رؤى وافكار العلامة المرجع فضل الله حول حركة الاجتهاد أمام قضية التطور
-----------------------------------------------------------------------------------
لقد انطلقت حركة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية في بداية العهود الإسلامية كحركة فكرية، تستهدف فهم التشريع من مصادره الأصلية على أساسٍ من المعرفة الواسعة بالوسائل البيانية والعقلية المؤدية إلى وعي الإسلام في أحكامه العملية، وتحديد موضوعاتها في حدودها وآفاقها. هذه الحركة انطلقت في الأساس من فكرة وجوب المعرفة الثابتة بالنقل والعقل فيما يتعلق بالعقيدة والعمل.

بدايات الاجتهاد وتطوره

لقد شارك في نمو هذه الحركة الأوضاع الشاذة والظروف القلقة التي عاشها المسلمون في بدايات العهود الإسلامية وأواسطها، حيث واجهتهم الأحاديث المختلفة في الموضوع الواحد، ما استدعاهم إلى التفكير في الأسس التي ترتكز عليها حجية الروايات الواردة عن النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن غيره، بين اتجاه يشترط العدالة، واتجاه يكتفي بالوثاقة، وثالث يكتفي بخبر المسلم كيف كان، ثم انطلقوا يؤسسون القواعد التي تعالج قضية التعارض بين الروايات من حيث الترجيح بالمرجحات ا لمختلفة التي يشتمل عليها الخبر في سنده ومضمونه والأجواء المحيطة به. وهكذا دخلت هذه البحوث في موضوع الاجتهاد، حيث أخذت لها مجالاً واسعاً فيه، لأن طبيعة البحث تفرض على المجتهد الاتجاه إلى بحث الأسس العامة للحجية، فكانت الأبحاث التي تتحدث عن حجية العلم وتفصيله بين العلم الإجمالي والتفصيلي، باعتباره القاعدة التي تنتهي إليها كل حجية، انطلاقاً من الفكرة الفلسفية التي ترى أن ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما بالذات.

وعلى ضوء هذا، كانت بداية البحوث التي اعتبرت أن البحث يجب أن يبدأ من نقطة الصفر، فيواجه الاعتراض بحجية القطع لأن حجيته ذاتية نابعة من العقل أو الفطرة، ثم الشك في حجية كل شيء حتى تثبت حجيته، فكانت القاعدة هي عدم الحجية في كل الظنون المتنوعة، على أساس الآيات التي قررت أن {الظن لا يغني من الحق شيئاً}[النجم/28ٍ]. ونهت عن اتباع غير العلم، كما في قوله تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}[الإسراء:36]. وبدأ الفقهاء ب عد ذلك يدرسون إمكانية إثبات حجية بعض الظنون من خلال حكم العقل أو الشرع. ومن هنا، اختلفت النظرة إلى مصادر الشريعة أو مصادر استنباطها تبعاً لاختلاف نتائج البحث في ثبوت حجية هذا الظن أو ذاك، فاختلفت النظرة إلى الإجماع من خلال ذلك بين رأي يقول إنه دليل مستقلّ بنفسه ينطلق من الاعتراف الشرعي بما يشبه عصمة رأي المجمعين، وبين رأي يقول إن قيمته تتحدد بمقدار ما يكشف عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره، ما يجعله كاشفاً عن السنة لا دليلاً مستقلاً بنفسه، وهذا هو الاتجاه الذي سار عليه الاجتهاد الشيعي الذي لم يحترم الإجماع إلا من حيث دلالته، فلا قيمة للإجماع الذي لا يحمل هذه الدلالة. واختلفت النظرة إلى القياس الذي هو مساواة فرع لأصله في حكمه الشرعي، فكانت العامة لعلماء السنة تقول بحجيته انطلاقاً من بعض الأدلة التي اعتبروها كافية في إثبات الحجية، ورأوا في هذا الدليل حلاً لمشكلة كثير من الموضوعات التي لم يرد فيها نص بخصوصه ما يوقع المجتهد في حيرة من أمر الحكم الشرعي المتعلق بها.

