في إيداع السعادة في قلوب الخلق يقدمونها اليك باقات بيضا، وما عليك سوى عبور القنطرة والاندفاع من أعماقك لمسّ فرط طيبتهم.
تجد هناك كل الألعاب الماكرة، فرارات الحظ و«فوق السبعة وتحتها» والزهر و«اللكو» واختبارات القوة وخيمة السيرك المحلي الذي تنفث فيه نساء غريبات النار من أفواههن وتخرج الطيور والقطط من الصناديق الفارغة وتغرز فيه السكاكين في الجسد دون أن يصاب المرء أذى.
ستتعرف هناك على «تومان» أسطورة المدينة ومهرجها الأوحد بلا منازع وستسمع كل الأغاني التي ترغب وحسب الطلب وسيملأ أذنيك صوت أبو «الدنبلة» وطلبات الجموع بـ «جرخلة» لتغيير الحظ. سيفضون أفواه من تتعثر كلماتهم وينطقون بذكريات ذلك الميدان الساحر وسيتمنون الاستلقاء على وسادة نحل غاضب، من طرح الاقتراح الشرعي بالحديث عن أيام زمان!
الخشـّابة
ألذ ّ المجموعات البشرية التي قطنت البصرة: رعاة «الكيف» وفاكهة البهجة فبرنامجهم الفرح ونهجهم السعادة، أولئك الفتية والرجال السمر الذين يعزفون على الدفوف و«الدنابك» وفي أفضل حال يحمل أكبرهم العود ليضبط الإيقاع على ظهره الخشبي ويوزع الموسيقى بلسانه!
لم ينجب العراق «كاسور» (وهو ضابط الإيقاع) مثل سعد اليابس ولا ينسى أحد فرق الخشـّابة الذين كانوا يحيون أمسياتهم في الشوارع والساحات.. والفرجة ببلاش.
واشتهرت فرق «أبو دلم» و«حسين بتور» و«ربيــّع» في الثبات طوال الستينات فيما ابتكره أهل البصرة بفرق الشوارع، أو الفرق الجوالة التي اشتهرت في أوروبا بالمناسبة.
ولا يطلب هؤلاء الموسيقيون الشعبيون نقودا لإحياء عرس أو طهور أو أي مناسبة أخرى، يكفي أن تمنحهم فرصة للغناء وتعشيهم وتمنحهم «سطل» عرق يغرفون منه حتى الصباح.
وحفلاتهم بلا جمهور، لأن جميع الموجودين مشاركين، كبارا وصغارا، كلهم يشاركون في الغناء و«الصفكة» البصرية المعروفة، وحتى عندما يقررون العودة بباص خشبي أو مشيا الى بيوتهم، فإنهم يستمرون في الغناء حتى آخر نفس.
الطبكة
أو «العبـّارة» التي تنقل الناس ما بين ضفتي شط العرب وكان لها هناك مرفآن، واحد تابع لعبـّارات البلدية وآخر أنشأته جامعة البصرة حين كان مقرها في الشاطئ الآخر الواقع في قضاء التنومة متاخمة للحدود مع إيران تقريبا.
وكانوا يطلقون عليها أسماء بحارة عرب كابن ماجد وابن بطوطة وغيرهم و«أبوالطبكه» أو سائقها معروف لدى كل أهل البصرة.
ولـ «طبكة» الجامعة حكايات أجيال بأكملها، فمنها عبر يوميا ذهابا وإيابا كل الأطباء والمهندسين والعلماء والمدرسين. ولا يسمح عبور غير طلاب الجامعة وسيارات الأساتذة (تسع في كل مرة ثلاث سيارات فقط)، وكانت حلم طلاب الثانوية ولا يكلفك معرفة عشاق الجامعة أي عناء، فملتقاهم عادة ما يكون عند «الطبكة».
وبسبب بطئها ومواقيت حركتها المحددة، كان الناس، بمن فيهم الطلبة المستعجلين، يستخدمون القوارب التي تسمى «الماطورات» فهي قوارب خشبية تتسع لأكثر من عشرين شخصا يسيرها ماطور يعمل بالكاز.
وإن تسببت «الطبكة» والماطورات والشط، بابتلاع الكثير من العابرين وغرقهم بحوادث مختلفة، إلا أن اندثارها ضيـّق فسحة الذكريات والأيام الحلوة.