ماذا جرى بين البكر وصدام قبل مجزرة الرفاق 1979






ينقل عن مرافق البكر، المقدم إبراهيم الدليمي (اغتيل فيما بعد) أنّ البكر، غضب من اعتراضات نائبه على إصدار قانون زيادة الرواتب ، وذهب إلى منـزله مساء التاسع من تموز (يوليو) معتزلاً مكتبه في القصر الجمهوري موصياً حراسه ومرافقيه بعدم السماح لأحد بزيارته ،



وامتنع عن التحدث عبر الهاتف مع النداءات التي كانت تصل إليه ، وسرت شائعات في الأوساط العسكرية بأنّ قطعات الجيش العراقي دخلت درجة الإنذار بعد أن نجح في إيصال برقية إلى قائد الفيلق الأول اللواء الركن وليد محمود سيرت في كركوك (أُعدم فيما بعد) بأن يضع قواته، على أُهبة الاستعداد والتحرك عند وصول إشعار إليه من البكر شخصياً.

وأسقط في يد صدام وشعر أنّ البكر وهو في اعتزاله المفاجئ يوحي إليه بأنه لا يريده إلى جانبه، بل فهم الأمر بأنه رسالة تدعوه للاستقالة والابتعاد عن مناصبه كرجلٍ ثانٍ في الدولة والحزب، وهي مسألة من الصعب بل المستحيل على شخص مثل صدام أن يهضمها ويتقبلها في أي ظرفٍ من الظروف, واستغل صدام غياب البكر عن القصر الجمهوري، واعتزاله في بيته، فاستدعى صباح العاشر من تموز (يوليو) 1979 الأمين العام المساعد منيف الرزاز وأبلغه: أنّ الرئيس البكر (زعلان) في منـزله وأنّ المعلومات التي تسرّبت من أوساطه والحلقات المحيطة به، تُفيد بأنه قرر الاستقالة ، وينتظر حلول ذكرى الثورة لإعلان ذلك، وأنه (أي صدام) لا يستطيع ملء الفراغ الذي ستخلفه تلك الاستقالة في حال انتخابه رئيساً للجمهورية وزعيماً للحزب، لذلك فقد اتخذ قراره هو الآخر بالاستقالة أيضاً وعلى قيادة الحزب أن تختار من تراه مناسباً للمنصبين, ويبدو أن الرزاز الشخصية الرصينة وصاحب (التجربة المرّة) مع الرفاق السوريين خلال منتصف الستينات ، صدّق كلام صدام ، خصوصا وأنّ الاتصالات مع البكر مقطوعة ، فأجرى اتصالاً مع غانم عبد الجليل وطلب منه أن يدعو إلى اجتماع لأعضاء القيادة في منـزله ذلك اليوم ، وفعلاً عُقد اجتماع ترأسه الرزاز، وضمّ كلاً من عزة الدوري ، وعدنان الحمداني ، وطه ياسين رمضان ، ومحمد عايش ، ومحيي الشمري (كان قد غادر المستشفى في نقاهة من مرض عصبي ألم به)، وطارق عزيز، وحسن العامري، وجعفر قاسم حمودي، ونعيم حداد، ولم يتيسر للأعضاء الآخرين الحضور وهم: عدنان خير الله، وسعدون شاكر، وعبد الفتاح الياسين، فيما كان محمد محجوب في زيارة إلى دمشق في ذلك الوقت,


وفي الاجتماع طرح الرزاز حديث صدام حسين، وطلب منهم تدارك الأمر والبحث في صيغة تكفل استمرار وحدة القيادة وعدم تعرضها إلى شرخ في هذه المرحلة، وانقسم أعضاء القيادة إلى فريقين، الأول برز فيه محمد عايش ويطالب بعقد اجتماع لمجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب، يحضره البكر وصدام وجميع الأعضاء وتُناقش المشكلة من جميع جوانبها، بغية الوصول إلى حل لها.


فيما طالب الفريق الثاني ، والمفارقة أنّ أغلب أعضائه من مناصري البكر وفي مقدمهم طه ياسين رمضان، وعزة الدوري بأنه مادام الرئيس مصراً على الاستقالة فيجب العمل على إقناع نائبه صدام حسين، بتولي الرئاسة موقتاً لحين الانتهاء من الاحتفالات بذكرى الثورة والدعوة إلى عقد مؤتمر قطري باعتباره أعلى هيئة في العراق لحسم هذه المشكلة.


