|
-
حبذا لو تطبق عندنا ايضا:إصلاح فوضى الفتاوى خطوة أولى باتجاه ترشيد خطابنا الديني
إصلاح فوضى الفتاوى خطوة أولى باتجاه ترشيد خطابنا الديني
GMT 5:00:00 2006 الإثنين 19 يونيو
الشرق الاوسط اللندنية
--------------------------------------------------------------------------------
الإثنين: 2006.06.19
يوسف الديني
في خطوة لافتة ومهمة على صعيد إصلاح الخطاب الديني في السعودية وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح آل الشيخ، أن هناك دراسات حثيثة لإصدار قانون جديد يكبح ظاهرة «فوضى الفتاوى» الشرعية، إثر تزايد أعداد من «تجرأوا على الفتيا»، محذراً من هذه الظاهرة التي تنذر بكارثة دينية اجتماعية على حد وصفه.
يمكن القول إنه عندما يتبادر للذهن مصطلح «فتوى» تتداعى إلى المخيلة صورة ذلك الطوفان العارم من الإجابات والبيانات غير المتناغمة فيما بينها سواء على مستوى التأطير الشرعي أو على مستوى النتائج المصلحية التي توافق مقاصد الشارع من الأحكام، وهو أمر لم يعد خافياً على المتابع للمشهد الفقهي والساحة الدعوية التي أصبحت مرتعاً خصباً للمتناقض والمتباين من الأقوال والفتاوى بين رجالات المنظومة الفقهية الواحدة، خاصة حين يتعلق الأمر بمسائل يمكن نعتها بأنها من العيار الثقيل الذي يتطلب عملاً مؤسسياً وجهوداً بحثية مضنية تستلهم دراسات منهجية لطوائف من الباحثين تتعدد تخصصاتهم بتعدد أطراف المسألة ومتعلقاتها وما يترتب عليها من نتائج وأحكام بحيث لا يمكن الجزم فيها برأي مرتجل مهما كانت أهلية قائله ومكانته العلمية.
وقبل أن نسترسل في البحث عن جذور هذه المعضلة يحسن بنا أن نتوقف قليلاً عند مصطلح «الفتوى» على الأقل من الناحية التاريخية لنلقي الضوء على محددات هذه الكلمة التي يجب أن تخرج في عصرنا الذي نعيشه بكل أبعاده ومتغيراته من صبغة الممارسة العفوية المعتمدة على إجراءات ذهنية بسيطة إلى مستوى البناء النظري المنهجي المنضبط بشبكة من العمليات الاجتهادية الدؤوبة للوصول إلى حكم شرعي منضبط روعي في استنباطه تلقي الأمة له بالقبول مهما اختلفت مواقع أفرادها أو تياراتهم.
بداية يمكن القول إن العودة إلى الجذر اللغوي في كلمة «فتوى» يقودنا إلى مفتاح مهم لفهم طبيعة الوظيفة، التي يجب أن يكون عليها المفتي والسمات المطلوبة في الفتوى ذاتها، فمادة «فتي» تدل على الإبانة، يقال أفتاه في الأمر إذا أبان له، والفتوى حينئذ الجواب عما أشكل من المسائل وطلب الإبانة لأحكامها، والمفتي هو العالم الذي يبين الحكم في مسألة ما سواء كانت شرعية أو لغوية أو غيرها وإن كان قد غلب استعمال الفتوى واختصاصها بمسائل الشريعة والأحكام الفقهية.
ومن هنا يمكن أن نفهم الفروق الجوهرية بين «عملية الإفتاء» وبين قرينتها «القضاء» من حيث جوهرهما ومن حيث علاقتهما بالالتزام بالنتائج وانطلاقهما من خلفية الإخبار عن الله تعالى أو التوقيع عن رب العالمين، كما يقول ابن القيم، فمن الفروق الجوهرية أن الإفتاء محض إخبار عن مراد الشارع مما يطلبه من المكلفين وعليهم أن يمتثلوه وهو لا يختص بباب دون آخر من أبواب الشريعة، بخلاف القضاء الذي يختص بالمعاملات ولا يقف دور القاضي على بيان الحكم بل ينشئ إلزاماً بما وصل إليه اجتهاده وفق معطيات القضية لديه، مما لا يسع المتقاضي عنده إلا القبول، وقد مثل القرافي لدورهما فيما يتعلق بالتعامل مع النصوص الشرعية وتنزيلها بدور النائب في الحكم عن صاحب الشريعة وهو القاضي، بينما المفتي يمارس دور الترجمان والمبلغ.
بل إن الشاطبي اعتبر «أن المفتي شارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول»، وإذا تجاوزنا التحفظ على مثل هذا الوصف لا سيما في المسائل المبنية على اجتهاد ظني، فإن دلالاتها تكمن في التنبيه على مكانة المفتي في الخارطة العلمية وبالتالي التأثير الاجتماعي.
