[align=justify]د. هادي حسن عليوي




لا يختلف اثنان على ان وحدة المجتمع وتماسكه ومقومات صلاحه تعتمد على منظومة من القيم الاخلاقية الحميدة التي تعمل على ترصين العلاقات الاجتماعية ورسم الخطوط الفاصلة بين الحقوق والواجبات وتعميق شعور الفرد بالانتماء والالتزام التطوعي وبما يترتب على هذا الانتماء واحلال روح التنافس والتعاون الهادف محل النزاعات الانانية والتصارع والتحلل عن المسؤولية الاجتماعية والاخلاقية.


لقد مر المجتمع العراقي بظروف استثنائية غاية في التعقيد فقد ابتلي تحت ضغط السياسات المرتجلة وحماقات العقليات البالية المتخلفة باخطر ما يمكن لمجتمع ان يبتلى به من التعسف والاذلال والاستهتار بمصالحه الحيوية.
ويبدو ان العديد من الشعوب افادت من الحروب التي دخلتها في اعادة بناء مجتمعاتها وقد افرزت الحروب التي دخلها المجتمع العراقي منذ اوائل الثمانينيات ثم الحصار الاقتصادي الدولي ظواهر وممارسات وسلوكا منحرفا في كل المقاييس الاجتماعية والدينية فقد برز النفاق بشتى صوره واصبحت الانتهازية والوصولية حالة اعتيادية يمارسها الكثير من دون وجل او حياء وسادت اجواء عدم الثقة بين افراد المجتمع حتى وصلت الى الاسرة الواحدة واصبح العراقي يخشى التحدث مع نفسه خوفا من ان يسمعه الحائط كما اصبحت ممارسات الفساد المالي والاداري تمارس بشكل واسع حتى اصبحت الرشوة وسرقة المال العام مسألة اعتيادية وقاعدة عامة.
لقد شهد العراق خلال العقدين الاخيرين من القرن الماضي اسوأ انهيار اقتصادي عرفته الامم في التاريخ المنظور، وقد صاحبت هذا الانهيار فوضى نقدية غير مسبوقة ومعدلات تضخم نقدي لم تشهدها اكثر الدول عوزا وقد تدنت معدلات الاجور الى الحد الذي اصبح فيه الراتب الشهري لا يسد تكاليف يوم او يومين لحياة معيشية لشريحة كبيرة من الموظفين والعاملين في قطاع الدولة ما ادى الى تعرض شرائح اجتماعية واسعة للتهميش والحرمان وبالذات في قطاع الخريجين من ذوي المؤهلات العلمية في وقت كانت فيه فئات قليلة ممن يعملون في الانتاج الحربي والاجهزة الامنية ومريدي النظام تحوز على مستويات دخل مرتفعة انعكست في سلوكها الاستهلاكي والبذخ غير المبرر وغير العقلاني ما دفع اعدادا غير قليلة للانزلاق في مهاوي السلوك المنحرف والجريمة.
لقد اسهمت الظروف الشاذة والحروب والحصار وتدني مستوى خدمة المواطنين والاستبداد والتعسف والفساد المالي والاداري الى اضعاف قيم النزاهة وشرف الوظيفة العامة وتركت الفوضى الادارية التي ضربت اطنابها في كل ادارات الدولة، انطباعات سيئة ففقد الموظف الحكومي حصانته الوظيفية واحترام الناس له وانتشرت الرشوة وفسدت كل حلقات الدولة ومنها القضاء والتعليم واصبحت الشهادات الدراسية والجامعية تمنح دون وجه حق لكل من يدفع الرشوة المطلوبة ومن لا يدفع فالرسوب ينتظره حتى لو كانت جميع اجاباته صحيحة واستغلت الجامعات ودور العلم بشكل مدان مثلما استغل الدين من قبل حفنة من الذين عينتهم الحكومة خطباء وائمة جوامع لخدمة السلطة.
