في العام السادس من عمر الطفل يدق باب قلبه السؤال التالي: (هل الكبار يحترمونني حقاً؟).
والاحترام ببساطة هو أن تصبح مسافة الهواء التي تفصل بين جسد الطفل وجسد الوالدين ممتلئة بالدفء. والدفء ليس حالة احتضان دائم للطفل، ولكنه حالة اعتزام نفسي بأن هذا الطفل جدير بالمستقبل وأن أخطاءه، قابلة للإصلاح. وهو ككائن صغير سيستطيع أن يصحح أي أمر بهدوء. ولست أعني بعدم الاحترام بين الكبار وبين الطفل توجيه كلمات اللوم أو العتاب عند الخطأ، بقدر ما أعني به الإحساس العميق بالندم لأنك أنجبت هذا الطفل، أو أن تنظر إلى الطفل وكأنه قيد حول عنقك.
إنني لا أنسى أبداً ذاك الشاب الذي كان يعيش قصة حب، وحدث ما حدث بينه وبين حبيبته. وفي لحظة من عناد انتحاري تم خنق قصة الحب بأن قبلت الحبيبة الزواج من رجل آخر. وتنفست أسرة الحبيبة بارتياح، فأخيراً عادت الابنة إلى الصواب واختارت الرجل المناسب لاسم العائلة ومركزها الاجتماعي. ومر الزمن بسرعة لتلد الحبيبة، من زوجها الذي لا تحبه، ابنة يشهد وجودها أن لحظات العناق بين الأم وزوجها الطبيب المختص في أمراض النساء كانت أشبه بعملية تنظيف الأسنان التي تفضي إلى التهاب اللثة! وظلت هذه الأم الصغيرة تعاني من اضطرابات في الدورة الشهرية ومن آلام في المبيضين مجهولة السبب طبياً. وتستمر رحلة الألم سنوات، وتكبر الابنة الصغيرة فتبلغ سن التاسعة وهي ما زالت متخلفة دراسياً، وكثيرة الشرود الذهني، وكثيرة التدمير لكل شيء حولها: تنظر إلى أمها بعناد غريب، ولا تنفذ أمراً واحداً أو رجاء واحداً، كما تستيقظ في الليل صارخة من فرط الكوابيس ترتجف بشدة وعنف ظاهرين. وفي الصباح تجلس الفتاة الصغيرة إلى مائدة الإفطار الباردة وتسمع الحوار الجاف بين والدها ووالدتها وترى في عيني والدها حالة ندم شديد لنه تزوج هذه المرأة. إنه يعلم أن زوجته كانت تحب رجلاً آخر. وكثيراً ما قامت بين الرجل وزوجته معارك بالتشابك بالأيدي، فتجري الابنة ذات التسعة أعوام لتفصل بينهما، وتعود إليها الكوابيس مع الليل بالاضافة إلى التبول اللاإرادي. وتلجأ الأسرة كلها للعلاج النفسي. وفي عيادة الطبيب النفسي تصاب هذه الأسرة، الناشئة عن زواج المرأة بغير مَن تحب، بمأساة من لون آخر.
إذن لم تكن رحلة العلاج للطفلة المتخلفة دراسياً إلا مجرد سؤال للأم: (هل تريدين الاستمرار في الزواج من زوجك أم تريدين الطلاق؟).
وإياكم أن يظن أحد منكم أن الإجابة على هذا السؤال مسألة سهلة، فالقضية هي مسألة إعادة هذه المرأة النظر في عواطفها من جديد.
إنها تستعيد مرة أخرى أيام الخيال مع الحبيب، وتتعرف عملياً على أخطائه. وترى بعين العاطفة أن حبها الأول الذي تندم عليه وتبتعد لأجله عن زوجها هو مجرد وهم. إنه صورة صنعها الخيال لم تصمد أمام الواقع. وعليها أن تستعيد مرة أخرى القدرة على رؤية زوجها من جديد، وأن تقيس بميزان حساس كيفية تحمله لأخطائها وكيفية مساعدته لها في مواجهة مشكلات الابنة المتخلفة دراسياً. وبعد عدد لا بأس به من الجلسات العلاجية، بدأت هذه المرأة تعيد النظر في علاقتها بابنتها وعلاقتها بزوجها. وكما يقول الطبيب المعالج: (تظن المرأة أن لها فقط مبيضين ينتجان بالتناوب البيوضات التي تلتقي في الرحم الخلايا الذكرية فيحدث الحمل، ولكن الحقيقة هي أن هناك أيضاً في خلايا المخ إنتاجاً متميزاً من إعادة علاج مشاكل الحياة، فإذا ما أعادت المرأة النظر إلى زوجها وأقامت معه علاقة حميمة فان الابنة يمكنها أن تلتقط الأثر العاطفي المطلوب. والأثر العاطفي المطلوب هو في أن تشعر الابنة المتخلفة دراسياً أن أمها تعيش مع أبيها لأنها تحبه وليس لأنها صارت أماً. إن إحساس الابنة بأن أمها لا تحب أباها ينعكس على كل سلوكها. إن الحالة الشاذة التي تكون عليها الأم حين تعيش مع رجل لا تحبه تنتقل إلى أعماق الابنة فتنشأ سلسلة لا متناهية من العقبات. والابن أو الابنة يمكنهما أن يعيشا مع أب مطلق أو امرأة مطلقة بشكل أفضل بكثير من أن يعيشا حياة يختفي فيهما الحب بين الزوجين. وإذا ما شعرت الابنة أن الأم تحب الأب وتحيا معه لأنها تستمتع بهذه الحياة، فإن الابنة يمكنها أن تنطلق إلى آفاق الحياة دون تخلف دراسي.
وهذا ما يحدث بعد علاج الأم من آثار العناد الذي قادها إلى زواج. لقد أعادت اختيار زوجها كحبيب لا كبديل لرجل آخر. لقد اكتشفت أن في هذا الرجل مميزات هي المميزات التي تسعدها. واكتشفت أن علاقتها بالحبيب القديم مجرد أوهام، واكتشفت أن (هروبها النفسي) من حبها لابنتها هو لون من الإحساس بالذنب العميق لأنها تركت الحبيب الأول، فالحبيب الأول يمثل بالنسبة إليها طفلاً مفقوداً.
وعندما علمت أن حياتها مع زوجها هي الحياة التي تحب أن تعيشها امتلأت المساحة ـ مساحة الهواء ـ بينها وبين ابنتها بالحنان الدافق. وبدأت تتعلم مع ابنتها دروس الموسيقى، وتفوقت الابنة في العزف الموسيقي وانتقل هذا التفوق إلى بقية المواد الدراسية.
السبب هو أن أحاسيس الكبار لم تعد مختلفة مع سلوكهم، بل أصبحت هذه الأحاسيس معبرة عن هذا السلوك. ولذلك فعلى الكبار أن يعرفوا أن فساد بعض الأطفال إنما يبدأ من انفصال أحاسيس الكبار عن سلوكهم.
وعلى الكبار أن يعرفوا أن اتساق الإحساس مع السلوك يؤدي إلى مد هذا العالم بأطفال يشعرون أن المجتمع يحترمهم. لذلك يرحب بهم الآباء والأمهات أولاً، ثم يبذل الأبناء ما عليهم من جهد ليكونوا أعضاء جدداً في رحلة بناء مجتمع متآلف.