ولا شك أنها مكانة عظيمة تلك التي تجعل من العالم الديني ملاذاً للسائلين يستفتونه في أمر دينهم طاعة لأمر ربهم «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، وهو ميثاق الله الذي أخذه على أهل العلم «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه»، حتى أن الفقهاء نصوا على أن أي مكان لا يوجد فيه للناس من يفتيهم وجب الرحيل منه، إلى حيث من يبين أحكام الدين وما ينزل على الناس من قضايا ومسائل.
من جهة أخرى فقد بحث الفقهاء أنفسهم والأصوليون منهم على وجه الخصوص آلية الفتوى وعلاقة المفتي بها حلاً وحرمة وقد نصوا على أن الإفتاء يكون فرض عين، إذا عدم في ناحية من بلاد المسلمين غير الفقيه المعني بالسؤال وهكذا من عينه ولي الأمر، وفي حين تعدد المفتين فإن الإفتاء حينئذ يكون فرض كفاية بالعموم، وقد ينتقل إلى العين بحسب المسألة الفرعية الجزئية المقتضية لاجتهاد ونظر جزئي خاص كما سيأتي، ويكون الإفتاء مندوباً في الوقائع المرتقبة التي لم تحدث وتكره الفتوى فيما يستحيل وقوعه وهي حرام لا يجوز الإقدام عليها بحال حين يكون المتصدر لها جاهلاً أو تترتب على فتواه مفاسد عظيمة على المستوى الاجتماعي أو السياسي، وهو أمر سنتحدث عنه بشكل تفصيلي في مقال لاحق بحيث نأتي على الضمانات الإجرائية التي وضعها الفقهاء والأصوليون، للحد من ظاهرة الفوضى الإفتائية المفتقرة للتأصيل الشرعي أو التي تفتقد لآليات تنزيلها على الواقع والظرف المعاصر لها بسبب غياب الوعي بالمتغيرات والمؤثرات المختلفة.
وقد قال الإمام مالك فيما نقل عنه ابن حمدان في صفة الفتوى: «لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلاً لذلك، ويرى هو نفسه أهلاً لذلك، وما أفتيت حتى شهد لي سبعون».
إن الفتوى كغيرها من أدوات تفعيل النصوص الشرعية لتكون واقعاً معاشاً بين الناس، قد حظيت عند الفقهاء والأصوليين وسائر العلماء بمكانة بارزة، حيث خصها بعضهم بالتأليف وتناولها كثير من الأصوليين في مبحث الاجتهاد والتقليد من مباحث علم الأصول، ويمكن استخلاص متعلقات ذات علاقة حيوية ومباشرة بوظيفة المفتي في تفعيل قيم الإسلام ومبادئه في المجتمع، سواء كانت تلك المتعلقات تتناول جملة الشروط والسمات التي ينبغي أن تتوافر عليها الفتوى ومن يدلي بها أو اللبنات الأساسية لعملية الإفتاء ذاتها من حيث ضرورة تطورها لتصبح ملائمة للعصر المرتبط بعوامل وتأثيرات كثيرة ذلك أن للفتوى شقين: جانب نقلي يعتمد على إرجاع المسألة إلى نظائرها من نصوص الكتاب والسنة عبر أدوات النظر الأصولي ومقاصد الشريعة ودلالات النصوص، وشق آخر هو الأهم والأساس وهو تنزيل تلك النصوص على واقع المسألة من جميع أبعادها، وهذا الذي يجعلنا نتفهم تنبيه كثير من العلماء على أن المفتي لا يحل له أن يجيب عن سؤال فوق احتمال عقله ومقدرته العلمية وهو ما يعني بعبارة أخرى أن تكون المسألة متعددة الجوانب مما يتطلب اجتهاداً وإفتاء جماعياً يمتزج فيه فقه العالم بخبرة السياسي واستقراء الاقتصادي، وهكذا كل مسألة بحسبها
ومن أهم تلك السمات التي يجب أن تتصف بها الفتوى المنضبطة الوضوح والإبانة بحيث لا تدخل المتلقي في دوامة الخلاف الفقهي والتفريعات الاستدلالية، قال ابن حمدان: «إذا اقتصر المفتي في جوابه على ذكر الخلاف وقال (فيها روايتان أو قولان أو وجهان) من غير أن يبين الأرجح، فإنه لم يفت بشيء فيها، وإذا لم يذكر خلافاً فلا شيء له إذا حصل غرض السائل من الجواب بنفي أو إثبات).
ومن تلك المتعلقات ذات التأثير على موافقة الفتوى لمقاصد الشرع هو معرفة عرف البلد والمعطيات الاجتماعية والاقتصادية خاصة في مسائل المعاملات ومستجدات النوازل والقضايا وقد نقل ابن فرحون عن القرافي نصاً نفيساً حيث بين أنه «ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلاد الذي فيه المفتي، ألا يفتيه بما عادته أن يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا؟ وهذا أمر متيقن واجب لا يختلف فيه العلماء وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليسا سوءاً كان حكمهما ليس سوءاً».
