[align=justify]د.مراد الصوادقي

شيدوا فيها وعلّوا صرحها فالبناء للحياة ذخرها

بالبناء يتباهى جيلها

فاجعلوا العمران تاج زهوها

لا تهينوا يا أباة ضيمها

قد أتاها ما بكف أمرها

البناء أن ينشغل الناس بالحياة ويتذوقوا طعمها والبكاء أن ينشغل الناس بالموت ويستلطفوا وجوده والقفز إليه برغباتهم الشعورية واللاشعورية. والبكاء يؤسس للكآبة والبؤس والحرمان ويوفر للناس مزيدا من مفردات الشقاء والعناء والبلاء والألم. البناء نشاط إنساني فعال يمنح الحياة قيمة وقوة وحرارة تواصل وتفاعل, ويملأ العاملين بالبهجة والسرور والقدرة على السيطرة والتغيير وتحقيق الأهداف. والبناء يحقق الآمال ويفتح الأبواب الموصدة ويستحضر الفرص ويغذي الناس بكل مفردات الحياة والتقدم ويبعدهم عن صغائر الهموم ويوفر لهم مادة متفائلة للحديث والرجاء والثقة بالحاضر والمستقبل. البناء يرسخ قيم الوحدة والمحبة والخير في النفوس وينقلها من حالات الإحباط والانكسار إلى محطات التوثب والإنجاز ويضخها بطاقات الصيرورة الإنسانية المتألقة. البناء يجعل الناس تعبر عن إنسانيتها وفضائلها ويطرد منها كل أمّارات السوء والبغضاء ويجعلها تفكر بالمصلحة العامة المشتركة وبالأمن والسلام والمحبة, لأنها تدر عليهم أرباحا وتمنحهم قدرات للتفاعل الخلاق مع المستقبل. البناء هو مفتاح الأمن والأمان والوحدة الوطنية. ومن دون البناء ومنح الثقة الكاملة للإنسان لكي يتحمل مسئوليته ويقوم بدوره الإيجابي تجاه وطنه, فأنه سيبقى يعاني من مآزق كثيرة ولا يمكنه الخروج من دائرة الويلات المفرغة التي يدور فيها ويعاني الأمرين بسببها. البناء يصنع وجودا زاهيا ويرسم قسمات الفرح والسرور على الوجوه التي تعبت من ملامح القهر والضنك والأحزان. البناء علاج نفسي للكآبة وعواصف المآسي والأحزان والندب وعذابات الضمير والنكد المقيت. والبناء ترويح نفسي ونشاط اقتصادي سعيد ومفيد للجميع ويحقق الوحدة الوطنية ويقضي على النعرات الظلامية التي تريد النيل من الماضي والحاضر والمستقبل. البناء ولا جواب غير البناء. فشجعوا المدن لتبدع مشاريعها, والإنسان ليصنع حياته ولا تخذلوه.

بهذا فقط يتحقق كل شيء!

أما أن نكرس البطالة ونؤذي الناس ونضعهم في دوامة الخوف والوعيد فأننا نسعى إلى مسيرات العويل والبكاء والدموع ونحقق في الحياة موتا ونجعل الناس يعيشون في يأس وخيم يدفع بهم إلى أن يفعلوا ما هو يائس وسوداوي ودموي. فاليائسون لا تعنيهم الحياة لأنهم لا يعرفونها ولا يجدوا سبيلا للإحساس بها والتفاعل مع أيامها وتذوق طعمها. اليائسون هم جنود الموت وهم الموت والأموات ولهذا ينتحر اليائسون في كل بقاع الأرض, لانقطاع سبل تواصلهم بالحياة وفقدانهم الإحساس بها فيتلذذوا بالموت ويستلطفونه ولا يجدون لهم خيارا سواه فيرمون بأنفسهم إليه وهم في غاية الرضا والعشق لهذه الخاتمة التراجيدية السوداء. الذين يبكون, لا يعرفون من الحياة إلا أنها دهليز أسود تنزف منه الدماء وما تعودت أسماعهم إلا صرخات الموت والعويل والنحيب الشديد التي تدفعهم إلى مزيد من الاستثمار الدموي والجنائزي . فهم لا شغل عندهم ولا عمل يمكنهم أن يقوموا به في أيامهم المضجرة المشلولة المصابة بطاعون الأحقاد الأسود الذي ينتشر بسرعة مهولة ليقضي على الآلاف كل يوم ببرودة أعصاب ولذة مكتئب يائس لا يرغب من الحياة بشيء ويستقدم الموت استقداما. إن الكثير من معطيات المآسي يتوطنها شيطان الكآبة واليأس والقنوط والتغرب والتشرد من الحياة بكل ما فيها من معاني ومحفزات ودوافع ورغبات. هؤلاء بلا إحساس بالحياة لأنهم ما عرفوها ولا تذوقوا طعمها ولا أدركوا قيمة العطاء والبناء فيها ولا تحملوا مسؤولية التفاعل معها وتحقيق بعض المعاني المفيدة فيها. إن من لا يعرف الحياة يكون عالما بالموت ويتصور أن وجوده لا يعني شيئا وأن الموت كل شيء فيقوم بفعل السيئات وصناعة الفواجع ليقضي على الآخرين معه لأنه لا يفهم بالحياة ولا يعطي قيمة لحياة الآخرين مادام هو لا يعرفها ولا يفهمها ولا يتذوقها أبدا. والحياة تتحول إلى نقطة سوداء في معصرة الخوف والحرمان والبطالة وضياع الأمن والأمان.

