قرود صفقوا للبعث النازي فزال البعث ولكنهم بقوا قرودا
ماضينا اساس حاضرنا ومستقبلنا هو جني حاضرنا.
رسالة اوجهها الى كل ضحية لعصابات البعث النازي ... لكي نشخصهم جميعا ولاننساهم ولكي لايفلتوا من اي حساب..
اوجه دعوتي لاخوتي بماتجود معلوماتهم بذكر الشخصيات التي خدمت البعث من شعراء وساسة ومتملقين عراقيين.
اخوتي إن بقيت هذه البذرة النجسة بارض العراق فلن نصل ابدا الى بناء عراق نحلم به جميعا خال من العنصرية والقتل والفساد.
---------------
من شعراء صدّام لحظة نزول الإلهام، لأمين الباشا.
بالروح بالدم.
يروي الكاتب العراقي سلام عبود في كتابه “ ثقافة العنف في العراق” ان الشاعر العراقي حميد سعيد الذي كان يجمع صفة الاديب والحاكم، انتخب بالاجماع اميناً عاماً لاتحاد الكتّاب العرب في مؤتمره المنعقد في بغداد .1986 يومها قال حميد سعيد في معرض حديثه عن الادباء العرب، الذين يعيشون في الخارج، والذين يخالفونه الرأي حول الحرب: “ والله حين تنتهي الحرب سأجيء الى هنا، وكلما التقيت بواحد من امثال هؤلاء سأخلع قندرتي (حذائي) واضرب بها على رؤوسهم الخاوية. ومنذ ذلك الحين اصبح مصطلح “المسألة القندرية” متداولا في الصحف الصدامية.
يقال ان اول قصيدتين في مديح صدام كانتا لشاعرين تمّ تصنيفهما من شعراء البعث هما شفيق الكمالي ومحمد جميل شلش. بدأ هذا الاخير حياته الشعرية في اول الستينات مقرّباً من الايديولوجيا الثورية الزائفة والحالمة، ودخل السجن اكثر من مرة بسبب مواقفه وقصائده. لكن السمة التي عرف بها في الستينات سرعان ما انقلبت في السبعينات فتغيرت حياته بعد قصيدته المدحية في صدام حسين. وكان يومذاك يلقَّب بـ”السيد النائب”. وقد قال فيه:
وأجلّ ملحمة العقيدة والفدا - اني اجلك ان اكون معاتبا
واجلّ ما تكنى به واحبه - اني اسمّيك الحبيب النائبا.
كتب شفيق الكمالي قصيدة لم نعثر على نصها وقد عيِّن وزيراً للثقافة والاعلام لكنه تعرض للتصفية في ما بعد في حادثة قيل لتبريرها انه كان في طريقه للهرب الى سوريا التي كانت تعتبر من الد الخصوم لصدام.
شاعر الرئيس
لم يبرز شفيق الكمالي في مديح صدام ولا حتى محمد جميل شلش، فالاول في هذا المجال هو عبد الرزاق عبد الواحد صاحب ديوان “الارض البهية”. والمعروف انه “شاعر الرئيس” (صدام). وهو يفتخر في حديث له في جريدة “الشرق الاوسط” بأنه قال في صدام شعرا لم يقله المتنبي في سيف الدولة: “
ادرك حدود الصبر لا تتزعزع-- وقم ظهور الناس لا تتقطع
فالسيل قد بلغ الزبى سيدي-- وبيوت اهلك بالتقى تتدرع
ولقد تحامينا بحيث فطيمنا -- لا يفتدى ورضيعنا لا يرضع”.
قال عبد الرزاق كلاماً باهتاً، محاولا الدفاع عن مثل هذا الشعر، فذكّر البعض بأن المتنبي كان يمدح السلاطين، وبأن مديح الحاكم من صميم التراث العربي. اضافة الى ذلك، فقد بارك الجواهري شعره مما زاد من حماسة الناس له. والمعروف ان الجواهري كان كثير المدائح للامراء والملوك والرؤساء وهو حاضر بقوة بين القراء العرب الكلاسيكيين. قبل ذلك كان عبد الرزاق ينشر قصائده هنا وهناك، بعضها في مديح الجيش واخرى يطلقها ضمن اراجيز مهرجانات حرب تشرين. وغداة كتابته قصيدة رثاء الى عدنان خيرالله الذي اغتاله صدام، قيل ان صدام لاحظ ان عبد الرزاق بدأ يمدح البكر لمناسبة ومن دونها، فامتعض وارسل من يرشد عبد الرزاق اليه فاشتعل المديح على ليلاه، واتت حرب الخليج الاولى فبالغ عبد الرزاق في قصائده الاحترابية مادحاً قائد الحرب، وفعل الحرب ودوامها، واعتزازه بها.
