(آمال )طالبة الكلية التي رفضت الانضمام لحزب السلطة فتزوجها رفيق وعاش معها كضابط امن
ذاكرة امرأة عراقية: (آمال )طالبة الكلية التي رفضت الانضمام لحزب السلطة فتزوجها رفيق وعاش معها كضابط امن
تفتح صفحة (قضايا عراقية)، نافذة لذاكرة المرأة العراقية المناضلة كي تكتب تاريخ وقفتها المشهودة والنادرة في تاريخ النضال السياسي للشعب العراقي بكل تياراته السياسية والفكرية التي قارعت حكم الطاغية وقدمت المرأة العراقية على مذبح حريتها ثمناً باهظاً شهيدة وسجينة ومنفية، نساء من طراز خاص تحدين إرهاب الدولة وصرخن عالياً بـ(يعيش العراق) وهن متوجهات إلى ساحة الاعدام أو حبل المشنقة، وتحملن كل عسف وألم زنزانات النظام المقبور. امرأة عراقية أخفت زوجها وابنها واخاها وحبيبها بل جارها، عن أعين فئران الزيتوني البؤساء هذه المرأة مطلوب منها ان تكتب هذا التاريخ الحقيقي للمرأة العراقية لا تاريخ اتحاد النساء وحفلات نادي الصيد! (قضايا عراقية) تفتح هذه النافذة.
بغداد/المدى
لم يكذب من قال:
ان الفجر لن يأتي الان
فقد يتأخر
لم يكذب من قال:
ان القتلة كانوا
اعوان السلطان
وان الجلاد لم يذبح
بالسكين
وان ادارة الجريمة كانت صلوات
فليعرف من يقرأ
صخب الكلمات
ان شذا زهرة قد
يطفيء بركاناً
كانت (آمال) صغيرة عندما اشتدت حملة الطغيان على جميع التيارات السياسية في بداية الثمانينيات وهي تتذكر كيف دهم رجال الامن بيت جدها لامها ثم اخذوا اخوالها الثلاثة... واستمر تعذيبهم بطرق وحشية لاجبارهم على الاعتراف .. وفي النهاية اعترفوا بأن الموت الذ عندهم من حياة الذل في ظل نظام جائر.
زارت (آمال) (نكرة) السلمان في اخر مواجهة لخالها (حيدر) وعمره 20 سنة، كان ذلك بعد اعدام اخويه بأسبوع، وقد ظهرت عليه اثار التعذيب واضحة ويداه بقيتا معقوفتين الى الخلف بطريقة غريبة وكان الالم باديا على وجهه رغم انه حاول عدم اظهار ما يعانيه امام اهله كي لا يثير قلقهم. وبعد زيارتهم له بيومين تم اعدامه.. لم يقف الحال عند ذلك بل استمرت استدعاءات رجال الامن للاب والتهديدات المختلفة، وكان اولها منعهم من اقامة مجلس عزاء او الاختلاط باناس واشاعة الرعب في نفوسهم، والايحاء لهم بانهم مراقبون حتى في بيتهم، ومحاسبتهم على كل من يدخل لهم واينما يذهبون حتى في رزقهم وعملهم، اذ لم يكتفوا باعدام ثلاثة شباب بل حاربوا العائلة بكل الطرق، لم يتركوا بابا يسبب تعذيب هذه الاسرة الا ودخلوه.
تقول (آمال) كان العذاب والتفكير والهم قد اخذ مأخذه من جدي بعد اعدام ابنائه، ونتيجة الطوق الذي القوه حول العائلة وسياسية التخويف والملاحقات عبر احساس لدى الاب المنكوب بأبنائه لانهم لن يتركوهم بسلام وبات خوفه على أبنائه الباقين هو همه الاكبر... زوجاتهم واطفالهم وامهم. وبذلك تبلورت لديه فكرة الخلاص نهائيا ومغادرة البلد الذي ابتلع ابناءه لأي بلد كان المهم ان يسلم على اولاده ويختفي عن عيون الجلاد. لم يكن السؤال اين يذهب ولكن كيف؟؟ فاتح ابناءه بفكرته فتقبلوها لانهم كانوا يعيشون الرعب حتى في انفاسهم، خاصة انهم عاشوا شبه عزلة لان الناس من المعارف والاقارب تعودوا نتيجة الاضطهاد بدفع بلاء الظالم وظلمه بعدم الاحتكاك بالأسر المناضلة كي لا تسري نحوهم مخالب العدوان.