وعلم صدام بما تمّ خلال الاجتماع الحزبي، وعرف من هم أصحاب الرأي الأول (محمد عايش، ومحيي الشمري، وغانم عبد الجليل)، وأدرك الغرض الذي يضمرونه في أنفسهم، وارتاح لطروحات الفريق الثاني، التي جاءت منسجمة مع رغبته، فلجأ إلى طارق عزيز، وحسن العامري اللذين أوفدهما للاجتماع مع عايش، والشمري، وغانم عبد الجليل، بغية إقناعهم بتأييد اقتراح طه ياسين رمضان، وعزة الدوري، غير أن الثلاثة أصروا على موقفهم وفشلت جميع الجهود التي بُذلت معهم على تغيير آرائهم.



الاجتماع الحاسم

دعا صدام إلى اجتماع لمجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب، صباح 14 تموز (يوليو) في مبنى المجلس الوطني الذي يتخذ منه مقراً رسمياً له، حضره جميع الأعضاء باستثناء محمد محجوب الذي كان لايزال غائباً عن بغداد وشارك في الاجتماع منيف الرزاز للتوفيق بين أعضاء القيادة المختلفين, وجرت في هذا الاجتماع الذي لم يحضره البكر، معاتبات في بادئ الأمر حسب ما تذكره الروايات التي روَّجتها أوساط صدام فيما بعد تلتها مشادات كلامية بين صدام من جهة، وكل من عايش، والشمري، وعبد الجليل، وفي هذا الاجتماع عرض الرزاز وهو يشاهد الخلاف قد اشتد بين أعضاء القيادة، الإسراع بعقد مؤتمر قطري على وجه السرعة وخلال اليومين المقبلين، بحيث عندما يُطل يوم السابع عشر من تموز (يوليو) (ذكرى الثورة) تكون المشكلة قد حُلت (شرعياً) دون ظهور تعقيدات أو أزمات.

وهنا ضرب صدام على الحديد وهو ساخن، فلم يُجب بلا أو نعم على مقترح الرزاز، وانفضَّ الاجتماع دون اتخاذ قرار محدد، غير أنّ الذي حدث أنّ حراساً ومرافقين لصدام، منعوا محمد عايش، ومحيي الدين الشمري، من مغادرة مبنى المجلس الوطني، واقتيدا إلى قاعة جانبية، وتدخل غانم عبد الجليل مستفهماً عن هذا الإجراء، فدفعه الحراس إلى القاعة نفسها وحاول الرزاز العودة إلى مكتب صدام لمقابلته والشكوى إليه، فمُنِعَ بشدة وطُلبَ منه التوجه إلى منـزله وعدم مغادرته، فخرج من المجلس الوطني وهو يسحب رجليه بعناء بعد أن هاجت عليه آلام الروماتيزم، وخرج الأعضاء الآخرون على أثره، باستثناء عدنان الحمداني، وطارق عزيز، وعزة الدوري، وطه ياسين رمضان، الذين استُبْقوا في المجلس، واتضح فيما بعد أنهم عقدوا اجتماعاً مع صدام وضعت فيه خطة عزل البكر والإجراءات المتخذة بهذا الشأن، وكانت حجة صدام في اعتقال عايش، والشمري أنهما تبادلا خلال الاجتماع قصاصات ورقية صغيرة، تضمنت تبادلاً للآراء وتنسيقاً فيما بينهما، بشأن إعاقة وصول (السيد النائب) إلى سدة الحكم والسلطة.


وفي عصر السادس عشر من تموز (يوليو) اقتحمت منـزل البكر الواقع في منطقة (أُم العظام) المطلة على نهر دجلة، بجانب الجسر المعلّق وحدات عسكرية من قوات المغاوير، قادها برزان التكريتي، والعميد الركن طارق حمد العبد الله (اغتيل فيما بعد) المرافق الأقدم للرئيس وأُجبر البكر على ارتداء ملابسه واقتيد إلى المجلس الوطني.

ونُقل عن مرافق البكر، المقدم إبراهيم الدليمي، أنّ القوات التي هاجمت قصر الرئيس، تدفقت عليه من الباب الرئيسي القريب من بوابة القصر الجمهوري، وأبواب الحديقة المطلّة على النهر، ولم يكن بالإمكان مقاومتها لكثرة المهاجمين، ويبدو أنّ البكر، أحس في تلك اللحظات أنه قد هُزم، ولا قدرة له وأتباعه، على المقاومة، ورضخ للأمر الواقع، واقتيد إلى المجلس الوطني ومن ثم اصطحبه صدام إلى دار الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية، وألقى خطاب التنحي.