فيما استمر القتل والتنكيل برجال الدين الشرفاء والتشهير بهم في احسن الاحوال بالمقابل اخذت القيم الاصيلة من صدق وامانة ونزاهة وشجاعة واخلاص وحب الوطن والشعب وكل الصفات الحميدة والقيم الفاضلة التي يتحلى بها شعبنا تنزوي بسبب تردي الاوضاع.
وجاء سقوط النظام وغياب مؤسساته واهتزاز الامن لتعم البلاد موجة همجية من النهب والسلب والتهريب والقتل والاغتصاب والارهاب بمختلف اشكاله وليعم الفساد المالي والاداري مؤسسات الدولة بشكل كارثي ينذر بخراب اقتصادي واجتماعي ساحق وما تقوم به المفوضية العليا للنزاهة ودوائر المفتش العام في الوزارات كافة لا يشكل حتى واحد بالالف من الفساد الذي يعشعش في مؤسسات الدولة والاخبار تؤكد ان الكثير من الفساد يحمى من قبل مسؤولين كبار او من قبل كيانات سياسية متنفذة، كما ان ما تقوم به اجهزة الشرطة ضد العصابات المجرمة والمنحرفة يشكل جزءا متواضعا جدا امام الموجة الهولاكوية للسلوك المنحرف والمدان، هذا الانحراف الخطير المستمر في الاكل من جرف القيم النبيلة والاخلاق الحميدة التي تربت عليها الاجيال من قديم الزمان ومازالت.
ان الاجراءات الحكومية المطلوبة تتطلب استخدام احدث التقنيات في اكتشاف وملاحقة الجريمة والمجرمين كما تتطلب الشجاعة وروح المسؤولية والاخلاص للعراق وتعاون المواطنين مع الاجهزة الامنية في هذا الصدد، ان فشل الجهود الامنية او نجاحها المتواضع لا ينبغي ان يثبط الهمم بل على العكس فهو حافز للتفكير بحلول وتدابير تتخطى المفاهيم الامنية المغلقة والحرفية رغم أهميتها باتجاه ستراتيجية وطنية شاملة تضع الى جانب العامل الامني والتدابير الرادعة اهدافا اخرى اكثر شمولية تأخذ بنظر الاعتبار تأهيل الوعي المجتمعي وتحفيز النوازع الذاتية في الشخصية العراقية لمقاومة كل اشكال السلوك المضاد للمجتمع وبناء انساق جديدة من القيم الايجابية التي تؤسس لعلاقات اجتماعية متوازنة وتحرر العقل العراقي من عقد الماضي ما يتطلب خططا وبرامج ستراتيجية وطنية شاملة لمواجهة سلوك الجريمة والانحراف ينطلق من منظومة من الاهداف العامة تكون صالحة لاشتقاق اهداف اجرائية تتولى تنفيذها جميع مؤسسات الضبط الاجتماعي وكل حسب اختصاصه.


المعالجـات

اصبح السلوك المنحرف والجريمة ظاهرة مرضية نفسية ولم تعد التدابير الامنية التقليدية تجدي نفعا ما يتطلب السعي الجاد لتنمية سلوك جمعي مضاد لسلوك الانحراف والجريمة والفساد من خلال:
1- تنمية روح المسؤولية المجتمعية والمبادرة الفردية والتمسك بقواعد السلوك الاجتماعي المتحضر واحترام النظام العام والالتزام الطوعي به ويتطلب هذا زج الفعاليات الوطنية غير الحكومية وتطوير خطاب المؤسسة الدينية باتجاه رفع الوعي الجمعي المضاد للسلوك المنحرف بتفعيل قيم العيب والممنوع والحرام وغيرها وطرحها كجزء لا يتجزأ من مفاهيم الحداثوية والمعاصرة.
2- تطوير مفهوم الامن الاجتماعي واخراجه من دائرته التقليدية الضيقة باعتباره حكرا للمؤسسات الامنية الرسمية واشاعة المفاهيم والبرامج الحديثة التي تتطلب مشاركة مجتمعية واسعة واشاعة تقاليد شرطة المجتمع او الشرطة المجتمعية من خلال زج منظمات المجتمع المدني.
