شرح دعاء وداع شهر رمضان - الحلقة الثانية
في هذه الحلقة من شرح دعاء "وداع شهر رمضان"، يتناول سماحة العلامة المرجع، السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، الحديث عن النّعم والألطاف الإلهيّة الّتي تغمر العباد وترعى مصيرهم، وروحيّة الرّجاء بمغفرته تعالى من خلال التّوبة....التفاصيل
شرح دعاء وداع شهر رمضان ـ الحلقة الثانية
تَسْتُرُ عَلَى مَنْ لَوْ شِئْتَ فَضَحْتَهُ، وَتَجُودُ عَلَى مَنْ لَوْ شِئْتَ مَنَعْتَهُ، وَكِلَاهُمَا أَهْلٌ مِنْكَ لِلْفَضِيحَةِ وَالْمَنْعِ، غَيْرَ أَنَّكَ بَنَيْتَ أَفْعَالَكَ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَأَجْرَيْتَ قُدْرَتَكَ عَلَى التَّجَاوُزِ، وَتَلَقَّيْتَ مَنْ عَصَاكَ بِالْحِلْمِ، وَأَمْهَلْتَ مَنْ قَصَدَ لِنَفْسِهِ بِالظُّلْمِ، تَسْتَنْظِرُهُمْ بِأَنَاتِكَ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَتَتْرُكُ مُعَالجتَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، لِكَيْلَا يَهْلِكَ عَلَيْكَ هَالِكُهُمْ، وَلَا يَشْقَى بِنِعْمَتِكَ شَقِيُّهُمْ، إِلَّا عَنْ طُولِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ تَرَادُفِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، كَرَماً مِنْ عَفْوِكَ يَا كَرِيمُ، وَعَائِدَةً مِنْ عَطْفِكَ يَا حَلِيمُ.
فعل الله مبنيّ على التّفضّل
يا ربّ، إنّني عندما أتطلّع إليك في آفاق الألوهيّة الرّحبة الّتي لا تضيق على أحد، بل تتّسع ألطافها لكلّ النّاس، فماذا أرى؟ إنّني أرى السموّ يرتفع ويعلو في كلّ مدارج الرّفعة والعلوّ، فينظر إلى خلقه بعين الرّحمة لا بعين الانتقام، فيتفضّل عليهم بما يفتح لهم أبواب الانفتاح عليه بالاطمئنان إلى الأمل الكبير في العودة إلى مواقع رضاه في مواقع طاعته، لأنّه لم يغلق عليهم أبواب رحمته ومغفرته في ما فتح لهم من أبواب التّوبة إليه.
إنَّك ـ يا ربّ ـ تعلم ما يقوم به عبادك الخاطئون من فضائح وخطايا في سرِّهم وعلانيتهم، وتطَّلع على ما يكنُّونه في وجدانهم من أسرارٍ عميقةٍ تتَّصل بموقع النيَّة في أفعالهم، وبموطن الإحساس في مشاعرهم، مما لا يريدون ظهوره وإطلاع الآخرين عليه، وأنت القادر على أن تفضحهم أمام النّاس بما تملكه من وسائل ذلك، وهم يستحقّون الفضيحة لسوء نيّتهم وفعلهم، ولكنّك ـ برحمتك ـ لم تفضحهم، حتّى تترك لهم الفرصة للتّراجع وللإحساس برحمتك في سترك عليهم، فيدفعهم ذلك إلى الحياء منك في ما يتمرّدون وفي ما تستر عليهم.
