أسرار تكريت..
نزار حاتم
التاسعة صباحاً وصلناها قادمين من بغداد ، فيما الطقس مغبرّ منذ التباشير الأولى للصباح ، ولا شيء يستحوذ على النفوس في هذه الرحلة الى تكريت -مركز محافظة صلاح الدين- سوى الاشاعات والأخبار المشحونة بالتحذيرات من الارهاب وأعمال القتل على يد الارهابيين وفلول النظام السابق ، التي اكتشفنا أنها محض مبالغات -ان لم تكن أكاذيب ملفقة- حالما بلغنا هذه المدينة ، وأهلها الطيبين .
الطريق المؤدي اليها لا تبعد فيه السيطرة عن الأخرى من حواجز الجيش والشرطة سوى ثلاثة أو اربعة كيلو مترات ، فتشيع في النفس كثيرا من الاطمئنان وعدم الركون لما كان يسمع أو يقال عن المخاطر.. باستثناء اصرار مرافقينا على ضرورة توخي الحذر من احتمال وجود عبوة ناسفة على قارعة الطريق أو في وسطه ، فيدعون السائق الى تجنب أي قشة أو حجارة أو أي جسم طارئ وغريب يراه عند المسير.
لسنا وحدنا في هذا الشارع المؤدي الى تكريت ، والمسكون بالحفر والمطبات التي خلفتها حركة الدبابات ، ثمة مئات السيارات غير سيارتنا نشاهدها ماضية في هذا الطريق جيئة وذهابا .
المهم أنه مزدحم بحركة السير «وحشرٌ مع الناس عيد»، كما يقولون .
بعد أن تجاوزنا «معسكر التاجي» وأشجاره التي ما زال الكثير منها صامدا بوجه الريح وعوادي الزمن ، أحسست أن كثبان الرمال على جهة اليسار تندفع بقوة نحو البصر، فيندفع الغبار أكثر كثافة ليرشق بين الحين والحين زجاج النوافذ التي أحكمنا اغلاقها لمنعه من التسلل الى داخل سيارتنا غير العابئة بوعثاء الطريق ، كما سائقها غير عابئ بطلباتنا المتكررة في تخفيف السرعة .
عبرنا الجسر الذي ما ان صعدناه لاحت مباني مدينة سامراء ومآذنها حيث لم يبق من المسافة الى تكريت سوى دقائق لا تربو على الثلاثين .
الوصول إلى بيت الحكمة
ها هي بوابة تكريت ، سألني السائق الى أين تريد بالتحديد ؟ قلت الى وسط المدينة .
لم أخبره عن محط الرحال الأول -طيلة الرحلة- فقد احتفظت بالاسم وبالعنوان لحين لحظة الوصول ، امتثالا لبعض التوجيهات التي كنت تلقيتها من أصحاب الشأن .
طلبت من السائق أن يتوقف ، فترجلت لأسأل عن مضيف الشيخ حكم سليمان رئيس عشيرة «البو بزون»، الذي يصفون مضيفه الواسع ببيت الحكمة ، لأنه يمثل مركزا لحل النزاعات العشائرية ، ومهوى الضيوف .
قيل لي لقد وصلت.. ها هو أمامك الباب الواسع المطل على الشارع .
طرقت الباب فانفتح أمامي بسرعة على يد شاب يافع قد تعوّد من أهله قبل أن نبلغ بوابة المضيف الداخلية خرج الينا مسرعا بعقاله وغترته الحمراء متوكئأ على عصاه ، فيما كان يلتقط أنفاسه بشيء من الصعوبة.. عرفنا فيما بعد أنه يعاني من «الربو» وألم في الساقين مع أنه لم يتجاوز الستين من العمر.
كان رائعا بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، شفافا لا يفتر عن الترحيب بنا ما دمنا جالسين ، يهم بالنهوض الى جانب أبنائه لتقديم الفاكهة والعصائر، فيما كنت أمسك بيده متوسلا اليه أن يجلس .
أخبرته بمهمتنا، فابتسم وتساءل مازحا «تريدون تثقفونا»؟
قلت : «جئنا لنتعلم منك»، وسألته كيف هي تكريت ؟
أجاب: الحمد لله الآن بخير، بالأمس كنا هنا في اجتماع ضم معظم رؤساء القبائل التابعة لتكريت وأقضيتها وقد اتخذنا بعض القرارات الخاصة .
دم السارق مهدور.. و«صيحة» المرأة ديّة رجل
هل يمكن التعرف على هذه القرارات ؟
ــــ نعم ، اتفقنا على هدر دم السارق ، فاذا سطا أحد على منزل أحد لغرض السرقة وقتله الأخير فيصبح دمه مهدورا ولا تطالب به عشيرته . كما اعتبرنا صيحة المرأة بموازاة دية الرجل .
كيف يعني؟
ــــ اذا سطا رجل ما على امرأة وصاحت للدفاع عن نفسها ومن أجل فضحه فيتعين عليه أن يدفع مبلغا موازيا لما يدفعه فيما لو قتل رجلا .