وهو سبق له ان كتب في مديح عبد الكريم قاسم والوصي عبد الاله، وفي التسعينات مدح الشيخ زايد في بضعة ابيات، ما ان اطلع عدي (نجل صدام) عليها حتى اقام الدنيا ولم يقعدها وارسل الى الصحافي مظهر عارف قصاصة ورق يحثه فيها على كتابة مقال افتتاحي يهاجم فيه الشاعر. وفي اليوم التالي نشر المقال الافتتاحي تحت عنوان “موت الشاعر” قال فيه السيد عارف ان بعض الشعراء يقولون ما لا يفعلون وينكرون الجميل، فقد أغناهم صدّام بعدما كانوا نكرات ولكن في سبيل حفنة من الدولارات يسيل لعابهم ويهيمون في كل واد.
اصيب عبد الرزاق بالصدمة وهو يطالع المقال، وتوسل بالصغير والكبير لايضاح الموقف لعدي. فهو لا يحتمل زعل القائد ونجله، ولا انقطاع المال الوفير من خزائن السلطان، ولا يحتمل ان يزاح من “قبو” البلاط، فكتب توضيحا الى صحيفة “بابل” امر عدي بنشره بحروف صغيرة في الصفحات الداخلية امعانا في اذلال الشاعر، وفي التوضيح برر الشاعر مدح زايد بأنه تعاطف مع الشعب العراقي ويحب صدام.
يروي خالد مطلق ان شاباً في المرحلة الاخيرة من دراسته الثانوية قرأ قصيدة لفتت اليه الأنظار في مهرجان شعري حضره صدام وبعض وزرائه. طلبه صدام مباشرة بعد الانتهاء منها وحيّاه وشكره من على شاشات التلفزيون. ومنذ تلك القصيدة تحول سلطة مهيبة اقلقت وجود عبد الرزاق عبد الواحد اذ حصل على امتيازات لم يحصل عليها اي من شعراء البلاط. اعفي من امتحانات البكالوريا، وعُيّن مديرا عاما في ديوان رئاسة الجمهورية، وسكن في بيت فخم يتوسط بيوت الوزراء. وهذه الامتيازات رافقتها امتيازات “صدامية”: زيجات من اشرف العوائل اعقبتها طلاقات، ومهرجانات ضخمة. كان اسم هذا الشاعر لؤي حقي وقد سرت شائعات تقول انه ابن غير شرعي لصدام الذي اسس من اجله منتدى الادباء الشباب.
وصار لؤي حقي يلبس اللون العسكري المميز الذي عرف به صدام ويشبّح ضد الآخرين. وفي احدى الليالي انهال ضربا على مدير احد المستشفيات. بلغ النبأ صدام، فأدخل لؤي السجن وجرده من مناصبه، وشمت به الناس كما ينقل خالد مطلق. وغداة اقامة ذكرى الاربعين لاغتيال ابن خال صدام، جيء بلؤي من السجن الى المنبر وصدح شعراً:
الحاسدون وإن سعوا في مقتلي -- ذلوا وشاهت اوجه وبصائر
العاذلون ويا لقلبي في هوى صدام -- كل العالمين ضرائر
الناعبون بألف صوت عاقر -- جاشوا وحسبي ان صمتي شاعر.
ولم تشفع القصيدة له كثيراً لدى صدام الذي امر بإطلاق سراحه، من دون رد الاعتبار اليه.
لكن الشاعر الصغير بدا مرآة لصدام نفسه، او قناعاً للاستبداد الصغير. فما ان اعطي سلطة حتى راح يمارس نزواته القمعية والجنسية والتشبيحية.
