كتب الأستاذ معاذ حسن تصوراته عن الحالة المستقبلية في العراق . وهذه هي الحلقات الخمس عشرة الأولى لتصوره. ونظرا لأهمية التحليل أعيد نشره في الشبكة تعميما للفائدة.



العراق إلى أين ؟
معاذ حسن
ونحن نقوم بعملية تحليل الوضع المستقبلي للعراق ، ينبغي علينا أن ننطلق من جملة مقتربات أوليّة ذات علاقة بالوضع العالمي والأقليمي سياسيّاً وفكريّاً واقتصاديّاً ، كذلك من بدايات رصد معقول للواقع العراقي ومجريات الأحوال الإجتماعيّة في داخل العراق المسكين ، فضلاً عن تشريح ولو في حدود معقولة لقوى المعارضة العراقية وتوجهاتها وطموحاتها وقابلياتها . ولا نعتقد أن ما يجري في خصوص العراق بعيد عن كل هذه المقتربات ا لخطيرة .
ماذا ينتظر العراق ؟
ما هي معالم الوضع المستقبلي بعد عملية التغيير الموعودة ؟
ما هو النموذج ا لذي سيحكم ويسود ؟
كيف سيكون مستقبل الأحزاب والقوى العراقية من يسارية واسلامية ومحافظة ؟
ما هو دور القوى الأجتماعية الجديدة من عشائر ومرجعيات دينية ؟
كيف يفكر الامريكيون في مستقبل العراق وماهي ستراتيجيتهم ؟
ما هو موقف الدول الأقليمية من التغيير الموعود ؟ تركيا وأيران وسوريا والاردن والسعودية والكويت ؟
ما هو مصير الطبقة المثقفة في العراق المستقبلي ؟
ما هو مصير الحالة الطائفية والقومية والأثنية ؟
أسئلة واسئلة واسئلة ...
سوف أكون كعادتي واضاً ، صريحاً ، نضع النقاط على الحروف ، نستعين بالمعلومات والتصورات والافكار، نبتعد عن المبالغات والتهويلات .
العراق الى أين ؟

الحقبة التاريخية التي نعيشها هي حقبة الزمن الأمريكي ، هذا ما نسمعه ونقرأه ، وهو بطيعة الحال صحيح ، ولكن في هذه الحدود لم نقل شيئا كبيرا ، لأنها قضية عيانية ملموسة ، وبالتالي ، شخصيّا ، لا أعتبر هذا تحليلاً سياسيا ، ولا أعتقد أن هذه الإمضاء كافي لكي نعرف المستقبل الذي ينتظر العراق من حيث علاقته بأمريكا ، بأعتبارها القوة الأعظم في العالم . المطلوب فهم أبعاد هذه القوة .
هذه الأبعاد هي :
1 : القوة الأمريكية شمولية ، أي إقتصادية ، ستراتيجية ، معلوماتية ، ماليّة ، تكنولوجية ، وهذا ما تفردت بها القوة الأمريكية عن غيرها ، قديماً وحديثا.
2 : القوة الأمريكية متكاملة بريّا وبحريّا ، ولم تعد هذه الظاهرة قد حازت عليها أي قوة عالمية سابقة ، فهي إما قوة بحرية كما هو الحال في بريطانية أو برية كما هو الحال في روسيا .
3: أن القوة الأمريكية محاطة بحماية طبيعية لم تتوفّر لغيرها ، يلفّها محيطان كبيران من الشرق والغرب ، وتحدها بلاد ضعيفة مسكينة مثل المكسيك وكندا ، لا يشكلان أي خطر ، بل لا يتمتعان بأي مقومات مخيفة بالنسبة لأمريكا .
4 : أمريكا قويّة وكبيرة في آن واحد . ليس مثل بريطانيا التي تعاني من أزمة مساحة أو روسيا التي تعاني من أزمة قوّة .\
5 : كل القوى المنافسة تعاني من جار منافس ومقلق ، فروسيا والصين واليابان وفرنسا والمانية مشغولون بالتهديد المتابدل ، الأمر الذي يشغل أمريكا بدرجة أقل .
6 : الثقافة الأمريكية ثقافة مقبولة شعبيا ، تراود أحلام الشباب وتستحوذ على مزاجهم .
7 : الفلسفة البراغماتية تساعد على التكيف مع الأوضاع المستجدة وتبيح الخروج على كل ثابت .
8 : الخبرات الأمريكية مطعّمة بالتجارب الكثيرة بسبب كونها بلد هجرة ، والكنيسة قوية ومحافظة وهناك تكامل بين الكنيسة والسياسة والطموحات الى حد بعيد .
9 : تغلغل الثقافة الأمريكية الى العسكر في أوربا الشرقية بعد سقوط الأتحاد السوفيتي .