أما علماء الشيعة، فقد رفضوا حجيته انطلاقاً من أحاديث أئمتهم أئمة أهل البيت(ع)، الذين هاجموا القياس بعنف، مؤكدين أن السنة إذا قيست محق الدين، ولم يروا في الأدلة التي اعتمدها أهل السنة حجة مقنعة في هذا المجال، ولهذا لم يجدوا مبرراً للقول بحجيته على أساس القاعدة التي ذكرناها في بداية الحديث، من أن كل حجة لا بد أن تنتهي إلى العلم، فإذا كان القياس مرتكزاً على الظن بالعلة التي يلتقي فيها الفرع بالأصل، فيدخل في القاعدة التي لا تعتبر الظن حجة بقول مطلق، فلا بد في حجيته من اعتراف الشارع به، وهذا لم يثبت، ما جعل النتائج الشيعية لبحث القياس تقف على الاعتراف بحجيته فيما كان طريقه عقلياً، وكذلك فيما إذا كانت العلة قطعية أو منصوصة، وعدم الاعتراف بحجيته ما لم يكن دليله قطعياً. وعلى أساس هذه القاعدة، رفضوا حجية كثير من الأدلة الأخرى التي ذكرها علماء السنة، كالاستحسان والمصالح المرسلة وما يقع في الوهم من استقباح شيء واستحسانه من غير حجة عليه من أصل ونظير السبب المؤدي إلى مقصود الشرع عبادة وعادة، فالعبادة هي ما يقصده الشارع لحق الصلاة، والعادة ما يقصده الشارع لنفع العبا د وانتظام معايشهم وأحوالهم خارج نطاق العلم.

وقد انطلق الاجتهاد من خلال حاجته إلى فهم الكتاب والسنة، وإلى التخطيط لدراسة اللغة العربية في علم النحو والبلاغة، كما استحدثوا بعض الأبحاث التي لم يبحثها علماء العربية، وتوسعوا فيها حتى أصبحت علماً قائماً بذاته، وقد أدى انطلاق التفكير في أسس الاستنباط إلى دخول التفكير المنطقي والفلسفي في ثقافة المجتهدين وفي عملية الاستنباط في أغلب الحالات، ما ترك بعض النتائج السلبية على طريقة الفهم الفقهي للحكم الشرعي، أما في الحالات التي لم يتضح فيها وجه الحكم الشرعي، سواء من ناحية عدم ثبوته بالأساس أو من ناحية عدم وصوله إلى المكلف ولو من ناحية ذاتية، فقد اختلف المجتهدون في طبيعة الوظائف العملية التي يرجع إليها الشاك، ووضعوا قواعد متنوعة في هذا المجال حققت للمكلف الشعور باليسر والسماحة والانسجام.

وهكذا تتابعت الأفكار وتنوعت، وأفرزت الكثير من الخلافات في مصادر التشريع ومناهج البحث، ما جعل الاجتهاد يتخذ لنفسه دوائر متنوعة تبعاً للمذاهب الفكرية والإسلامية واستطاع ذلك أن يبدع علماً جديداً إسلامياً هو علم أصول الفقه الذي يُبحث فيه عن القواعد التي تمهد لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية، أو التي ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل.

وقد أوجد الفكر الإسلامي من خلال حركة الاجتهاد ثروة تشريعية ضخمة تشمل كل جوانب الحياة وقضاياها المطروحة في تلك العهود، ما جعل الإنسان لا يشعر بأي فراغ قانوني في نطاق الأحكام الشرعية، لأن لكل واقعة يبتلى فيها حكماً في الفقه الإسلامي مستمداً من المصادر الأصلية للشريعة حسب قناعته بالمذهب وصاحبه، الأمر الذي حفظ للإنسان المسلم استقراره الداخلي وشعوره العميق بالمذهب وبالوحدة الممتدة في كل مجالات حياته العامة والخاصة من الناحية الفكرية والعملية، فلم يعان من ال ازدواجية بين ما يؤمن به من عقيدة وبين ما يطبق في حياته من شريعة كما هو حال المسلم اليوم.

وقد لا نعدم الكثير من السلبيات داخل الحياة الإسلامية من خلال وجهات النظر في الأحكام الشرعية، ما يجعل لكل واقعة عدة أحكام شرعية تبعاً لاختلاف آراء المجتهدين، وقد تحركت تلك السلبيات في عمق الذهنية المسلمة لتشارك في وضع الحواجز النفسية والعملية بين أتباع المذاهب، تماماً كما هي القضية بين أتباع الأديان. وربما كان للأجواء السياسية المضطربة بعض الأثر في وجود ذلك كله. وقد يؤكد ذلك ما نلاحظه من حدة الخلاف وشدة السلبيات في مجال الخلافات التي تنتهي إلى خلافات مذ هبية في إطار العقيدة، بينما لا نجد هذا التوتر في الخلافات الفقهية المجردة مع وحدة المذهب، كما نلاحظ ذلك في الاختلافات بين السنة والشيعة بالمقارنة بين اختلاف الشيعة أنفسهم في الاجتهاد وبين اختلاف السنة أنفسهم في إطار المذاهب الأربعة.

