اليكم ايها الاخوة ما جرى في مدينة قم عند سماع العراقيون فيها نبأ استشهاد الامام الصدر قدس سره ... وسأرويها كما شاهدتها بلا قضم أو تأويل أو تفسير.
ثم ، لنحتفظ بأرشيف وثائقي خاص، ليس محدود التداول هذه المرّة - كما في ذاك الذي مر ذكره - وانما لعموم الأمة والجماهير كي نُطلع الجميع على ما وقع وصار وما رُفع من شعارات وهوسات وهتافات في تظاهرات غاضبة في هذه المدينة المقدسة، باعتبارها قلب المهجر النابض من جهة، ومن أجل أن تحتفظ ذاكرة شعبنا بهذه الهتافات والهوسات والشعارات،
نقول، كانت أكثر الساحات غلياناً وانفعالا وتفاعلا مع اغتيال المرجع الكبير، هي ساحة ايران، وتحديداً ساحة قم المقدسة التي يتواجد فيها عشراتالالوف من المهاجرين والمهجّرين والمجاهدين العراقيين وطلبة العلوم الدينية، أي اكبر تجمع لأبناء العراق في بلاد المهجر.
فما أن وصل خبر الجريمة النكراء عصر يوم السبت 4 ذي القعدة 1419حتى هرعت الجماهير الغاضبة الى دار السيد جعفر الصدر نجل السيد الشهيد محمد باقر الصدر، باعتباره وكيل المرجع الشهيد أولاً، والمفجوع به وبمظلوميته فيساحة قم نفسها ثانياً (1) والمعزّى الأول أو الشخصية المفجوعة الأولى بهذا المصاب الجلل.
كان هذا قُبيل الغروب، أما بعد صلاة المغرب والعشاء مباشرة، فقد خرجتجموع المصلين من مسجد السيد الشهيد الصدر بقم يتقدمها سماحة الشيخ مهدي العطار باتجاه الحرم المقدس للسيدة الفاطمة المعصومة عليها السلام، ومن هناك باتجاه بيت السيد جعفر. والجماهير تتزايد وتلتحق بالمتظاهرين مع كل خطوة تخطوها الى البيت المذكور، بين خارج من بيته أو محل عمله أو المسجد الذي كان يُصلي فيه أو السيارة التي كان يستقلّها وهكذا....
ومن هناك، ومن بيت السيد جعفر، وبعد مكوث قصير وتجمعات حاشدة ازدحم بها البيت والشارع الذي أمامه، وبعفوية كاملة وجموع غاضبة تختزن الحزن والأسى والدموع، وبدون أي تخطيط مسبق، خرجت الجماهير عائدة الى الحرم المطهر وهي تطلق شعاراتها التقليدية المعروفة
عاش عاش عاش الصدر...والدين لازم ينتصر
باسم الخميني والصدر.. الدين لازم ينتصر
لا اله الااللَّه... صدام عدو اللَّه
حاولت بعض العناصر المفجوعة من الشباب، وبعض أصحاب العواطف الفائرة، وحين شاهدوا بعض الأشخاص ممن كانوا يعرّضون بالمرجع المظلوم وهم يقفون على قارعة الطريق، اطلاق شعار يقول:
COLOR=red]عاش عاش الصدر موتوا يرجعية[/COLOR]
حوّله البعض الى (عاش عاش عاش الصدر موتوا يبعثية).
ورفع شعار آخر بعد تردّد وحذر يقول:
COLOR=red]عاش عاش عاش الصدر.. والمجلسالأعلى كفر... [/COLOR]
حوّله آخرون الى (عاش عاش عاش الصدر... والمجلسالأعلى دجل)2)
وهكذا حتى انفرط جمهور المتظاهرين بعد الوصول الى الحرم المقدس حيث ألقى أحدهم كلمة مختصرة في جمهور الحاضرين الغاضبين دونتسجيل أية حادثة أو مشادّة أو سجال...
وأثناء الليل، وبعد أن تناقلت وسائل الإعلام العالمية والمحلية، خبر الجريمة، ليصبح الخبر رقم واحد في كل نشرات الأخبار ووسائل الاعلام.. نام العراقيون في المدينة على غضبٍ وتوتّر أحرّ من الجمر. ناموا مفتوحي العيوندامعي القلوب على فجيعة عظمى أفقدتهم آخر أمل تعلّقت به أفئدتهم وأرواحهموتطلعت اليه عقولهم ونفوسهم، وكان موضع اهتمامهم، ومحور أحاديثهم طيلة الشهور الستة الأخيرة...
