~ اختلاف المذهب لا يُخرج عن العدالة ~
وأمّا على مستوى الأصول العقائدية، فإن كان الخلاف فيها مرتبطاً ببعض التفاصيل الاعتقادية من موقع اجتهادي فهو لا يضرّ بالعدالة ولا يُوجِب فسقاً أو ضلالاً، وإنّما الكلام في الأركان والأصول الاعتقادية كما هو الحال في قضيّتَي الإمامة والعدل، فهل أنّ التشكيك بهما أو إنكارهما اجتهاداً لا جحوداً يوجب الفسق؟
وبعبارة أخرى:
هل أنّ اختلاف المذهب يوجب الخروج عن خطّ الاستقامة والعدالة أم لا ؟
يمكننا الإجابة بالنفي - خلافاً للمشهور والسائد- ليس فقط لأنّ روح الشريعة ومقاصدها ومنطق الأخلاق ومكارمها يأبيان عن تجزئة الحرمات والكرامات، بل لأنّ النصوص الدينية المتضافرة أكدت على حرمة كل مسلم في نفسه وعرضه وماله، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12] وفي الحديث عن رسول الله (ص): "سُباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكْل لحمه معصية وحرمة ماله كحرمة دمه"[5].
وعن الإمام الصادق (ع): "من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممّن كملت مروته وظهرت عدالته"[6].
ولا بدّ أن يعلم أنّ المؤمن في المصطلح القرآني وكذلك في كلام رسول الله (ص) لا يختصّ بالإمامي الشيعي ولا بالسُّنّي، بل هو شامل لكلِّ مَنْ آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ويذهب الفقيه الكبير السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله إلى أنّ المؤمن يعمّ حتى الناصبي والمغالي[7].
وربّما يقولنّ قائل: بأنّ مَنْ لا يلتزم بولاية أهل البيت (ع) ليس عادلاً بل هو فاسق، لأنّ ذلك من أكبر الكبائر.
ويمكن الجواب عليه بما ذكره الشيخ الفقيه زين الدين الجبعي المعروف بالشهيد الثاني (رحمه الله) حيث قال: "وفيه نظر: لأنّ الفسق إنّما يتحقّق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أمّا مع عدمه، بل مع اعتقاد أنّها طاعة، بل من أمهات الطاعات فلا، والأمر في المخالف للحقّ كذلك، لأنّه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أنّ اعتقاده من أهم الطاعات"، ويضيف (رحمه الله) بأنّ المخالف لا يصدق عليه عنوان الظلم "وإنّما يتّفق ذلك ممّن يعاند الحقّ مع علمه به وهذا لا يكاد يتّفق وإن توهمه من لا علم له بالحال"، إلى أن يقول: "والحقّ أنّ العدالة تتحقّق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم ويحتاج في إخراج بعض الأفراد إلى الدليل.."[8].
وقد اعترض بعض العلماء على كلام الشهيد المذكور باعتراضَيْن:
الأول: "إنّ المخالف في الاعتقاد لما قصّر في الاجتهاد يكون فاسقاً فلا يقبل قوله في الشهادات وإن كان صادقاً في نفسه ومتحرّزاً في دينه عن الكذب"[9].
ويُلاحَظ عليه: بأنّه ليس كلّ مخالف في الاعتقاد مقصِّراً في الاجتهاد، بل أكثرهم جازمون بصحة معتقداتهم وما هم عليه من المذاهب ولا يحتملون وجود الحقيقة في مكان أو مذهب آخر، كما أسلفنا في بحوث سابقة.
الثاني: "في تعريفه- يقصد الشهيد- الفسق بما عرّفه به نظر، لعدم اختصاصه بمعصية دون معصية وعدم اعتبار العلم بكونها معصية، بل الجاهل بمعصية إذا ارتكبها كان فاسقاً، بل نفس جهله بكونها معصية فسق آخر، لتقصيره إما في الاجتهاد أو التقليد الواجب عليه وتركه فعل ما وجب عليه من معرفة أحكام الدين ودراسة شرائع سيد المرسلين، فقد تقرّر في الأصول: "إنّ علم المكلّف بالأحكام ليس شرطاً في تكليفه.."[10].
ويُلاحَظ عليه:
أولاً: إنّ لازم ما ذكره – من عدم اشتراط الفسق بالعلم بكون ما يرتكبه معصية- أن يُحكم بفسق الجاهل في الشُّبهات الموضوعية أيضاً كمن يشرب الخمر معتقداً أنّه ماء، وهذا ما لا يمكن الالتزام به لفقيه من الفقهاء، كيف والفقيه نفسه معرّض لذلك فضلاً عن غيره.
ثانياً: إنّ حكمه بفسق الجاهل لتقصيره في الاجتهاد أو التقليد مردود بما عرفته من أنّه ليس كلّ جاهل مقصِّراً، فالكثير من الجهال هم قاصرون، والقاصر الجاهل معذور كما تقدّم، ومعه لا يمكن الحكم بفسقه.
ثالثاً: إنّ اشتراك الأحكام بين العالِمين والجاهلين بها لا يقتضي الحكم بفسق مَنْ خالفها جاهلاً جهلاً قصورياً، لأنّ الجهل يرفع المؤاخذة بمقتضى قوله (ص): "رفع عن أمّتي ما لا يعلمون"[11] وبارتفاع المؤاخذة ينتفي العصيان، وبهذا يفترق الفسق عن الضلال والكفر، حيث إنّ الأخيرَيْن لا يُتقوّمان بالعلم، بخلافه، فمَنْ أنكر وجود الله تعالى أو وحدانيّته فهو كافر حتى لو كان معذوراً في إنكاره، وإن كان يصعب علينا إيجاد عذر لمنكر وجود الحقّ تعالى بعد كون الفطرة الصافية شاهدة بوجوده، وكذا العقل، وأمّا مَن ارتكب المعصية جهلاً فلا يُحكم بفسقه.
وخلاصة الكلام: إنّنا لا نريد القول: إنّ كلّ مسلم عادل، فهذا خلاف ما هو مُشاهَد بالعيان، وإنّما نريد القول: إنّ العدالة ليست حِكْراً على أتباع مذهب بعينه، وإنّما هي تابعة لتوفّر ضوابطها وشروطها، بل قد عرفت أنّ الشهيد الثاني (رحمه الله) يختار تعميم العدالة لجميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها وفق اعتقادهم، والحقّ أنّ هذا رأي فقهي متقدّم جداً ويكشف عن نزعة إنسانية مبدعة في فكر الشهيد وفقاهته، وسيوافينا شواهد أخرى على هذا المعنى من فقه الشهيد الثاني.
من كتاب " العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الإقصائي "