2003-3-10
بـــيـــان
سماحة آية الله المجاهد السيد محمد باقر الحكيم (دام ظلّه)
إلـى أبناء الشعب العراقي المظلوم بمناسبة حلول شهر محرم الحرام ـ لعام 1424هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفناءك، وأناخت برحلك، عليك منـّي سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله الله آخر العهد منـّي لزيارتكم، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
أيها الأخوة المؤمنون..
أيها العراقيون الحسينيون..
يا أبناء الشعب العراقي البطل..
السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته.
عظّم الله أجورنا وأجوركم بمصاب أبي عبدالله الحسين وأهل بيته الكرام وأصحابه الأبرار.
تمر علينا هذه الأيام ذكرى المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى والملحمة الانسانية التاريخية والتي كانت ولا تزال تتجدد مع الأيام والليالي لتمد الانسان فيها بالهداية، والعزيمة، وتقدّم له الدروس، والعبـر. وتربط حاضره بالماضي وتنيـر له طريق المستقبل.
وإننا والمسلمون في الوقت الذي نواجه فيه على مستوى العالم كلّه التحديات الكبيرة، نعيش ظروفاً بالغة الحساسية، حيث تتعرض فيها أمتنا الاسلامية إلى هجوم واسع من قبل قوى الاستكبار العالمي ويتعرّض شعبنا العراقي بصورة خاصة إلى أخطار فادحة في مقدمتها استعدادات النظام بذريعة مواجهة الحرب الأمريكية وقوى التحالف ـ لتدمير العراق وإنزال أكبر قدر من الخسائر في الأرواح والبنـى التحتية للعراق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تعد الولايات المتحدة الأمريكية العدّة لإحتلال العراق والسيطرة على مقدراته لتقيـم حكماً عسكرياً أمريكياً بذريعة السيطرة على الأوضاع الأمنية ونـزع أسلحة الدمار الشامل ومحاربة الارهاب وبناء الديمقراطية على الطريقة الأمريكية.
كما تتعرض في الوقت نفسه الحقوق المهضومة لعامة أبناء الشعب العراقي إلى الأخطار مرة أخرى سواء في كردستان العراق أو جنوبه أو وسطه.
ولذلك لابد للشعب العراقي والشعوب الاسلامية الأخرى أن يضع أمامه الأهداف الثلاثة التالية:
أولاً: الخلاص من الاستبداد والطغيان الداخلي الذي يمارس من خلال الانتهاك للحرمات ومصادرة الحريات والاضطهاد القومي والطائفي والتمييز الطبقي ومختلف ألوان الفساد في الأرض.
ثانياً: مقاومة الهيمنة الأجنبية والحرب الصليبية الجديدة بثوبها المدني الزاهي والتي تتخفىتحت شعارات محاربة الارهاب والتطرّف ولكنها في الواقع تسعى لتدمير الثقافة الاسلامية والسيطرة على الثروات الطبيعية.
ثالثاً: هضم الحقوق العامة لغالبية أبناء الشعوب وممارسة الظلم والعدوان على الطبقات المستضعفة واستغلالها وإبعادها عن دورها الحقيقي في الحياة الاجتماعية وقمع إرادتها وحركتها باتجاه التطور والنمو والاصلاح.
أيها الأخـوة المؤمنـون..
إنّ هذه الصورة القاتمة السوداء التي تواجهها أمتنا الاسلامية والعربية والتي يمكن أن نجد مصاديق لها واضحة فيما يجري في فلسطين وما يتعرّض له شعبها الممتحن وكذلك فيما يعانيه أبناء الشعب العراقي ويتهددهم من أخطار فادحة.. نرى بازاء هذه الصورة النور الهادي والوجه المشرق للنهضة الحسينية التي كانت ولازالت كالشجرة الطيبة المباركة {أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين باذن ربها} هذه النهضة التي لابد أن نستلهم منها الدروس والعبر في مختلف ميادين حياتنا الاجتماعية والثقافية والروحية، كما اننا بأشد الحاجة إليها.
