قال ابن أيبك الدواداري في حوادث عام (705هـ):لما كان يوم الإثنين 8/ رجب/ 705هـ طلب القضاة والفقهاء والشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مجلس الأمير جمال الدين الأفرم، نايب الشام المحروس بدمشق، وكان اجتماعهم بالقصر الأبلق. ثم سألوا الشيخ تقي الدين عن عقيدته، فأملى شيئا منها، ثم أحضر عقيدته (الواسطية) وقرئت في المجلس المذكور، وبحث فيها، وتأخر منها مواضع إلى مجلس آخر. ثم اجتمعوا يوم الجمعة، ثامن عشر الشهر المذكور، وحضر المجلس أيضا صفي الدين الهندي. وبحثوا مع الشيخ تقي الدين، وسألوه عن مواضع خارجا عن العقيدة. وجعل الشيخ صفي الدين يتكلم معه كلاما كثيرا، ثم رجعوا عنه واتفقوا أن كمال الدين ابن الزملكاني يحاققه من غير مسامحة، ورضوا بذلك الجميع، وافصل الأمر بينهم أنه أشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، يعتقد ما يعتقد الإمام الشافعي (ر) ورضوا منه بهذا القول، وانصرفوا على ذلك.فعند ذلك حصل من أصحابه كلام كثير وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا. فأحضر واحد منهم إلى عند القاضي جلال الدين الشافعي في العادلية، فصفعه وأمر بتعزيره، فشفعوا فيه. وكذلك فعل الحنفي بآخر وآخر من أصحاب الشيخ تقي الدين).ثم لما كان يوم الإثنين (22/ من الشهر) قرأ الجمال المزي المحدث، فصلا في الرد على الجهمية من كتاب (أفعال العباد) تصنيف البخاري (ر) قرأ ذلك في مجلس العام، (تحت النسر) فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا: ما قرئ هذا الفصل إلا ونحن المقصودون بهذا التكفير. فحملوه إلى قاضي القضاة الشافعي، فرسم بحبسه، فبلغ الشيخ تقي الدين (ابن تيمية) ذلك فقام حافيا في جماعة من أصحابه، وأخرج المذكور من الاعتقال.فعند ذلكاجنمع القاضي بملك الأمراء، وكذلك الشيخ تقي الدين (ابن تيمية) والنقبا، واشتط تقي الدين على القاضي، وذكر نايبه جىل الدين وأنه آذى أصحابه بسبب غيبة نايب السلطان في الصيد. فلما حضر نايب السلطان رسم بطلب كل من كثر كلامه من الطائفتين، وأمر باعتقالهم، ونودي في البلد بمرسوم سلطاني: (من تكلم في العقايد حل ماله ودمه، ونهب داره وهتكت عياله)وقصد نايب السلطان بذلك إخماد الفتنة الثايرة.ثم حكى المؤلف ما جرى بعد ذلك في آخر شهر رجب ويوم (28/ شعبان) ثم قال: فلما كان خامس رمضان وصل كتاب من الأبواب العالية.....وفيه: (وعرفونا ما كان وقع في زمان جاغان في سنة (698) بسبب عقيدة ابن تيمية (وفيه إنكار عظيم عليه) وأن تكتبوا صورة العقيدتين: الأولة والثانية (كذا في الأصل). فعند ذلك طلبوا القاضي جلال الدين الحنفي وسألوه عما جرى في أيامه ? فقال: (نُقل إلي عنه كلام، وسألناه فأجاب عنه) وكذلك القاضي جلال الدين الشافعي، لما طُلب أحضر نسخة العقيدة التي كانت أحضرت في زمان أخيه.ثم إنهم تحدثوا مع ملك الأمرا في أن يكاتب بسببهم ويسد هذا الباب، فأجاب إلى ذلك.فلما كان يو السبت (10/ رمضان المعظم) وصل مملوك ملك الأمرا على البريد المنصور، وأخبر أن الطلب على الشيخ تقي الدين (ابن تيمية) حثيث، وأن القاضي زين الدين ابن مخلوف المالكي قد قام في هذا الأمر قياما عظيما، وأن الأمير ركن ال ين بيبرس (الجاشنكير) معه في هذا الأمر. وأخبر بأشياء كثيرة جرت، مما وقع بمصر في حق الحنابلة، وأن بعضهم أهين، وأن القاضي المالكي والحنبلي جرى بينهم كلام كثير، فلما سمع ملك الأمرا ذلك رجع عن المكاتبة بسببهم، وأمر بتجهيزهم إلى الأبواب العالية وتوجهوا.