محاضرات رمضانية / فتح مكّة - 2
محاضرة رمضانيّة لسماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله(رض)، يتحدّث فيها عن ظروف فتح مكّة على يد النبيّ(ص) ودخول المسلمين إليها بطّريقة سلميَّة، وتحطيم الأصنام الموجودة في الكعبة، لتكون مكّة قاعدة للتّوحيد وللإسلام...
التفاصيل
إستماع
بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطّاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
التَّخطيط لفتح مكَّة
عندما هاجر النبيّ(ص) من مكَّة، أنزل الله عليه الآية التّالية: }إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ{ [القصص: 85]، أي سيعيدك إلى مكَّة في وقتٍ من الأوقات، وكانت مكَّة من خلال سكَّانها وزعمائها وطواغيتها وعبدة الأصنام فيها، تمثّل المنطقة الّتي يسيطر عليها الشّرك، والّتي كانت تثير الحروب ضدّ الإسلام والمسلمين بين وقتٍ وآخر، حتّى إنّ حربها في واقعة الأحزاب كانت حرباً استئصاليّةً، لأنّ قريش جمعت كلّ حلفائها من العرب، وأقنعت اليهود الّذين كانوا في عهدٍ مع النبيّ أن ينقضوا العهد، حتى إنّ المسلمين شعروا بالخطر، كما تشير الآية الكريمة: } إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{ [الأحزاب : 10]. وكفى الله المؤمنين القتال، ولذلك فإنّ النبيّ(ص) كان يخطّط لفتح مكّة وللسّيطرة عليها وللدّخول إليها بدون حرب، لأنّه أراد أن يحافظ على صفة مكّة أنّها الحرم الآمن }أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْهُ{ [العنكبوت: 67]، ولذلك كانت خطّة النبيّ(ص) خطّة أمنيّة، بحيث أغلق كلّ النّوافذ على الّذين يتجسّسون ويخبرون قريش استعدادات النبيّ(ص)، وعبّأ النّبيّ أتباعه في هذه الواقعة، واستطاع بذلك أن يدخل مكّة، وكان قد أعطى رايته لسعد بن عبادة، وهو من زعماء الأنصار، وكان هذا الرّجل معقّداً من قريش، فلمّا حمل الرّاية ودخل إلى مشارف مكَّة، ارتجز وهو يقول:
" اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة"
يعني اليوم سنسبي نساء أهل مكّة، ويقال إنّه جاء العبّاس عم النبيّ (ص) وأخبره بذلك، فقال لعليّ(ع): خذ الراية من سعد وادخل بها إلى مكّة، ثم أخذ عليّ الراية، ويقال إنّه ارتجز:
" اليوم يوم الملحمة اليوم تصان الحرمة"
نحن لم نأت إلى مكّة لنعتدي على أعراض مكّة ولنسبي نساءها، بل لنصونهنّ كما نصون الرّجال من طغيان قريش.
مكّة منطقة التّوحيد
وهكذا خطّط النبيّ لأن يحيّد النّاس الّذين يمكن أن يقاتلوا؛ عن القتال، فأطلق ثلاثة نداءات: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، لأنّ أبا سفيان جاء إلى النبيّ في المدينة، واستجار به بواسطة العبَّاس بن عبد المطّلب عمّ النّبيّ، وأسلم على يديه، وكان زعيم قريش، وأراد النبيّ أن يكرمه، فأعطاه هذه المكرمة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". ثمّ أطلق النّداء الثّاني: "من دخل المسجد فهو آمن"، لأنّ المسجد هو بيت الله الّذي جعله الله حرماً ومثابةً للنّاس يأوي إليه النّاس، ليضمنوا سلامهم وعدم الاعتداء عليهم. ثم كان النّداء الثّالث: "من دخل بيته وأغلقه عليه فهو آمن".
كانت هذه النّداءات الثّلاثة من النبيّ(ص) وسيلةً من وسائل التّحييد، يعني أراد أن يحيّد المقاتلين، لأنّه لا يريد قتالاً في مكّة، بل يريد أن يدخلها دخول سلام، لأنّ الله جعلها منطقة سلام. وهكذا كان، ودخل النبيّ(ص) وهو يقول كما ورد: "اللّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة"، فكأنّه أراد أن يبيّن لهم أنّنا نعمل للآخرة في كلّ فتوحاتنا وفي كلّ معاركنا، نطلب رضا الله في ذلك، ونتبع شريعته، فالقضيّة هي قضيّة الآخرة. ثم جمع النّاس في المسجد، فخاطبهم قائلاً: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده"، ليؤكّد بذلك أنّ مكّة أصبحت منطقة التّوحيد، لأنّ فيها المسجد والكعبة الّذي جعله الله للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، واعتبر هذا الانتصار انتصاراً من الله، وأنّ الله هو الّذي هزم الأحزاب وحده، كما ورد في قوله تعالى: }وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى{ .
الحريّة لمعشر قريش
ثم قال للمجتمعين حوله: "يا معشر قريش، إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظّمها بالآباء"، أصبحتم بشراً كبقيّة البشر، لا فرق بينكم وبين بقيّة البشر. ثم قال: "النّاس من آدم وآدم من تراب }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{ [الحجرات: 13]، فالتّقوى هي الّتي تجعل الإنسان يُفضَّل على الإنسان الآخر، وتجعل له الكرامة التي يتميّز بها عن الإنسان الآخر.