وعند أول ساعات الصباح الباكر في اليوم التالي، وعلى غير موعد، وبدون أي تخطيط سوى المكالمات الهاتفية بين هذا وذاك على ضرورة المشاركة فيتظاهرة اليوم الثاني... ولتبرئة الذمة بحدّها الأدنى تجاه الدم المسفوك ظلماًوعدواناً، بدأ العراقيون يتوافدون زرافات ووحداناً الى دار السيد جعفر حتى وصلعددهم الالاف، وراحت كل جماعة تعبّر عن استنكارها الغاضب بطريقتها الخاصة، فيما راحت تجمعات الشباب تُطلق شعارات غاضبة كلّ على طريقته وسجيته الخاصة ايضاً، خاصةً بعد أن ضاقوا ذرعاً بقصيدة حسينية مكررة كانأحد الشباب يلقيها على مسامعهم... ونقول ضاقوا بها ذرعاً لأنهم كانوا يفورونغضباً وسخطاً على قاتلي المرجع المظلوم بالأيدي والألسن وبالتالي فانهم أرادوا التعبير عن ذلك بالهوسات تارة وبالشعارات الغاضبة تارة أخرى وليس الدامعة الحزينة فقط. فقاطعوا القارئ والقصيدة وأطلقوا العنان لشعاراتهم وغضبهم وسخطهم.
وحين اشتدت لهجة الشعارات ولم يستطع الكثيرون إسكاتها أو تطويقها، انسحب عدد من المتظاهرين، وخاصة حين أُطلق شعار صارخ غاضب مدو يقول:
»عاش عاش عاش الصدر آل الحكيم أهل الغدر«!
أنسحب عدد محدود من المتظاهرين وعادوا الى بيوتهم خشية الفتنة - كما قالوا - فيما استمر المئات يتقاطرون ويسمعون مندهشين، وهم بين مرتاح مؤيّد لتلك الشعارات، أو معارض صامت لا يستطيع فعل شيء أو قول شيء أمام ذلك الغضب أو السخط العارمين.
حاول بعض الأخوة، وخاصة الدكتور عامر الذي قال انه مسؤول عن إجازة التظاهرة ويخشى المسائلة من قبل الجهات الرسمية(3)، حاول جاهداً توجيه الشعارات وتركيزها على المجرم صدام وعصابته، ولكن محاولته باءت بالفشل بسبب الغضب والغليان العارمين - كما قلنا - وراح الشعار المذكور يغطّي كل الشعارات الأخرى والهمسات الأخرى، الأمر الذي أدى الى حصول عدة مشاداتوسجالات كلامية كادت تصل الى حد الاشتباك بالأيدي لولا تدخّل العقلاء...
كل هذا أمام بيت السيد جعفر والتظاهرة لم تنطلق بعد...
وما أن انطلقت الجماهير، وأخذت التظاهرة شكلها الطبيعي في أهم وأضخمشارع من شوارع قم، حيث البداية من فلكة (صفائية) حتى انفلت غضب الجمهور بلا حدود وراحت جموع الشباب ترددبلا خوف أو وجل أو تهيّب هذه المرّة، بل بغض وانفعال وتشنج كان يؤكد لكلمعترض أو متعقل أو هادي الطبع أو سلميّ المزاج، ان يحترم نفسه ويسكت وإلّا يقع المحذور...
وكانت خلاصة هذه الشعارات كما يلي.
»عاش عاش عاش الصدر آل الحكيم أهل الغدر«! ). (4
راح راح الصدر... بس ظلو اللگامة!
راح راح راحالصدر... بسط ظلوا الدجّالة!
وارتفعت شعارات أخرى تقول:
عيدوا النظر والتقييم... لا قبنچي ولا حكيم!
ابن الحكيم اللي اكتله واحنه إله طَلّابه (5)!
إضافة الى الشعارات الرسمية المارّة الذكرة، ضد صدام وعصابته...
لم يتردد الشباب أيضاً عن اطلاق هوسات معبّرة أخرى جاء فيها:
القائد سيد جعفر(6) ما نرضه بغيره.. القائد سيد جعفر!
المايتحرك شيلة مرته تلوگ عليه.. المايتحرك!
واللَّه لخسفك يا صدرعلى الصدر واولاده
كل هذا والجماهير المحتشدة بالالوف على سعة الشارع العريض وبدءاً من ميدان صفائية الى ميدان شهداء وعلى طوله البالغ قرابة الالف متر تسمع بل تستمع وتصغي دون ان تستنكر او تردّ او تقابل هذه الشعارات بشعارات أخرى مضادة،وهو الأمر الذي راح كلٌّ يقرأه القراءة التي يراها او يشتهيها أو يتمناها...(7).