ولعل من بين الانحرافات البارزة في هذا المجال، النظرية التي تقرر أن أحكام الله تابعة لآراء المجتهدين، وأن كل مجتهد مصيب، فلا خطأ هناك، لأن حكم الله قد يتغير ويتبدل إلى ما يرتأيه هذا المجتهد أو ذاك، ما يجعل للرأي الاجتهادي قداسة العصمة بحسب النتائج العملية، في مقابل الرأي الذي يرى أن لله في كل واقعة حكماً يصيبه مجتهد ويخطئه آخر، وأن للمجتهد أجرين إن أصاب وأجر واحد إن أخطأ. وربما شارك هذا الاتجاه في الاستسلام للرأي الاجتهادي من قبل المجتهد ومن قبل أتباعه، نظراً للقداسة التي يمنحها هذا الرأي لأصحابه.

وسارت حركة الاجتهاد بين خطوط متعرجة آناً ومستقيمة آناً آخر، ولكن ذلك لم يحبس المسلمين في سجن ضيق، بل كانوا يتحركون في حرية بين الفقهاء في ما يأخذونه وفي ما يدعونه دون أن يشعروا بحرج وضيق في اتّباع هذا في حكم واتباع ذاك في حكم آخر، حتى جاءت بعض الظروف الخاصة التي أدت ملابساتها إلى إغلاق باب الاجتهاد وتحريمه وحصر المذاهب الاجتهادية في المذاهب الأربعة، واعتبار ما عداها مخالفاً للإسلام، ما جعل الشريعة الإسلامية تتحرك في هذا الإطار وتقتصر شرعيتها في نظر الح كم وأفراد الأمة على ذلك. وقد وقف أئمة أهل البيت(ع) من خلال هذا التحديد خارج نطاق الشرعية، ووقف الفكر الشرعي الاجتهادي عن التحرك خطوة إلى الأمام لدى الغالبية من المسلمين من أهل السنة، وأصبح البحث والنظر يتحركان في إطار فكر هذا المذهب. وقد يخيل لبعض الناس أن إتخاذ هذا الموقف كان حماية للإسلام من تدخل العناصر الغريبة بعد فتح المغول للبلاد الإسلامية ودخولهم في الإسلام، ما قد يفسح المجال لدخول أحكام جديدة بعيدة عن روح الإسلام في داخل الشريعة من خلال حركة الاجتهاد، ولكننا لا نوافق على هذا التبرير، لأن الاجتهاد المتحرك الذي لا يقتصر على جهاز معين ولا يخضع لرغبات السلطة، كفيل بمنع ذلك وبإيقافه عند حده في حالة وجوده، وقد يكون للشروط الشرعية، من قبيل العدالة في المجتهد التي تتمثل بالاستقامة على خط الشريعة، أو الملكة النفسية التي تمنعه من الانحراف عن الخط، أثر كبير في تطويق السلبيات المحتملة في هذا المجال. وعلى أي حال، فإننا نعتبر هذا الإجراء نكسة كبيرة لحركة الاجتهاد الإسلامي، وعقبة صعبة أمام التقاء المسلمين على قواعد فقهية موحدة أو متقاربة، مما كانت حركة الاجتهاد تتكفل بالوصول إليها في حال امتدادها واستمرارها، لأن حيوية أي نشاط فكري لا بد أن تفرض مثل هذا اللقاء في نهاية المطاف بطبيعة انطلاق التفكير أو تحديده في مصادر الشريعة ومواردها.

هذا ولم تقف حركة الاجتهاد لدى الشيعة الإمامية، بل بقيت مستمرة في حيوية وامتداد وعمق، لأنهم يرون فيه الأساس لمواجهة المسؤولية الشرعية أمام حكم الله، لأن نسبة كل شيء إلى الله يمثل مسؤولية كبيرة تجعل الإنسان يعمل ليؤكد هذه النسبة بالشكل المباشر بالقطع الوجداني، أو بالشكل غير المباشر بالحجة التي تنتهي إلى القطع، أما من ناحية العمل، فلأن الطاعة والامتثال لله يتوقفان على معرفة حكمه عن حجة اجتهادية أو تقليدية،مما يجعل الاجتهاد ضرورة دائمة للمجتهد والمقلد، لا سيما مع الرأي الغالب عندهم الذي يقول بعدم جواز تقليد الميت ابتداءً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنهم لم يروا في الجو ما يوجب إغلاق باب الاجتهاد، بل كانوا يعتبرون الظروف التي استدعت فتحه في البداية هي الظروف التي تقتضي استمراره، وأن الخوف من استغلال الاجتهاد من قبل المنحرفين للانحراف بالأحكام الشرعية عن خطها الأصيل كان موجوداً في بداية العهد الإسلامي الأول فيما بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما كان علماء اليهود الذين دخلوا في الإسلام يعملون على تخريب المضمون الإسلامي من الداخل، ما اقتضانا جهداً كبيراً لمحاولة تنقية الحديث الإسلامي من الإسرائيليات... وقد استطاع الاجتهاد الشيعي أن يحقق تقدماً كبيراً للفقه وأصوله بالمستوى الكبير الذي عاد فيه هذان العلمان من أكثر العلوم دقة وعمقاً وسعة وشمولاً.