الكارثة الثقافية في زمن صدام ان هناك جيشا من الشعراء اغدقت عليهم الالقاب الرسمية. فعبد الرزاق عبد الواحد “شاعر الرئيس” وغزاي درع الطائي “شاعر القوات المسلحة” وهو صاحب القصيدة الشهيرة ومستهلها:
“حين بكيت سيدي الرئيس يوم الخميس” في اشارة الى بكاء صدام في التلفزيون في الحرب العراقية – الايرانية. اما رعد بندر فلقّب بـ”شاعر ام المعارك”.
ولصدام شاعراته واشهرهن " العلوية " ساجدة الموسوي، ولقبها “شاعرة ام المعارك” وتقول في احدى قصائدها: “
هيئوا للقتال البنادق -- واحفروا للعدو الخنادق
واشعلوا الارض من تحته -- وانثروا الرياح رماد بقاياه”.
ومن انصار الصدام، الشاعر والكاتب المسرحي يوسف الصايغ، الذي قيل ان تنازله عن شيوعيته لصالح البعث الحاكم لم يثمر علاقة جيدة مع الصدام، وقد قال مرة: “تنفتح ابواب التاريخ فيدخل صدام حسين”.
لا شك ان المديح، مديح الولاة والسلاطين، يشكل جزءا من التراث العربي، ولا يزال قمة الشعر العربي في الاوساط التقليدية، اي الشعر المندمج بالسلطة. لكن يبدو ان مرحلة المديح كانت سيئة في الشعر العربي، فالمحنة ليست في المديح بل في مديح الطاغية. ورغم ان ذلك لا يحتمل، فان البعض تتطابق نزواته الخاصة مع نزوات الطاغية، ذلك ان حلم الشاعر احيانا يشبه حلم الطاغية.
نقول ان شعراء كثراً مدحوا صدام، ونعلم ان الشاعر الاميركي عزرا باوند نشط في ايطاليا في بث الدعاية الفاشية وقد وضع في مستشفى الامراض العقلية في واشنطن (1946 – 1958). اما الشاعر النروجي كنوت هامسون (1851 – 1952)، فابدى تعاطفاً مع الاحتلال النازي لبلاده، وقد حوكم ودين، واتهم بالخلل العقلي. وكما جذبت الفاشية الرسام الانكليزي والكاتب الساخر ويندهام لويس، جذبت الايديولوجيا البعثية العديد من الشعراء ليمدحوا قادتها وينشدوا دمها وثأرها.
المداحون اللبنانيون
ما الذي يجعل العديد من الشعراء اللبنانيين يطلقون قصائدهم المدحية في المهرجانات السورية؟ او ما الذي يجعل غيرهم يذهب الى الخيمة القذافية؟ انهم غلاة الارتزاق واللاأخلاق والخوف. فأين الكبرياء اتي يتباهى بها احد الشعراء، حين يتحول هذا الشاعر نفسه الى حامل قلم لضابط؟ وكيف ان شاعراً آخر ينشد الحرية لكنه يقف مادحا قادة نظام القمع؟ وماذا عن شاعر يهرب من القندرة بقدر ما يذهب اليها، ويعشق غبارها؟
يقول سلام عبود لا يمكن الاديب في أي حال من الاحوال ان يقول كلمة في وطن يحكمه صدام او هتلر الا بطريقتين اولاهما ان يتحامق ويكتب علنا، فيكتب في الوقت ذاته وصية موته. وثانيتهما ان يصمت، وبذلك يكتب وصية موته الادبي. تلك المعادلة الصعبة واجهها كتّاب العراق ممن ولدوا ادبيا في الزمن الصدامي وسنوات حكم البعث. ولكن الافدح حين يكون الشعراء من المنظّرين لصدام شأن حميد سعيد صاحب مصطلح “المسألة القندرية”، او سامي مهدي الشاعر البعثي عن ايمان والذي لم يخف قط ولاءه لقيادة صدام “الحكيمة”، بل كتب مقالات تشيد بانجازات هذه القيادة، ونظم قصائد عديدة تهلل لانتصاراتها في حرب القادسية. وفي زمن مضى القى شبهات العمالة على مجلة “شعر” اللبنانية، واتهم اي تجريب شعري يقدم عليه شاعر شاب بالتقليد وبالعمالة بحجة ان قصيدة النثر “لم تنشأ طبيعية في رحم حركة الشعر العربي”، وهذا ايماء الى ثقافة التفتيش الايديولوجية العروبية التي سادت في زمن الوهج الثوري وربما هي لا تزال قائمة.
