التوافق العراقية: يدٌ في الحكومة وأخرى في المقاومة ..!
تشكلت الوزارة العراقية الرابعة، بعد وزارات: مجلس الحكم، والمؤقتة، والانتقالية، وها هي الدائمية. وكل وزارة تبدو أفضل من سابقتها من حيث الصلاحيات، واتساع رقعة التمثيل. وتأتي قضية الميليشيات، وحصر السلاح بيد الحكومة في مقدمة التحديات. والحق ما تفضل به ممثل جبهة التوافق، بُعيد جلسة البرلمان العاصفة، من رفض جبهته لدمج الميليشيات في الجيش والقوى الأمنية، لأنه سيؤدي إلى تأسيس قوىً طائفية لها خطورتها، بل الرأي إحالة منتسبيها إلى وظائف مدنية. غير أن ممثل الجبهة، وفي المؤتمر نفسه، نسف ما تقدم به عندما انتقد رئيس الوزراء الجديد، لأنه لم يميز في كلمته بين المقاومة والإرهاب، طالباً منه الاعتراف بحق المقاومة المسلحة.
لا ريب، أن مثل هذا الرأي يؤسس لميليشيات جديدة، ويبقي على المليشيات، التي تفكر الحكومة في التخلص منها، ويؤدي إلى توسيع هيمنتها، وفق تغالب القوى. لكن، مَنْ يريد المقاومة، وهو مُمَثل في البرلمان، أن يتقدم بها من داخل البرلمان نفسه، ويساعد في مطاردة قاطعي الرؤوس، ومهجري العائلات بضغينة طائفية، ويكبح جماح العنصرية باسم القومية وباسم الطائفة. وبعد شعور الناس بالأمن والأمان، والمعافاة مما هم فيه، تُسأل الحكومة ماذا ستفعل مع الجيوش الأجنبية، وساعتئذ تأتي المطالبة بمساءلة الأمريكان على أخطائهم الفظيعة، بل ويدعو الداعي إلى محاكمة بول بريمر، ومطاردته في محاكم الأمم.
لا يعقلها عاقل أن كل أهل الشمال وأهل الوسط والجنوب وجزء من المنطقة الغربية عملاء، كتحصيل حاصل، لأنهم لا ينخرطون في المقاومة! كذلك لا يُعقل أن يشاد بالانتحاريين إلى حد اعتبارهم شهداء، وهم يمزقون أجساد العراقيين بالأسواق والطرقات. وهل لأحد التمييز بين رصاصة ضد الأمريكان وبين أخرى ضد أعضاء الحكومة المنتخبة، والتي بذل الجميع، بمن فيهم جبهة التوافق، جهداً جهيداً لإعلانها؟ أليس في عُرف المقاومة المزعومة أن كل موظف في الحكومة أو متصل بها حلال الدم؟ بمن فيهم عمال البناء ومنظفو الطرقات!
دعونا نتفحص الأمر بروية، وليذهب المحتل إلى الجحيم، هل أن سلطة المقاومة المؤملة ستوفر هذا الحيز من الحوار، وستصبر على النزق السياسي الجاري، وستغفر حكومتها لثالبها ومعين المسلحين عليها صباح مساء؟ وستتأخر خمسة شهور، ولديها أغلب الأصوات، تتفاوض من أجل وئام في الوزارة، وإن كان بحدود؟
هناك مبالغات تشربتها ذاكرتنا، وهي لا تتعدى الهتافات، حتى غدا الطعن بها أو حتى مفاتشتها جرما لن يغتفر. أتمنى أن تكون تلك الأحداث حقيقة جرت لصالح العراق والعراقيين، وليست أوهاما حاكتها أقلام البطولات على ورق الذاكرة. ما زلنا نعتصم بتاريخ من الادعاءات، بداية من ثورة العشرين، وحتى المقاومة المزعومة. اتَّكأ عليها مَنْ اتَّكأ تحت دعاية الدفاع عن العراق العظيم، وشرف الأمة، بينما هو أول مَنْ أخل في عظمة العراق، وأول مَنْ سحق شرف العراقيين، وافترش جلودهم سجاداً أحمر تحت قدمه.
