اراء وافكار:
الثورة الحسينية في فكر الشهيد الصدر



ازهر سالم - صحيفة المدى

كان الشهيد السيد محمد الصدر (رحمه الله) قد اتخذ من ثورة الإمام الحسين (ع) منهجاً لحياته وجهاده ، فقد كان مستعداً للشهادة منذ أن ارتدى كفنه وهو يؤم المصلين في مسجد الكوفة خطيباً وإماماً. وكان رحمه الله قد قام بتأليف كتاب بعنوان (أضواء على ثورة الإمام الحسين (ع) عام 1996، ناقش فيه مختلف القضايا الفكرية والتاريخية والعقائدية فيما يتعلق بالثورة الحسينية منذ انطلاقتها وحتى الشهادة .
ولما كان ما يطرحه عميق الفكرة ، متجاوزاً لما اعتاد بعض الناس عليه ، يفاجئ السيد الصدر القارئ بشروط يفترضها بمن يقرأ الكتاب وهي :

1-أن يكون موضوعي التفكير لم يختر سلفاً اتجاهاً مغايراً ، بل يحاول أن يحكّم عقله الخالص في كل ما يسمع من الأمور مطبقاً ذلك على الكتاب الكريم والسنة الشريفة، فإنما هما المحك الرئيسي للمسلمين في تشخيص الحق .
2- أن يكون ذا اطلاع كاف على تاريخ الحسين (ع) وأصحابه وأهل بيته قبل وفي أثناء وبعد واقعة كربلاء. والأفضل أن يراجع ذلك التاريخ أولاً.
3- أن يكون ذا اطلاع كاف على أوضاع الخطباء ، أساليبهم وأقوالهم .
أهداف الحسين (ع)

يضع السيد الصدر منهجاً لفهم أهداف الثورة الحسينية يجعل الباحثين والدارسين والمفكرين بمنأى عن الخروج عن الأهداف الحقيقية ، حيث يشترط أن تتمتع هذا الأهداف بالخصائص الآتية:

1-أن يكون الشيء الذي نتصوره هدفاً للإمام الحسين (ع) أمراً مرضياً لله عز وجل ، لا تشوبه شائبة عصيان ، أو أن يكون مرجوحاً في الشريعة المقدسة ، مثل حب الدنيا وطلب المال والجاه والسيطرة المنفصلة عن الأمر الإلهي والتكليف الشرعي .
2- أن يكون الهدف الذي نتصوره مناسباً مع حال الحسين (ع) وشأنه، لا أن يكون هدفاً مؤقتاً أو متدنياً أو ضئيلاً . فإن ذلك مما لا يصح له وجود هذه التضحية الكبيرة التي قدمها الحسين (ع) .
3- أن يكون أمراً متحققاً أم في الحال في المستقبل . ولا يجوز أن نطرح له هدفاً فاشلاً وغير متحقق أو غير قابل للتحقيق ، فإنه خلاف الحكمة الإلهية . ولا يمكن أن ننسب ما هو فاشل وعاطل إلى الحكمة اللامتناهية

ثم يذكر السيد الصدر الأهداف المحتملة للإمام الحسين (ع) وهي :

