و رأيت من بعد تسمية هذاالكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها و يقرب عليه طلابها و فيهحاجة العالم و المتعلم و بغية البليغ و الزاهد و يمضي في أثنائه من عجيب الكلام فيالتوحيد و العدل و تنزيه الله سبحانه و تعالى عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة وشفاء كل علة و جلاء كل شبهة و من الله أستمد التوفيق و العصمة و أتنجز التسديد والمعونة و أستعيذه من خطإ الجنان قبل خطإ
[54]
اللسان و منزلة الكلم قبل زلة القدم و هو حسبي و نعم الوكيل .

في أثناء هذا الاختيار تضاعيفه واحدها ثني كعذق و أعذاق و الغيرةبالفتح و الكسر خطأ و عقائل الكلام كرائمه و عقيلة الحي كريمته و كذلك عقيلة الذودو الأقطار الجوانب واحدها قطر و الناد المنفرد ند البعير يند الربقة عروة الحبليجعل فيها رأس البهيمة و قوله و على الله نهج السبيل أي إبانته و إيضاحه نهجت لهنهجا و أما اسم الكتاب فنهج البلاغة و النهج هنا ليس بمصدر بل هو اسم للطريقالواضح نفسه و الطلاب بكسر الطاء الطلب و البغية ما يبتغى و بلال كل غلة بكسرالباء ما يبل به الصدى و منه قوله انضحوا الرحم ببلالها أي صلوها بصلتها و ندوهاقال أوس :

كأني حلوت الشعر حين مدحته ** صفا صخرة صماء يبس بلالها

و إنما استعاذ من خطإ الجنان قبل خطإ اللسان لأن خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطإ اللسان أ لا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفرالإنسان بلسانه و هو غير معتقد للكفر بقلبه و إنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلةالقدم لأنه أراد زلة القدم الحقيقية و لا ريب أن زلة القدم أهون و أسهل لأن العاثر يستقيل من عثرته و ذا الزلة تجده ينهضمن صرعته و أما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها و لا ينهض صريعها و طالما كانتلا شوى لها قال أبو تمام :

يا زلة ما وقيتم شر مصرعها ** و زلة الرأي تنسى زلة القدم

[55]
باب الخطب و الأوامر :

[57]
قال الرضي رحمه الله باب المختار من خطب أمير المؤمنين (ص) و أوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة و المواقفالمذكورة و الخطوب الواردة .

المقامات جمع مقامة و قد تكون المقامة المجلس و النادي الذي يجتمع إليه الناس و قد يكون اسما للجماعة والأول أليق هاهنا بقوله المحضورة أي التي قد حضرها الناس.

و منذ الآن نبتدئ بشرحكلام أمير المؤمنين (ع) و نجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه الأصل فإذا أنهيناه قلناالشرح فذكرنا ما عندنا فيه و بالله التوفيق .

1- فمن خطبة له عيذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَالَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِالَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌمَعْدُودٌ وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَالرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ .

[58]
الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمدو المدح أخوان لا فرق بينهما تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه وحمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان وفيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين فأما الشكر فأخص من المدح لأنه لا يكونإلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكرزيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد.

إن قيل الاستعمال خلاف ذلك لأنهميقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد قيل ذلك إنما يصحإذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكراعلى السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرالاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرورالمذكور و مدحا باعتبار آخر و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه.ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكونإلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم فإن استعمل شي‏ء من ذلك فيالأفعال بالجوارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان فإنالاستعمال لا يساعدهم لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعةإنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثرالمتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي فأما
[59]
أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية و الإماميةأو تؤخذ معه أمور أخرى و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة و لايخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنافق عندهم يسمى مؤمناو نظروا إلى مجرد الظاهر فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا. و المدحة هيئة المدحكالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا و منه في الكتابالعزيز كثير كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها .

و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم الحمد للهعلى نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها و إن عجزنا عن إحصائها و عدها وقالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد

فما بلغت كف امرئ متناول بها المجد** إلا و الذي نلت أطول

[60]
و لا حبر المثنون في القول مدحة ** و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل

و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قولبعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية :

الحمد لله بقدر الله ** لا قدر وسع العبد ذي التناهي

‏و الحمد لله الذي برهانه ** أن ليس شأن ليس فيه شانه

‏و الحمد لله الذي من ينكره ** فإنما ينكر من يصوره

و أما قوله الذي لا يدركه فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إنعلت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أنيكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء يشهد بذلك مثالالمحسوس السواد و الحموضة مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم مثال الموجود منفطرة النفس تصور الألم و اللذة و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكنمتصورا. فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقتهيقول ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب وكل محدود مركب.