وبعد أن تجمعّت الجماهير الغاضبة في حرم السيدة المعصومة، ظهر السيدجعفر على المتظاهرين وألقى كلمة قصيرة محسوبة الكلمات والجمل حاول خلالها امتصاص غضب الناس ودرء الفتنة وتهدئة الوضع.
ولولا كلماته (المهدئة) تلك فعلاً لكان يمكن ان يقع ما لم يكن بالحسبان.
تفرقت الجماهير بعد ذلك وكلها غضب وثورة وغليان على القيادتين الحاكمة في بغداد، والمتحكمة في المعارضة، وكأن اتفاقاً جماهيرياً غير معلن كان أعلنعن نفسه بلعن جميع قتلة المرجع المظلوم وكل من شايع وبايع على قتله، وكل منصمتَ وتفرّج، أو عرّض وسقّط، وباختصار شديد كل من قتله بالأيدي والألسنداخل العراق وخارجه...(8).
حادثة مسجد أعظم :
وفي نفس اليوم وبعد صلاتي المغرب والعشاء أقام مكتب آية اللَّه السيد الخامنئي مجلس فاتحة على روح المرجع الشهيد في مسجد أعظم الكبير الملحق بالحرم المطهر لفاطمة بنت الامام موسى بن جعفرعليها السلام وهو أكبر المساجد وأوسعها واكثرها شهرة في المدينة المقدسة إذْ تقام فيه الفواتح والمجالسالتأبينية المهمة التي لا تسعها المساجد الأخرى.
تقاطر العراقيون الى المسجد المذكور وكلهم أسىً وحزن ولوعة، وكأنهم يضمرون شيئاً أو يبيتون شيئاً ضد شخص ما أو أشخاص.
وما أن التأم المجلس وأرتقى المنبر خطيبه الايراني واحتشد بل ضاق المكان برموز وشخصيات رسمية وعلمائية كبيرة في الدولة الاسلامية بمن فيهمممثل (الولي الفقيه) السيد الخامنئي وممثل رئيس الجمهورية السيد خاتمي وعدد كبير من العلماء والمراجع، وجماهير غفيرة جداً ازدحم بهم المسجد الكبير حتى لم يعد هناك مكان لأي قادم الّا أن يبقى واقفاً خارج المسجد...
في تلك اللحظات دخل محمد باقر الحكيم المسجد للمشاركة في قراءة الفاتحة وكان جلوسه بجوار سماحة السيد الهاشمي عضو هيئة صيانة الدستور وعضو مجلس الخبراء في الجمهورية الاسلامية... نقول، ما أن أخذ السيد مكانه في المجلس حت عجّت الجماهير واقفة داخل المسجد وهي تطلقهتافاتها المارة الذكر ضده (أي نفسها التي ألقيت في التظاهر عند الصباح)...وخاصة ذلك الشعار المرعب المدوّي :
»عاش عاش عاش الصدر آل الحكيم أهل الغدر«!
استمر هذا الشعار يدّوي في المسجد والسيد الحكيم يستمع ويرى دقائقعديدة وهو مطرق برأسه الى الأرض ومطلقوه لا يستجيبون لدعوات والتماساتخطيب المنبر الذي أثنى على عواطفهم وحبهم للسيد الصدر والعراق والتمسهم أن يكفوا عن ذلك الشعار ويستبدلوه بغيره..
كان الموقف مُحرجاً جداً للجميع فعلاً، وفيما كان السيد جعفر الصدر واقفاًيستقبل الوفود لا يدري ماذا يفعل، وباشارة من سماحة السيد محمود الهاشميذهب الى المنبر كي يلتمس الجمهور بالكف عن اطلاق هذا الشعار الحاد الساخن. هجع الجمهور لحظات يستمع الى السيد جعفر وهو يحدثهم باسم السيد الشهيدالصدر وباسم الصدر الثاني وباسم السيد الخامنئي صاحب الفاتحة ان يكفوا عنتلك الشعارات، ولكنه قال مهدئاً طبعاً (ان هذه الفاتحة أو هذا العزاء هو عزاء السيد الصدر وعزاء السيد الخامنئي، وعزاء السيد الحكيم..!!) وما أن ذكر عبارة السيد الحكيم حتى هاج الحاضرون وصرخوا جميعهم لا.. لا.. لا.. ثم انفجروا مردّدين بصوت أكثر دوياً وأكثر غضباً وانفعالاً: ودوّى مرة أخرى نفس الشعار :
»عاش عاش عاش الصدر آل الحكيم أهل الغدر«!14)... وغيره من شعارات مماثلة...
لم يستطع السيد جعفر هذه المرّة إسكاتهم، فتنحى جانباً وأطرق برأسه الىالأرض لا يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول...
