السيناريو الكارثي : انقراض سكان اوروبا ! /قرأت لك
وجه القارة القديمة توّحد لكن بلا مخالب
السيناريو الكارثي : انقراض سكان اوروبا !
(إذا ما أصبحت الأسرة الأوروبية متماسكة, فإنها بسكانها ومواردها وثرواتها الاقتصادية وتكنولوجيتها وقدراتها العسكرية الفعلية والكامنة, ستكون القوة الاكبر في القرن الحادي والعشرين. فاليابان وأميركا وروسيا تخصصت على التوالي بالاستثمار والاستهلاك والأسلحة. لكن أوروبا توازن بين هذه التخصصات الثلاثة, كما انها تقارع الولايات المتحدة في جاذبيتها الايديولوجية).
هذه كانت رؤية صموئيل هانتيـنغـتون لأوروبا ودورها المحتمل في العالم قبل سنوات عدة, حين كانت الفكرة الأوروبية مجرد طفل يحبو. لكن قمة كوبنهاغن الاوروبية الأخيرة جاءت لتضفي لحماً وعظماً على هذا الهيكل العظمي الهانتينغتوني. فبعد نصف قرن من الحرب الباردة التي قسمت القارة الأوروبية الى شطرين, وعلى إثر مفاوضات عسيرة بين دول أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى, تم الاعلان عن ولادة اوروبا جديدة تضم 25 دولة و450 مليون نسمة.
وهكذا خرج رومانو برودي, رئيس اللجنة الاوروبية, ليعلن بلهجة مجلجلة: (أوروبا ستكون واحدة موّحدة للمرة الأولى في التاريخ, بفضل الارادة الحرة لشعوبها). فيما كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يقول: (إنها لحظة مؤثرة ان نرى خطوة جديدة مهمة تتحقق في تاريخ أوروبا), في حين يشدد المستشار الالماني شرودر على ان هذا (يوم عظيم لأوروبا وألمانيا).
وهو كان كذلك يوماً عظيماً بالفعل.
فالكيان الجديد, وعلى رغم انه لم يصبح سوبر دولة بعد, سيبلغ حجمه ضعف حجم سكان الولايات المتحدة وأربعة أضعاف سكان اليابان. وهو سيوازي تقريباً حجم الاقتصاد الاميركي (نحو عشرة تريليونات دولار). كما انه سيكون أغنى من اميركا واليابان في مجالات الرساميل والبنى التحتية والقوة البشرية الماهرة والعلمية ومستويات المعيشة.
أوروبا الجديدة تمتلك العديد من أكبر المصارف وشركات التأمين والبيوتات المالية في العالم. ومن بين عشر أكبر دول متاجرة في العالم, سبع منها اوروبية. وفي صناعات مثل السيارات والمواد الطبية والأدوات الصناعية والسلع الهندسية تنتج الاسرة الاوروبية مجتمعة أكثر من أي دولة اخرى في العالم.
هذا إضافة إلى أنها أكبر سوق على وجه الأرض والأولى في مجال الانفاق على البحث والتطوير العلمي والتكنولوجي في حقول الفضاء والسوبر كومبيوتر والقطارات وغيرها.
وفي حال اتحدت جيوش فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا, فإنها ستكون القوة العسكرية الأقوى والأحدث في العالم.
لكن مهلاً. كل هذه الامكانات الهائلة لا تزال في طور القوة لا الفعل, كما يقول الفلاسفة الاسلاميون. فما عدا خطوات التوحيد الاقتصادي, لا تزال أوروبا (قزماً سياسياً ودودة عسكرية, على رغم كونها عملاقاً اقتصادياً), وفق تعبير وزير بلجيكي.
وكي ترث أوروبا العالم ومعه القرن الحادي والعشرين, أو بالأحرى لكي تستعيد الزعامة العالمية التي فقدتها العام 1900, سيكون عليها ان تقيم دولة فيديرالية لها دستور موّحد, وجيش موّحد, وسياسية خارجية موّحدة. فهل بإمكانها ان تفعل?
هذا السؤال يجعلنا فوراً نلج نفقاً مظلماً يعج بكل الاحتمالات التي تتساوى في قدرتها على تحويل أوروبا الى عملاق متكامل القوة, أو على إبقائها قزما متناقص الحجم.
وهذه بعض الأسئلة المحيّرة التي سنتعثر فيها في نفقنا المظلم, والتي أثارها بول كينيدي في كتابه الاخير (صعود وسقوط القوى العظمى):
> هل سيكون في وسع الأوروبيين مواصلة التمتع بالحياة المريحة, من دون التأثر بالتطورات العالمية الراهنة?
> هل يمكن لمجتمعات أوروبا, الغنية نسبياً, ان تعزل نفسها عن الضغوطات الديموغرافية التي تحدث على قاب قوسين أو أدنى منها?
> وكيف ستتمكن الأسرة الأوروبية من التأقلم مع العولمة وحدودها المفتوحة, فيما هي ترّكز كل جهودها على بناء أسوار الادماج الاوروبي?