وهناك البعض من الّذين تعقَّدت أفكارهم ومشاعرهم وأفعالهم، فابتعدت عن مواقع رضاك في خطوط طاعتك، وابتعدوا ـ بذلك ـ عن آفاق رحمتك، فاستحقّوا المنع من جودك وعطائك، ولكنَّك تبادرهم بالعطاء السّخيّ من رزقك، لينفتحوا عليك من عمق أفضالك وألطافك. وهكذا كان الخطّ الرّحيم الحليم الكريم الغفور، في ما تتصرّف به في واقع عبادك الخاطئين، فقد بنيت أفعالك على التفضّل، فأعطيتهم ما لا يستحقّونه، وأجريت قدرتك على التّجاوز، فلم تؤاخذهم بسوء أعمالهم، وتلقّيت من عصاك بالحلم، ففتحت له أبواب التّوبة، وأمهلت من قصد لنفسه بالظّلم، فتركت له الفرصة ليعدل معها بالاستقامة في الطّريق، والرّجوع عن الانحراف، لأنّك الواسع في كرمك، والعظيم في رحمتك، فلا يضيق عليك عفو ولا رحمة، ولا يرهقك انتظار الخاطئين ليرجعوا إليك من قاعدة التّوبة، لأنّك خلقت عبادك بيدك، وعرفت نقاط ضعفهم ونقاط قوّتهم، فأردت لهم أن يمتدّوا في ساحات الفكر الّذي يهديهم إلى سواء السَّبيل، عندما تترادف الحجج عليهم، ويكثر الإعذار إليهم، فيكتشفون ما ينتظرهم في آفاق رحمتك، فيرجعون إليك، ويستريحون إلى عفوك، ويهرعون إلى وعدك بقبول التّائبين والغفران للخاطئين المذنبين.. وذلك هو الّذي يقودهم إلى التّوازن في وعي المسؤوليّة، في ما يملكونه من طاقات، وفي ما يحرّكونه من خطوات، وفي ما يركّزونه من علاقات ببعضهم البعض، ما يجعلهم في موقف الطّاعة لله وإسلام الأمر كلّه له.
وذلك هو الّذي يعطي الإنسان الصُّورة الحيَّة عن لطف الله بعباده، في ما يقودهم إلى مواقع العودة إليه بكلِّ الوسائل الّتي تختزن الرَّحمة، وتحرِّك الأفكار والمشاعر في خطِّ الواقعيَّة الرّساليّة في ما يأخذون به أو يتركونه، فلا يهلك هالكهم ـ في حال اختيارهم الهلاك ـ إلا بعد استنفاد كلِّ الحجج، ولا يشقى شقيّهم إلا بعد ابتعاده عن كلِّ ما وفَّره الله له من أسباب السَّعادة، وذلك في نطاق عنوانٍ واحدٍ يتَّسع لكلِّ أفعال الإنسان وأقواله وعلاقاته، وهو التَّوبة.
أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إِلَى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ دَلِيلًا مِنْ وَحْيِكَ لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْهُ، فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التّحريم: 8]. فَمَا عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ؟!
نداء المحبَّة الدّائم
يا ربّ، كيف لا ينفتح عليك عبادُك بكلِّ الأمل والرّجاء في القُرب إليك، مهما ابتعدت بهم الذّنوب عن ساحة قُدْسِك، وأنت الّذي لا تترك مجالاً لانفتاحهم عليك إلاّ لتفسح لهم أكثر من فرصةٍ لذلك، لأنّك تعرف سرّهم وعلانيتهم في ما ينحرفون فيه عن الطّريق، أو في ما يمارسونه من الخطيئة، انطلاقاً من مواقع الاهتزاز في مشاعرهم، وعناصر الإثارة في غرائزهم، وإيحاءات الانحراف في أوضاعهم، مما يحتاجون فيه إلى الكثير من الرّحمة التي تجتذبهم إلى الخير وتُبعدهم عن الشّرّ، في ما تهيّئ لهم من ظروف التّراجع عن ذلك كلّه، عندما يواجهون ألطاف الخير في شخصيّاتهم، من خلال الإيحاء الرّوحيّ بأنّ الله يدعوهم إلى العودة إليه، وإلى الثَّبات في مواقع رضاه، وإلى الاتجاه نحو الهدوء في العقل، والاستقامة في الخطوات على الطّريق المستقيم، ليكون الانحراف في حركتهم مجرّد حالةٍ طارئةٍ لا تستقرّ في الاتجاه، وليكون الاهتزاز في مناطق الإثارة مجرّد وضعٍ سريع لا يلبث أن يزول بفعل عناصر الثّبات في الإيمان وفي التّقوى.
