تأملات مستقبلية حول العملية السياسية في العراق (6) - ميثم الجنابي

[05-06-2006]


من بين البديهيات السياسية الكبرى التي يتوقف عليها مسار العملية السياسية المستقبلية في العراق هي استحالة تمثيل الفكرة العامة والبقاء ضمن حدود المكونات الجزئية. وهو سر الخلل الفعال في بقاء "العملية السياسية" العراقية تتراوح في محلها. فعندما نطبق ذلك، على سبيل المثال على فكرة الوطنية العراقية العامة والديمقراطية الشرعية، فإننا نقف أمام إشكالاتها النظرية والعملية. بمعنى كيفية ومستوى فهم المضمون الحالي والمستقبلي للفكرة العامة، ومن هي القوة الاجتماعية والسياسية القادرة على تمثلها وتطبيقها بمعايير الرؤية الوطنية والديمقراطية والشرعية.
فمن الناحية النظرية يعاني الوعي السياسي العراقي، وبالأخص عند الأحزاب من تدن مريع في استيعابه أحيانا حتى لبديهيات الفكر السياسي العلمي. والسبب يقوم في تضافر الرؤية الحزبية وتقاليدها الضيقة التي طابقت بين رجل السياسة ورجل الحزب. وكلاهما أديا في ظل غياب الديمقراطية والشرعية والتراكم الطبيعي إلى صعود أنصاف المتعلمين والمغامرين (ولعل احد النماذج "الرفيعة" المستوى بهذا الصدد هو أن يكون أحد "نافذي القول والفعل" في الدولة مثل برزان التكريتي لا يتقن حتى الإملاء في العربية كما هو جلي فيما نشر عنه مؤخرا من "آراء ومواقف إستراتيجية"!! وهي الصفة التي كانت تميز كل "زعران" الدولة الصدامية. كما أنها الصفة شبه السائدة بين أغلب الساسة العراقيين الحاليين!!). وقد ترتب على هذا الصعود انتشار صفة الجهل بماهية ووظيفة السياسة، باعتبارها فن إدارة شئون الدولة والمجتمع وليس الوصول إلى السلطة (بوصفها أداة الاستثمار الضيق والربح الرخيص والتعويض عن مختلف نماذج عقدة النقص، كما نراه على سبيل المثال في اندفاع مختلف الفاشلين في ميدان الإبداع والحياة الحرة صوب الانضمام إلى مختلف الأحزاب والجمعيات والحركات أو حتى الانهماك العنيد في صنع صورها الهشة!!.
وليس مصادفة أن تكون أكثر الأمور بديهية أشدها إثارة للصراع. وهو خلاف لا علاقة له بالأبعاد الحرة والمستقلة للوعي النقدي بين الاتجاهات والأفراد، بقدر ما انه يعبر عن حالة الطفولة والتخلف!! وهي حالة لم تكن معزولة عن زمن الفراغ والتفريغ المريع الذي "صنعته" التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. ومن ثم مستوى خراب الثقافة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وهو الأمر الذي يجعل من ابسط البديهيات "اكتشافا" و"إبداعا". وذلك لان كل ما في العراق هو جزء من صيرورة جديدة متراكمة على أرضية رخوة ومستنقع لم يجف بعد! وهو أمر جلي في حال تناول فكرة الوطنية العامة والديمقراطية. فهي أفكار تبدو في مظهرها غاية في الوضوح. لكن حالما ننقلها إلى حيز التطبيق العملي، فإننا نقف أمام اختلاف وتباين وتضاد كبير ومتنوع تجاه تحديد ماهيتهما وتمثيلهما! وهو اختلاف وتباين وتضاد لا علاقة له بالفكرة بحد ذاتها، بقدر ما يستمد مقوماته من عدم قدرة القوى الجزئية والمجزئة لان تكون حاملة الأفكار الكبرى والعامة. إذ أن مجرد الادعاء بتمثل هذه الأفكار العامة من قبل قوى جزئية يجعلها بالضرورة أداة للمراوغة والاحتيال والغنيمة! أي تصبح طعما للاصطياد!