3- تنمية سلوك الحماية من الجريمة: من القواعد القانونية الشائعة القاعدة التي تقول: (ان القانون لا يحمي المغفلين) وهذا يعني ان ثمة مسؤوليات شخصية تقع على كاهل الفرد وتضعه تحت طائلة المساءلة القانونية والعرفية الاعتبارية، لذا لابد من تثقيف المواطنين بان القانون لا يعفى من تبعاته ايا كان عالما ام جاهلا ولابد من تحصينهم من السلوك المنحرف والجريمة.
4- رعاية ضحايا الجريمة وتهيئة الضمانات المادية والمعنوية لهم فالاضرار التي تلحق بضحايا الجريمة هي اضرار شاملة وتختلف حسب الجريمة وظروفها والسمات النفسية والعقلية والبدنية لكل من الجاني وضحيته، كما ان الضمانات القانونية التي تجيز للضحية مقاضاة الجاني وانزال العقوبة به وتضمينه تعويض الضحية عن الاضرار المادية التي لحقت به، كما تتطلب استحداث عيادات نفسية وبرامج للبحث الاجتماعي لمساعدة الضحية والاخذ بيده لتجاوز ازمته.
5- ان حماية المجتمع من السلوك المنحرف والجريمة يتطلب وقايته من جرائم العودة والحرص غير المحدود على مساعدة الجناة والاخذ بايديهم واعادتهم الى المجتمع بعد تأهيلهم من خلال ترسيخ قواعد واعراف اجتماعية ومؤسسية وتقاليد عمل انمائية للتعامل مع المتورطين من خلال تحديث اساليب التعامل مع المتهمين والمحكومين خاصة بالمواقف التي يودع بها المتهمون قبل البت في موقفهم الجنائي وانشاء مجمعات حديثة ومتطورة تتوفر بها جميع الشروط الصحية والنفسية لحياة انسانية كريمة وفصلها عن مراكز الشرطة وتحديث القوانين الخاصة بقواعد واسس وانشطة ومؤسسات الاصلاح الاجتماعي.
6- بالمقابل لابد ان تأخذ مؤسسات التربية والتعليم دورها الرائد في هذا المجال فمن اولى اهدافها غرس روح الانتماء والولاء للوطن وغرس القيم الفاضلة واستهجان ورفض السلوكيات المنحرفة بكل اشكالها والعمل على نبذها وادانتها.
ان اكبر مهمة تواجه المربي اليوم هي اعادة خلق الامة والضمير وتعزيز الاخلاق النبيلة ولابد من العودة الى القيم الاصيلة للمجتمع التي غرسها انبياؤنا وأئمتنا والمصلحون وابطالنا الاوائل ولابد من توجيهات جديدة على وفق هذه المعايير ولتكن دروس التاريخ والتربية الوطنية وحقوق الانسان دروسا وحوارا في تقييم السلوك الاجتماعي وادانة ورفض كل الممارسات المنحرفة.
7- ان دور رجال الدين مؤثر وفاعل في المجتمع فلا بد ان يأخذ رجال الدين بمختلف اديانهم وطوائفهم دورهم في العملية التربوية الايمانية هذه ولتكن خطب الجمعة بهذا الاتجاه نفسه.
8- كما تأخذ اجهزة الاعلام دورها من اجل تنسيق العمل الوطني في مجال محاربة السلوكيات المنحرفة وتعزيز قيم المجتمع الاصيلة، كما لابد ان يكون هناك فريق عالي المستوى يضم ممثلين عن الاديان والطوائف والتربية والتعليم والمجلس النيابي ومنظمات المجتمع المدني لوضع ستراتيجية وطنية للقيم قابلة للتنسيق ومتابعة تنفيذها بشكل علمي وموضوعي وميداني لتخليص مجتمعنا من كل بؤر الفساد والانحراف والرذيلة والجريمة وتعزيز القيم والاخلاق النبيلة.
[/align]