تركوا بيوتهم وشدوا رحالهم الى احدى الدول حتى استقر بهم الحال في ايران. واصبحوا لاجئين.
تقول (آمال) بقيت امي بعد سفر اهلها وحيدة وباءت بالفشل محاولات ابي لاقناعها باللحاق بهم وواجهته بالرفض القاطع لمجرد فكرة ترك العراق لانها لا تستطيع العيش في الخارج وترى انها بمجرد مغادرتها عتبة الدار ستتوقف حياتها واصرت على البقاء حتى لو قطعوها اربا، ولذلك ترك زوجها (قاسم) فكرة السفر نزولا عند اصرارها.
ومرت الاعوام حتى كانت الانتفاضة الآذارية عام 1991 عاشت هذه الاسرة لبقية الاسر في هذه المدينة ايام الرعب والموت، وكان الثمن غاليا اذ اختفى الاب وهو المعيل الوحيد لهذه العائلة كان الموت مصير من يجرؤ ويسأل عن أي مفقود بل الاقسى من ذلك كان يعتبر مثل هذا الامر سرا يجب التكتم والحفاظ عليه وعدم نشر خبر اختفائه حماية لزوجته وبناته، ولم يعرفوا عنه شيئا حتى الان، قتل مع من قتلوا ولكن باي طريقة!
بقيت (ام امال) تكابد وتكافح من اجل تربية بناتها في بحر الخوف المتلاطم وعاشت الحصار حصار الوطن وحصار الوضع السياسي والاقتصادي الذي فرض عليها. كان لزاما عليها ان تكتم همها وتكظم وجعها وتدبر امورها بصمت وهي التي لا مهنة لديها ولا مورد تعتاش منه، فأخذت تبيع وتشتري بالمواد الغذائية باوزان صغيرة تضعها في اكياس في البيت لعل ما يأتيها من ربح قليل يسد بعضا ممن الحاجة ويوفر لها عيشة الكفاف بكرامة، وهكذا كيفت نفسها على الحياة القاسية. ام تزوجت اثنتان من بناتها وبقيت (آمال) كي تكمل دراستها الجامعية في كلية العلوم (قسم الكيمياء) وهنا تبدأ حكاية (آمال) حيث تقول: في المرحلة الثالثة تسلط علي احد طلاب (الاتحاد البعثي) وكان يراقبني بشكل ملحوظ ويتابعني خطوة بخطوة، واخيرا جاءني وعرفني بنفسه وطلب مني الانضمام لحزب البعث المشؤوم لكني رفضت، بقي يتابعني ويفرض نفه علي اينما ذهبت، وانا ادفعه بالتي هي احسن كي لا يثير لي المشاكل خاصة بعد ان فهمت منه بأنه يعرف الكثير عن تاريخ عائلتي النضالي، وزاد في الحاحة علي للانتساب وانا اتحجج بظروفي وباني اريد ان اتفرغ لدراستي ومستقبلي وليس لي الرغبة او الاستعداد لما عدا ذلك، وحينما يئس من محاولاته تلك تقدم لخطبتي رسميا من والدتي حاملا معه افكارا جميلة عن تربيتي الاصيلة ونبل اخلاقي ونسبي واسرتي المناضلة وانه لن يتركني (افلت) منه ولا بد ان يرتبط بي كزوجة لطالما حلم بها اما لاولاده.
و.. و... و.. فكرت مع والدتي بوضعه كزوج بغض النظر عن العاطفة وانه حسب كلامه سيكون زوجا مثاليا فكرت في الظروف التعسة التي كنا نعيشها ووالدتي التي انهكتها الهموم الكبيرة وحاجتنا لرجل يحمينا في زمن قل فيه الرجال.
وافقت (آمال) كانت الصدمة الاولى لها حينما اكتشفت بان الشخص الذي اقترنت به لم يكن سوى جلاد مريض بداء الخسة والنذالة، بيت الزوجية كان زنزانة والقائم عليها كلب مسعور.. ما اجبرها على ترك الجامعة، وليس هناك طريقه للتفاهم معه، لانه لا يفهم غير لغة التعذيب والضرب والكلام البذيء والسباب.
منع عليها الخروج من البيت نهائيا، وحرم عليها الاتصال بأهلها، كان يقفل عليها باب البيت ووضع قفلاً حتى في باب الغرفة.