1-أن لا يبايع الحاكم الأموي يومئذ كما طلب منه ، فإنه عليه السلام رفض بكل قوة وصمود . كما ورد عنه أنه قال : ومثلي لا يبايع مثله . فقد تحمل القتل والتضحيات الجسيمة في سبيل ترك هذه البيعة الدنيئة. وأنه (ع) اعتبر البيعة ذلة حين يدخل تحت السيطرة الأموية . هذا إذا تركه الحاكم هو وشأنه ، بل أرسلت السلطة جماعة من القتلة لاغتيال الحسين (ع) في مكة حتى لو وجدوه متعلقاً بأستار الكعبة .
2- الهدف الآخر الممكن لحركة الحسين (ع) هو الإمتثال لأمر الله تعالى إياه بها ، ذلك الأمر المعروف لديه إما بالإلهام أو بالرواية عن جده النبي (ص) . وكان يطلب ثواب الله وجزاءه الآخروي على ذلك تماماً ، كما يفعل أي مؤمن حين يؤدي أي واجب ديني كالصلاة والصوم والحج . ويدل على ذلك ما ورد عن جده (ص) أنه قال له في المنام : يا بني لابد لك من الشهادة ، وأن لك درجات عند الله عز وجل لن تنالها إلا بالشهادة . وأن الحوراء زينب (ع) وضعت يديها تحت جسده الطاهر وقالت : اللهم تقبل منا هذا القربان .
3- فضح بني أمية ومن على شاكلتهم، وأنهم ليسوا فقط ظالمين لأنفسهم بل ظالمين للناس في حكمهم غير العادل. وأنهم على استعداد لقتل الرجال والأطفال وسبي النساء ، وقتل خير الخلق من أجل التمسك بالحكم والكرسي . وقد تحقق هذا الهدف مباشرة بعد واقعة كربلاء ومازال ساري المفعول وسيبقى إلى يوم القيامة .
4-طلب الإصلاح أو محاولة الإصلاح في الأمة المسلمة حيث قال : أني لم أخرج أشِراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر .
5-الإستجابة لأهل الكوفة حين طلبوا منه القدوم عليهم وأخذ البيعة منهم وممارسة الحكم بينهم. وهذه الإستجابة وإن كانت صحيحة بحسب الحكم الظاهري في الشريعة . إذ يجب عليه (ع) أن يستجيب لمثل هذا الطلب الجليل . ولكننا مع ذلك لا يمكن أن نعتبره هدفاً حقيقياً للحركة ، وإنما هي استجابة لابد منها لسد الأسنة وقطع المعاذير من ناحية، والتكلم مع الناس على قدر عقولهم.
6- إعطاء الأمثولة للدين الحنيف القويم ، وأنه يستحق هذا المقدار العظيم من التضحية والفداء في سبيل الله وفي سبيل إقامة الأحكام الإسلامية والشعائر الدينية . وينبغي أن نلاحظ أن الأمر هو مربوط بالله سبحانه قبل أن يكون مربوطاً بشيء آخر لأن الدين على عظمته إنما اكتسب الأهمية لأنه أمر الله ونهيه، والرسول إنما اكتسب الأهمية لأنه رسول الله ، والمعصومون إنما حصلوا عليها لأنهم أولياء الله .

يا ليتنا كنا معكم

هناك عبارة يكررها خطباء المنبر الحسيني حتى أصبحت متعارفة وتقليدية وهي قولهم (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً). وهذه العبارة مأخوذة من رواية عن الإمام الرضا (ع) يقول لابن شبيب : إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين (ع) فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً .
واللفظ الأهم في هذه الجملة هو (معكم) . فإن المعية قد تكون مكانية، وقد تكون زمانية ، وقد تكون معنوية. فالمتكلم بهذه الجملة مرة يتمنى أن يكون مع شهداء كربلاء في الزمان والمكان المعنيين اللذين كانوا فيهما، وأخرى أن يكون معهم معنوياً .
ويرد السيد محمد الصدر على من يرى أن كلمة (ليت) تفيد امتناع الشيء ، وتطلق للشيء المستحيل، فيقول : إن القرآن الكريم يقول ( يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا) ( مريم :23) مع العلم أن الموت في أي وقت ممكن بقدرة الله سبحانه . ومحل الشاهد من ذلك أن التمني للممكن أمر ممكن. فإذا عرفنا أن (المعية) المعنوية مع أصحاب الحسين (ع) أمر ممكن في أي مكان وزمان لأنها تعبّر عن المعية القلبية والفكرية، وهي المعية الأهم والألزم. فإذا كانت ممكنة كان تمنيها ممكناً ، ويمكن أن يقصدها الفرد حين يقول : يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً . والحق أن المعية المعنوية توجب الفوز العظيم بلا إشكال .