وهكذا دعوْتَ عبادك إلى عفوك، ولكن لا ليحصلوا عليه بدون إرادةٍ أو معاناة، بل أردْتَ لهم أن يحصلوا عليه من خلال الباب الرّوحيِّ الّذي يمتزجُ فيه الوعي للمسألة الإلهيَّة بالمسألة الإنسانيَّة، في ما هو حقُّ الله على عباده، من الإحساس بالعبوديّة المطلقة الّتي لا يملكون معها أيَّ شيء من حريّة الاختيار خارج نطاق الطّاعة، ويتحرّك فيه العنصر الرّوحيّ في دائرة العنصر العمليّ، وهو التّوبة الّتي تختصر في حركة الإنسان كلّ معاني الانفتاح على الله، والانغلاق عن كلّ مواقع الشّيطان، في عمليّة إرادةٍ قويّةٍ وتصميمٍ حاسم.
ثمَّ أكَّدْتَ ذلك في الخطِّ الَّذي رسمته لهم بكلِّ وضوحٍ في وحيك، في ما أظهرت لهم من خصائصه، وبيَّنت لهم من ملامحه، حتَّى يتعرَّفوا إليه بطريقةٍ دقيقة.. وتلك هي التَّوبة النّصوح الّتي تعبِّر عن توافق ظواهرهم وبواطنهم في عمليَّة التَّغيير، وعن صدق النيَّة وقوَّة العزم وإرادة الثَّبات، بحيث لا مجال فيه لأيِّ تراجعٍ أو اهتزاز.
وهذا هو ما تحدَّثْتَ به إليهم في كتابك الّذي أطلقتَ فيه نداء الدّعوة إلى التّوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التّحريم:8].
إنَّك تدعوهم إلى العودة إليك من موقع الصِّدق الّذي يعبِّر عن الاستقامة في خطّ طاعتك، من خلال إرادة التّغيير الّذي ينتقلون به من خطّ الشيطان إلى خطّ الله.. فهذا هو الطّريق الوحيد الّذي يربطهم بك من جديد، إنّك توحي إليهم بأنّك لا ترفضهم لمجرّد أنّهم عصوك وتمرّدوا عليك، بل تعلن لهم أنّك تتقبّلهم في أيّة لحظةٍ يريدون فيها العودة، وتدعوهم إلى أن ينفتحوا على ذلك في نداء محبّةٍ ولطفٍ وحنانٍ ورحمة.
ثمّ تابعت النّداء بالإيحاء إليهم بأنَّ عليهم أن يعيشوا روحيّة الرّجاء بمغفرة الله من خلال التّوبة... وإذا كانت المسألة عندهم رجاءً يحمل في داخله بعض عناصر الخوف، في ما تريد أن توحي إليهم بالتحرّك نحوك، في شعورٍ تمتزج فيه الرّغبة بالرّهبة كوسيلةٍ من وسائل التّربية الرّوحيّة الّتي يتحرَّك فيها الإنسان في روحيَّة العبوديَّة بين الخوف والرّجاء ليتأكّد موقعه في إخلاصه لله، في قلق الإنسان الباحث عن مواقع رضاه، إذا كانت المسألة عندهم رجاءً في الخطّ التّربويّ، فإنّها عندك ـ يا ربّ ـ قرار بالعفو عمّن يعيش في أعماقه الرّغبة الحقيقيّة في التطلّع نحو رضاك، وهذا هو قولك: {عسى ربُّكُم أن يُكفِّر سيّئاتِكُم ويُدخِلْكُم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} [التّحريم: 8].