هكذا كان حميد سعيد وسامي مهدي يتمتعان بعقلية “تفتيشية”، ويقومان بحملات التطهير البعثية ضد ثقافة الآخرين. يريدان ممارسة كل السبل من اجل تنقية الثقافة الوطنية البعثية وتوحيد عناصرها، سواء بتذويب من يرغب في الذوبان في المحيط الثقافي القائم، او بإرغام الرافضين للتبعيث الثقافي على ترك الوطن، من طريق ما عرف بـ”خيار الهجرة”. وهذا هو البند الاساسي في المشروع الثقافي البعثي.
ثقافة التبعيث
تجعل ثقافة التبعيث الفضاء فارغا الا من قصائد المديح والولاء. المديح للقائد يصبح فضاء الثقافة، وتمجيد الحرب والاستشهاد هما سند كل عبارة. وقد رسم عبد الرزاق عبد الواحد ثقافة التبعيث وعسكرة الحياة رسما مؤثرا في قصيدته “اي الخيارين“:
بلى يا لهيب القادسيات كلها
ويا سحبا للمجد جل انهمارها
ويا جند من حتى المقادير جنده
ففي يده اقبالها وانحسارها
فإن قلت يا صدام… ناديت امه
لان المنادي زهوها وفخارها.
لقد اصبحت عسكرة المجتمع هي الهوية الثقافية للعراق الصدامي البعثي. هي نبض الحياة “المميت” ويقدمها النظام للعالم على انها الوجه الاثير لهذا الشعب. يقول سلام عبود ان الوطن في مفهوم الشاعر البعثي اصبح مساويا تماما لمفهوم الجبهة العسكرية، اما المواطن فمحض ذاكرة حزبية. هو كائن موعود بالحرب منذ الولادة، او حتى قبلها، وحامل لتاريخها. على غرار ما فعل حميد سعيد في “اشراقات الشهيد عباس بن شلب” حين قال: “
كل امرأة حملت… كل امرأة لم تحمل بعد…
ستنجب ذات مساء
ولدا بكرا
يحفظ تاريخ الحرب… واسماء الشهداء”.
اما سامي مهدي الذي يقال انه ارتدى البدلة الكاكية، فكتب قصيدته “رأيت ما رأيت” عن “قرية سيحان التي قاد فيها مجموعة من قوات الجيش الشعبي للدفاع عنها”. يقول في هذه القصيدة “
اعرف انك شاعر/ ولكن ليس ضروريا ان تشيخ حتى/ الخرف كأراغون./
اعرف انك حزين/ ولكن من السخف ان تنتحر كمايكوفسكي/ لا تفكر بهذين، ولا بغيرهما ابدا./
لا تفكر حتى بلوركا/ فقد كان وديعا اكثر مما يجب./ كان وديعا/ فقتل قبل ان يقاتل. /هكذا في الحياة!/ او هكذا يريدها الاعداء!/ فقاتل قبل ان تقتل/ واحمل اضاحيك وسر في المقدمة./”
يعرّف الوطن باعتباره مزيجا من البارود والدم والرمل والسواتر ف”هو في الساتر المتقدم/ في فوهة البندقية/ في الدم والرمل/ في صولة الصائلين”. هذا هو مجتمع الثكن، حيث تصبح الحرب نمط تفكير وحياة، او الاساس الواقعي والعقلي والتاريخي والنفسي الوحيد الموصول بالحلم.
جعل حميد سعيد من الحرب القاتلة حياة للاجتماع، ولا يختلف عنه سامي مهدي وساجدة الموسوي وعبد الرزاق عبد الواحد، وغيرهم من محبي الحرب والمزهوين بها. لم يكن في مقدورهم سماع شيء او رؤية شيء سوى المعجزة الحربية التي صنعها صدام. لقد كتب اشعارهم، ومن يراجعها يجد فيها وثائق تاريخية تسجل بشاعة الواقع وقسوته المفرطة. لم تكن لغة شعراء صدام الا علامة جلية على لغة الصدم والفتك والسحل النفسي في الوسط الاجتماعي. كان الضجيج الاحترابي المنبعث منها تتويجا لثقافة التبعيث التي ارهقت المشرق العربي، ولم تحتمل لبنان فامتدت اليه، بهدف سحل المناخ التعددي الذي ولد في بيروت.