في تلك اللحظات شوهدت عدة أحذية تنطلق على مكان جلوس السيد الحكيم، وأبنائه في الجانب الآخر.. وبدأ عدد الأحذية يزداد كلما ارتفع دويّ الشعارات وزاد غضب العناصر التي تطلقها...
وهنا لم يرَ السيد الحكيم إلّا الانسلال من المجلس بصمت، وهدوء، تحتحماية مكثفة.. فنهض بعد أن أُحضرت سيارته وحمايته أي مرافقوه قريباً من باب المسجد، وفيما هو يتحرك نحو السيارة والأحذية تلاحقه وتزداد في العدد والحدّة،وما ان سُدّت باب المسجد الرئيسية من قبل عناصر الأمن الايراني حتى راحتالأحذية تتساقط على سماحته من قبَل الواقفين خارج المسجد وهو يتجه نحو السيارة التي أقلّته مسرعاً وعدد من أبنائه والمحسوبين على العائلة خلفه يريدون اللحاق به، ولكن دون جدوى، أي ان مسألة انتظارهم للالتحاق به لم تكن فيالحساب في تلك اللحظات العصيبة التاريخية المرّة(9)..
كانت هذه الرواية السريعة خلاصةً لما حصل في ذلك اليوم كما رآه وسمعه ونقله العشرات والمئات من شهود العيان وكنت أنا أحدهم ...ولا حول ولاقوة إلّا باللَّه العلي العظيم...
...................( Anotates ).................
1) إشارة الى غلق مكتبه ومداهمة بيته في هذه المدينة المقدسة بسبب ألسنة التحريض وسياسةالتعريض التي مارسها خصوم السيد وأنداده من (رفاق الطريق) المار ذكرهم.
2) ويقصدون المجلس الأعلى الذي يترأسه سماحة السيد الحكيم.
3) قال لي ذلك مباشرة وكان وجلاً من تلك المسائلة. كما حصل بعدئذ فعلاً.
4) لم يقصد المتظاهرون طبعاً أسرة المرجع الكبير السيد محسن الحكيم المحترمة وشهداءهاالعظام وانما اولئك الذين ناهضوا المرجع الصدر وناجزوه وعرّضوا به وطعنوه من بعض اعضاءهذه الاُسرة الكريمة.
5) أي الحكيم الذي قتله / ويقصدون باللسان طبعاً - ونحن نطلب بثأره من القتلة.
6) ويقصدون السيد جعفر الصدر نجل السيد الشهيد، بتعريض واضح بالقيادة السياسية المعروفة والمطروحة في الساحة الاسلامية العراقية.
7) الأمر المثير للعجب في هذه القراءات أن السيد الحكيم واعلامه فسّروا عبارة (آل الحكيم أهل الغدر) علىشهداء هذه الأسرة الكريمة في محاولة للتغطية على رمزها المعروف المقصود... فيما قال آخرون ان المظاهرة كانت بضع مئات من الاشخاص وليس آلاف كما نقل، وهكذا في كلموقف - فيما اعتبرتهم صحيفة لواء الصدر والمبلغ الرسالي بعض العملاء الذين لا يتعدون السبعين شخصا قدم اكثرهم من العراق لاثارة الفتنة وهم عملاء للمخابرات العراقية ... ويرد هذا القول ان الامن الايراني (الاطلاعات) قام بعد ايام باطلاق سراح جميع المعتقلين بعد ان تاكد من تاريخهم الجهادي وحضور اغلبهم في جبهات القتال ايام الحرب العراقية الايرانية أو من ابناء الانتفاضة الشعبانية الخالدة ...
8) نقلت (المبلغ الرسالي) في عددها الصادر 1 / آذار / 1999 معلقة على هذه التظاهرة والشعارات نصاً جاء فيه: (لكنْ من المؤسف جداً ان استغلت مجموعة من العراقيين هذه المسيرة لاطلاق هتافات باطلة ضد أسرة آل الحكيم وأدّت الى تشنّج الأجواء في اكثر من موقع).
9) ونؤكد أنهم كانوا يقصدون السيد محمد باقر الحكيم، والسيد محمد سعيد الحكيم وبعضأولادهم واخوانهم ممن كانت لهم مواقف وتصريحات سلبية من المرجع الشهيد وهم يحضرونمجلس فاتحته الآن...
نقل لي عدة شهود عيان ممن كانوا واقفين أمام باب المسجد ان البعض راحوا يرمونه بعلبالسكائر الفارغة والمملوءة، وبعضهم باللفافات التي يلفوّن بها رؤوسهم من شدّة البرد، وآخرونبأي شيء يعبّرون به عن انفعالهم وتشنجهم وربما حقدهم وسخطهم ومخزون غضبهم.