فذلك هو الأفق الجديد للتّوبة، أن يتحوّل الماضي في نتائج مسؤوليّته إلى صحيفة بيضاء لا أثر فيها للخطيئة السّوداء، ولا للانحراف الأعمى، لأنّ الحاضر التّائب يهيّئ جوّ الغفران للماضي الخاطئ، وأن يكون المستقبل البعيد هو مستقبل النّعيم الّذي يلقاه النّاس التّائبون في الجنّات الّتي تجري من تحتها الأنهار، حيث يعيشون فيها الإحساس بالجمال والشّعور بالطّمأنينة.. هناك في ذلك اليوم الّذي يؤكّد الله فيه رعايته لعباده الصّالحين.
{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التّحريم: 8].
فأنت ـ يا ربّ ـ لا تُدخل الخزي والعار على عبادك الصّالحين الّذين عاشوا في مجتمع الإيمان بالله، والسّير في خطّ شريعته، بقيادة النبيّ الّذي حمل الرّسالة ودعا إلى الله وإلى طاعته، لأنّك اطّلعت على قلوبهم، فرأيت فيها النّور الّذي يشعّ بالإيمان، فيتفايض على ساحاتهم في طريقهم الطّويل، وينطلق في أيمَانهم الّتي يحرّكونها في خطّ الجهاد وفي سبيل الله... فإذا شعروا بأنّ هناك نقصاً في هذا النّور الّذي أرادوه أن يتكامل، توجّهوا إليك بكلّ إشراقة الحقيقة الإلهيّة في كيانهم، ليطلبوا منك أن تكمل لهم هذا النّور الذي ضاع بعضه منهم بفعل ظلام الخطيئة، وأن تغفر لهم، حتّى تكون الحياة لديهم نوراً في حركة الإيمان والطّاعة، ونوراً في حركة العفو والمغفرة، وهكذا يبتهل إليك عبادك، لأنّك القادر على كلّ شيء، والمهيمن على الوجود كلّه وعلى الجزاء كلّه، فأيّ ربٍّ عظيمٍ أنت يا ربّ، وأيّ خالقٍ رحيمٍ أنت يا ربّ.. وكيف يبتعد عبادك عن الدّخول إلى عفوك من باب التّوبة المفتوح على مصراعيه، وما هو عذركم في ذلك كلّه؟
وَأَنْتَ الَّذِي زِدْتَ فِي السَّوْمِ عَلَى نَفْسِكَ لِعِبَادِكَ، تُرِيدُ رِبْحَهُمْ فِي مُتَاجَرَتِهِمْ لَكَ، وَفَوْزَهُمْ بِالْوِفَادَةِ عَلَيْكَ، وَالزِّيَادَةِ مِنْكَ، فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَيْتَ : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160]، وَقُلْتَ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [القرة:261]، وَمَا أَنْزَلْتَ مِنْ نَظَائِرِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَضَاعِيفِ الْحَسَنَاتِ.
التّجارة مع الله
لقد كان وجودنا بعض عطائك وكرمك، كما كانت نعمك الوافرة في حركة هذا الوجود شاهداً على لطفك ورحمتك، وهذا ما يعيشه عبادك المؤمنون بك، المبتهلون إليك في وجدانهم الإيمانيّ، عندما يرون الفيض الإلهيّ ينهمر عليهم من كلّ جانبٍ، من دون أن يكون لديهم أيّ عملٍ يقدّمونه بين أيديهم ليستحقّوا به ذلك. ولقد دعوتنا إلى العمل في كلِّ مواقع طاعتك، في ما يتَّصل بحياتنا الخاصَّة، وفي ما يتحرّك به وجودنا الذاتيّ من رغباتٍ وحاجات، وفي ما يتّصل بحياتنا مع الناس في ما تفيضه علينا من مسؤوليّات وأوضاع، فأردتنا أن نعيش العطاء في طاقاتنا في ما نقدّمه من خيرٍ لأنفسنا وللنّاس وللحياة في نطاق أوامرك ونواهيك، ليكون وجودنا فاعلاً منتجاً على مستوى الوجود كلّه، ولم تجعل عملنا هذا مجرّد مسؤوليّة عباديَّة نتعبَّد فيها إليك على أساس ما يجب علينا لك من أنواع الطّاعة، من دون أن نحصل من ذلك على شيء في ربح الذّات لنفسها في ما تريده من خير، بل جعلته نوعاً من التّجارة معك في ما تجتذبه من الرّبح المخزون عندك، واعتبرته قرضاً يحمل لنا فرص الزِّيادة المضاعفة، وهكذا دعوتهم إلى التِّجارة معك، وأنت الّذي رزقتهم ما يتاجرون به، وزدتهم في الرِّبح، لتزيدهم رغبةً في التَّسامي إلى درجات القرب إليك، وحركةً في خطِّ المسؤوليَّة في تحريك الحياة نحو الانطلاق إلى مواقع الخير للإنسان كلّه في جميع مجالاته، ليكون الإنسان إنسان العمل الصّالح الخيّر في ما تحتاجه الحياة من طاقاته، وليكون إنسان الله في ما تفرضه عليه من كلّ مواقع الطّاعة، وملامح العبوديّة له في وجوده.