وجاء العصر الحاضر، وبدأ العلماء المسلمون من غير الشيعة يعيدون النظر في هذا الحظر الذي انتهى إلى إغلاق باب الاجتهاد ويناقشونه ويتحركون في اتجاه إلغائه، من أجل مواجهة الحالات المعاصرة التي تتطلب اجتهادات جديدة تكتشف حكم الله، وتحدد موقف الإنسان أمامه. ولم يضف هؤلاء العلماء جديداً إلى ما ذكره علماء الشيعة الإمامية في هذا الموضوع في مناقشتهم لقضية إغلاق باب الاجتهاد، بل ركزوا على كثير من الجوانب التي أثيرت في هذا الموضوع، وقد ساهم هذا التطور الجديد في انفت اح المسلمين على كثير من آراء الفقه الشيعي في مجالات الأحكام الشرعية، حتى أدى ذلك إلى الأخذ ببعضها في القوانين الموضوعية في بعض الحكومات الإسلامية.

تلك هي بعض اللمحات التاريخية لحركة الاجتهاد الإسلامي وتطورها. ونحن الآن في محاولة جادة للوقوف مع حركة الاجتهاد المعاصرة، من خلال الدعوة إلى التطور والانسجام مع واقع الحياة المعاصرة، في ما تجدد من مفاهيم وفي ما تغير من أوضاع، ما قد يوجب في نظر بعض المفكرين إعادة النظر في كثير مما لدينا من أحكام ومفاهيم إسلامية ومحاولة تغييرها أو التوفيق بينها وبين حركة الواقع على أساس فكرة الاجتهاد، فهل يستجيب الاجتهاد لهذه النظرة؟ وما مدى إمكانية هذه الاستجابة؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه بإيجاز.

مفهومنا الإسلامي لحركة الاجتهاد

قد نجد أمامنا اتجاهين في تصورنا لحركة الاجتهاد ومفهومنا له:

1ـ الاتجاه الذي يعتبر أن قضية الاجتهاد تعمل على تجديد الإسلام وتجاوز أحكامه التي لا توافق روح العصر، وذلك بالعمل على استيحاء روح الإسلام من خلال مفاهيمه العامة وعدم الوقوف على نصوصه، وهذا الرأي يطرحه الكثيرون ممن وقفوا في حيرة بالغة بين واقع الحياة المعاصرة في متطلباتها ومعطياتها وأوضاعها ومفاهيمها، وبين انتسابهم للإسلام وما يقتضيه ذلك من التزام بأحكامه ومفاهيمه، فهم لا يطيقون مواجهة هذه الحياة بالسلبية المطلقة التي تتمثل بال خضوع لمبادىء وأحكام تختلف طبيعتها، كما أنهم لا يريدون الابتعاد عن خطوات الإسلام في حياتهم، فيعملون على أن يكتشفوا من خلال حركة الاجتهاد إسلاماً جديداً يتبدل ويتغير حسب تغير الأوضاع والظروف، ليوافق كل حركة جديدة من حركات المجتمع الثورية والإصلاحية.

2ـ الاتجاه المعتدل الذي يرى في حركة الاجتهاد المعاصرة امتداداً لحركة الاجتهاد في الماضي، ويرتكز على فهم الأحكام الشرعية التي أنزلها الله على رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون تغيير أو تبديل، سواء في ذلك الوقائع المشتملة على نصوص خاصة، أو الوقائع التي لا نص فيها، فنقف في الحالة الأولى وقفة جديدة مع النصوص، لا تتجمد أمام فهم العلماء السابقين، بل تحاول أن تواجهها بفهم مستقل نابع من الثقافة الذاتية للمجتهدين مرتكزة على القواعد الأساسية للفقه وأصوله، مما قد يلتقي بالفهم السابق وقد يبتعد عنه. ونقف في الحالة الثانية مع النصوص العامة التي تعرضت للقواعد العامة، سواء في ذلك القضايا الفردية التي يتحرك فيها الإسلام في نطاق فردي، أو القضايا العامة التي يخطط فيها الإسلام للحياة في إطار المجتمع ككل أو في إطار الدولة بشكل عام.