10 : سيادة اللغة الأنكليزية على الثقافة العالمية .
11 : ريادتها في فن السينما .
12 :نسبة الأستثمارات الأمريكية كبيرة في أوربا .
13 : لأمريكا فضل تاريخي على أوربا بتخليصها من شرور النازية ، كما أنها هي التي ساهمت في إعمار أوربا بمشروع مارشال الشهير.
14 : رئاستها لأكثر المنظمات ا لعالمية الخطيرة ، مثل صندوق النقد الدولي ، ومنظمة اليونسكو ، وغيرها كثير .
في الحقيقة من الصعب استعراض مظاهر هذه القوة ، ولكن هي قوة شمولية، مادية ومعنوية ، برية وبحرية ، لها أجندتها في كل مكان وفي كل مساحة .
كل ذلك له علاقة بالمستقبل الذي ينتظر العراق ، كيف ؟ سيتضح في الحلقات التالية أن شاء الله .

تعرّضننا لبعض مكوّنات وخصائص القوة الأمريكية ، وقلنا أن التحليل السياسي الذي يريد التعاطي مع مستقبل العراق ، لا بد أن يضع في نظر الأعتبار هذه المكونات وا لخصائص ، وتشير الدراسات وا لارقام ، إنّ هذه القوة الرهيبة تنتظم في سياق ثلاثي متوازن ومتماهي في المصالح والأهداف الى حد كبير، هذا الثلاثي يجمعه المركب ( الصناعي العسكري الكنسي ) ، وربما يتصور البعض إنّ حشر الرقم الكنسي مبالغة ، ولكن الارقام والتصورات ا لامريكية بما في ذلك جمهرة من المثقفين الامريكيين تؤكد على ذلك ، والمسيحية الأصولية اليوم في أمريكا تشكل عامل توجيه وضغط ، وهي مسيحية تبشيرية مستقبلية ، تتواصل مع الوعد التوراتي بشكل فاعل ومصيري .
القوة الامريكية هذه جعلت من السياسة الا مريكية ذات بدائل واختيرات كثيرة ، وهذا ما تتفوق به على أغلب مصاديق القوة في السابق ، حيث طالما تلجأ لمنطق الجبر .
إنّ مراجعة بسيطة لمجريات التاريخ الذي نعيشه تثبت تفوّق هذه القوة على غيرها ، ولنا بتجربة البلقان في أوربا شاهد واضح ، فالقوة الامريكية هي التي كانت حاسمة ، وفي الشرق الأوسط هناك شاهدان عمليان ، فإن القوة الأمريكية هي المتحكمة بمعادلات القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى ، وهي التي قادت التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية ، وفي أسيا الوسطى هي التي فازت بالمدخل المرن إلى منابع النفط والغاز في هذه المنطقة الحساسة من العالم بعد أن قررت تصفية القاعدة وإ حتلال افغانستان ، ونقطة التوازن الاستراتيجي في المحيط الهندي بين الدولتين النووييتين ، أي الهند وباكستان تعتمد إلى حد كبير على موقف الولايات المتحدة الأمريكية ، ولا أريد هنا مواصلة هذه الأرقام ، فهي كثيرة وحاسمة .
ولكن السؤال المطروح هنا هو ماذا تريد أمريكا ؟
سؤال مهم يتصل بمستقبل العراق ، ولابد من التعاطي الاولي مع هذا السؤال ، وفي الحقيقة إنه ليس بالسؤال البسيط ، ولكن نحاول أن نتلّمس ممّأ يطرحه الكتاب والمفكرون الاستراتيجيون .
ماذا تريد أمريكا وهي تملك هذه القوة الاسطورية ؟
هل تريد إستعمار ا لعالم ؟
أم قيادة العالم ؟
أم توجيه العالم ؟
أم السيطرة على منابع النفط والغاز والقصدير والفسفور ؟
أم تحويل العالم إلى سوق أمريكي ؟
ماذا تريد أمريكا ؟
في تصوري وبكل تواضع ، إن أمريكا تريد كل ذلك ، والنقطة الجامعة لكل هذه العناوين ، إنّ أمريكا تريد ( أمركةا لعالم ) ، إن الأمركة هنا أكثر من تمحيض المصالح الأمريكية ، أن الأمركة هنا تعني تغيير العالم ، تحويل في أنسقته الفكرية والحضارية ، فأمريكا تطرح ذاتها اليوم كرسالة إلهية ، والقوة التي تملكها تغذيها بهذا التوجه ، القوة هنا ليست نتيجة فقط ، بل أضافة لذلك سبب توسعي وسبب رسالي ، ومن هنا أختلفت وظيفة القوة بالنسبة لأمريكا عنها بالنسبة لبريطانيا سابقا أو هولندا ، أختلفت بدرجات وليس بمراتب ، وأمريكا جادة في عملية تغيير العالم، وليس من شك إن إطروحة فوكو هاما وصاحب نظرية صراع الحضارات ليست بعيده عن هذا التصور ، بل الكثير من الطاقات الامريكية الكبيرة .