وهكذا كان، أنّ من جاء بالحسنة ـ أيّة حسنة ـ فله عشر أمثالها، وكان الإنفاق {فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261]، وكأنّ الّذي يقرض الله قرضاً حسناً في ما يقدّمه للآخرين من طاقته وماله، يستحقّ الأضعاف الكثيرة من الرّبح والأجر الكريم، وذلك في عمليّةٍ تربويّةٍ إيحائيّةٍ بأنّ قضيّة العمل الصّالح ليست مجرّدَ قضيّةٍ ترتبط بالمبدأ في ما يخطّط له من مواقع ومواقف، ولكنّها قضيّة الذّات في ما تتطلّع إليه من أرباحٍ ومنافع... وأنّ الذّاتيّة في حساب العمل تمثّل قيمةً كبيرةً في ميزان الله، عندما يكون العمل لله في ما يتقرّب به الإنسان إليه في خدمة الإنسان والحياة، قربةً إلى الله، لأنَّ الله أراد للإنسان أن يطيعه ويتعبَّد له، طمعاً في جنَّته، وخوفاً من ناره، ورغبةً في الأجر العظيم، ولم يفرضْ عليه أن يفعل ذلك من دون ثمنٍ، على أساس استحقاق الله للعبادة في ذاته، وذلك على أساس أنّ الله لا يريد للإنسان أن يبتعد عن خصائص إنسانيّته في نطاق بشريّته، فيكون ملكاً يفكّر في العمل من ناحية التّجريد، بل أراد له أن يكون بشراً في نطاق حاجاته الحاضرة والمستقبلة على مستوى الدّنيا والآخرة.
ولهذا أعطى السّعي نحو المسؤوليّات العامّة والخاصّة معنى التّجارة والبيع، في ما يجتذبانه من قضايا الرّبح والتّعويض في الطّموحات الذاتيّة، ليعيش الإنسان هاجس ذلك في دنياه وآخرته على أساس الخطّ المستقيم.
وَأَنْتَ الَّذِي دَلَلْتَهُمْ بِقَوْلِكَ مِنْ غَيْبِكَ وَتَرْغِيبِكَ الَّذِي فِيهِ حَظُّهُمْ عَلَى مَا لَوْ سَتَرْتَهُ عَنْهُمْ لَمْ تُدْرِكْهُ أَبْصَارُهُمْ، وَلَمْ تَعِهِ أَسْمَاعُهُمْ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ أَوْهَامُهُمْ ، فَقُلْتَ: {فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وَقُلْتَ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، وَقُلْتَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْبَاراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزِيدِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزُهُمْ بِرِضَاكَ، وَلَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقاً مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبَادَكَ مِنْكَ، كَانَ مَوْصُوفاً بِالْإِحْسَانِ، وَمَنْعُوتاً بِالِامْتِنَانِ، وَمَحْمُوداً بِكُلِّ لِسَان.