إننا نواجه هذين الاتجاهين، فما هو موقفنا منهما في اجتهادنا المعاصر؟

إننا نفضل الاتجاه الثاني على أساس المعطيات التي تؤيده، وعلى أساس رفض الاتجاه الأول في ضوء الأمور التالية:

1ـ إن فكرة الأخذ بروح الإسلام وتجاوز نصوصه تستوقف الباحث الإسلامي في وقفة تأمل، باعتبارها من الأفكار التي لا يملك الإنسان فيها التعامل مع قاعدة ثابتة معقولة، لأن فهم هذه الروح تختلف حسب اختلاف الذهنية التي تتعامل مع النصوص في عملية فهم واستيحاء، فيمكن للإنسان الذي يدين بالاشتراكية أن يعتبر الروح الإسلامية اشتراكية في مضمونها ومدلولها انطلاقاً من الأحاديث التي تتحدث عن حق الفئات المحرومة في المجتمع في أموال الفئات الأخرى، كالح ديث المروي عن بعض أئمة أهل البيت(ع): ((إن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم))، أو التي تتحدث عن أن الناس شركاء في ثلاث؛ النار والماء والكلأ.

ويمكن للإنسان الذي يؤمن بالرأسمالية عندما يرى تشريع الملكية الفردية في الإسلام وتأكيده أن الناس مسلَّطون على أموالهم، وأنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفسه، ما يوحي بحماية الملكية واعتبار التعدي عليها غصباً محرماً، فقد يرى فيها أساساً لاكتشاف التيار الرأسمالي المعتدل في الروح الإسلامية، ويمكن لإنسان آخر أن يرى شيئاً غير هذا أو ذاك، ليكون وسطاً بين الاشتراكية والرأسمالية كما هو الرأي الإسلامي الملتزم.

ونحن حين نتحدث عن الفوضى في هذا الاتجاه، لا نتحدث عن شيء تجريدي يعيش في الفكر، بل نتحدث عن تيار موجود في الحياة الفكرية المعاصرة التي تستقبل الكثير من التيارات السياسية والاقتصادية المتنوعة الباحثة لها عن مبرر قانوني للدخول إلى حياة المسلمين، بحجة ارتباطها بالمفاهيم العامة للإسلام.

إن إرجاع القضية إلى أجواء ذاتية غائمة في إطار الكلمات المائعة غير المحددة مثل روح الإسلام، يُخضع الاجتهاد إلى آفاق غير محدودة وغير منضبطة، ويؤدي بالتالي إلى إلغاء النصوص الإسلامية بشكل أو بآخر، ويحول الإسلام إلى معرض من معارض الأفكار، حيث تستقبل كل فكر طارىء أو أي تيار جديد.

2ـ إن قضية التطور الفكري والتشريعي في حياة كل أمة، ليست وليدة حركة حتمية خارج نطاق الأفكار والمبادىء المطروحة في الحياة، وليست عملاً غيبياً ينطلق من المجهول، بل هي قضية سنة الله في الأرض التي جرت على أن تتقدم الأفكار والمبادىء إلى الساحة من خلال كونها ردود فعل لواقع فاسد أو ارتكازها على قوة مادية أو ظروف طبيعية طارئة، ما يجعل لحركة الإنسان الذي يؤمن بها أساساً قوياً في وجودها ونموها واستمرارها، ويبعد القضية عن أن تكون حركة تخ ضع لما يسمى بالحتمية التاريخية أو أية حتمية أخرى مما تعارف الناس أن يفسروا به التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهكذا تتحول الأفكار إلى واقع حي يدخل وجدان الناس وعاداتهم وتقاليدهم، ثم تمتد لتكون الطابع المميز للعصر بفعل سيطرة القوى التي تدعمها وتؤيدها على مقدرات العصر في الجوانب التشريعية والتنفيذية، فيخيل للناس أنه الواقع الحتمي الذي لا يمكن تجاوزه والانحراف عنه إلا على حساب تقدم الحياة وتطورها، باعتبار أن الواقع المطروح هو الذي يمثل مقياس التقدم والرقي في نظرهم. وفي ضوء ذلك، تقرر أن الإسلام هو من التيارات الدينية الروحية الاجتماعية التي تعمل على الاندفاع في حياة الناس كما اندفعت من قبل لتغيير الواقع الفكري والتشريعي على صورتها، تماماً كما هو الحال لدى المبادئ الأخرى التي يعمل أصحابها على تغيير الحياة على أساس ما يحملونه من أفكار ومفاهيم.

