الهروب من أحلى وطن في تاريخ الروح

بمداد من شوق وأنامل من محبة .. كتب له:
البارحة، وفي منتصف المسافة بين جمر غيابك وشدو صوتك في الذاكرة .. مر طيفك على الدار، التي إزدانت بفوانيس العتاب، فتسابقت الأكف مع العيون، علها تجدك خلف الباب، لكنك لم تأت .. ربما طواك الغياب، ونأى بك عن أصدقائك ومحبيك، عن أرض الصبر، وهي أغلى من أحببت .. ربما غيرتك المدن الغريبة وأغرقتك باللامبالاة والصقيع و(الواقعية)؟ أم انك لا تزال – كعهدك دائماً- ترطب حر الشموس وتوقد الحب شموعاً أنى رحلت أو حللت .. تغدو بلسماً وتنثر الشوق وروداً أنى سرت وتلفت؟
أو لا زلت تسأل عنا، عن مضيف الشرفاء المسور بالدم والعذاب وسياط الغرباء؟ هنا .. لم تعد للأشياء خصوصيتها، بل تماهت مع بعضها، الحزن مع الفرح، الليل مع النهار، الموت مع الحياة .. وحدها الذكرى ظلت صارخة، مقتحمة، عصية على الاحتقار، صارت مثل جلدنا الثاني، تقتات من دمائنا، تقاسمنا وسائدنا، فالقمر المسبي والوطن المسبي، لا يعيش الا على ذكراه ..
أتذكرك فتعبث الذكرى بقلبي مثل ريح إعصار، أو كأنها خنجر يماني يُغمد في صدر عمري .. فاسأل: من هذا الذي ابتكر فكرة الهجرة والاغتراب؟ من دل أقدامنا علىدروب المنافي، وألهم الطيور كل هذا العشق للطيران حالما تتعلم فرد أجنحتها؟
بعدك .. كل أيامي ودروبي مقفرة، كل دمعة في عيوني مرسومة على صفحتها صورتك .. يضج المكان من حولي برسمك، فتتناغم آهاتي مع حروف اسمك .. أمد يدي في الفراغ علها تلتقي يدك .. أحلم مثل عصفور شتائي يحلم بالدفء، بأن نعود معاً كما في سنوات طفولتنا وصبانا الضائعة .. فهل أدركت –أخي- كم أنا غريب ووحيد بعدك ..؟
* * *
أي قدر غرائبي وفنتازي، يختزل هذا المشهد العراقي بامتياز: العراقيون-أشد أقوام الأرض صلة بأرضهم- وممن كان لهم إباء نخلة وجَلَد سنديانة .. يفرون هكذا خفافاً من وطنهم، وطنهم الذي تحملوا لأجله ما تئن لثقله الجبال الراسيات .. العراق النبيل الكبير، والمدجج بالتاريخ .. الذي طالما تمنوا أن يتوسد قلبه أحضانهم ولو كانت حشيته أبر وأوردته سكاكين ..!!
يفر العراقيون من ساحات حروب خاسرة لم تتعبد إلا بدماء شبابهم الغض .. من وطن مذبوح وبيوت كابيه ونساء صار حزنهن مديداً مثل ليل العراق وصغار تعز عليهم حبة دواء لأنها راحت ثمناً لأسلحة خائبة لا توجه إلا لصدورهم .. يفرون ليلملموا أشلاء كرامتهم المسفوحة على أرصفة المدن المسبية، ويرمموا فتات أحلامهم التي أحالها قاتلهم الأوحد الى كوابيس انتظار .. يفرون لأن أرض السواد، في زمن فرسان (العوجة) ما عادت تطرح سوى اليباب وغلال الخيبة وغير العمر القاحل الموحش ..
يبيعون كل ما يملكون، مقتنياتهم البسيطة، كتبهم، هدايا شهدائهم .. ويهاجرون عراة إلا من ذاكرتهم،يخلفون وراءهم قبابهم الحزينة، آمالهم التي زركشت عليها العناكب أثوابها، عمرهم المسكون بشذى طلع النخيل .. ويسلمون أرواحهم للسماسرة، فاقدي الضمير .. يعبرون القفار والبوادي، البحار والمحيطات .. حتى يصلوا ملاذاً آمناً ويقتربوا من كوة وإن بديلة.. يروا ضوء الشمس من خلالها ..
يا وطني أيها المتغلغل في دمي .. غداً أو بعد غد، حين يقضم هذا الليل بقايا أصابعه الكريهة .. سنحني هامة أعمارنا ونقبل ضفاف يديك، نطلب الصفح، فقد لذنا حتى بقاتليك .. إنما تفر الطيور من أعشاشها البرية، حين ينتعل الجلاد قامة الوطن .. ويصير التهليل والركوع وذبح الأحبة قرابين له، هو الوطنية ..!!


المصدر : الموقف