ذكر الله حاجة إنسانيّة
ويبقى لطفك بعبادك يغمر حياتهم، ويرعى مصيرهم، عندما تدلّهم على الطّريق الّذي يؤدّي إليك، فيرفع درجتهم عندك، ويحقِّق لهم السّعادة لديك، في ما يوحي به ذلك كلّه من علاقة العبد بربِّه، وعلاقة الرّبِّ بعبده، فهناك مبادرة من الإنسان تتحرَّك في طريقته في التَّعبير عن شعوره بحضور الله في وجدانه وفي الوجود كلّه، بحيث يجده في أجواء الغيب السّابح في المطلق، كما لو كان في أجواء الشُّهود الغارق في الحسّ، فيذكره في آفاق ألوهيَّته بكلِّ مواقع عظمته وموارد نعمه، بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويتحوَّل الذِّكر عنده إلى حقيقةٍ حيّةٍ في عقله وإحساسه وحركته في الحياة.. وهنا تلتقي المبادرة الإنسانيّة في خطّ العبوديّة الخالصة المخلصة، بالرّحمة الإلهيّة، فيذكر الله عبده بالرّحمة واللّطف والحنان والمغفرة، كما ذكره عبده بالإخلاص والاعتراف والتوسّل والعبادة.
وهكذا أراد الله لعباده أن يذكروه ليذكرهم، في ما يريد أن يثيره في تفكيرهم من أنَّ نسيانهم له في كلِّ مواقع الحياة عندهم، سيكون تأثيره لديه أن ينساهم، فيهملهم في عمق مسألة المصير، وهذا ما عبَّر عنه الله في حديثه عن أمثال هؤلاء في موقفهم يوم القيامة في ساعة الحساب، في حوارهم مع الله، بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124-126]، وقوله تعالى: {نسُوا الله فنَسِيَهُم} [التَّوبة: 67].
وليست المسألة مسألة حاجةٍ إلهيَّةٍ في ذكر الإنسان لربِّه، بل هي حاجةٌ إنسانيَّةٌ في انفتاح الإنسان على مصالحه في الحياة وفي المصير من خلال ذلك، حيث يكون نسيانه لله نسياناً لنفسه، عندما يستولي عليه الشّيطان في كلِّ مصادره وموارده، وذلك هو قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
وبذلك يكون ذكر الله في وعي الإنسان وسيلةً من وسائل ذكر الإنسان لنفسه، وإذا كان الذِّكر حركةً في وعي الإنسان لربِّه، فإنَّه يجتذب الشّكر الّذي يمثِّل وعي الإنسان لنعم الله في حياته في كلِّ مواقع وجوده في تفاصيلها الصَّغيرة والكبيرة، بحيث لا معنى له بدونها، ولا قيمة لأيّة سعادةٍ بعيداً عنها.. وهذا هو الّذي يعمِّق في الإنسان إحساسه بإنسانيَّته، في يما يعنيه الاعتراف بالجميل من المعنى الإنسانيّ، وذلك هو الّذي يجسِّد انفعاله بألطاف الله عليه، وكما هو الذِّكر في علاقته بمصلحة الإنسان في الدّاخل، كذلك الشّكر في علاقته بالله في امتداد النّعم عليه وزيادةُ فُرصِها في حياته، وهذا في مقابل الكُفران والجحود ونكران الجميل، في زوال النّعمة عنه وتحوّلها إلى عذابٍ شديد، وهذا ما عبّر الله سبحانه بقوله في دعوته الإنسان إلى الشّكر وتحذيره من الكفر بالنّعمة: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
وقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7 ].
هكذا كانت دعوة الله للإنسان إلى الذّكر، ودعوته إلى الشّكر، وسيلةً من وسائل انفتاحه على ربّه، ليبقى ذكره في وجدانه، حيث يشرق الله في كلّ فكره وشعوره، ليمتدّ حضوره عنده في مواقع المسؤوليّة في حياته، ولينطلق شكره له ليعمّق في ذاته الإحساس بارتباط كلّ حياته بربِّه، من خلال علاقة النّعم الإلهيّة بحياته، في وعيٍ لحاجته المطلقة إلى الله، وشعورٍ بتلبية الله له في ذلك كلّه.