ثم قال و لا نعت موجود أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياءبرسومها و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها ثم قال و لا وقت معدود ولا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا
[61]
نعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة فإن القائلين برؤيته في الآخرةيقولون إنا نعرف حينئذ كنهه فهو (ع) رد قولهم و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاقتعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرةو عرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخصإلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه و قد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروفبزيادات النقضين و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعريلا بد فيها من إثبات الجهة و أنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم والرؤية تشخص المرئي و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة. و اعلم أن نفيالإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِعِلْماً و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و قالبعض الصحابة العجز عن درك الإدارك إدراك و قد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحهالمعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي :

أتبعته فكري حتى إذا بلغت ** غاياتها بين تصويب و تصعيد

رأيت موضع برهان يلوح و ما ** رأيت موضع تكييف و تحديد

و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق. فأما قوله فطرالخلائق إلى آخر الفصل فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز فقوله فطر الخلائق بقدرتهمن قوله تعالى قالَ رَبُّ السَّماواتِ
[62]
وَ الْأَرْضِوَ ما بَيْنَهُمَا و قوله و نشر الرياح برحمته من قوله يرسل الرياح نشرا بين يديرحمته. و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه من قوله وَ الْجِبالَ أَوْتاداً و الميدانالتحرك و التموج.

فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال إنه (ع) أخبر عن نفسه بأولهذا الفصل أنه يحمد الله و ذلك من ظاهر كلامه ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمدالله و أخبر (ع) أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه مابقوا و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ثم قال و الحمد أعم من الشكر و اللهأخص من الإله قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون فإنه أظهر العجز عنالقيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذيحقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم التي يستحقبها العبادة.

و لقائل أن يقول إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله وليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم العظمة و الجلال لهذا الملك أنه قدأمرهم بتعظيمه و إجلاله و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدةحياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا.

و لا أعلم كيف قد وقع ذلكللراوندي فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق و لكن
[63]
ليس مستفادا من الكلام و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام.

فأما قوله لو كان قالأحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك ودلالة الحمد لله و هما سواء في أنهما لا يدلان على شي‏ء من أحوال غير القائل فضلاعن دلالتهما على ثبوت ذلك و دوامه في حق غير القائل.

و أما قوله الله أخص من الإلهفإن أراد في أصل اللغة فلا فرق بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة هذا قول كافةالبصريين و إن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة و لايسمونها الله فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق ألا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة و إن كانت في أصل اللغة دابة. فأماقوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده فكلام يقتضي أن المدح غيرالحمد و نحن لا نعرف فرقا بينهما و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيامبالواجب لا من الممادح و لا من المحامد و لا فيه تعرض لذكر الوجوب و إنما نفى أنيبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك.

و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل واستحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض لأنه إذا كان إنمااستحقها حين خلق الخلق فكيف يقال إنه استحقها في الأزل و هل يكون في الأزل مخلوقليستحق عليه العبادة.

و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبودفي الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل لأنه ليس في الأزل مكلفيعبده تعالى و لا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوافي الأثر الوارد يا قديم
[64]
الإحسان إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لاأنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة. ثم قال الراوندي و الحمد و المدح يكونانبالقول و بالفعل و الألف و اللام في القائلون لتعريف الجنس كمثلهما في الحمد والبلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه و إذا لم تشرف على حمده تعالىبالقول فكيف توصل إليه بالفعل و الإله مصدر بمعنى المألوه. و لقائل أن يقول الذيسمعناه أن التعظيم يكون بالقول و الفعل و بترك القول و الفعل قالوا فمن قال لغيرهيا عالم فقد عظمه و من قام لغيره فقد عظمه و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه ومن كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه و كذلك الاستخفاف و الإهانة تكون بالقول و الفعلو بتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم. فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهمابالفعل و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس كما أنها في الحمد كذلكفعجيب لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين و لا يتمالمعنى إلا به لأنه للمبالغة بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهمو جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود و إن أراد الجنسيةالعامة فلا نزاع بيننا و بينه إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك يمنع من أن يحملكلامه على المحمل الصحيح لأنها ليست في الحمد للاستغراق يبين ذلك أنها لو كانتللاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله (ص) و لا غيره من الناس و هذا باطل.