> وماذا عن مصير الدولة - الأمة الاوروبية التي تضرب جذورها عميقاً في نسيج كل الشعوب الاوروبية, وعن التنافسات التاريخية بين الدول - الأم الاوروبية, خصوصاً ألمانيا وفرنسا وبريطانيا?
وإلى هذه الأسئلة, يمكن إضافة مسألة أخرى لا تقل خطورة: هل ستقبل الولايات المتحدة عن طيب خاطر باخلاء مركز الزعامة العالمية الذي انتزعته أصلا إنتزاعا من اوروبا نفسها بعد الحرب العالمية الثانية? ألن تعمد واشنطن الى فرش كل الاشواك والألغام أمام بروكسيل, إذا ما هي أحست أن هذه الأخيرة بدأت تتمرد على (البوس) (الزعيم) الاميركي.
سنأتي إلى هذه النقطة الأخيرة بعد قليل. لكن قبل ذلك, فلنتوقف قليلاً أمام القضايا التي أثارها بول كينيدي.
في المجال الديموغرافي, تبدو الصورة الأوروبية مخيفة حقاً. فشعر اوروبا يبيّض بسرعة. وعلى سبيل المثال, العشرة ملايين فرنسي (من أصل 55 مليوناً) الذين تجاوزوا الستين, سيصبحون 51 مليوناً العام 0202 من دون أن يزيد العدد العام للسكان. وفي إيطاليا وألمانيا ودول أوروبية أخرى, يتجه التعداد السكاني نحو الهبوط المطلق. وسكان ألمانيا سيتراجعون من 97 مليون نسمة الآن الى 06 مليون نسمة سنة 2020, وهو معطى دفع بعض المعلقين الاوروبيين الى القول إن ألمانيا تقترف الانتحار).
وإذا ما استمرت التوجهات السكانية الراهنة, فإن الدراسات الديموغرافية تتوقع ان ينخفض عدد سكان أوروبا من 054 مليون نسمة إلى 004 مليون العام 0012.
وهذه ستكون كارثة محققة, خصوصاً أن جيران القارة في الجنوب والشرق يشهدون حالياً ثورة كبرى في المجال الديموغرافي. فالجزائر, مثلاً, سيصل عدد سكانها الى 05 مليوناً العام 0202, وتعداد مصر سيقفز في الفترة نفسها من 96 مليون نسمة الى نحو 001 مليون نسمة.
وكما في الجنوب كذلك في الشرق. إذ على رغم أن الاوروبيين الشرقيين لا ينجبون كثيراً, إلا أنهم لا يعملون كثيراً أيضاً. وهذا ما سيدفعهم الى الهجرة شمالاً بشكل دائم, خصوصاً إذا ما أزيلت العوائق على الحدود نهائياً بين الاوروبيتين الشرقية والغربية.
قد يقال هنا ان أوروبا تستطيع تعويض النقص في الأيدي العاملة بالتركيز على ثورة الروبوتكس (البشر الآليين) كما فعلت اليابان. وهذا ممكن بالطبع, لكنه لن يحل المشكلة. فالبشر الآليون يمكنهم القيام ببعض الاعمال وليس كلها, وهم سيّحلون أصلاً مكان العمال الألمان المهرة في مصانع السيارات أو الكومبيوتر, لا في مجالات البناء والتظيف والأعمال (الوضيعة) الأخرى التي يقوم بها العمال الأجانب.
إضافة, سيكون على أوروبا إيجاد حل نهائي للمهاجرين العرب والمسلمين فيها. وأي حل يتضمن منح هؤلاء الحقوق المدنية كما في الولايات المتحدة, سيضرب كل مفهوم الهوية الاوروبية - المسيحية الذي تحاول بروكسيل بلورته الآن.
هذا عن مخاطر الديموغرافيا, فماذا عن تحديات العولمة?
نظرياً, أوروبا في موقع يمكنّها من ان تكون المستفيد الأكبر من عولمة المال والصناعة والتجارة, شرط ألا تنفجر اضطرابات مالية في العالم.
لكن ثمة مشكلتين خطيرتين هنا: الأولى هي أن التحّرك نحو العولمة غير المقيّدة, سيخلق الفجوة الاجتماعية التي لاحظ الكاتب روبرت رايش بروزها في الولايات المتحدة. أي طبقة عليا فاحشة الثراء من المديرين والمحامين والمهندسين والاستشاريين الذين يقدمون خدماتهم للشركات متعددة الجنسيات, وطبقة دنيا تشكل أربعة اخماس المجتمع, تكون بشكل متزايد تحت رحمة هذه الشركات.
والمشكلة الثانية تكمن في السؤال الآتي: إلى أي مدى يتناقض (العالم بلا حدود) الذي تفرضه العولمة, مع هدف الأسرة الأوروبية في تعميق اندماجها السياسي والاقتصادي?