هناك حكايات وبطولات، حرفها غاوو الفتوة والبطولة، بينما حقيقتها شيء آخر. فإن شحذ الغرباء همة الفلوجة باسم شيخ عشيرة، وجعلوا منها مصنعاً للمتفجرات، وجمعها كُتاب وشعراء عرب مع فالوجة فلسطين في حماسياتهم، فلم يكن هذا الشيخ ضد الإنكليز، أو سعى لاستقلال العراق في بداية أمره. بل القصة بدأت لإنقاص راتبه ثم قطعه، لأنه كان متعهداً بحماية الجيش البريطاني، ولم يُجِد المهمة. أقولها ليس تقليلاً من منزلة هذا الزعيم المفترض أو ذاك، بل تأكيداً لسذاجة هتافاتنا، واعتمادها على أُصول واهية. حتى لا يظهر علينا مَنْ فقدَ حظوته ومنزلته في الدكتاتورية السابقة مناضلاً ومقاوماً ضد الأمريكان، وتحت هذه المظلة تُلقى أجساد العراقيين على الطرقات بلا رؤوس.
تغنينا أيضاً بثورة النجف 1918، وكُتبت الكتب وألقيت القصائد ضد المرجع محمد كاظم اليزدي (ت 1919) لأنه لم يكن يؤيدها، وكان يرى في عصابتين تبادلتا الحروب داخل النجف، ودام اذاؤهما حوالي مئة سنة، شراً حقيقياً، عاش عليه تجار ورجال دين، فاعتزل الرجل الصراع وتركهما مع الإنكليز. وكان من العقل والحرص أن لم يفتِ بالثورة، وليس بيد الثوار غير عصي وبنادق عثمانية هالكة، لأنه يدرك أن الدماء وأمن الناس لهما الأولوية.
كذلك كان موقف المرجع محمد تقي الشيرازي (ت 1920)، فالرجل لم يفتِ بثورة العشرين، إنما جاءت تسريباً من ولده، وتأويلاً لما أراد به التخلص من إلحاح طالبي الفتوى، مع أنه لا يود الإنكليز ولا هم يودونه. كان الشيرازي أعقل بكثير من توريط العراقيين في حرب غير متكافئة. وهي التسريبات نفسها التي حصل عليها أحياناً منتزعو الثمرات أيضاً من نجل آية الله علي السيستاني، حتى هناك ما يُخالف سلامة ضمير هذا الرجل، وخصوصاً بما كان يُسرب من الفتاوى في غمرة الانتخابات، حتى اضطر أكثر من مرة ينفي هذه الفتوى أو تلك.
كانت الأتاوة التي حُرم منها تاجر على قافلة تجارية وراء ما عُرف بثورة النجف. فقائدها، حسب تاريخ الشيخ النجفي محمد رضا الشبيبي، كان أول المهنئين للإنكليز بالنصر ببغداد. أقول إنها مختلقات، مثلها مثل اختلاق قصة إحراق طارق بن زياد لسفنه وخطبته البليغة. استخدمت أناشيد في الحث على التعصب القومي والفئوي، وأمجاد الانتصارات، بينما نسينا الحاضر، الذي عجزنا به من صناعة إبرة الخياطة، وما زلنا كذلك!
دعونا من الأوهام، واختلاق البطولات، فالبطولة التي تنصر العراقيين اليوم هي بطولة العقل، والنزاهة في الفعل السياسي. ومَنْ يحرض على المقاومة عليه أن يكون في مقدمة الصفوف، لا يجند الانتحاريين والاستشهاديين وهو يحرص كل الحرص على نفسه وأولاده. فما ضره كتابة مقال تحريضي، أو نظم قصيدة لاهبة، أو يغسل أموالاً مقابل تجارة الموت الرائجة ببغداد؟
أحوال العراق لا تتحمل اعترافاً بمقاومة مسلحة، لها هويتها الطائفية، وستعطي المبرر الأشد لتكثير الميليشيات، وتصدر أمراء الحرب لشؤون العراق. ومعلوم، أن أي أمير حرب سيحقق النصر، بقدرة قادر، لن يكون سوى «أكول لحيات البلاد شروب». ومَن قال لك سيسلك مسلك السوداني عبد الرحمن سوار الذهب، فقل: «حديث خرافة يا أم عمرو».
[email protected]