رواة واقعة الطف

يرى السيد محمد الصدر أن الرواة الأوائل لحادثة الطف منحصرون في الأقسام التالية :
1- الأئمة المعصومون (ع) بعد الحسين (ع) وخاصة الثلاثة الذين كانوا بعده مباشرة وهم الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق عليهم السلام . فلهؤلاء الأئمة قسط من ذكر واقعة الطف . ومع ذلك لا نستطيع أن نأخذ عنهم التفاصيل كما نريدها، لأنهم عليهم السلام كانوا يتحدثون بمقدار ما تقتضي المصلحة في زمانهم، فكانوا يركزون على الجانب المعنوي لواقعة الطف، والدفاع عن قضية الحسين (ع). ولا تكون لهم رواية أو نقل الحوادث إلاّ ما جاء عرضاً خلال الحديث. إذن فلا ينبغي أن نتوقع سماع حديثهم عن التفاصيل الكثيرة التي نريدها .
2- النساء من ذرية الحسيين (ع)، وذرية أصحابه ، بعد عودتهن إلى المدينة المنورة ، فمن الممكن أن يتحدثن عما رأينه عن تلك التفاصيل. وتعتبر كل واحدة منهن شاهد حال حاضر للواقعة . ومع ذلك يجب أن لا نبالغ في ذلك لأمرين: الأول، أن النساء كن موجودات في الخيام ، ولسن مشرفن على الواقعة ولا متابعات للحوادث، ولا يعرفن أشخاص الرجال الأجانب بأسمائهم. الثاني: كانت المصلحة الدينية والإجتماعية تقتضي إقامة المزيد من المآتم على واقعة الطف بعد عودتهن إلى المدينة المنورة. إذن قد انشغلت النساء بمهمتهن المقدسة ولم تجد إحداهن الفرصة الكافية لرواية التفاصيل .
3- الأطفال القلائل الذين نجوا من القتل ، واستطاعوا الهرب كأحمد بن مسلم بن عقيل أو عادوا مع النساء كالحسن المثنى . فبعد أن كبروا، من الممكن أن يرووا ما رأوا وما سمعوا. ومع ذلك لا ينبغي المبالغة في أخذ التفاصيل من هؤلاء تاريخياً، لأسباب منها أنهم كانوا مع النساء في الخيام ، وأنهم لا يعرفون أسماء الرجال الموالين والمعادين، وأن فهمهم الطفولي يومئذ لم يكن يساعد على الإستيعاب ، إذ كان معدل عمر أحدهم يومئذ قد لا يزيد على خمس سنوات ، ولم يكونوا معصومين. من جانب آخر لم يجر ذكرهم في إسناد الروايات إلا نادراً .
4- الأعداء الذين حاربوا الحسين (ع) فعلاً في كربلاء، وكانوا حاضرين خلالها ، ولكنهم نجوا من الموت ورجعوا إلى بلدانهم، فأمكنهم أن ينقلوا القصة، وسمع منهم الناس عنها الشيء الكثير. ويروى أن المختار الثقفي حين أعلن الأخذ بثأر الحسين (ع) كان يقبض على أعدائه واحداً واحداً ، فيسأله عما فعله في الطف ، فيقتله بالشكل الذي قتل به الشهداء هناك. فقد حصل من ناحية الأعداء روايات تفصيلية عن حوادث كربلاء . وهناك أخبار أخرى من غير هذا الأسلوب رويت عن حميد بن مسلم وزيد بن أرقم . فهل تستطيع أن تعتبر هذه الأخبار عنهم هي من أخبار الثقات مع اننا نعلم أنهم أشد الناس فسقاً وعناداً ضد الإمام المعصوم ، بل ضد الله ورسوله أيضاً ، فإذا لم يكن ثقة فكيف يمكننا الأخذ به . لكن الذي يهون الخطب أننا نأخذ التفاصيل من كتب علمائنا الموثوق بهم الأجلاء كالشيخ المفيد في (الإرشاد) والشيخ الأربلي في (كشف الغمة) ، وأبي مخنف والخوارزمي في (مقتل الحسين)، والشيخ التستري في كتابه عن الحسين (ع). إلا أننا مع ذلك ينبغي أن نكون حذرين في النقل لعدة أمور :

1-أن كثيراً مما نقلوا من الروايات هي ضعيفة السند ومرسلة . وعلى كل تقدير لا يمكن الأخذ بها فقهياً. وقد يقال أن هؤلاء العلماء هم الذين تكفلوا صحتها على عاتقهم. فهي معتبرة وصحيحة في نظرهم. وهذا يكفي في النقل وإن كانت مرسلة أو ضعيفة بالنسبة الينا. وجوابه : بالنفي طبعاً . بعني لا يكفي ذلك لأن صحتها التي يعتقدون بها إنما هي صحة اجتهادية وحدسية، وليست حسية لتكون حجة على الآخرين أو الأجيال المتأخرة .
2- أن هناك كتباً مشكوكاً في نسبتها إلى هؤلاء الثقات ، مثل كتاب (مقتل أبي مخنف) ، وهو مما يعتمد عليه الناس كثيراً . وأبو مخنف رجل صالح وموثق إلا أن نسبة كتابه إليه مشكوكة .

