تكرار السيناريو أم تكرار النكسة؟
لو كانت تجربة اجتياح العراق نصرا مبينا للادارة الجمهورية في واشنطن، ولو كان مردودها العربي والاسلامي ايجابيا ولو بحده الادنى، لفهمنا عودتها الى مقاربة «الخطر النووي» الايراني على غرار مقاربتها لـ «خطر اسلحة الدمار الشامل» العراقية قبل ثلاث سنوات.
من حق اي متتبع لدبلوماسية التعامل الاميركي مع «الخطر النووي» الايراني ان يتساءل ما إذا كان تكرار الادارة الاميركية لسيناريو «تضخيم» هذا الخطر الداهم عليها وعلى العالم مجرد تكتيك تمويهي لاستراتيجية اميركية طويلة الامد حيال المنطقة.
مع بغداد بلغ سيناريو التضخيم الاعلامي لقوة العراق قبل احتلاله حد «ترفيع» الجيش العراقي الى مرتبة الجيش الرابع في العالم فيما ركز الشحن الاعلامي لمشاعر الاميركيين ضد صدام حسين على تكرار تذكيرهم بدكتاتوريته... وبمحاولته، يوما، التخطيط لاغتيال «الوالد»، بوش الاب. ومع طهران بلغ سيناريو التضخيم الاميركي حد الايحاء بان ايران على باب قوسين او ادنى من تطوير «القنبلة» فيما اعتمد الشحن المرافق تقليديا لحملات التضخيم على وصف الرئيس الايراني، أحمدي نجاد، «بأدولف هتلر» محتمل.
صحيح ان اجهزة الاستخبارات الاميركية والاوروبية ومعلومات وكالة الطاقة الدولية تجمع على ان ايران تعمل على تطوير طاقة نووية ـ رغم التفاوت في تقدير المهلة الضرورية لذلك. وصحيح ان ايران تصر على «حقها» في تخصيب اليورانيوم وان كانت تؤكد انه لغايات سلمية.
ولكن في كواليس مراكز القرار في واشنطن قناعة متزايدة بان الهدف الفعلي للادارة الاميركية من تسخين «المواجهة النووية» مع طهران ـ فيما تبرد المواجهة نفسها الاكثر الحاحا مع كوريا الشمالية ـ هو تغيير النظام الايراني توطئة لاقامة شرق اوسط جديد يضمن سلامة امدادات الولايات المتحدة من النفط الخام للسنوات العشر المقبلة، أو على الاقل الى ان يتوفر مصدر بديل، ورخيص، للطاقة. على هذا الصعيد،«كلنا في الهم شرق»، فالشرق الاوسط، بعربه وعجمه، يدفع ضريبة احتياطياته الضخمة من النفط والغاز.
ولكن، وبعيدا عن توزيع المسؤوليات في الازمة المتصاعدة باطراد، يبقى السؤال: هل يمكن ان تؤدي مواجهة عسكرية ثانية في المنطقة ـ تبدو أصعب واخطر من الاولى (العراق) ـ إلى دعم استقرار المنطقة أم إلى بعثرة شعوبها بشكل يجعل من المتعذر حتى على قوة عظمى كالولايات المتحدة أن تعيد ترتيبها؟ في ظل الخلفية السياسية ـ الجغرافية ـ الديمغرافية للمنطقة يبدو توسل العمل العسكري وصفة لزج الشرق الاوسط في الدوامة نفسها التي يحاول جاهدا الخروج منها: دوامة الارهاب. وقد ينفع التذكير، في هذا السياق، بان طهران لم تخف سعيها الحثيث لتجنيد اكثر من خمسين الف «انتحاري» مهمتهم ضرب المصالح الاميركية انما كانت. ولان باب «الاجتهاد» مفتوح في طهران، لن يكون مستبعدا ان تدرج طهران المنشآت النفطية العربية في خانة المصالح المطلوب استهدافها وان تحول الخليج باكمله الى رهينة للحرب فتغلق مضيق هرمز(بالالغام او الغواصات) وتلهب جنوب العراق الى حد فصله عن الوطن الام
وتزج حزب الله في «الجهاد» ضد الاستعمار بدفعه الى فتح جبهة حرب جانبية في جنوب لبنان... وتحرج الدول الاسلامية تجاه شعوبها وتجاه واشنطن معا إذا ما اضطرت الى السكوت عن حرب اميركية على دولة اسلامية. أما على الصعيد الايراني فان من شأن التهديدات العسكرية الاميركية تعزيز قناعة الايرانيين بان الوسيلة الوحيدة للوقوف في وجه الولايات المتحدة هي... تطوير قنبلة نووية. لماذا تتلهى واشنطن بتكرار سيناريو تجربة العراق الفاشلة وأجهزة استخباراتها تؤكد ان التعامل مع ايران لن يكون «بالسهولة» التي تعاملت بها مع العراق، فالمنشآت النووية الايرانية مقامة على عمق 75 قدما تحت الارض ومدعمة بالاسمنت المسلح، واستعمال الاسلحة التقليدية لضربها قد لا يأتي بنتيجة تذكر فيما استعمال الاسلحة النووية قد يمحي الاصدقاء قبل الاعداء من خريطة الشرق الاوسط؟ اللهم ليس دفاعا عن النظام الايراني،«العربي» في فلسطين و«الفارسي» في الخليج (طالما تشبث باحتلال الجزر الاماراتية الثلاث)، ولا انتصارا لمفهوم حكم يعتبر حرية الرأي «انشقاقا» على السلطة.
ولكن إذا صح تقدير رئيس معهد الشؤون الخارجية في جامعة جورجتاون الاميركية (والخبير الحكومي السابق في شؤون الحد من انتشار السلاح النووي)، روبرت كارلوسي، بان بين ايران وتطوير القنبلة الذرية فاصلا زمنيا لا يقل عن ثماني الى عشر سنوات، تجوز دعوة الادارة الاميركية الى التروي أو، على الاقل، اعتماد استراتيجية أقل تهديدا للمنطقة من الحرب، أي الاستراتيجية نفسها التي طرحها جورج كينان تجاه الاتحاد السوفياتي واعتمدتها واشنطن بنجاح طوال سنوات الحرب الباردة واعطت ثمارها بانهيار الامبراطورية السوفياتية: سياسة «الاحتواء» عوض المجابهة العسكرية. غير خاف ان ايران ليست الاتحاد السوفياتي وانها، فوق ذلك، دولة معزولة اصلا، ووضعها الاقتصادي مترد ما يوحي بان انهيار نظامها لن يكون مستحيلا إذا احكم الغرب «احتواءه» وإذا عمدت واشنطن ـ كما ألمحت بعض التسريبات ـ إلى تقويض النظام من الداخل عبر تحريك التناقضات العرقية (العرب والاكراد والاذيريين والبلوش) والمذهبية (الشيعة والسنة) الراقدة. والمؤسف ان هذا الفصل المأسوي في التجربة العراقية يبدو الاكثر قابلية «للتكرار» في ايران.
http://www.asharqalawsat.com/leader....12&issue=10012