فلما كان يو الجمعة (7/ شوال) وصل البريد، وأخبر أن كان وصول القاضي نجم الدين والشيخ تقي الدين (ابن تيمية) إلى الديار المصرية يوم الخميس (22/ رمضان المعظم) من السنة المذكورة.ولما وصل الشيخ تقي الدين في ذلك التاريخ، عُقد له مجلس في دار النيابة، بحضور الأمير سيف الدين سلّار، وأحضروا العلماء والأئمة والقضاة الأربعة، وحضر الأمير ركن الدين بيبرس. فتكلم القاضي شرف الدين ابن عدلان الشافعي، وادعى على الشيخ تقي الدين (ابن تيمية) دعوى شرعية في أمر عقيدته.فعند ذلك قام الشيخ تقي الدين وحمد الله تعالى وأثنى عليه وتلجلج، ثم أراد أن يذكر الله ويذكر عقيدته في فصل طويل. فقالوا: (يا شيخ: الذي بتقوله معلوم، ولا حاجة إلى الإطالة، وأنت قد ادعى عليك هذا القاضي بدعوى شرعية، أجب عنها).فأعاد القول في التحميد، وحاد عن الجواب، فلم يُمكّن من تتمة تحاميده. فقال: عند من هي هذه الدعوى? فقالوا عند القاضي زين الدين المالكي. فقال: (عدوي وعدو مذهبي) فكرروا عليه القول مرارا، ولم يزدهم على ذلك شيئاً. وطال الأمر. فعند ذلك حكم القاضي المالكي باعتقاله على رد الجواب، فقال الشيخ: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) فأقاموه من المجلس واعتقل وسجن أيضا إخوته في برج من أبراج القلعة.فبلغ القاضي أن جماعة من الأمرا يترددون إليه، وينفذون له المآكل الطيبة. فطلع القاضي واجتمع بالأمير ركن الدين في قضيته وقال: (هذا يجب عليه التضييق لإذا لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره) فنقلوه هو وإخوته ليلة عيد الفطر إلى الجب بالقلعة.ثم ذكر المؤلف ما حكم به قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة على قاضي القضاة شرف الدين الحنبلي من ضرورة تجديد إسلامه وقول شمس الدين القروي المالكي له ( قم جدد إسلامك وإلا لحقوك بابن تيمية، وأنا أحبك وأنصحك. فخجل، فلقنه القاضي بدر الدين ابن جماعة القول، فقال مثل قوله، وانفصل الحال.قال: ثم كتب إلى دمشق كتاب يتضمن أن مولانا السلطان خلد الله ملكه قد رسم: (أي من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه)وبعد صلاة الجمعة حضروا القضاة جميعهم بمقصورة الخطابة بجامع دمشق، ومعهم ركن الدين بيبرس العلائي أمير حلب، حاجب الشام يوم ذاك، وجمعوا جميع الحنابلة، وأحضر تقليد قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى باستمراره على القضا وقضا العسكر ونظر الأوقاف مع زيادة المعلوم. وقرأه زين الدين أبو بكر. وقرئ عقيبه نسخة الكتاب الذي وصل فيما يتعلق بمخالفة عقيدة الشيخ تقي الدين ابن التيمية، وإزام الناس بذلك، خصوصا الحنابلة، فكان ما هذا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثيل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنة والكتاب، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير. وننزه الخالق عن التحيز في جهة، لقوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير). ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكر في آلاء الله، ونهى عن التفكر في ذاته.صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيد الله بهم قواعد الدين الحنيفي ما شرع.، فأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع. وبعد:فإن العاقيد الشرعية، وقواعد الإسلام المرعية، وأركان الإسلام العلية، ومذاهب الدين المضية، هي الأساس الذي يبنى الإيمان عليه، والمؤمل الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق التي من سلكها (فقد فاز فوزا عظيما) ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما.فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد زمامها، وتصان عقائد هذه الامة عن الاختلاف ، وتزان قواعد الأيمة بالائتلاف ، وتخمد ثوائر البدع ، ويفرق من قوتها ما اجتمع .وكان التقي ابن التيمية في هذه المدة قد سلط لسانَ قلمه ، ومد عنان كلمه، وتحدث في مسايل الذات والصفات ، ونص في كلامه على أمور منكرات ، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما يخفيه السلف الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام ، وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام .وأشهر من فتاويه في البلاد ما استخف به عقول العوام، فخالف في ذلك علماء عصره ، وأئمة شامه ومصره، وبعث رسائله إلى كل مكان، وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان. ولما اتصل بنا ذلك، وما سلك مريدوه من هذه المسالك، وأظهروه من هذه الاحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه (استخف قومه فأطاعوه) حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت والتجسيم ، قمنا في الله تعالى مستعظمين لهذا النبأ العظيم ، وأنكرنا هذه البدعة، وأنفنا أن نسمع عن من تضمه ممالكنا هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون ، وتلونا قوله تعالى : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)وتقدمت مراسمنا باستدعاء التقي ابن التيمية المذكور إلى أبوابنا عندما شاعت فتاويه شاما ومصرا ، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا: ( لقد جئت شيئا نكرا ).ولما وصل إلينا الجمع أولوا الحل والعقد، وذوو التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام ، وحكام الأنام ، وعلماء الدين ، وفقهاء المسلمين ، وعقد له مجلس شرع، في ملأ من الأئمة وجمع، فثبت عند ذلك عليه جميع ما نسب إليه بمقتضى خط يده، الدال على منكر ومعتقده.وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه ( ستكتب شهادتهم ويسألون ). وبلغنا أنه قد استُتيبَ مرارا فيما تقدم ، وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك وأقدم ، ثم عاد بعد منعه ، ولم يدخل تلك النواهي في سمعه .ولما ثبت ذلك في مجلس الحكم العزيز المالكي، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرف والظهور. ومرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك، أو يغدو له في هذا القول متبعا، أو لهذه الألفاظ مستمعا، أو يسري في التشبيه مسراه، أوأن يفوه بجهة للعلو مخصصا أحدا كما فاه، أو يتحدث إنسان في صوت أو حرف، أو يوسع القول في ذات أو وصف، او يطلق لسانه بتجسيم ، أو يحيد عن الطريق المستقيم، أو يخرج عن رأي الأمة أو ينفرد عن علماء الأئمة، أو يحيز الله تعالى في جهة، أو يتعرض إلى حيث وكيف ، فليس لمعتقد هذا إلا السيف .فليقف كل واحد عند هذا الحد ، ف(لله الأمر من قبل ومن بعد) فليُلزَم كلُّ واحد من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة، والخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله به من التمسك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة ، فإنه من خرج عن أمر الله تعالى (فقد ضل سواء السبيل) وليس له غيرالسجن الطويل مستقره من مقيل.