فكرت ان تسترضيه وتساير نصيبها ليس تملقا وانما ايمانا منها بضعفها وعجزها ونشأتها الطيبة، ولشغفها بالدراسة اخذت تكتب له البحوث وتلخص المصادر وتبحث ليستفيد منها هو في الجامعة، املا منها في استدرار رحمته!! ما ابعده امل ! فكان في أي لحظة يدخل البيت يشبعها ركلات ويضربها بـ (الكيبل) .. يربطها لساعات طويلة.. يخرج ويعود ليعاود ضربها وبكل قسوة، اما في الشتاء فكان يربطها ويبقي يسكب عليها الماء البارد وكلما راها تتعذب وترتجف تتسع عيونه كالوحش ويزيد من وحشيته وتفننه في تعذيبها، كان لا يحتاج لسبب كي يضربها.. علمها معنى ان يكون صداميا واثبت لها شرطوية البعثي وبجدارة!!
تقول امال: انتهكني، وجردني من انسانيتي، كان يعذبني ويشتمني ويغتصبني انا زوجته.. انجبت له طفلتين وكنت ادعو الله ان يحيي فيه عاطفة الانسان فيشفق علي، ولكنه زاد قسوته واصبح يعذب اطفالي معي حتى انه حينما كان يضربني بالسوط امامهم ويصرخون فيضربهم معي وذات مرة بقي يلطم ابنته على وجهها وهو يرى دمها يسيل ولم يكف عن ضربها حتى سقطت المسكينة مغشيا عليها بسبب تمزق (اللثة).
ذاقت على يده ما يدور في اقبية الامن العامة ولكن في دار الزوجية التي فتحتها لهذه المهمة.
اضاعت (آمال) الامل ومل الخوف حياتها، كانت ترتجف بمجرد سماع خطواته تقترب من الباب...
ولم ينس الزوج المفترس سياسة (التجويع) كوسيلة لزيادة ضعف الفريسة فكانت حياتها واطفالها اضطهادا وجوعا وحرمانا حتى كان يوم استجمعت فيه كل جرأتها وسألته ان ينظر لاطفاله ويشفق عليهم فهم يتضورون جوعا ولا ذنب لهم ان كان يكن العداء لامهم..
وكانت طرحت الحال على اسوأ الاحتمالات فالسوط والضرب والتعذيب اشياء تعودت عليها ولم يبق الا الموت وهي تتذوقه كل يوم وتتمناه تقول: فسألني، (تريدين فلوس؟) تريدن اكل، فالمسألة بيدك، قلت كيف؟ قال: لنذهب الى بغداد بيعي كليتك. ستأكلين انت واطفالك والا ستأكلين الحجر!!
كان الامتحان صعبا وكانت (آمال) ضعيفة وزاد في ضعفها طفلتاها.. امتنعت ... ورجعت، حاولت ان تستدر قطرة انسانية ولكن زوجها نزف كل انسانيته على مذبح النذالة، وافقت على بيع كليتها وتمت العملية وقبض المبلغ السيد الخسيس، جاء بها الى البيت رماها كالذبيحة ولم تر شيئا من الطعام..!
تأكدت (آمال) للمرة الاخيرة ان زواجها كان (فخا) وان لا حل امامها غير الاستسلام لاوامر الظالم ولا حول ولا قوة الا بالله... كان عليها ان تتمسك بالصبر ورحمة الله في الاقل لاجل اطفالها كي تدفع عنهم الضرر من المعتوه المتجبر، حتى كان السقوط، سقوط النظام...استشاط غيظا، وكان يزيد ويرعد ويتوعد كالمهووس ترك البيت، رحل عن المدينة، غادر العراق كله فارا هاربا... لم ينس ان يلدغها اللدغة الاخيرة لتتذكره ولا تنساه، سرق هويتها وهويتي طفلتيها وخرج الى غير رجعة، ولكنها لم تصدق، لم تخرج من السجن، حيث ان رحيل السجان وحده كان هو الحرية التي طالما ناشدتها، لم يعد هناك من يربطها ويضربها بالسوط اعتكفت في البيت الزنزانة لم يبارحها خوفها من عودته ولم يزايلها تأثير ارهابه، وحتى حينما حاولت بعض النساء اخراجها من وحشتها تخوفت وامتنعت، في تلك الاثناء عاد اخوالها الذين سافروا بعد اعدام اخوتهم، احتضنوها وشدوا من ازرها وكانوا لها ولامها نعم الاهل الطيبين..
قبل شهر فقط حازت على حكم المحكمة بالتفريق.. عادت الضحكة لوجهها وبدأت تتخطى مخاوفها وتتطلع نحو الجامعة يحدوها امل بتحقيق حلم لها.
http://www.almadapaper.com/sub/12-567/p10.htm#1