وبهذا الصدد أود أن أشير إلى بعض معالم هذه المجالات وإلى بعض الدروس القيـّمة مما ينفعنا في حياتنا الحاضرة ومواجهتنا الفعلية.
الأول: انّ النهضة الحسينية هي أفضل سبيل لما نحتاجه من تعبئة روحية ومعنوية في الحرب النفسية التي يمارسها الأعداء ضد إرادتنا واستقامتنا من خلال القمع والقتل والتشريد والارهاب واستعراض العضلات والامكانات العسكرية والتسليحية والضغوط السياسية، حيث تمكنت هذه الثورة أن تحقق النصر للدم والشهادة والصبر والصمود على الجيوش الجرارة للحكم الأموي وقدراته وإمكاناته العظيمة.
الثاني: إنّ النهضة الحسينية خير مورد ومعين لترسيخ القيم والمبادئ التي نحن والعالم كلّه بأشد الحاجة إليها، قيم ومبادئ الحق والعدل والعزّة والكرامة والاستقلال والاصلاح بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفض الظلم والطغيان والاستبداد.
الثالث: إنّ النهضة الحسينية خير مدرسة لتقديم الدروس الأصيلة في الأخلاق الانسانية الربانية في مجال الفرد والمجتمع دروس الاباء والشجاعة والبذل والعطاء والرحـمة بالناس والتراحم والتناصح والتواد في الله والتعاون على البر والتقوى والترفُّع عن شهوات الدنيا الدنية الفانية وطلب الآخرة الباقية، والصبر على الآلام والمحن والتوكل على الله تعالى والرضا بما قضى وقدّر، والوفاء بالعهود والمواثيق من الأخيار ونقض العهود والغدر والخيانة من الأشرار.
الرابع: إنّ النهضة الحسينية تقدّم لنا منهج الاسلام الواضح في السياسة والمجتمع في أهدافها وأساليبها وخططها ووسائلها في عصر تحولت فيه السياسة إلى الكذب والخداع والتضليل وإلى الهيمنة والتسلّط والاستئثار.
الخامس: إنّ النهضة الحسينية لأفضل طريق ومنهج للتربية والتزكية والتطهير للمشاعر والعواطف الانسانية لتتفاعل مع قضايا الحق والعدل ومع قضايا الاصلاح والخير، ومع قضايا الشعوب المستضعفة والتمييز الطبقي والقومي وشراء الضمائر.
إنّ هذه المجالات للتأثير في الواقع المعاش والاستثمار للنهضة الحسينية في حياتنا المعاصرة تفتح أمامنا الآفاق الرحبة في عملية بناء الأمة وتجديد حياتها واصلاح أمرها والوصول بها إلى المستوى العالي من الكمال والتطور، حيث تمكنت هذه النهضة أن تضع ذلك في الصدر الأول للاسلام، وهي قادرة ـ باذن الله ـ على ذلك في هذا العصر وفي كل عصر وزمان.
لقد كشفت قضية الامام الحسين (عليه السلام) ونهضته عن كثير من الحقائق والسنن التاريخية التي نحتاج أن نتعلّمها ونفهمها في مواجهاتنا الواسعة التي نخوضها في العصر الحاضر.
الحقيقة الأولى: إنّ مقاومة الطغيان والاستبداد المطلق واجب شرعي لا يجوز التهاون فيه، وهو في الوقت نفسه أمر ممكن مهما اتسمت الظروف المحيطة بالانسان بالقسوة والشدة أو المحاصرة والعزلة.
الحقيقة الثانية: إنّ البذل والعطاء والشجاعة لابد أن تنتصر ـ باذن الله ـ على القوة المادية مهما اختلّت الموازنة بينهما، إذا اقترن ذلك بالاخلاص لله تعالى والتوكل عليه واستمداد المعونة منه، كما انّ العزّة والكرامة مرهونة بهذا البذل والعطاء.