تولى ثقافة التبعيث شعراء وقادة فكر وثقافة، حوّلوا الحرب من محرقة الى عيد وعرس، وحوّلوا الدم الى ورد والشهادة الى جمال. لا ادري بماذا كان يفكر ذلك الذي كتب “اجمل الامهات هي التي انتظرت ابنها وعاد مستشهدا”. هل كان يهذي او يجن؟ الارجح انه كتب ذلك تماشيا مع ثقافة الدم التي كرّسها الراديكاليون العرب، ووجدوا فيها احدى ميزاتهم المرعبة. هكذا ادت ثقافة التبعيث الى ظهور قاموس غريب من نوعه في العالم العربي. ربما كان علينا ايضا ان نذكر اسراب الشعراء اللبنانيين الذين مدحوا القادة العرب وخصوصاً السوريين منهم. ربما علينا ايضاً ان نشير الى الاناشيد التي كانت تؤلفها الميليشيات اللبنانية، وصولا الى الاشعار الملتزمة. فمن يقرأها او يسمع مقاطع منها يدرك بشاعة الحروب اللبنانية ومنطقها الفاشيستي، ويستنبط رعب ما انتجته الجماعات الايديولوجية بكل تلاوينها. كل منها تقدس قائدها وصاحب حلمها، وترفع الصوت عالياً ليفتك بالآخرين ويسيّل الدم انهراً. هل يذكر اللبنانيون انهم كانوا (وربما لا يزالون) يغنون “بدنا نمشّي الدم نهور”؟
جعلت الحرب لغة الناس احترابية واستبدادية وقاتلة، وهي تحتاج الى توثيق بالطبع لتبيان الماضي الوخيم حتى لا يذهب الى النسيان، ذلك لان النسيان يفضي الى تكرار الخطأ نفسه.
كانت ثقافة التبعيث حصيلة للتقاسم الثقافي بين الجماعات القومية واليسارية. لقد أُستخدم المثقف عزيز السيد جاسم في مواجهة الشيوعيين والمستقلين عند قيام سلطة البعث، لكنه وجد نفسه حال انتهاء دور الشيوعيين امام لجنة عسكرية للاجابة عن تهم تتعلق بالوضع الثقافي. هكذا جعلت ثقافة التبعيث وزير الثقافة العراقي لطيف نصيف جاسم يقول عن المحايدين انهم حشرات، لان مبدأه يعتبر ان المحايدين يمكن ان يصبحوا معارضين. لكن الثقافة التي أوجدها البعث كانت سائدة في المجتمع خلال الستينات، والا تعذّر تفسير النجاح المذهل الذي صادفه البعث في العراق وسوريا. لقد كانت من نتاج الدولة بالكامل، وتتسم بطابع “المحاكاة” لرغبات الحاكم واهوائه. تعاون جيل كامل من المثقفين العراقيين والعرب عموماً مع نظام البعث. ونستطيع القول ان الكثير من الفنانين تورطوا في رسم صدام، والكثير من الشعراء سقطوا في فخ الوهم الثوري والقومي والعروبي ومدحوا صدام، الذي شكل ورطة قاتلة.
لنذكر ان الشاعر اليساري عبد الوهاب البياتي مدح صدام يوم كان الشيوعيون على تقارب مع البعث، فقال عنه: “
هو الذي رأى كل شيء”.
اي انه الملك – الاله السومري جلجامش، بتفسير هاشم شقيق. ولكن مع “التطهير” البعثي ومده الايديولوجي، فقد الشيوعيون بوصلتهم، واطلق البياتي الاحكام القبيحة على الشعراء الذين اخطأوا فأصبحوا من “المخصيين” ومن “شعراء النظام”. فالشاعر الحقيقي في تقديره، آنذاك، هو من يدق “على ابواب العصر الآتي بالكلمات” (قصيدة العراء) اما الشاعر الملفق فهو “ديك مخصي بثياب النظام، ينطح صخر قوافي الشعر الموطوء، ويخفي عورته بالاوزان”. او يقول: “اتبرأ من شعر يزني باسم الشعر، ويعلن افلاس الانسان” ليصل الى القول: “يموت الديكتاتور ويبقى الشاعر“.