لو تتفضل وتعطينا رأيك في وضع تكريت الراهن ؟
ــــ أمنيا هادئة ولا توجد مشاكل ، الأسواق بدأت تنتعش ، والمحال التجارية والمطاعم كذلك بصورة لم تشهدها من قبل .
كنا نتصور أن مدينتكم كانت جنة عدن في زمن صدام حسين ؟
ــــ ابتسم ثم تابع «هذا انطباع غير صحيح».
هل تتوقع مشاركة فاعلة في الانتخابات المقبلة ؟
ــــ لا أتوقع ذلك .
لماذا؟
أهل تكريت وضعهم مختلف عن أهل سامراء لأن أبناء الأخيرة حضر ومتمدنون وأصحاب مزارع وتجارة ، فيما هنا الغالبية معتمدة على الوظيفة .
أحسست أن الرجل لا يريد الخوض في امور السياسة ، لكنه عبر في أكثر من مرة عن امتعاضه من الأعمال الارهابية ، واصفا اياها بانها لا تمت للعروبة والشرف بصلة طالما تستهدف العراقيين .
الشيخ حكم : تكريت ذات الثدي الواحد
ومن خلال الحديث وجدته مهتما بالتاريخ والأنساب ، فغيرت مجرى الأسئلة السياسية بالسؤال عن معنى كلمة «تكريت» التي يؤكد أن أحد أجداده المدعو هارون كان قائدا لأبناء المدينة في الدفاع عنها في وجه حملة نادر شاه .
اوضح ان كلمة تكريت يقال انها فارسية قديمة ، ويقال ان زوجة أحد الملوك الذين حكموها كانت ذات ثدي واحد ، وكلمة «تك» تعني واحد في زمن الآشوريين ، فيما تعني كلمة «ريت» ثدي المرأة ، فسميت تكريت أي الثدي الواحد..هكذا يقال والله أعلم .
ثم نهض من مكانه ليريني معالم تكريت القديمة المرسومة على جدار المضيف من الداخل وبدأ يشير بعصاه الى قلعة تكريت ، ونهر دجلة الذي وصفه بأنه ممر تجاري للقوارب التي كانت تحمل البضاعة من الشمال نحو بغداد .
وتابع : قبل صناعة القوارب كان البعض من سكان تكريت يعملون طوافات من جلود الماعز والأغنام بعد نفخها واحكام فوهاتها – عبارة ق.رب يرصفونها الواحدة مع الأخرى –ثم يصنعون من القصب ما يشبه الكوخ فيضعون الدجاج والبيض والحليب في هذا الكوخ مع الاختلاف بنسج أرضية له من الخشب أو القصب ليصبح شبيها بالحاوية التي يتم نقلها الى الطوافات التي تحمله ، ويتجهون بها الى بغداد ليبتاعوا بضاعتهم هناك ويشتروا حاجاتهم الضرورية ليعودوا بها الى تكريت .
سطوة سادة القوم
ودعناه وقمنا بجولة على أسواق المدينة التي لا تضم سوى ثلاثة شوارع رئيسية (الأربعين ، الباشا ، والزهور) .
وفيما تبدو اسواق المدينة ومحال الفواكه والخضار كسائر المدن العراقية غير الكبيرة ، يقول أصحابها انها قد أنشئت حديثا ، الأمر الذي يثير الاستغراب ؟
وحسب معظم الذين التقيناهم أشاروا الى أن المشكلة التي كانت تحول دون قيام ميسوري الحال بفتح مثل هذه المحال ، هي سطوة «البيجات ــــ هكذا يلفظها أهل تكريت وهي البيكات أي سادة القوم ــــ كلمة ليست عربية» أي العشيرة الصغيرة التي ينحدر منها صدام حسين .
وأوضحوا بأن أي شخص يفتح مطعما أو مقهى أو غير ذلك من أسباب الرزق سيأتيه شخص من هولاء «البيجات» ويقول له اما أن تجعلني شريكا لك في هذا المحل أو تغلقه ، فعزف الناس عن ذلك .
فقد حياته بسبب تأخره في تقديم الشيشة
ذكر عدد من ابناء المدينة أن رجلا مصريا فتح مقهى في تكريت ، وكان طيبا وودودا مع مريديه بحيث استقطب مقهاه معظم رجال المدينة ، وهو يقدم لهم الشاي والشيشة . في عام 2005 قصد مسلط عبد مسلط أحد ابناء عشيرة صدام هذا المقهى فنادى على المصري أن يجلب له الشيشة .
ولأن النراجيل كانت قليلة العدد في المقهى ومشغولة بطلبات سابقة قال له المصري: امهلني خمس دقائق يا بيك على شان تفرغ واحدة من النراجيل .
فجأة انتفض مسلط بعصا كانت بيده وانهال على رأس المصري بالضرب المبرح على رأسه حتى أدماه ، لكن المصري لم يتمالك نفسه فاستطاع ان يأخذ العصا من مسلط وضربه على ذراعه ، فما كان من الأخير الا أن توجه صوب سيارته ليجلب رشاشه الكلاشنكوف .