ويشرح الشاطبي سبب ذلك فيقول: «إن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلاف أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك في الشرع لم يحتج إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكي به عليها». ومن أهم المتعلقات بنجاح الفتوى وفاعليتها إدراك المفتي ووعيه بالمتغيرات الزمانية والمكانية والظرفية التي تتصل بواقع الناس، وقد عقد ابن القيم فصلاً مهماً في كتابه الفذ «إعلام الموقعين» صدره بقوله: «هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة الباهرة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا يطاق مما يعلم أن الشريعة لا تأتي به، لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وإن نسب إليها».
وهذا الذي نبه إليه ابن القيم من أبرز الأسباب التي سببت حالة الضمور الفقهي التي نعيشها هذه الأيام، حيث يلحظ الجميع الهوة الشاسعة بين قائمة المسائل طويلة الذيل التي لا زالت تنتظر عمليات الاجتهاد الموسوعية في مقابل ندرة المعالجات الفقهية الناضجة لكثير منها، مما جعلها غرضاً لتراشق الفتاوى العجلة التي لا تكاد تسمن لا سيما في مجال المعاملات وتفصيلاتها المتشابكة والمعقدة وهذه المعضلة لم تكن وليدة اليوم، بل ارتبطت بزمن بعيد وتحديداً منذ بدايات الضمور العام في الجسد الفقهي حين سد باب الاجتهاد واقتصر الفقهاء على إعادة إنتاج وسكك مقولات سالفة لا تنطبق على واقع متجدد متسارع، ولعل أبلغ من يعبر عن حالة الضمور تلك الشيخ العطار صاحب الحاشية الشهيرة على متن جمع الجوامع في أصول الشافعية: «فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئاً من عند أنفسنا وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون نكررها طول العمر ولا تطمع نفوسنا إلى النظر في غيرها حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب».
ولا يكتفي الإمام القرافي من مجرد التأفف من هذا المسلك، بل يعده جهلاً بمقاصد التشريع وضلالاً حيث يصرح أن «الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».
ولا شك أن حضور تلك المتغيرات في ذهنية الفقيه والمفتي ليس أمراً ثانوياً، وهو أيضاً ليس استجابة لضغط الواقع كما قد يصوره البعض، وإنما هو نابع من دلالات النصوص الشرعية ذاتها، والتي تربط كثيراً من الأحكام بالمصلحة الشرعية وجوداً وعدماً، وهو أيضاً مسلك أئمة المسلمين من لدن الصحابة رضي الله عنهم، وتتبع ذلك في تطبيقات الفقهاء يطول جداً، ومن أمثلته ما أفتى به الإمام أبو حنيفة من جواز دفع الزكاة للهاشمي، بالنظر إلى متغير اختلال نظام بيت المال، وهكذا ما نص عليه الفقهاء من جواز التسعير عند الحاجة، ونظيره تجويز فقهاء الشافعية أخذ نبات الحرم لعلف البهائم وقت الحج، رفعاً للحرج الذي يصيب الحجيج في الموسم.
ونجد لهذا الأصل نظائر متعددة في تطبيقات الصحابة، لا سيما في أفعال عمر رضي الله عنه رائد الفهم المقاصدي للإسلام، فقد منع حذيفة من الزواج بكتابية، وأمره أن يخلي سبيلها مع أنه مباح بصريح القرآن، فكتب إليه حذيفة أحرم يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين».
إن من يتأمل نصوص الكتاب والسنة وموارد التشريع يدرك بجلاء أن «الشارع قاصد لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيث دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز»، إن «زلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه»، كما يؤكد الإمام الشاطبي فالعالم الرباني «هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف».
إن المفارقة حقاً عند من يقع في هذا المسلك، أنه يدفع من حيث لا يشعر باتجاه تأييد الرؤية العلمانية في النظر إلى ملاءمة الشريعة وحيويتها في استيعاب متغيرات العصر في حين أنهم من أكثر من يرفع شعار الإسلام الصالح لكل زمان ومكان، والذي يستوجب ويقتضي فقهاً وقيماً وتنزيلاً للوحي على الواقع صالح لكل زمان ومكان أيضاً، إلا أن الإشكالية تكمن في ردة الفعل من المحاولات التي تبنتها تيارات التحديث ذات العداء أو التحفظ من المعطى الديني ككل، حيث سعت إلى تفريغ النصوص الشرعية من مضامينها، وانضاف إلى ذلك شعارات أخرى لا تقل ضبابية وعموماً امتزجت بالصراع السياسي واتكأت على مفاهيم طارئة ولدت من واقع متأزم كالحاكمية والجاهلية وتطبيق الشريعة، وهي مفاهيم من عمق الإسلام إلا أن تطبيقاتها وتجاهل تفاصيل ما يحكم به، وما يطبق وما يدخل تحت مسمى الشريعة، جعلها أقرب من حيث التوظيف للشعار السياسي، بدلاً من الإصلاح الديني والاجتماعي.
إن الأزمات دوماً تظهر حقيقة جلية، لا يمكن النزاع عليها أو الرهان على صوابها، وهي أن الأمة تحمل في داخلها وهجاً وتوقاً إلى مفاهيم الإسلام المتسامحة، لكنها تفتقد من يقدم لها تلك المفاهيم في إطار حضاري وعقلاني.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
|