نهاية عهد,,, وبداية آخر

ويتذكر الذين شاهدوا البكر وهو يلقي خطابه، أنه كان زائغ النظرات، يتلفت يمنة ويسرة، ويحاول السيطرة على أعصابه، وكثيراً ما توقف أو تلعثم في الخطاب، مما يعزز الاعتقاد بأنه يتدرب جيداً على حفظ مفرداته كما كان يحرص في خطبه السابقة، وقد ظهرت صورة الرئيس على شاشة التلفزيون، وقد تغيرت ملامح وجهه، واضطر أكثر من مرة، إلى بلع ريقه وهو يردد بلسان مرتبك تلك الكلمات التي جاء فيها: «ومنذ فترة ليست بالقصيرة كنت أُحدث رفاقي في القيادة وبخاصة الرفيق العزيز حسين عن حالتي الصحية التي لم تعد تسمح لي بتحمل المسؤوليات»، إلى أن ينتهي بقوله: «وإنني أُهنئ الأخ والرفيق صدام على تحمله شرف المسؤولية في قيادة الحزب والثورة»، وغادر البكر مبنى التلفزيون وقد لصق به الرئيس الجديد صدام حسين من جانبه الأيمن، فيما كان برزان التكريتي في ناحيته اليسرى، ومضى إلى بيته وهو يحمل غصة في قلبه من غدر نائبه, وبدأت مجزرة دموية راح ضحيتها 30 قائداً بعثياً وعسكرياً ووزيراً ومسؤولاً كبيراً، ومن المفارقات أن يكون ضمن الضحايا عدنان الحمداني الذي كان يوصف بأنه (مدلل صدام) وقد عُين في العهد الجديد نائباً لرئيس الوزراء ورئيساً لديوان الرئاسة وقد اعتقل بعد عودته من دمشق في 22 تموز (يوليو)، بعد أن أوفده صدام إلى القيادة السورية لوضعها في صورة الأحداث الأخيرة، ونقل المعلومات التي ذكر أنها تتعلق بتآمر القيادة السورية مع عايش ومجموعته, ومما يُذكر بهذا الصدد أنّ الرئيس حافظ الأسد (كان الرئيس حافظ الاسد اكثر المستائين من تصرفات صدام حسين الذي ينتهج منهجا قطريا بناء على نصيحة وزير خارجية بريطانيا الاسبق جون براون ومع ذلك اوفد الرفيق عبدالحليم خدام والعماد حكمت الشهابي الى بغداد ليؤكد لصدام براءة سورية من المؤامرة المزعومة، وكان رد صدام غير ايجابي بل يمثل وقاحة ديبلوماسية لا تحتمل ولا يمكن باي حال اعتباره من الرفاق المناضلين) وبعد أن استمع إلى مضمون رسالة صدام إليه التي نقلها الحمداني، سأل الأخير، هل أنت مقتنع بأننا في دمشق شاركنا في المؤامرة المزعومة ؟


فرد الحمداني: «لا أدري,, أنا حامل رسالة وعليَّ توصيلها»، فصمت الرئيس الأسد قليلاً، وقال: «إنني أخشى عليك يا رفيق عدنان,, ابق بضعة أيام في دمشق وسترى العجب في العراق»، فضحك الحمداني ساخراً من كلام الرئيس الأسد، قائلاً: «إنّ مهمات كثيرة تنتظرني في بغداد، أنا عائد اليوم,, لأنّ وظيفتي الحقيقية يا سيادة الرئيس هي رئيس وزراء».


وتبين بعد ذلك أنّ سبب اعتقاله ومن ثمّ إعدامه، أنه كان الوحيد الذي يعرف تفاصيل أرصدة صدام وحساباته في المصارف الأجنبية باعتباره المسؤول عن الاتفاقيات التجارية وصفقات النفط، وأُعدم أيضاً محمد محجوب الذي كان طيلة فترة الخلافات خارج العراق وقيل أنه احتج على اعتقال عايش، والشمري، وغانم عبد الجليل، وطالب بمحاكمة حزبية لهم، كما ينص النظام الداخلي لحزب البعث، ويبدو أن هذا الاحتجاج قاده إلى حتفه، مع صهره العقيد رياض القدو عضو المكتب العسكري للحزب، وأُعدم أيضاً اللواء وليد سيرت بعد أن ضبطت الأجهزة ما عُرف بأنها اتصالات بينه وبين البكر.

وطويت صفحة، وبدأت صفحة، في تاريخ صدام حسين، الذي استهل عهده الجديد بقتل رفاقه ومساعديه في مجزرة تستحق أن يُطلق عليها بامتياز (مجزرة القوميين في بغداد).




الرأي العام


المصدر
مصطفى طلاس يروي سيرته «مرآة حياتي» ... الحلقة السابعة