ولهذا، فقد يكون من وجهة نظر المفكرين المسلمين، أن التطور الذي ينطلق من خلال الأفكار المادية في اتجاهاتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، لا يسير في الاتجاه الصحيح لمصلحة الإنسان، لأنه يفرز الكثير من المخاطر والآلام والمتاعب في حياة البشرية من دون أن يقدم لها الراحة النفسية التي تجعل من الحياة شيئاً مريحاً معقولاً، الأمر الذي يدعونا إلى القيام بتغييره إلى تطور آخر يأخذ في حسابه حياة الإنسان ككل ولا يركز على جانب واحد من جوانبها، لتسير الحياة على إرادة الله.

إننا لا نعرف أي معنى لموافقة الكثيرين على إفساح المجال لمفاهيم الثورة والتغيير ضد الواقع الرأسمالي لمصلحة التفكير الماركسي والاشتراكي، في الوقت الذي يتحول من خلاله اتجاه التطور إلى مسار آخر ينسف أعمدة الحضارة الرأسمالية لمصلحة الحضارة الجديدة، ولكنهم في الوقت ذاته لا يوافقون على إفساح المجال لمفاهيم الإسلام في التغيير.

إن الفكرة التي نريد أن نقررها باختصار، هي أن الحياة عندما تتطور على أساس مفاهيم خاصة معينة خاضعة لمبادىء مميزة، لا يمكن أن تفرض نوعية هذا التطور على مبادىء أخرى تختلف في مفاهيمها عن تلك المبادىء التي ساعدتها الظروف على تخطيط خطها للحياة إلا بمقدار القوة أو أي شيء آخر غيرها، ولذا فإن من يطلب من الإسلام التغيير على أساس مفاهيم الواقع المعاصر، كمن يطلب من الاشتراكية أن تتغير وتتطور على أساس المفاهيم الرأسمالية وأفكارها.

3ـ إن الفكرة التي تحاول استبعاد الدين عن دائرة الصراع من أجل التطور والتغيير، انطلقت من الذهنية العامة المنحرفة التي حصرت دوره في نطاق ضيق ودائرة محدودة لا تتسع إلا بقدر ما تتسع له الأخلاقيات القائمة التي لا تحاول إلا العمل على تطرية الحياة الفردية والاجتماعية من بعيد من دون أن تلامس المشاكل بواقعية وقوة، بل هي المثالية التي تمنح الإنسان الشعور بالراحة من غير حل للمشكلة، ولهذا فإننا نعتقد ضرورة التخطيط لإخراج الوعظ والتوجيه ا لإسلامي إلى دائرة المواجهة المباشرة لقضايا الحياة ومشاكلها، لأن ذلك هو السبيل لوضع التغيير الإسلامي في إطاره الطبيعي الذي لا يبتعد عن النصوص في الكتاب والسنة، ولا يخرج عن روحها، ويبقى في الوقت ذاته ليحقق للحياة السعادة والخير والسلام، وقد يكون هذا هو الهدف الذي سعى إليه المفكرون المسلمون الملتزمون الذين يعتبرون الإسلام فكرة شاملة عن الكون والحياة عندما يطرحون قضية الاجتهاد المعاصرة في الحياة.

4ـ لعلَّ من أولى مهمَّات حركة الاجتهاد المعاصرة، أن تواجه النصوص في الكتاب والسنَّة مواجهة مستقلة واضحة تنطلق من الفهم الواعي المستند إلى ثقافة علمية دقيقة واسعة في المجالات التي تتحرك فيها القواعد اللغوية والأصولية، ومن التركيز على دراسة الأجواء العامة التي انطلقت فيها، ثم ملاحظة الظروف الموضوعية التي نعيشها، مما أحدث لنا أوضاعاً جديدة في العلاقات العامة وفي أساليب الحياة، للتعرف من خلال ذلك على طبيعة الموضوعات التي يتوفر عل يها الحكم الشرعي، ليعالجها معالجة واقعية، لأن الخطأ في فهم الموضوع يؤدي بالتالي إلى الخطأ في فهم الحكم، وقد رأينا بعض المجتهدين الذين تحيروا في الإفتاء في بعض الموضوعات نظراً لعدم اطلاعهم على طبيعة الموضوع..