[65]
و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس و الأصلفي مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة و لا يفيد الاستغراق فإن جاء منه شي‏ءللاستغراق كقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ و أهلك الناس الدرهم و الدينارفمجاز و الحقيقة ما ذكرناه فأما قوله البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفتعليه فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته و بين قولنا شارفته و أشرفتعليه فرق. و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل فكلاممبني على أن الحمد قد يكون بالفعل و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة. و قوله والإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم كوجارللضبع و سرار للشهر و هو اسم جنس كالرجل و الفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثمغلب على المعبود بالحق كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا و السنة اسم لكل عامثم غلب على عام القحط و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا ظن أنه اسم مصدر كالحصاد والجذاذ و غيرهما و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول و ليست صيغة مصدر إلا فيألفاظ نادرة كقولهم ليس له معقول و لا مجلود و لم يسمع مألوه في اللغة لأنه قد جاءأله الرجل إذا دهش و تحير و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول. ثم قال الراوندي و فيقول الله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد وقول أمير المؤمنين (ع) لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع سر عجيب لأنه تعالى أرادأن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة و أراد أمير المؤمنين عأن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها فكيف تعد
[66]
وجوه فروع نعمائه و كذلك في كون الآية واردةبلفظة إن الشرطية و كلام أمير المؤمنين (ع) على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنهسبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها و علي (ع) أخبر أنه قدأنعم النظر فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى. و لقائل أن يقول الصحيح أنالمفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لاأجحد إحسانك إلى و امتنانك علي و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان. و ماذكره من الفرق بين كلام البارئ و كلام أمير المؤمنين (ع) غير بين فإنه لو قال تعالىو إن تعدوا نعم الله و قال (ع) و لا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسدالآخر. أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكانالقرآن بصيغة الخبر و كلام علي (ع) بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته والحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي (ع) تنبو عن لفظة الشرطو إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا و نحن نعوذ بالله من التعسفو التعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة. ثم قال الراوندي إنه لو قالأمير المؤمنين (ع) الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارتهلأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن قال و أما اشتقاق العدد فمن العد و هوالماء الذي له مادة و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عدنعمائه العادون و معنى ذلك
[67]
أن مدائحه تعالى لا يشرفعلى ذكرها الأنبياء و المرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون و الكرامالكاتبون. و لقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمهبل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح والضم و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدىإلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثميقال له و هب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغةكادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لايعدها العالم بعلومه و أما قوله العدد مشتق من العد و هو الماء الذي له مادة فليسكذلك بل هما أصلان و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقامن العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أواسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أيالسير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر. و أما الإحصاء فهو الحصر و العد و ليس هوالإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله. و أما ما قال إنه معنى الكلمةفطريف لأنه (ع) لم يذكر الأنبياء و لا
[68]
الملائكة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاماو أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به و مراده (ع) و هو أن نعمهجلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص. قالالراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة ومعنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذاأصابوه و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرضصحيح و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة و يثبتون النور جهة العلو والظلمة جهة السفل و يقولون إن العالم ممتزج منهما فرد (ع) عليهم بما معناه أن النورو الظلمة جسمان و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم.

و لقائل أن يقول إنه لم يجرللرؤية ذكر في الكلام لأنه (ع) لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس و إنما قاللا يدركه بعد الهمم و هذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه وحقيقته. و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أنالأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك وخصص غوص الفطن بنفي النيل و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح و ما رأيناك أوضحتهذا الغرض و إنما حكيت مذهب الثنوية و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهممبنفي الإدراك دون نفي النيل و لا يوجب تخصيص غوص الفطن
[69]
بنفي النيل دون نفي الإدراك و أكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهيالعالم النور و الظلمة و هما جسمان و أمير المؤمنين (ع) يقول لو كان صانع العالمجسما لرئي و حيث لم ير لم يكن جسما أي شي‏ء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم والتخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح. ثم قال الراوندي و يجوز أنيقال البعد و الغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم فلأن عدل أي عادل و قولهتعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالمالبعيد الهمم فكيف الجاهل و يكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا (ص) رأى ربهليلة الإسراء و إن يونس (ع) رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر.

و لقائل أن يقول أنالمصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها و لو جاز لما كانالمصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل ولو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه (ع) على الرد علىمن أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا و إنما غرضالكلام نفي معقوليته سبحانه و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه و لا تتعقلخصوصية ذاته جلت عظمته. ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود و لانعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه والأجل
[70]
مدة الشي‏ء و معنى الكلام أن شكري لله تعالىمتجدد عند تجدد كل ساعة و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانيةكما أبدل الثانية من الأولى.

و لقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركتهو الأجل ليس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر و لا يقولون أجل العصر والأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجلالدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه. فأما قوله و معنى الكلام أن شكري متجدد للهتعالى في كل وقت ففاسد و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر و لا أعلم من أين خطر هذاللراوندي و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعدأخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر.

قال الراوندي فأما قوله الذي ليسلصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كمايثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين عبظاهر كلامه و إن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثباتعلى الحقيقة و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر وهما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت لهالقضية الثانية و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك وأما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرةالمحذوفة.
[71]
ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة والمعنى و يبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا و أخذ في توحيد الصفةلم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات و انتقل من ذلك إلىالكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين و أطالجدا فيما لا حاجة إليه.

و لقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن فإنا قد بينا أن مرادهنفي الإحاطة بكنهه و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف فيكون المعنى لاينتهي الواصف إلى حد إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته.

فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما و هو أن القضيةالأولى كفر لأنها صريحة في إثبات الشريك و الثانية لا تقتضي ذلك لأنه قد ينفي قولالشريك بصيرا على أحد وجهين إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير أو لأن الشريك غيرموجود و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لميكن كفرا و صار كالأثر المنقول كان مجلس رسول الله (ص) لا تؤثر هفواته أي لم يكن فيههفوات فتؤثر و تحكى و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر. قالالراوندي فإن قيل تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السمواتو الأرض.