كلتا هاتين المشكلتين تترجمان نفسهما سياسياً على شـكل صـراعـات بـين الدول - الأمم الاوروبية التي لم تتفق بعد على: (أي أوروبا تريد). وهذا ما يقودنا إلى المسألة الثالثة التي أثارها كينيدي: مصير الدولة - الأمة الاوروبية.
فالفرنسيون يريدون تقوية المجلس الوزاري الأوروبي, بحجة أنه يضم الممثلين المنتخبين من قبل الشعوب الأوروبية. لكن هدف باريس الحقيقي هو إقامة دولة أوروبية لا تلغي الدولة - الأمة الفرنسية, وتخدم في الوقت ذاته هدفها في استخدام الوحدة الاوروبية لتحقيق النفوذ القومي الفرنسي العالمي.
وألمانيا تسعى الى تقوية البرلمان الاوروبي واللجنة الاوروبية, لأنها واثقة بأنهما سيؤديان الى قيام دولة أوروبية ستكون القومية الالمانية قادرة على قيادتها بصفتها الدولة الأكبر اقتصادياً وسكانياً في القارة.
وبالطبع, لا يجب أن ننسى بريطانيا التي قام كل تاريخها الحديث (ولا يزال على الأرجح) على منع تفّرد أي دولة بالسيطرة على أوروبا, سواء حرباً كما في القرنين التاسع عشر والعشرين, أو سلما كما الحال الآن.
لوحة معقدة? أجل. لكنها ليست كل شيء. هناك المزيد والمزيد من التعقيدات التي تحمل هذه المرة دمغة العم سام. وهاكم عيّنة منها:
> في 3 كانون الاول (ديسمبر) الحالي, نشر الكاتب سيمون سيرفاتي دراسة في دورية (يورو فوكاس) حملت العنوان المثير الآتي: (حلف الاطلسي عاد, لكن أين التحالف).
ومثل هذا العنوان جعل الموضوع معروفاً سلفاً: أميركا مستعدة لقبول أوروبا موحّدة وقوية في حال بقيت هذه في إطار حلف أطلسي موّحد وقوي, وإلا!
وإلا ماذا?
فلننتبه بدقة الى ما يقوله سيرفاتي: (هناك صراعات مؤسسية بين المجلس (الوزاري) الأوروبي واللجنة الأوروبية والبرلمان الاوروبي. كما ثمة توترات حادة بين اللجنة وبعض الدول الاوروبية, وبين الدول الرئيسـة في اوروبا بما في ذلك فرنسا وبريطانيا والمانيا. ثم هناك تحالفات اقليمية بين دول الأطراف (بريطانيا واسبانيا وايطاليا) ودول المركز (بقيادة فرنسا وألمانيا)).
والحصيلة? إنها موجودة بين سطور ما يقوله سيرفاتي: (على أميركا تجّنب المبادرات التي تفاقم هذه الخلافات داخل الاسرة الاوروبية, على رغم ان ذلك قد يحقق لها مكاسب على المدى القصير. فالاتحاد الأوروبي القوة مهم لوجود حلف الأطلسيô).
الرسالة واضحة هنا: لا حلف اطلسياً, تساوي لا دعم اميركا للحلف أو الاتحاد الاوروبي.
وإذا ما ارادت بروكسيل الاستقلال عن واشنطن أمنياً وسياسياً, فعليها حينها ان تكون مستعدة لدفع الاثمان عداً ونقداً.
بالطبع, الخلافات بين اميركا وأوروبـا لن تصل الى القطيعة حتى ولو تفاقمت الخلافات, ولا حتى الى الحرب التجارية التي توقع كثيرون ان تحل مكان الحرب الباردة. فالطرفان مهمان لبعضهما الآخر اقتصادياً وايديولوجياً واستراتيجياً.
لكن قد يحدث شيء آخر: تدخل أميركي قوي لرسم خريطة الطريق الذي يفترض ان تسير على هديها الدولة الاوروبية العتيدة. فإذا ما فعلت ستنشأ دولة اوروبية حقاً, وإن ببعض الاسنان المبعثرة هنا وهناك. وإذا لم تفعل, لا احد سيعرف ما قد يحل بالقارة بعد رحيل الاميركيين عنها?
صموئيل هانتيغتون كان على حق: أوروبا الموّحدة تمتلك كل الإمكانات لتجلس على عرش القرن الحادي والعشرين.
لكن الامكانات شيء, والواقع شيء آخر. وهذا الواقع يحتاج الآن الى معجزة لكي يتحقق. معجزة كبيرة في الواقع: أن تفكر وتتحدث وتخطط وتقرر الدول الاوروبية الـ52 بلسان واحد وعقل واحد وإرادة واحدة في الشؤون الأمنية والسياسة الخارجية.
وحتى لو تحققت هذه المعجزة الصعبة ستكون هناك حاجة الى معجزة أصعب: موافقة أميركا على ولادة أوروبا تكون موّحدة وقوية ومستقلة في آن. وهذه المعجزة الأخيرة تكاد تكون الآن من سابع المستحيلات.
سعد محيو
http://www.daralhayat.com/AlWasat/Da.../Art_58749.XML