شتاء العقل العربي يغتال عبد الحسين البصري

حيان نيوف GMT 2300 2005 الخميس 10 فبراير
ابتلع الظلام هذا اليوم زميلنا الصحافي العراقي عبد الحسين البصري ( الخزعلي )، 34 عاما، ليكون صحافيا آخر على قائمة طويلة من الصحافيين الذين ابتلعهم الظلام. عاش زميلنا عبد الحسين منفيا وعاد،بعد سقوط قلعة الطغيان، إلى وطنه - إلا أن ما تبقى من حجارة تلك القلعة الغاشمة وأنصارها أبوا إلا أن يحطموا أخر العقول المفكرة ويكسروا أقلام الصحافيين المسالمين الذين كان سلاحهم الوحيد القلم.. رحل زميلنا عبد الحسين البصري كما رحل زملاء آخرون من مختلف وسائل الإعلام العربية والأجنبية.. من " الجزيرة " أو من " الحرة " وغيرها لا فرق.. لأننا هنا نتحدث عن زملاء صحافيين سقطوا وهم يؤدون واجبهم الإعلامي ولا نتحدث هنا عن مواقف القنوات الفضائية..
رحلوا هؤلاء الصحافيون الطيبون واستمر العقل الإرهابي يرقص في رؤوس العالم العربي.

إنه الشتاء ببرودته، المكتظة بدموع الأشجار بحثا عن جسدها الناعم الصيفي. الحياة ريشة والحرية علبة حبر. إذا جفّت الحرية ذبلت الحياة. وحتى لو ظهرت الشمس فلن أصدّق إلا أن الشتاء جاثم ببرده، وليس بجمالية ثلجه، في عقول عربية لا زالت تنظر إلى قتل المدنيين في العراق وذبح الصحافيين وخطف النساء على أنه " جهاد ومقاومة ". يا له من شتاء في عقل عربي فشل حتى اليوم في تقديم بكائية واحدة على اختفاء آلاف البشر في عهد صدام ولكن أحزنه مشهد التعذيب في سجن أبو غريب ! كنا نقول إن هذه العقول " الشتوية "، التي لا تمطر غيومها الخير والحب فوق حقولنا وإنما تمطر الخراب والأوهام، هي التي تحكم السياسية والاقتصاد والمجتمع – وإذ بها تحكم الفصول وتخرّب جمالية الثلج وضحكة الربيع...

إنه شتاء 2005، وهذا هو المتنبئ بأحوال الطقس يتحدث : " الطريق إلى الحرية مغلق بسبب تراكم السجون بأصنافها من سجون المجتمع إلى سجون الإرهاب الفكري وسجون أنظمة حكم مستبدة وسجون معارضات اختفت ضادها بتأثير ريح شمالية وصارت صادا ". الطريق إلى الحب مقفلة بسبب تراكم "هرطقات مناخية متقلبة" ترجع إلى أخر أمي في أمتنا الجاهلية... ورغم الثلوج، وعويل ريح الشمال، وأصوات كلاب شاردة جائعة على ضفة الكلمة وضفاف الجراح ؛ يخرج الأميون لمحاربة شيطان خيالي بسيوف خشبية وعلى صهوة أحصنة مخصيّة !..

ويتنبأ خبير الأحوال الجوية أن الشتاء، بغيومه، ثلجه، وصقيعه، سوف يخيّم أبد الدهر فوق العالم العربي لعوامل جغرافية كثيرة.. لأن العالم في الغرب يحكمه صندوق خشبي اسمه صندوق اقتراع والعالم العربي يحكمه صندوق أيضا لكنه صندوق طماطم.. لأن الغرب يبحث عن حياة في الفضاء والعالم العربي لا زال فرحا بإبداعاته الفكرية المتمثلة بنقاش ساخن فيما إذا كان الديك يضع بيضة كل شهر.. لأن العالم الغربي انتهى من مواسم جمعيات حقوق الإنسان وبدأ الدفاع عن الخصوصية بينما العالم العربي يفرح باختراعه المجتمع المدني " ولكن وفق الضرورات والخيارات الوطنية والثقافة المحلية " !!..

لست فرحا بالغرب أكثر مما أنا حزين لاستمرار الشتاء في العقل العربي. جميل هو الشتاء بأكواخ الحب الدافئة وكؤوس الشاي الساخنة بجانب المدافئ ! جميل هو الشتاء والحب يتألق بين ذراعيه.. لكن الحب لا يزال كلمة تسخر منها عمائم لا تشبه عمامة الأفغاني أو الحلاج - بل تشبه سورا من الأسلاك الشائكة المحيطة بالعقل.
حزين أنا.. لأن الشعراء والأدباء، الذين حدّثوا شعرهم، فشلوا في تحديث وتنوير فكرهم طالما بقي موقفهم، من إنسان العراق ومآسيه في عهد الدكتاتور وفي عهد الإرهابيين، موقفا غامضا.

في عالمنا العربي يوجد شعراء هم " الضد الوجودي " لشعراء الدنيا. وأي شعر هذا يتقمّص روح الإنسان وأبجدية الخوف الأزلي في روحه الحزينة، بينما يسترخي كاتب هذا الكلام في قصره وبجواره أطفال يذهبون إلى المدارس حفاة أو لا يجدون قرشا في جيوبهم المثقوبة ! ثمة فرق كبير بين الإنسان الذي قادته مشاعره ليكون شاعرا وأديبا ومفكرا، وإنسان آخر يبيع الكلام مثل أي بائع للخضار أو الطماطم..

إن الشعر خاصة، أو الأدب والفن عموما، في عالمنا العربي،فشلا حتى يومنا هذا بالعثور على طريق نحو مأساة العراقيين؛ نظرا لأن نبش القبور والبحث عن الزملاء والأصدقاء من كتاب وأدباء وشعراء غيّبهم النظام الفاشستي العراقي عمل صعب للغاية مقارنة مع قصيدة أمام خصيتي حاكمه مقابل حساب في أوروبة، أو مقارنة بموقف سياسي لا أخلاقي ثمنه أكياس دراهم ودولارات من دم الشعب العراقي..

إنه الشتاء في العقل العربي.. إنه الشتاء..