وهكذا التفت إلى المجتمعين وإلى أهل مكّة ومن قريش وقال لهم: "ماذا تراني فاعل بكم؟"، كيف أتصرّف، أنا سيطرت عليكم أجمعكم، وقد عطّلتم مسيرتي وأثرتم الحرب ضدّي وقتلتم الكثيرين من أصحابي، فماذا ترونني فاعل بكم، وكلّكم تحت سيطرتي، وليس منكم من يملك أن يقف في وجهي وأن يقاتلني، فكان جوابهم: "أخٌ كريم وابن أخٍ كريم"، لقد أسأنا إليك يا محمّد، ولكنّنا نعرف أنّك لا تحمل الحقد في نفسك، وأنّك تملك الصّدر الرّحب والحلم عمّن أساء إليك، وأنّك تبادل السيّئة بالحسنة. لذلك أنت الأخ لنا فأنت منَّا، وأنت ابن أخٍ لكبارنا وشيوخنا. فماذا كان ردّ النبيّ؟ قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، أنتم تحت سلطتي، وقد أعتقتكم، فلكم كلّ الحريّة، فاذهبوا أينما شئتم، فإنّني أحترم حياتكم، وإنّني أحترم حرّيتكم، فلكم أن تمارسوا ما تحبّون وما تريدون، ولكن فيما يحبّه الله ويرضاه. ولذلك نجد أنّ السيّدة زينب(ع) في خطابها ليزيد، حيث نادته "يا ابن الطلقاء" وذكّرته كيف ان جدّها رسول الله(ص) أطلق حريّة آبائه وأهله، حيث أرادت أن تعنّفه، وأن تبيّن له فضل آبائها عليهم، ولكن كما قال ذاك الشّاعر:
ملكنا فكان العفو منّا سجيّةً فلما ملكتم سال للدّم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نكفّ ونصفح
فحسبكم هذا التّفاوت بيننا وكلّ إناءٍ بالّذي فيه ينضح
تحطيم الأصنام
ثم كان أوّل عملٍ قام به رسول الله، تكسير الأصنام حول الكعبة، لأنّهم كانوا ينصبون أصنامهم على الكعبة، ويتعبّدون لها، فبدأ النبيّ بتكسير الأصنام، وكانت بعض الأصنام عاليةً، فكلّف عليّاً(ع) أن يقف على كتفه ويكسر الأصنام، فالّذي قام بكسر الأصنام هو رسول الله أوّلاً، وعليّ(ع) ثانياً، ونحن نعرف أنَّ النبيّ(ص) أرسله الله برسالة التّوحيد التي تكسر الذّهنيّة الوثنيّة، وأنَّ عليّاً(ع) في نصرته للإسلام، استطاع أن يحطّم الصّنميّة وأن يحطّم الأصنام.
المبالغة في وصف الأئمَّة
ولكن أنا أضع ملاحظةً نقديَّةً على بعض الشّعراء، لأنَّهم صوَّروا أنَّ النبيّ(ص) عندما عرج به إلى السّماء، وضع الله يده على كتفه، ثم صعد الإمام عليّ(ع) على كتف رسول الله. بعض النّاس مستعدّون أن يمدحوا الإمام عليّ بما يسيء إلى الله ورسوله.. يقول:
"ماذا أقول بمن حطّت له قدمٌ في موضعٍ وضع الرّحمن يمناه"
يعني ماذا أقول في شخصٍ وضع رجله في المكان الّذي وضع الله يده عليه! هذه إساءة إلى الله!
شاعر آخر يقول:
"وعليّ واضع أقدامه في محلّ وضع الله يده"
كمن يقول أنا وضعت رجلي في المحلِّ الَّذي وضعت فيه يدك. هذه إساءة إلى الله! يعني عقيدتنا أنَّ الله ليس جسداً له يدٌ ورجل.. فهو فوق الجسد .. ثانياً، حتىّ لو كان الأمر على نحو الكناية، فهذه إساءة إلى الله سبحانه وتعالى. ولكنَّ بعض الشّعراء تأخذهم العاطفة، فيتحدّثون بما يسيء إلى الله سبحانه وتعالى، مثل بعض النّاس كانوا في مدح العبّاس(ع) يقولون: "لولا القضا لمحا الوجود بسيفه". كيف يمحو الوجود؟! وإن عدّلها بعضهم بالقول: "لمحا العدوّ بسيفه". المبالغة في الشّعر قد تجعل الإنسان في بعض الأحيان يغفل عن العقيدة، كيف يمحو العبّاس الوجود، وجود السّماء الأرض والدّنيا كلّها .. هل سيفه يمحو كلّ الوجود؟! هذا غير معقول ولا يصحّ ذلك!
رمضان: شهر الصّيام والجهاد
على كلٍّ، فتح النبيّ(ص) مكّة التي انطلقت لتكون قاعدةً للتّوحيد وقاعدةً للإسلام، ليأخذ النّاس فيها حرّيّتهم في عبادة الله سبحانه وتعالى. وهكذا نعرف أنّ النبيّ(ص) خاض معركته في بدر، ومعركته في مكّة، في شهر رمضان، ما يدلّ على أنّ شهر رمضان كما هو شهر الصّيام، هو شهر الجهاد أيضاً.
والحمد لله ربّ العالمين.
ألقيت في 25 رمضان 1430هـ