العراق: الطائفية والقومية
حازم صاغيّة الحياة 2003/07/19
بعد 1958 حاول عبد الكريم قاسم التغلب على الطائفية في العراق. حاول أن يُحل محلها الوطنية العراقية الجامعة. قاسم، إبن الأب السني والأم الشيعية، كان حسّاسـاً للموضوع الطائفي. فكّر في فتح بغداد أمام هجرة جنوبية تؤدي إلى اندماج من نوع الاندماج الذي أحدثته الهجرات الإيطالية من الجنوب إلى الشمال. أقام في العاصمة مدناً وأحياءً يتقرر سكنها على أساس مهني وسلكي. أكد على علمانية معتدلة لا تقطع مع الدين ولا تستفزّ الديّنين.

في 1963 أسقط البعثيون والقوميون عبد الكريم قاسم. سبق إسقاطَه حملة ناصرية ضارية عليه. سبقته تعبئة المؤمنين السنّة ضده بصفته "شعوبياً". معادياً للعروبة. يتصدى للزعيم المصري ومشروعه القومي. يُحل الوطنية العراقية محل عروبية إسلامية تنوي تحرير فلسطين.

يومها عبّر "شاعر البعث" سليمان العيسى عن "طبيعة المرحلة":

"هذا العراق ليصبغوه دماً

غير العروبة فيه لن يجدوا"

القومية العربية، في العراق، قتلت العراقية اللاطائفية. بعد ذاك كان حكم ضباط سنة طائفيين أبرزهم عبد السلام عارف. ثم عاد حزب البعث وجاء صدام و"المثلث السني" ونزل الاضطهاد بالجميع، لا سيما الأكراد والشيعة. الإيديولوجيا التي باسمها حصل ما حصل كانت: القومية العربية.

الآن: ربما كانت هناك مآخذ كثيرة على مجلس الحكم الانتقالي في العراق. على صلاحياته. على تمثيليته. على انبثاقه من احتلال أميركي. لكن شيئاً واحداً لا يجوز ترداده: أن مجلس الحكم الانتقالي ومن ورائه الأميركان يخترعون الطائفية. وهذا، خصوصاً، لا يجوز أن يصدر عن محسوبين على الوعي القومي.

الأخيرون مُطالَبون بشيء مختلف تماماً: مراجعة دورهم والإقرار بأن تمثيلية مجلس الحكم أوسع من أية تمثيلية أقاموها أو حلموا بها في أي من بلدانهم. وبالتالي: مراجعة وعـيهم الذي ما أن يمد يده إلى بلد من البلدان حتى... يفتته. والعراق أحد معالم نجاح العقل القومي في تفتيت البلدان.

ولننتبه الآن إلى البلد المذكور. ولكن أيضاً إلى ما يتعداه: نعم، منذ خـلافة علي بن أبي طالب لم يحصل شيعة عـرب على النسبة التمثيلية التي عبّر عنها مجلس الحكم الأخير. وهذا له أصداؤه وآثاره ومردوداته. وما تعفف عن قوله السياسيون العرب يخوض فيه، بطريقتهم، المثقفون العرب (راجع في "الحياة" رد أدونيس على محمد عمارة في 10 تموز/ يوليو الجاري، وتعقيب محمد جابر الأنصاري في 15 منه).

إن ما يحصل إذ يردّ إلى أسباب الكبت المديد، يدفع إلى التفكير بتجاوز الطائفية بصفتها الأداة المرغوبة في الرد على الكبت. يصح هذا في العراق كما في غير العراق.

فكأن حساب التاريخ ينتصب في وجوهنا جميعاً: إما الخروج التدريجي من الطـائفية بسلوك أقرب ما يكون إلى العدالة، على قاعدة من الولاء الوطني الحديث، وإما الاستنقاع في الطوائف تحت رايات "توحيدية" لا ينجم عنها إلا التفتيت الزاهي. تذكروا "عروبة لبنان" وجعل الأردن "هانوي العرب"...