توصيات عامة لخطباء المنبر

يحرص الشهيد محمد الصدر على أن يكون المنبر الحسيني منارة للعلم والوعي ، فيرى أهمية التركيز والمحافظة على الذوق العام والأخلاق والتقيد بالمنهج العلمي في نقل الروايات الصحيحة، فيكتب النصائح الآتية:
1- الوعظ والإرشاد ، فإنه من الضروريات والواجبات في هذا المجتمع وكل مجتمع لكي تصل الموعظة إلى أهلها ويستفيد منها أكبر عدد ممكن سواء كانت الموعظة مرتبطة بقضايا الإمام الحسين (علي) أم لا .
2- عدم إيذاء أحد من الناس أو الطوائف في كلام الخطباء .
3-التورع عند نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين (ع) وغيرهم كذباً .
4-أن يتورع من نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين (ع) وغيرهم باعتبار لسان الحال ، شعراً كان ما يقوله الخطيب أم نثراً ، فصيحاً كان أم دارجاً ، ما لم يعلم أو يطمئن بأن لسان حالهم هو كذلك فعلاً .
5-أن يتورع الخطيب عن ذكر الأمور النظرية والتاريخية أو غيرها مما تثير شبهات حول الأمور الإعتيادية في أذهان السامعين ، ويكون قاصراً أو عاجزاً عن ردها ومناقشتها أو غافلاً عن ذلك ، بل يجب أن يختار ما يقوله بدقة وإحكام ، وإلا فسوف يكون هو المسؤول عن عمله فيقع في الحرام من حيث يعلم أولا يعلم .
6-أن لا يروي الخطيب أموراً مستحيلة بحسب القانون الطبيعي حتى وان ثبتت لديه بطريق معتبر . فبعض الخطب يروي أن أحدهم تناثر مخه بعد ضربه بعمود على رأسه ، ومع ذلك بقي يتكلم ويسمع ويرد ويجيب . مع العلم أن من تناثر مخه ، فهو ميت لا محالة ، ولا يستطيع الكلام ولا بكلمة واحدة لأن تلف المخ طبياً يعني الوفاة وعدم إمكان استمرار الحياة .
وإذا كان بعضهم يقول أن ذلك قد حدث على سبيل المعجزة ، نقول أن واقعة كربلاء بكل تفاصيلها ليست قائمة على شيء من المعجزات . وإلا لم يكن الإمام الحسين (ع) في حاجة إلى الحرب ، وإلى تحمل هذا البلاء الدنيوي العظيم ، بل كان يمكن بدعاء واحد لله عز وجل أن يقتل كل أعدائه .
7-أن يدع ما أمكن التفلسف فيه من الحوادث ، أعني التعرض إلى الحكم والأسباب التي اقتضتها ، ما لم يحرز في نفسه الإصابة كذلك وإلا فليدع ذلك إلى أهله وهو خير له في الدنيا والآخرة من أن يكلف نفسه ما لا يطيق ، أو أن يكلف السامعين ما لا يطيقون . فقد تثبت الشبهة في أذهانهم ويكون الخطيب عاجزاً عن ردها أو إقناع السامعين بالرد ، فيتورط بالحرام من حيث لا يعلم . ولا يختص هذا الأمر بكربلاء بل في كل أمور الشريعة .
8- أن لا ينسب الخطيب الحسيني وغيره إلى غير المعصومين من المؤمنين فضلاً عن المعصومين الوقوع في الحرام قل ذلك أو كثر .
فمثلاً يذكر بعض الخطباء أن نساء الحسين برزن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، الوجوه سافرات وبالعويل داعيات ، كما ورد في زيارة الناحية المقدسة المروية عن الحجة (ع) .
فمن قوله (ناشرات الشعور) كونهن كذلك أمام الرجال والأجانب من المعسكر المعادي، وهو مما لا شك في حرمته في الشريعة المقدسة ، فيكون ذكره من باب نسبة ارتكاب المحرم إلى نساء الحسين (ع) . وهذه رواية ضعيفة سنداً بحيث لا تقوم كدليل معتبر على أي شيء، فينتفي الأمر من أصله .