ومتى أصروا على الامتناع وأبوا إلا الدفاع، فليس لهم عندنا حكم ولا قضاء ولا إمامة، ولا نسنح لهم في بلادنا بشهادة ولا منصب ولا إقامة. ونأمر بإسقاطهم من مراتبهم وإخراجهم من مناصبهم، وقد حذرنا وأعذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا.فليقرأ مرسومنا هذا عللا المنابر، وليكون أعظم زاجر وأعدل ناه وآمر، وليبلغ الغايب الحاضر.والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه.وكتب هذا المرسوم عدة نسخ، ونفذ إلى ساير الممالك الإسلامية.وتولى قراية هذا المرسوم الوارد بدمشق القاضي شمس الدين محمد بن شهاب الدين محمود الموقع، وبلَّغ عنه ابن صبيح المؤذن.وأحضروا الحنابلة بعد ذلك، واعترفوا عند قاضي القضاة جمال الدين المالكي بأنهم يعتقدون ما يعتقده الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ر) وهو قوله: (آمن بالله وما جاء عن الله عن من آمن بالله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.انتهى عن (كنز الدرر) للدواداري (ج9 ص133 حتى 143) ثم ذكر ابن أيبك أسباب هذه الفتنة، تحت عنوان: (ذكر السبب الموجب لهذه الفتنة)قال: وذلك أن بعض أصحاب الشيخ تقي الدين ابن التيمية أحضر للشيخ كتابا من تصانيف الشيخ محيي الدين ابن العربي يسمى (فصوص الحكم) وذلك سنة (703) فطالعه الشيخ تقي الدين فرأى فيه مسائل تخالف اعتقاده، فشرع في لعنة ابن العربي، وسب |أصحابه الذين يعتقدون اعتقاده، ثم اعتكف في شهر رمضان وصنف نقيضه وسماه (النصوص على الفصوص) وبلغه أن شيخ الشيوخ كريم الدين شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة المحروسة له اشتغال بمصنفات ابن العربي، وأنه يعظمه تعظيما كبيرا، وكذلك الشيخ نصر المنبجي. ثم إن الشيخ تقي الدين صنف كتابين فيهما إنكار كثير على تآليف ابن العربي، ولعنه فيهما مصرحا، ولعن من يقول بقوله، وسيّر الكتاب الواحد للشيخ نصر المنبجي، والآخر للشيخ كريم الدين. فلما وقف عليه الشيخ نصر حصل عنده من ذلك أمر عظيم، وتألم له تألما بالغا، وحصل له إنكاء شديد.وكان الشيخ نصر كما تقدم من الكلام منزلته عند الأمير ركن الدين بيبرس (الجاشنكير) العالية، وأن بيبرس لا يقوم ولا يقعد إلا به في ساير حركاته.وكان ساير الحكام من القضاة والأمراء وأرباب المناصب يترددون إلى عند الشيخ نصر لأجل منزلته عند بيبرس الجاشنكير.فحضر عنده القاضي زين الدين ابن مخلوف المالكي عقيب وقوف الشيخ نصر على كتاب الشيخ تقي الدين (ابن تيمية) فأوقف القاضي على الكتاب المذكور، فقال له القاضي: أوقف الأمير ركن الدين عليه وقرر معه ما أحببت وأنا معك كيف شئت. وألزم الأمير ركن الدين بطلبه إلى الديار المصرية وتسأله عن عقيدته، فقد بلغني أنه أفسد عقول جماعة كبيرة، وهو يقول بالتجسيم، وعندنا: من اعتقد هذا الاعتقاد كفر ووجب قتله.فلما حضر الأمير ركن الدين بيبرس (الجاشنكير) عند الشيخ نصر على عادته، أجرى له ذكر ابن التيمية وأمر عقيدته، وأنه أفسد عقول جماعة كبيرة، ومن جملتهم نايب الشام وأكبر الأمراء الشاميين، والمصلحة تفتضي طلبه إلى الأبواب العالية، ويطلب منه عقيدته، وتقرأ على العلماء بالديار المصرية، من المذاهب الأربعة، فإن وافقوه وإلا يستتيبوه ويرجعوه، ليرجع عن مذهبه واعتقاده ساير من لعب بعقله من الناس أجمعين. ثم ذكر له ذنوبا أخر حتى حرّض بيبرس على طلبه.ولهذا الكلام تتمة في كنز الدرر (ج9 ص144) قال في آخره: (وسيأتي ذكر بقية ما جرى لتقي الدين ابن التيمية في سنة (706) إن شاء الله تعالى.