لا يبدو ان كمّ قصائد الهجاء لصدام يستطيع ان يمحو قصيدة في مدحه. انها ورطة. لم يكن البياتي وحده موهوما بالديكتاتور. رفيق دربه الشيوعي الآخر، بابلو نيرودا، كان شهيرا في مديح جوزف ستالين، لكن الكثير من اشعاره وقعت في المستنقع الايديولوجي، ولا يختلف عنها بعض اشعار البياتي، الذي سخر كغيره من الشعراء العرب من الزعماء والسلاطين. بعد هزيمة حزيران ،1967 كتب قصيدة بعنوان “بكائية الى شمس حزيران والمرتزقة” وكتب “اننا سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر”. جماجم الامبرياليين في قصيدة البياتي القديمة لا تختلف في مضمونها عن ثقافة البعث التي كانت تنظر الى العالم بعقدة الاضطهاد، واعتباره مليئا بأعداء العروبة وعملاء الامبريالية والصهيونية.
ولا يختلف شاعر المرأة والحب نزار قباني عن البلشفي عبد الوهاب البياتي. فنزار الذي بالغ في هجاء امراء النفط وانهال عليهم بالشتم واللوم، بالغ ايضا في مدح صدام واسبغ عليه الصفات الالهية قائلا: “هو من قطر اللون الاخضر في عيني”. لكن صدام سرعان ما جلب الهزيمة لشاعر العشق والجمال. فبعد حرب الخليج هجا نزار صداماً، قال: “
مضحكة مبكية معركة الخليج/
فلا النصال انكسرت على النصال/
ولا الرجال نازلوا الرجال/
ولا رأينا مرة اسوار بانيبال/
فكل ما تبقى لمتحف التاريخ/
اهرام من النعال”. هذه القصيدة جعلت شاعر صدام رعد بندر يهاجم قباني:
“يا قباني… يا فاتح القناني!!/
بل حربنا حرب/ سلامنا سلام/
لكن ما يناله العملاق/ لا تناله الاقزام/
تاجر. فان اقصر الدروب للثراء/ تجارة الاقلام…
فرق كبير بين شاعر احباره دماؤه/ وآخر احباره الخمور…
فرق كبير بين فاتح اضلاعه للموت والطعان/ … وبين فاتح (القناني)/ صدّق بأني مشفق عليك/
وان احدث النكات عندنا/ كلامك الذي هجاني“.
عام 1982 رفض الكاتب الجزائري الطاهر وطار دعوة النظام الصدامي لزيارة العراق لأنه نظام قمعي. في مقابل هذا الموقف النادر في النسيج العربي، كثير من المثقفين العرب خدموا صدام لسنوات طويلة ودعوا له وقبضوا ثمن خدماتهم وتأييدهم. حتى ان الكتّاب الخليجيين والكويتيين خاصة (دعاة الحرية الآن) رفعوا صدام الى مصاف الالهة عندما كان يخوض حربه وحربهم ضد ايران الخمينية والفارسية.
وهناك المئات من مثقفي الدول العربية ، توافدوا في حمولات الطائرات الصدامية لحضور مهرجاني “بابل” و”المربد”. بل ان الروائي المصري جمال الغيطاني، رافع راية الحرية ضد وزير الثقافة المصري فاروق حسني، ورافع راية ما يسمّى “ادب المقاومة”، كان امثولة للنظام العراقي، اشاد به وزير الثقافة العراقي لطيف نصيف جاسم، مشيرا الى كتابه “حراس البوابة الشرقية”، ولام الآخرين على سكوتهم. فعدا نفر معدود من الكتّاب المغمورين، منهم الفلسطينيون يوسف اليوسف ومحمد سمارة ونواف ابو الهيجاء، والسوداني احمد القباني، لم يقدم احد من القصاصين والروائيين شيئاً جدياً لمعركة القادسية.