الحقيقة الثالثة: إنّ إقامة الحجة على الناس ومنهم الأعداء، وبذل الجهد في الحوار والبلاغ والنصيحة واجب شرعي وأخلاقي، كما انه منهج اسلامي في الدعوة إلى الله تعالى مهما بدت أبواب العقول والقلوب موصدة والمواقف متصلبة وبعيدة عن الحق، أو متصفة بالعناد والانحراف والضلال، لأنّ الحقيقة من أجل أن تتضح وتنكشف للأجيال كلها لابد أن تكون مستندة لهذه الحجة والحوار.
الحقيقة الرابعة: إنّ الوحشية والقسوة والاستهتار بالحرمات والكرامات من الصفات اللازمة للطغيان والاستبداد والانحراف والضلال للمرتدين والمنافقين في كل الأزمنة والعصور، ولابد للدعاة والرساليين أن يضعوا في حسبانهم التعرض لذلك والتصدي بكل قوة لكسر شوكة الطغاة والمستبدين.
الحقيقة الخامسة: إنّ الصبر والصمود والاستقامة على الطريقة والثبات على المبادئ والقيم والحق سوف يحقق الغلبة بالاسناد والتأييد الالهي بقانون {إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنـّة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا والآخرة...} وبسنة {وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا}.
وإنّ هذا النصر لابد أن يكون مقروناً بالامتحان والبلاء والتعرّض للبأساء والضراء {أم حسبتم أن تدخلوا الجنـّة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا انّ نصر الله قريب}.
أيها الأخوة المؤمنون الحسينيون...
إنّ الدماء الطاهرة الزكية التي أريقت على أرض العراق في مثل هذه الأيام اختلطت بتراب العراق ومائه وهواءه فأصبح العراق والعراقيون حسينيين في كل عصر وزمان، وتحملوا مسؤولية هذا الدم الزكي الطاهر منذ الأيام الأولى، فبادروا إلى أخذ الثأر من جـميع أولئك الذين شاركوا في هذه الجريمة التاريخية الشنعاء، ولم يكتفوا بذلك حتى حملوا مشعل هذه الثورة إلى مختلف أقطار العالم الاسلامي، والتزموا بمبادئها وقيمها في مواجهة الطغيان الداخلي والهيمنة الخارجية، وتمسّكوا بحبّهم لأهل البيت (عليهم السلام) وللحسين وصحبه الأبـرار وشعائره الحيـّة.
وها هم الآن يواجهون التحدّيات الجديدة في هذا الوقت والزمان ليعبّروا مرة أخرى عن هذا الولاء والالتزام والعهد والميثاق.
فبعد أن صمد العراقيون في وجه الطغيان الداخلي لنظام العفالقة المجرمين الذين لم يشهد تاريخنا المعاصر مثيلاً لحكمهم الاستبدادي العنصري الطائفي، وتمكنوا من أن يحافظوا على هويتهم وانتمائهم إلى الاسلام وأهل البيت (عليهم السلام) وإلى الحق والقيم والمثل يقدّمون مواكب الشهداء واحداً بعد آخر، والتضحيات الغالية تلو الأخرى، يواجه العراقيون الآن تحدياً آخر في هذه الأيام وإمتحاناً آخر عسيراً وهو محاولات الهيمنة التي تبذلها قوى الاستكبار العالمي وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ولابد لهم أن يتحملو مسؤولياتهم الشرعية والأخلاقية والانسانية ليعبـّروا مرة أخرى عن عزّتهم وكرامتهم وتمسّكهم بالحرية والاستقلال والعدالة.
(حرية) الايمان بالله تعالى وحده لا شريك له، والتحرر من كل ألوان العبودية والأغلال والضغوط.
و (الاستقلال) من الهيمنة الخارجية والارادة المستقلّة في تقرير المصير واختيار الأصلح والاعتماد على النفس والذات دون وصاية خارجية وهيمنة أجنبية.
و (العدل) في العلاقة مع الله والنفس والانسان الآخر والمجتمع والطبيعة ليحوّلوا العراق إلى عراق الأمن والاستقرار والرفاه والاعمار والأخوّة الاسلامية والوحدة الوطنية التي يشارك فيها الجميع لتحقيق الأهداف الصالحة.