فالفكرة الكبرى حالما تصبح جزء من برنامج القوى الجزئية، فإنها تؤدي بالضرورة إلى طريق مسدود. وهو أمر جلي في مجرى الصراع العنيف، الظاهر والمستتر حول "الوطنية العراقية" من جانب مختلف القوى السياسية ضد الجعفري واتهامها إياه بالانحراف عن "الإجماع الوطني" والسعي "لتغليب الطائفية" وما شابه ذلك. وتبين لاحقا، بان "الاتفاق الوطني" لإسقاط الجعفري لم يكن أكثر من "إجماع" على الحصول على غنيمة. بحيث جعل من الفكرة الوطنية العامة شعارا سياسيا لتخريب الفكرة الديمقراطية والشرعية. وهو أمر جلي من خلال مطابقة فكرة "الوطنية العراقية" و"الإجماع الوطني" مع فكرة استبدال "الاستحقاق الانتخابي" "بالاستحقاق الوطني". وهو استبدال يكشف طبيعة القوى الجزئية وليس الفكرة. إذ لا يمكن لفكرة الاستحقاق الانتخابي ألا تكون فكرة وطنية، بينما لا يمكن للفكرة الوطنية أن تكون نفيا أو نقيضا للفكرة الديمقراطية. وإلا فان كل النضال والتضحيات الهائلة التي قدمها الشعب العراقي ضد الدكتاتورية تصبح هباء ولا معنى لها. دعك عن مفارقة الظاهرة نفسها. إذ أن وصول القوى السياسية إلى هرم السلطة الحالية، أي تلك التي جعلت من "الاستحقاق الوطني" شعارا ضد الجعفري، كان بفضل الغزو الأمريكي و"نشر الديمقراطية" وليس بفضل فكرة الاستحقاق الوطني!!
أما القوى التي جعلت من "المقاومة ضد المحتل" من اجل "تحرير العراق وعروبته"، فقد كشفت عن استحالة تحقيقها بفعل طابعها الجزئي، أي طائفيتها السياسية (السنية). ومن ثم لم تكن فكرة التحرير تعادل فكرة الحرية، كما أن شعار عروبة العراق لم يكن أكثر من عرابة السلطة! بمعنى أنها كشفت عن أن "العروبي" هو مجرد عراب السلطة! وليس مصادفة أن تختلط الأفكار الكبرى عن "عروبة العراق" و"الاستحقاق الوطني" و"محاربة الطائفية" عند القوى العربية الجزئية لتكشف عن فضيحتها الفعلية في اعتبار مجموعة أياد علاوي "العراقي" شخصا وتيارا "لا يمكن إدراجه ضمن السنة والأكراد"(!) من جانب أولئك الذين كانوا للامس القريب لا تنفك تهمة المحاصصة الطائفية من التردد على خطابهم السياسي بقدر مرات الشهيق والزفير. وهي صورة يمكن أن نعثر فيها من حيث الجوهر على معنى اللهاث وراء السلطة. وحالما جرى بلوغ الاقتراب الأولي من أبوابها جرى اكتشاف "الكينونة الشيعية" لأياد علاوي!! وهو "اكتشاف" يكشف أولا وقبل كل شيء عن الأبعاد الطائفية في التكتلات "العراقية" بوصفها طائفية سياسية سنية، أي بلا أغطية ولا رتوش، أي كما هي منذ بدء سقوط الصدامية. وهي خاتمة تكشف بدورها عن الطابع الجزئي لهذه القوى واستحالة تمثلها للفكرة العربية أو الوطنية العراقية. من هنا ظهور المساومة من اجل الحصول على موقع تحت شمس السلطة. وهي المقدمة الضرورية لحنظل الواقعية (المرة)، لكن مرارتها حلوة في مذاق الاقتراب من السلطة والجاه! وهي العملية المتناقضة والضرورية لتذوق طعم الأشياء كما هي.
والشيء نفسه يمكن قوله عن القوى القومية الكردية بهذا الصدد. إذ لم يكن دفاعها عن "الديمقراطية" و"محاربة الطائفية" و"الاستحقاق الوطني" سوى الصيغة الظاهرية للعرقية المتآكلة في مجرى التغيرات الاجتماعية السياسية التي أعقبت فوزها الأول في ظل غياب "العرب السنة" في اقتسام السلطة. وذلك لان القوى القومية الكردية هي قوى عرقية بالنسبة للعراق. إذ لا تمثل الوطنية العراقية بالنسبة لها أكثر من 13% والبقية الباقية "كردستانية". وحتى حالما تزيد هذا الرقم إلى 17% أو عشرين أو أكثر، فإنه ليس من اجل تأكيد العراقية بل للحصول على امتيازات كردية.