والجواب الأكثر صدقا وتأثيرا في الحياة, بعيدا عن كل الرؤى والتفسيرات والتصورات هو نداء "حي على البناء". البناء بسواعد عراقية وأفكار وإبداعات عراقية بحتة. المواطن أينما كان عليه أن يبني مدينته ومحلته ويساهم في توفير المدارس والمكتبات والسكن اللائق لأبناء قريته وناحيته وقضائه ومدينته مهما كبرت أو صغرت. ويحتاج أن يوجه جهوده وأنظاره إلى البناء والرفاهية والتقدم وليتخلص من هذه الحمى السوداء التي تحرق أوصاله وتتسبب له بالمزيد من سفك الدماء والكثير من المشاحنات والمناوشات المذهبية والطائفية التي لا تنفع الناس وتضر بكل العراقيين.

إن التوجه للبناء هو خلاصة التعبير عن الوطنية والقوة والاقتدار والتفاعل الواعي مع الواقع الدامي الذي يبحث عن مخرج ويسعى إلى الاستقرار والعثور على منفذ معقول يخلصه من العويل والبكاء ويرمي بالهراءات المذهبية والطائفية في معاقل النسيان.

استباح الليل أركان المنى

واستعان بظلام السحب

فانتهى فوق الأماني كلها

مارقا يحدو بسيف الغضب

فاستجار القلب من أوجاعه

بلهيب من جحيم الصخب

المواطن عليه أن يشمر عن سواعد المسؤولية والبناء وأن يعبر عن وطنيته بالإبداع العمراني والفعل الإنساني الخلاق الذي يحفظ كرامته ويصون وجوده الزاهي المجيد.

المواطن وبعد هذه السنوات العجاف الدامية لا بد له أن يقف أمام نفسه ويتساءل عن الحل الأمثل لما هو عليه من سوء الحال والمآل, وأن يكون كأي شعب آخر حي صاحب تأريخ وحضارة وأمجاد. و سيكتشف بأنه لا يمكنه أن يكون إلا عراقي وأنه لا يمكنه أن يتحقق إلا في وطنه ولا يمكنه إلا أن يكون ابن شعب واحد من زاخو إلى الفاو, وأن أي دعوة للتفتت لا تنفع البلد ولا تفيد أحدا. ومن لا يقدم شيئا طيبا وشافيا ويريد أن يستثمر في الدمارات والمشاحنات والخرابات, ويسعى نحو تحقيق مكاسب ذاتية, عليه أن يتوقف ويقارن بين دور البناء في حياة الشعوب ودور اليأس والظلم.

البناء… البناء هذا هو الجواب وما عداه هو أصل العناء.

ولو تأملنا الشعوب التي مرت بظروف كظروفنا,لأدركنا أن البناء كان مخرجها الوحيد من ويلاتها وملماتها فالبناء يصنع أملا ويجد مخرجا ويمنح الناس أدوارا ويحقق لهم الرفاهية والسعادة ويشيع روح المحبة والصفاء والرجاء.

بالبناء تصنع الشعوب وجودها وتحقق أدوارها وأمجادها الإنسانية المتميزة.

وسعادة الأوطان ورفاهيتها وتقدمها, يتحقق بجهود أبنائها. أما الاعتماد على الآخر لتحقيق ذلك فأنه يورث ما لا تحمد عقباه.

ولنتذكر بأن الديمقراطية يحققها البناء وينميها ويطلق سعادة الحياة التي تعبر عنها. والبناء دوما ينتصر على الخراب والهدم مهما طال وتفاقم. فلنهزم الدمار بالبناء ونقضي على العنف والمشاعر السلبية بالبناء لأنه التعبير الايجابي الأصلح عن الحياة والحب والأمل.

فهيا إلى البناء وتبا للبكاء فقد كفانا ما أصابنا منه وقد سكبنا دموعا فتت قلب الحجر.[/align]