إننا نركز ونؤكد على استبعاد القداسة للشخص وللرأي الفقهي من دائرة الاجتهاد، واعتبار الآراء الفقهية في أي مجال علمي قابلة للمناقشة، فلا تمنع المصير إلى رأي مخالف، ولا توجب الارتباط برأي موافق، مهما كانت درجة أصحابها من العلم والمعرفة والمركز الروحي، إلا بمقدار ما يكون للرأي من قوة الحجة وسلامة البرهان، لأن إعطاء الآراء القديمة القداسة التي لا يدّعيها أصحابها لأنفسهم، يجعلنا نواجه تقليداً فكرياً باسم الاجتهاد.

القواعد الشاملة وغياب النص

أما إذا أردنا الوقوف في المنطقة التي لا تحمل نصوصاً خاصة، فإن علينا التحرك لدراسة النصوص العامة التي تعالج القواعد الشاملة للتعرف على مدى إمكانية انطباقها على واقع الحياة، فقد نجد في بعض النصوص انفتاحاً تاماً على المجالات الجديدة في المعاملات والعلاقات المالية والاجتماعية في ظل الشروط الإسلامية، كما ربما نلاحظ ذلك في الآية الكريمة: {أوفوا بالعقود}[المائدة/1]. والآية الكريمة: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}[النساء/29ٍ].< /FONT>

فقد يفهم منها بعض الفقهاء أنها تتسع لإقرار كل ما كان هناك من عقود بين الناس في الماضي وما يتجدد منها في المستقبل، مع الاحتفاظ بالشروط الشرعية العامة التي فرضتها نصوص وقواعد أخرى، مثل قاعدة النهي عن الغرر وأشباهها، مما يدور الحديث عنه في الأبحاث الفقهية، وبهذا لن يتركز البحث في طبيعة شرعية العقد من حيث كونه عقداً جديداً لتتجه المحاولة إلى الحديث عنه من حيث حصوله على عنوان المعاملات السابقة عليه، كما حاول بعض الفقهاء ذلك عندما واجهوا عقود التأمين وأمثاله ا، فحاولوا أن يرجعوها إلى عناوين الهبة المعوضة والصلح وغيرها، بل يتركز البحث عن خصائصه الواقعية وانسجاماً مع الشروط الشرعية للمعاملات أو اختلافها عنها، وقد نجد مثلاً على ذلك في الجانب الآخر الذي يواجه فيه الفرد المسلم أو المجتمع المسلم حالات الحرج الشديد في امتثاله لبعض الواجبات أو تركه لبعض المحرمات، مما يكون الحرج ناشئاً من طبيعة جعل الحكم لا من طبيعة النوازع الذاتية التي يعيشها الإنسان داخل نفسه، مما يشكل للإنسان ضيقاً شخصياً لا ارتباط له بطبيعة الحالة الصحية والعلمية العامة، فقد يمكن للباحث والمجتهد أ ن يدرس قاعدة نفي الحرج المستفادة من قوله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج}[الحج/78]، {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة/185]، أو قاعدة نفي الضرر المستفادة من الحديث النبوي الشريف: "لا ضرر و ضرار في الإسلام"... وقد تدور الدراسة حول ما إذا كانت هاتان القاعدتان حاكمتين على الواجبات والمحرمات أو تقتصران على الواجبات مع ملاحظة مجالاتهما الموضوعية، ثم دراسة طبيعة الحرج والضرر، هل هو الحرج والضرر الشخصيات لتكون القاعدتان متحركتين في حياة الإنسان الشخصية، أو الضرر والحرج النوعيان لتكونا حاكمتين ف ي حياة الإنسان العامة بقطع النظر عن حالته الخاصة.

وهكذا نجد في القواعد العامة مجالاً للبحث والاجتهاد في الأوضاع الطارئة التي تفرض على الإنسان وضعاً معيناً طاغطاً، مع التركيز على نقطة حيوية جداً، وهي أن لا يكون الدافع هو التخلص من حالة معينة ضاغطة، بحيث يكون ذلك مبرراً للخروج من الحكم الشرعي الواقعي، لتكون عملية الاجتهاد عملية تبرير للواقع وليست عملية دراسة حقيقية له، بل يكون الدافع هو معرفة حكم الله من دون ملاحظة لأية ردة فعل من ناحية ذاتية أو من ناحية أخرى.

إننا لا نؤمن بالاجتهاد التوفيقي الذي ينطلق في تبرير الواقع القانوني لكثير من حالات الانحراف من أجل إعطاء الإسلام صفة الدين الذي ينسجم مع حاجات العصر، لأن فهمنا للانسجام مع حاجات العصر هو تقديم الحلول لمشاكله من خلال قواعده الأصيلة، لا تقديم الحلول على أساس الحلول المطروحة في الواقع المعاش على أساس غير إسلامي.