ولأن الحاضرين عرفوا أنه سيقتله ، دفعوا بصاحب المقهى الى دكان صغير وأغلقوا بابه المصنوع من الصفيح كي يخفوه عن مسلط .. لكن ذلك لم ينفع ، حيث توجه مباشرة ووقف عند بوابة الدكان وصوب باتجاهها مخزنين أي 60 طلقة الى أن شاهد دم المصري يسيل من تحت الباب ، ثم غادر بسيارته دون اكتراث أو أحساس بذنب .
الناس فتحوا الدكان فوجدوا الرجل مرميا على وجهه وقد فارقت روحه الحياة بثلاث طلقات استقرت في رأسه .
سألتهم: وأين هو مسلط الآن ؟ قالوا : موقوف لدى الاميركان .
الرجال الكبار في السن الذين التقيناهم وحرصوا على عدم ذكر أسمائهم تحاشيا لاحتمال حصول مشكلات عشائرية ، أشار بعضهم الى أن البيجات لم يعودوا أصلا الى تكريت أو غيرها ، وأوضحوا أنهم كانوا قطاع طرق خلال الدولة العثمانية فقام الجيش التركي بعملية عسكرية ضدهم أنهى خلالها كل الرجال ولم يبق سوى النساء والأطفال ففروا على وجوههم واستقروا في منطقة «العوجة» المتاخمة لتكريت .
صدام يلف السجائر ويسرق الطماطم والخيار
قال أحدهم ان صدام حسين لما كان صغيرا كان يطلب مني أن ألف له سيجارة لأنه في ذلك الوقت لا توجد علب سجائر وكل المدخنين يعتمدون لف السجائر بأيديهم .
وتابع : كانت لدي مزرعة صغيرة بجوار النهر تحوي البامية والطماطم والخيار، وقد لاحظت أثار أقدام غريبة على مزرعتي لشخص كان يسطو على المزرعة .. فعمدت الى النوم فيها لحراستها ، وفي ساعة متأخرة من الليل أحسست أن حركة غير طبيعية في جرف النهر ثم انتظرت قليلا ريثما استوضح الأمر واذا به صدام حسين ، حيث كان في السابعة عشرة من عمره قد عبر دجلة . وبقيت مختبئا عنه لأتعرف على ما سيصنع .
كان بيده كيس ملأه بالخيار والباميا والطماطم ، وحالما أراد العودة سباحة به الى الشاطئ الآخر أمسكت به من الخلف . قلت له : ولك ليش هيك ؟
لم ينبس ببنت شفة لكنه كان يرتجف من الخوف والبرد ، ثم أمسكته من شعر رأسه واشبعته ضربا لكن الملعون قوي الجسم وسباح ماهر، استطاع الافلات من يدي ورمى بنفسه في عرض النهر وعبره الى الشاطئ ، ومن هناك بدأ يسبني ويشتمني وتوعدني بالانتقام .
ولما أصبح في الحكم كنت أفكر بالفرار من العراق ، ادراكا مني انه اذا ما تذكرني سوف ينهيني .. ولكن الحمد لله الذي انساه ذكراي الى أن ذهب الى دار حقه .
قلت له: معنى ذلك أنك كنت قلقا على مدى أكثر من ثلاثين عاما ؟
اجاب : «أي والله ، كنت قلقا جدا لأنه هو تذكر كثيرين كانت له معهم مشاكل وقام بتصفيتهم».
موزة وخيرالله طلفاح وساجدة والضحايا
سألني رجل من بين الحاضرين هل تعرف كيف تزوج صدام من ساجدة بنت خاله خير الله طلفاح ؟ قلت : لم أعرف .
قال: كان الاتفاق بين أبناء العم- اقصد من الجد الثاني والثالث هنا نسميهم اولاد عم- أن تكون السيدة موزة وهي كانت ملكة جمال في زمنها والآن حية ترزق عمرها 70 عاما ولم تتزوج .
موزة بنت عمر مسلط العمر كانت مسماة وفقا للاتفاق لخير الله طلفاح ، وساجدة مسماة الى هزاع شقيق موزة . وكان أحد أقربائهم يدعى سعدون حمود الحسن ابن عم خير الله طلفاح من الجد الرابع وكان نائب ضابط شيوعيا ويبغضه خير الله كثيرا ، ويبغض شخصا آخر شيوعيا أيضا يدعى ممدوح كان يعمل مدير ثانوية الأعظمية في بغداد .
في عام 1961 دعا خير الله طلفاح ابن اخته صدام حسين وقال له : «اسمع ، اريدك تقتل سعدون وممدوح واعطيك ابنتي ساجدة».
فعمد صدام الى قتلهما بتحريض من خاله .
ولما تقدم خير الله طلفاح لطلب يد ملكة الجمال موزة باعتبارها مسماة باسمه جابهه أبوها بالرفض وقال : كيف تطلب يد ابنتي وأنت الذي حرضت ابن اختك على قتل ابن عمنا سعدون ؟!
لذلك لا هزاع تزوج ساجدة ، ولا خير الله تزوج موزة ، فعمد خير الله الى تزويج صدام حسين من ساجدة التي يسمونها في تكريت «سجودة» للتندر وليس للتحبيب .
يتبــــــــــــــــع ...