بينما كانت وفود الكتّاب العرب لا تنقطع عن الموائد الصدامية. كان كل هؤلاء يسبّح في المجالس باسم القادسية وحارس الوطن. لكن النظام العراقي لاحظ انه لا يستفيد منهم. قال لطيف جاسم: “اننا ما زلنا نذكر للآن كتاب جمال الفيطاني (حراس البوابة الشرقية)، فكيف لا تظهر الآن اعمال قومية عن حدث بمستوى معركة العراق القومية المقدسة؟“.
يبدو ان فكرة العيش على حساب صدام كانت شائعة. فقد عاشت بعض المؤسسات الثقافية في بيروت من خزائن صدام، وتعيّش احمد عبد المعطي حجازي من أموال الديكتاتور لسنوات بحجة انه معارض للسادات، وكتب عنه امير اسكندر كتابا تافها من يقرأه يدرك ثمنه، وذهب محمد صبحي صاحب “فارس بلا جواد” الى بغداد واخذ الصور معه منتشيا سامعا نصائحه في التمثيل. ولا ننسى الفنانة رغدة، والصحافي عبد الباري عطوان، مناصر صدام وابن لادن. وتبقى الفادحة في جيوش الشعراء العرب واللبنانيين الذين كانوا يتهافتون الى مهرجانات صدام او الى المهرجانات والمناسبات السورية (ومنهم جوزف حرب وطلال حيدر) او الى خيمة العقيد الليبي.
مدح الصدام كان يأتي كثيراً منالخارج، فكيف في الداخل والبعث يسيطر بدون منازع ولا يوفر احداً؟ السر يكمن هنا. او اننا امام مفارقتين. الكثير من المثقفين العرب نالوا من النظام الصدامي راتباً شهرياً، وهذا يجعلهم بحماقة يتناسون كل شيء. في المقابل، كان مديح صدام والتغني ببطولات الجيش الباسل الذي يخوض الحرب واجبين بعثيين في العراق، لا يفوت احد القيام بهما.
لكن ثمة من تجاوز هذا الى مديح اعوان الرئيس وحراسه. وكان رهاب البعض على الموقع ربما. كان يوسف الصايغ شيوعيا، بعدما مدح الصدام بات في رتبة مدير عام. وهي رتبة لم ينلها حسب الشيخ جعفر الذي اضطر هو الآخر الى مديح صدام.
قبل ان يغادر الشاعر العراقي عدنان الصايغ العراق الى المنفى وينال جائزة “ضحايا التعبير”، قيل انه عمل مسؤولا في دائرة التوجيه السياسي التي تشرف عليها الاستخبارات العسكرية العراقية، وعمل مسؤولا في مجلة “حراس الوطن” الصادرة عن الدائرة نفسها. وهو من المنظمين الرئيسيين لما سمّي “مهرجان الميلاد” الذي كان يقام لمناسبة ميلاد صدام. ولم يكن الصايغ من مادحي صدام مباشرة بقدر ما كان يروّج لايديولوجيته الحربية ولاعوانه. ومثله العشرات من الكتّاب في كتاب “ثقافة العنف في العراق” لسلام عبود الذين سعوا الى اضفاء جو من القداسة والعظمة على آلهة الحرب، من نجمان ياسين الى محسن الموسوي ولطيف ناصر حسين وعبد الستار ناصر ومحمد حسين ال ياسين وجاسم الرصيف وبثينة الناصري وصلاح الانصاري وعلي جعفر العلاق واحمد خلف، وغيرهم. هؤلاء كلهم سعوا الى خلق مفهوم الحرب وتبعيث العراق وتمجيد العسكريين والقادة.
ثقافة التبعيث اجبرت الكثيرين في العراق على كتابة ما لا يشاؤون. في المقابل، الكثير من الكتاب والصحافيين وسادة الافتتاحيات وقادة الاحزاب في دنيا العرب، ايدوا صدام وراهنوا على “قادسيته” في الحرب الاخيرة، وشتموا من يشتمه ودافعوا عنه بلا حرج. لكن هؤلاء انفسهم ما ان اختفى صدام خلف جدار بغداد الرملي حتى تهافتوا لضرب تمثاله بحذاء الكلمات.
مـحـمـد الـحـجـيـري – جريدة النهار