إنّ هذه الأهداف الصالحة لا يمكن أن تتحقق للعراقيين إلاّ من خلال الاخلاص لله في العمل والالتزام بالوظيفة الشرعية والأخلاقية ووحدة الكلمة والصف، والارادة القوية، والتمسّك بالأرض، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الخاصة الشخصية أو الفئوية، والوعي للظروف والحذر من الأعداء وخدعهم وأضاليلهم، والثبات على المبادئ، والمقاومة للطغيان والهيمنة والفساد، والالتفاف حول القيادة الصالحة، وتنظيم الصفوف وتوزيع المسؤوليات والأدوار وأخذ زمام المبادرة، وتحمّل المسؤولية كل من موقعه الخاص، وبذل الجهد وتحمّل المصاعب، واستمداد العون والنصر من الله تعالى.
وإني أدعو نفسي وجـميع اخواني العراقيين وجـميع المخلصين والأولياء الصالحين أن يأخذوا بهذا المنهج الاسلامي الأصيل في مواجهة الأحداث والتطورات الحساسة الصعبة التي نواجهها في الأيام القريبة، ومنها أخطار الحرب والصراع الشرس غير الشريف الذي يدور الآن بين النظام المجرم وقوى الهيمنة الخارجية.
وانّ على اخواننا العراقيين جـميعاً عسكريين وإداريين ومدنيين في المدن والأرياف ولاسيما أبناء القوات المسلحة ورؤساء العشائر العراقية و (قوى المقاومة الاسلامية) أن يبذلوا كل جهودهم وما في وسعهم في الفرصة المناسبة، وعندما يفقد النظام قدرته على مسك الأمور وفرض وجوده بالقوة والقهر أن يكونوا هم البديل الصالح ويحافظوا على وحدتهم ويتمسّكوا بأرضهم وبلادهم ويتجنّبوا كل أعمال الانتقام أو الثأر، وأن يكون رائدهم العفو والصفح وتحكيم القانون والشرع بصورة مضبوطة، وأن يأخذوا بنظر الاعتبار انّ الجميع هم أخوة لنا تعرضوا للضغوط والقهر.
ونحتاج في هذه الظروف إلى المحبة والألفة والتعاون ونسيان الماضي وفتح صفحة جديدة في حياتنا نغض فيها الطرف عن الأخطار والاشتباهات ونستوعب الجميع بروح المحبـّة والأخاء مع الحذر من الأعداء والمندسين.
كما انّ من الواجب الشرعي والسياسي الالتزام بالمحافظة على الأموال العامة والمؤسسات الخدمية الضرورية، ويفرضوا الأمر الواقع في قدرتهم وصلاحياتهم لإدارة أمورهم بأنفسهم ولا يتركوا مجالاً للأجانب أن يتولوا شيئاً من شؤونهم أو يفرضوا عليهم الوصاية، وأن يستفيدوا من التجارب الماضية ولاسيما التجربة التي مرّ بها شعبنا في انتفاضة شعبان المجيدة وتضحياتها الغالية.
انّ الشعب العراقي البطل مؤهل ـ باذن الله تعالى ـ لأن يتحمل هذه المسؤولية الشرعية والاخلاقية وأن يثبت ذلك من خلال العمل وضبط النفس وتحمل الصعاب.
أسأل الله تعالى أن يحقق النصر والفرج والحرية والاستقلال والعدل والأمن والطمأنينة والاستقرار لعراقنا الجريح ولشعبنا البطل وأن يدفع عنهم كل سوء ومكروه، وأن يتغمّد شهداءنا الأبـرار ومراجعنا العظام برحـمته الواسعة وينـزل السكينة والنصر على المجاهدين والعاملين، وأن يثبت لهم قدم صدق مع الحسين وأصحاب الحسين يوم الورود، وما النصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم، وهم نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله ربّ العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
6 محرم الحرام 1424هـ
محمد باقر الحكيم