مميّزات الدّعاء
ثم كان الدّعاء الّذي دعوتنا إليه يا ربّ، الّذي هو المظهر الحيّ للتّواصل الدائم بيننا ـ نحن عبادك ـ وبينك، فهو الّذي يمثّل النّجوى التي تنطلق من عمق الشّعور الحيّ في قلوبنا، لنتحدَّث معك من موقع الحاجة إليك، والرَّغبة في الحصول على لفتةٍ من كرمك، ونظرةٍ من رحمتك، لأنَّك سرُّ وجودنا، ومعنى الامتداد في مسيرة هذا الوجود، وهو الَّذي يعبِّر عن الاعتراف بألوهيَّتك في خطِّ عبوديَّتنا لك، على أساس المضمون الإيمانيّ الّذي تتحرَّك فيه كلّ مفردات العقيدة والحياة، في تعدادٍ متنوّع الأبعاد والأساليب، بروح عباديّةٍ تعبيريّةٍ عن كلّ ما يفكّر فيه الإنسان ويُحسّه ليعرضه أمام الله، حيث يمثّل ذلك اعترافاً وإقراراً وإخلاصاً بما يعتقد أنّه الحقيقة الخاضعة لكلمات الله ورسالاته، حيث تتميَّز عبادة الدّعاء عن أيِّ عبادةٍ أخرى، بتنويع الأفكار والأوضاع، فلا تجد هناك تشريعاً محدّداً في الكيفيّة والكميّة، فللإنسان أن يدعو ربَّه وهو قائمٌ أو قاعدٌ أو مستلقٍ على ظهره أو راكعٌ أو ساجدٌ أو واقفٌ أو سائرٌ، ولا توجد كلمات محدّدة لما يقوله في الدّعاء، ولا لغات معيّنة، بل يمكنه الدّعاء بأيِّ لغةٍ وأيّة كلمةٍ، في أيِّ مضمونٍ روحيّ أو شعوريّ أو فكريّ، مما يريد أن يقدِّمه الإنسان بين يدي الله.. وبهذا كان الدّعاء عبادةً متحرِّكةً على أكثر من صعيد، ومنفتحةً على كلِّ إنسان، بحيث ينطلق فيها الإنسان بشكلٍ عفويّ عند حدوث أيّة مشكلةٍ، أو طروء أيّة حاجةٍ لا يرى فيها لقدرته مجالاً لحلّ المشكلة أو لقضاء الحاجة، فيلجأ إلى الله ويرفع حاجته إليه.
وهو الّذي ينمّي في روح الإنسان الصّلة الرّوحيّة بالله، حيث يشعر بأنّ الله قريب منه ومن آلامه وآماله ومشاكله وحاجاته، ليفتح عليه أبواب رحمته، فيخفِّف عنه ما ثَقُل عليه من ذلك، وليقضي له ما صعُب منها، فيجد حاجته عند ربِّه بما لا يجدها عند غيره، وهذا هو ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
ويتصاعد الاهتمام بهذه العبادة الدّعائيّة، حيث تمثِّل الدَّعوة الحاسمة الّتي تجعل من الإقبال عليها مظهراً للعبادة الخالصة المنفتحة على معنى عبوديّة الإنسان لله، كما تجعل من الابتعاد عنها مظهراً من مظاهر الاستكبار عن عبادة الله الّذي يؤدّي إلى دخول جهنّم، وهذا هو قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
وهكذا عاش النّاس الذِّكر والشّكرَ والعبادة من خلال الإحساس بمنِّك، والانفتاح على فضلك، والخضوع لأمرك، فكان ذلك سبباً للوصول إلى مواقع رضاك من خلال مواقع طاعتك.. في ما يقودهم ذلك إلى رحاب جنَّتك.. وهذا هو الغاية، كلّ الغاية، في حركة السّعادة الإنسانيّة الّتي يتطلّع إليها المؤمنون، وينطلق نحوها المخلصون.