حسناء ، أي فتى رأت تصد |
قتلى الهوى فيها بلا عدد |
بصرت به رث الثياب ، بلا |
مأوى بلا أهل بلا بلد |
فتخيرته ، وكان شافعه |
لطف الغزال وقوة الأسد |
*** |
ورأى الفتى الآمال باسمة |
في وجهها ، لفؤاده الكمد |
والمال ملء يديه ، ينفقه |
متشفياً إنفاق ذي حرد |
ظمآن والأهواء جارية |
كالسلسبيل ، مسى يرد يرد |
روض من اللذات ، طيبة |
أثماره ، خلو من الرصد |
نعم أفانين ، يكاد لها |
يختال من غلواه في برد |
ماضيه ، لو يدري بحاضره ، |
رغم الأخوة مات من حسد |
*** |
سكران ، والكاسات شاهدة ، |
إن الكؤوس لها من العدد |
سكران لا يصحو كسكرته |
أمساً ، وسكرته غداة غد |
سكران ، وهي تزقه قبلاً |
ويزقها ، وإذا تزد يزد |
سكران ، وهي تمص من دمه |
وتريه قلب الأم للولد |
سكران ، حتى رأسه أبداً |
لا يستقر لكثرة الميد |
(( قالت له : نم ، نم لفجر غد |
ضع رأسك الواهي على كبدي |
نم ، لا تسلط يا حبيب على |
مخمور جسمك قلة الجلد |
عيناك متعبتان من سهر |
ويداك راجفتان من جهد |
- لا ، لا أنام ولا أذوق كرى ، |
إن النهار مضى ولم يعد |
لا ، لا أنام و لا أذوق كرى ، |
أنا لست من يحيا لفجر غد |
سلمى ، أحس النار سائة |
بدمي ، وتجري معه في جسدي |
وأحس قلبي فاغراً فمه |
للحب ، للذات ، للرغد |
إن ضاع يومي ، ما أسفت على |
خضر الربيع وزرقة الجلد |
*** |
نم لا تكابر ، كاد رأسك أن |
يهوي بكأسك ، غير أن يدي .. |
- يهوي ! .. نعم يا فتنتي ومنى |
نفسي ، وزهرة جنة الخلد |
يهوي ! .. ولم لا ، والشباب ذوى |
وعلى شبابي كان معتمدي |
لم تبق لي مني ، سوى رمق |
متراوح في أضلع همد ... |
رباه مذ يومين كنت فتى |
لي قوتي وشبيبتي وغدي |
واليوم ، أسرع للبلى ، وأنا |
لم أبلغ العشرين أو أكد |
سلماي إنك أنت قاتلي ! |
فجميل جسمك مدفني الأبدي |
وطويل شعرك صار لي كفناً |
كفن الشباب ذوى وكان ندي |
سلمى اطفئي الأنوار وافتتحي |
هذي الكوى لنسائم جدد |
ودعي شعاع الشمس يضحك لي |
فشعاعها يرد على كبدي |
ودعي أريج الزهر ينعشني |
وهديل طر الأيكة الغرد |
أنا ، إن قضيت هوى ، فلا طلعت |
شمس الضحى بعدي على أحد )) |
*** |
- أنا إن قتلتك كيف تحفظني |
إن صح زعمك ، حفظ مقتصد |
أو كنت مت لليلتي جهد |
يا مهجتي خفف ولا تزد |
- لا ، أنت محييتي ومنقذتي |
من عيشي المتنكر النكد |
أفأنت قاتلتي ؟ كذبت أنا ، |
لولاك كنت أذل من وتد |
لكنما العشاق ، عادتهم |
ذكر المنايا ذكر مفتئد |
يبكون من جزع للذتهم |
أن لا تكون طويلة الأمد .. |
قلبي لقلبك خافق أبداً |
ويظل يخفق غير متئد |
- إن كان ذاك ، فهذه شفتي |
من يشتعل في الحب يبترد |
*** |
وتصافحا فتعانقا فهما |
روحان خافقتان في جسد |
*** |
نهبا أويقات الصفاء ، وقد |
عكفا عليهما عكف مجتهد |
وترشفا كأس الغرام ، وما |
تركا بها من نهلة لصدي |
ومشى الهوى بهما كعادته ، |
والبحر لا يخلو من الزبد ... |
*** |
سنة مضت ، فإذا خرجت إلى |
ذاك الطريق بظاهر البلد |
ولفت وجهك يمنة ، فترى |
وجهاً متى تذكره ترتعد : |
هذا الفتى في الأمس ، صار إلى |
رجل هزيل الجسم منجرد |
متلجلج الألفاظ مضطرب |
متواصل الأنفاس مطرد |
متجعد الخدين من سرف |
متكسر الجفنين من سهد |
*** |
عيناه عالقتان في نفق |
كسراج كوخ نصف متقد |
أو كالحباحب ، باخ لامعه ، |
يبدو من الوجنات في خدد |
تهتز أنمله ، فتحسبها |
ورق الخريف أصيب بالبرد |
ويكاد يحمله ، لما تركت |
منه الصبابة ، مخلب الصرد |
*** |
يمشي بعلته على مهل |
فكأنه يمشي على قصد |
ويمج أحياناً دماً . فعلى |
منديله قطع من الكبد |
قطع تآبين مفجعة |
مكتوبة بدم بغير يد |
قطع تقول له : تموت غداً |
وإذا ترق ، تقول : بعد غد .. |
والموت أرحم زائر لفتى |
متزمل بالداء مغتمد |
قد كان منتحراً ، لو أن له |
شبه القوى في جسمه الخصد |
لكنه ، والداء ينهشه ، |
كالشلو بين مخالب الأسد .. |
جلد على الآلام ، ينجده |
طلل الشباب ودارس الصيد .. |
*** |
أين التي علقت به غصناً |
حلو المجاني ناضر الملد |
أين التي كانت تقول له: |
ضع رأسك الواهي على كبدي ؟.. |
مات الفتى ، فأقيم في جدث |
مستوحش الأرجاء منفرد |
متجلل بالفقر ، مؤتزر |
بالنبت من متيبس وندي |
وتزوره حيناً ، فتؤنسه |
بعض الطيور بصوتها الغرد .. |