ღ بــصــمــة إبــداع ღ
بلاء أيّوب
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ ع...ِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}(الأنبياء/83- 84).
من منّا لم يسمع بأيّوب، هذا النبيّ الّذي قدّم أروع القصص في الصّبر على البلاء، حيث صار اسمه والصّبر والبلاء صنوين، فيقال: "بلاء أيّوب" و"صبر أيّوب".
اليوم أحببت أن أعرض لبعض الجوانب من قصّته، حيث تذكر سيرته أنّ الله رزقه أموالاً وأولاداً وقوّة في الجسم، لكن هذه الحال لم تدم، إذ ابتُلي ببلاء شديد نزل به دفعةً واحدة؛ فَقَدَ أمواله وكلّ ثروته، ومات أولاده، ثم أُصيب بعلّة شديدة في جسده، جعلته عاجزاً عن القيام والحركة، وكان في حالة دفعت النّاس وأقرب المقرّبين منه إلى الابتعاد عنه، ولا سيّما أنهم خافوا من انتقال مرضه إليهم بسبب العدوى. مأساة وبؤس بكلّ ما للكلمة من معنى.
أتت إليه زوجته يوماً، تحدّثه عن بؤس حالها، وعجزها عن تحمّل المزيد من المعاناة معه، ثم تطلب منه أن يدعو الله ليكشف عنه البلاء، فأجابها النبيّ أيّوب(ع) بلسانه النبويّ: "كم لبثت في الرّخاء؟ قالت: ثمانين سنة، قال(ع): كم لبثت في البلاء؟ قالت: سبع سنين، قال: أما أستحي أن أطلب من الله رفع بلائي وما قضيت فيه مدّة رخائي؟!". لكنّ زوجته تقرّر تركه، وكأنَّ الأمر كان فوق قدرتها، أضف إلى ذلك وساوس النَّاس والشّيطان.. ضغط اجتماعيّ وصحّيّ ونفسيّ جعلها تسقط في الامتحان وتتركه، لتكتمل بذلك صور البلاء عند أيّوب(ع).
وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحدّ، حيث العزلة والوحدة والفقر والمرض والهجران والنّكران، عندها فقط توجّه النبيّ أيّوب(ع) بدعائه إلى الله، عند هذا المستوى من البلاء فقط، تجرّأ على الطّلب إليه، ولكن بأيّ أسلوب توجّه إلى الله؟ هل دعاه بأسلوب الترجّي، أو بأسلوب العاتب، أو بأسلوب النّاقم والغاضب؟...
ماذا تتخيّلون دعا أيوب(ع)؟ نادى أيّوب ربَّه بكلّ حياء، وبكلّ خجل: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، لقد اكتفى بتوصيف حاله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وتوصيف حال ربِّه {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ما أعمق هذا التَّعبير! فهو لأدبه مع ربّه وثقته به لم يحدّد له ما يريد، لم يطلب منه شفاءً، أو تغيير حاله، لم يصرّح له، بل لمّح تلميحاً، ليس من باب الكبر، بل من باب الأدب والحياء.. تاركاً الأمر لله، فإن كان يرى المصلحة في شفائه فليشفه، وإن كان يراها في بقائه في المعاناة فليبق عليها.. وهذا معنى الثّقة بالله، أيّها الأحبّة، والرّضا بقضائه، فما عند الله خير، وهو أعلم بمصلحة عبده وخلقه، فلنترك الأمر له.. وفي هذا يقول الحديث القدسيّ: "ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من عبدي المؤمن، وإنّي إنما ابتليته لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصدّيقين عندي، إذا عمل برضاي وأطاع أمري".
سماحة السيد علي فضل الله