إننا نعتقد ضرورة تحرك الاجتهاد في الطريق المستقل لمواجهة الحالات العامة والخاصة للحياة على أساس شريعة الله، من دون الخضوع لأي ضغط، وخصوصاً ضغط الآراء السابقة التي لا تكون موضوع قناعة، فذلك وحده هو الذي يمنح حركة الاجتهاد حيويتها بعيداً عن التقليد الفكري والضغط الواقعي.

5ـ إن علينا أن ندرس الفرق بين مواجهة الحالات الفردية في ظل النظام غير الإسلامي، وبين مواجهة الحالات العامة في إطار النظام الإسلامي، لأن ذلك قد يغير موضوع الحكم الذي قد يغير الحكم نفسه، وقد يكون من الطبيعي لنا في هذا المجال أن نقرر أن الاجتهاد في العصور المتأخرة كان يواجه الواقع من خلال الحاجات الفردية بعيداً عن وجود حكم إسلامي يتحرك في التشريع للناس في وجودهم الدولي، الأمر الذي جعل الأبحاث الإسلامية لدى الدارسين تأخذ الفكرة م ن خلال الأحكام المستنبطة في هذه الاجتهادات، وقد تغلبت النـزعة الفردية على الذهنية الفقهية، فأصبح البعض منهم يفكر في قضية الوقوف من الانحراف بشكل عنيف من حيث الحرمة وعدمها، في إطار الخوف من الضرر وعدم جواز إلقاء النفس في التهلكة وغير ذلك، مما يدخل في حساب الحياة الفردية الخاصة. ولذلك لا نجد هناك أي معنى للبحث في النظام الاقتصادي والسياسي أو الاجتماعي والمالي الإسلامي، بل لا بد من دراسة ألوان النظام في إطار النظام الإسلامي ككل، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لمعرفة الجانب المضيء من الصورة عندما يتطلع الدارسون إلى كل جوانبها.

6ـ إن حركة الاجتهاد المعاصرة قد استطاعت في النطاق الإسلامي بشكل عام وفي النطاق الإسلامي الشيعي بوجه خاص، أن تواجه الحاجات المطروحة في الساحة بحلول جيدة، ما جعل الإنسان المسلم يشعر بوجود أجوبة لكثير من تساؤلاته العلمية لقضية عقود التأمين وتنظيم النسل والتلقيح الصناعي وغيرها من المسائل المستحدثة، وربما بقيت بعض الأمور التي لا يزال المسلم يشعر بالحرج أمامها، كقضايا البنوك وغيرها مما لا يمكن للتشريع الإسلامي أن يواجهها بحل إسلامي مع التحفظ على طبيعتها المستمدة من النظام الرأسمالي، لأن ذلك يعني الإقرار بشرعية النظام، ولذلك فإن العلاج الفردي لا بد أن يخضع لنوعية الحالات الصعبة التي يمر بها الفرد المسلم...

إن مشكلة الإنسان المسلم هي مشكلة كل إنسان ملتزم يواجه الأوضاع التي تتحدى التزامه في الحياة من خلال الواقع الفاسد الذي يحكم الحياة من حوله، وقد يزيد من مأساة المسلم أن الإسلام لا يحصر أمر الانسجام معه في ظل الدولة كما هو الحال في كثير من الأنظمة الأخرى، ولكنه يريد للإنسان أن يعيش إسلامه بمقدار ما يستطيع في ظل الأنظمة الكافرة أو الضالة، لأن الشريعة تمثل الأسلوب الذي يمارس فيه الإنسان عبوديته الشاملة لله، وبذلك كان الانحراف عنها انحرافاً عن خطِّ العبودية له لمصلحة الشيطان، وبذلك يظل الإنسان المسلم يعيش غربة الفكر والروح والعمل في ظل الأنظمة اللاإسلامية، وذلك هو جهاده الأكبر عندما يجابه التحديات بروح المؤمن الصابر الذي يعيش في حياته لتحقيق الهدف الكبير، وهو رضا الله في كل ما يقول وما يفعل.

وختاماً إننا نشعر أن الاجتهاد هو مسؤولية المفكرين المسلمين الملتزمين الذين يعون دور الإسلام في الحياة بشكل جيد، ما يجعلهم ينظرون إلى خطواته الفكرية والعملية بدقة ووعي، لتظل الصورة الإسلامية واضحة في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.