أما القوى التي تمثل الطيف الشيعي، فإنها القوة الوحيدة التي تحتوي في أعماقها على إرهاصات توسيع المدى الاجتماعي للفكرة الوطنية العراقية. وهي إرهاصات قائمة في صلب وتاريخ التشيع العراقي باعتباره تشيعا للعراق. إذ أن مجرد عبارة "شيعة العراق" و"العرب الشيعة" بوصفهما الصيغ المتماهية فيما بينها دليل على ابتعادها عن هلامية "أهل السنة والتوحيد" أو "أهل السنة والجماعة". بمعنى أنها تحتوي من حيث مكوناتها الغائرة في الوعي العادي واللاوعي الثقافي على انتماء متجانس للوطن والقومية. على عكس ما في فكرة "أهل السنة والجماعة" من انتماء "لبروليتاريا" الأممية الإسلامية السلفية (الأصوليات) أو حثالة الإسلام السلطوي. فالانتماء الشيعي ليس انتماء طائفيا، إذ لا طائفية في التشيع العراقي.
أما التكتل السياسي الشيعي المعاصر فهو الصيغة المؤقتة لاستعادة الفكرة الوطنية العراقية والقومية العربية الثقافية (وليست العرقية أو العنصرية). وهي صيغة تمثل رد الفعل الواقعي (واللاعقلاني في بعض جوانبه) على سيادة اللاعقلانية في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. لكنه رد فعل يتمثل بدوره الصيغة الضرورية لبلوغ غايته وحدوده بالنسبة لإعادة تأسيس الدولة والمجتمع والثقافة. شأنه شأن المكونات الأخرى المجزئة للعراق في ظروفه الحالية. وهي عملية لا تخلو من تناقض، لكنها تبقى الأكثر واقعية من غيرها بالنسبة لتراكم الوطنية الصحيحة والديمقراطية الشرعية من خلال إشراك الجميع وحق الأغلبية في إدارة شئون الدولة والمجتمع.
فإذا كان منطق الديمقراطية الملازم لفوز الأغلبية يقضي في مجراه على شعور الغلبة، فان القضاء على شعور الغلبة يفضي إلى سيادة فكرة المسئولية المشتركة والحقوق العامة. وهي عملية معقدة وطويلة نسبيا سوف تسحب الجميع إلى الاشتراك الفعال في تنظيمها بوصفه أسلوب تذليل فاعلية "النسبة" العرضية (من عرقية وطائفية وجهوية وأمثالها) بالنسبة لفكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي. فالتشيع العراقي هو ليس فقط 65% مدنية الأصل، بل ومبدعة المكون التاريخي والروحي والثقافي العراقي (من مصادر اللغة الفصحى إلى أقطاب الروح التاريخي المترامي في أضرحة الأئمة بوصفها مزارات الروح الوجداني العراقي. وليس مصادفة أن يرتقي تراب العراق عندهم إلى "تربة" الصلاة، ومن أغاني الريف إلى الشعر الحديث، ومن نثر الأدباء إلى فكر المؤرخين والمفكرين).
إن هذا التمازج التاريخي الحي للروح والجسد هو ضمانة الوطنية العراقية الكبرى. وذلك لأنه ليس جزء من جزئية الرؤية ولا شعارا سياسيا عابرا، ولا وسيلة نفعية، بل هو عين التجوهر الوطني. وفي هذا تكمن ضمانة الارتقاء التدريجي في إدراك الحقيقة القائلة، بان الرجوع إلى التشيع هو الرجوع إلى العراق. وهي عملية سوف تفرز مع مرور الزمن وفي مجرى اشتداد وتنوع الصراع السياسي قواها الاجتماعية الجديدة المتحررة من رق الماضي وعبودية التقليد والاغتراب عن الدولة.
وفي هذا تكمن ضمانة التطور التدريجي للنظام الديمقراطي والدولة الشرعية والمجتمع المدني بوصفها منظومة مترابطة. لاسيما وأنها العملية الوحيدة القادرة على تحرير المجتمع والفكر من الأوهام الكبرى للقوى الصغرى، أي القوى التي تجعل من "المستقبل المعلوم" تعويضا عن ماضيها المجهول. وهي عملية انتهت فيما يبدو مرة واحدة والى الأبد مع انتهاء عصر الانقلابات العسكرية والمغامرات الحزبية والفردية. ومع انتهاءها يمكننا القول، بأن نهاية الأوهام الكبرى للقوى الصغرى هي بداية الأحلام الواقعية للقوى العقلانية.