أنّ أمركة العالم مفهوم كبير ، تنطوي تحته المصالح الأقتصادية والسياسية والاستراتيجية والثقافية والدينية ، فالقوة الأمريكية توحي للعقل الامريكي بذلك ، ورسالة التغيير الامريكي تقوم على دعامات كثيرة ، منها :
1 : مبدأ الاقتصاد الحر .
2 : حقوق الأقليات والأثنيات .
3 : الديمقراطية .
4 : حقوق الانسان .
كل ذلك في سياق تغليب المصلحة الأمريكية بالدرجة الأولى من خلال معادلات معقدة للغاية ، ومن ثم تغليب المصلحة الغربية بالدرجة الثانية ، من خلال معادلات معقدة للغاية ايضا ، وكل هذا له علاقة بمستقبل العراق ، وفي الحلقات التالية نستظهر هذه العلاقة بمزيد من التوسعة والدقة

يتصور الكثير إن توجّه إدراة بوش الأبن وليدة ساعتها ، وهذا التصور خاطيئ بالمرّة ، بل هو نتيجة طبيعية لتطورات مفصليّة مرّت بها السياسة الأمريكية ، ونستطيع أن نتلمس بأصابعنا مراحل هذه التطورات بدءاً من برنامج إدارة كلينتون الأولى ، فقد نصّت على مبدأ الدفاع عن الأنظمة الديمقراطية ، ومن ثمّ جاءت الإدارة الثانية لتوسع من نطاق هذا التصور، فكان من أوليات مهماتها الإستراتيجية توسيع نطاق الأنظمة الديمقراطية ، أي خلق أنظمة ديمقراطية ، وهو المبدأ الذي يبشر بالتدخل بالشؤون الداخلية للأنظمة والدول ، ومن ثم جاء بوش الأبن ليجمع بين طموحات الأب وتوجهات الأدارة السابقة ، في سياق تفاعل بين الهدف الكبيير والممكنات التي أنجزتها الحكومة الديمقراطية ، تلك الطموحات التي تتمحور حول خلق نظام عالمي جديد ، وجوهر الدعوة ، صياغة العالم من جديد ، من خلال أمركة العالم كما ذكرنا سابقاً ، وذلك بكل ما تعنية ألأمركة من تصورات ومستحقات وتبعات ، ومن أبرزها تمحيض المصلحة القومية الأمريكية .
بناء على كل هذا ، لابد لأمريكا من حركة شمولية تمسح العالم كله ، وكانت تتحين الفرصة الذهبية كذريعة وحجة ، إلى أن جاءت أحداث 11 سبتمبر ، فكانت بداية التنفيذ .
إن التصور الذي يرى أنَّ التغيير كفكرة وهدف يبدأ بهذا التاريخ يكشف عن سذاجة سياسية مفرطة ، وهو يعبر عن قصور في فهم التاريخ ولا يكشف عن متابعة لما يجري في العالم ، فكأننا نسينا مشروع بوش الأب بسرعة !
إنّ إحتلال أفغانستان لا يهدف القضاء على القاعدة ، بل يهدف إلى أن تكون منفذاً لنفط بحر قزوين ، وموطئ قدم لأسترتيجية كونية جديدة ، تجثم على حدود الصين ، التي يقولون ، إنها ستزاحم القوة الاقتصادية الأمريكية بعد عقد أو عقدين من السنين ، وتجثم على حدود روسيا التي طالما حذّر منها كيسنجر ولا يزال ، وذلك بلحاظ تصور قومي يسيطر على الهاجس الروسي ، خاصة وإنَ لها إمتدادات أرثوذكسية في البلقان ، ومن أجل أن تحاصر أي تحالف صيني روسي مستقبلي ، ومن أجل تطويق ما يُسمّى لأغراض دعائيّة مقصودة القنبلة الاسلامية ، وهناك أهداف كبيرة أخرى .
الذي أريد الخلاص إليه أن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان ينطوي على أهداف بعيدة المدى له صلة بأواسط أسيا ، وتفيد الاخبار، إن لاسرائيل دور كبيرهناك ، متغلغلة في الاوساط الاعلامية والثقافية ، وهناك سعي حثيث لخلط الهوية ، وتسريب المفردات الثقافية الامريكية ، كبداية للعمل على ربط ا لمنطقة بالضمير الأمريكي .
إنَ أمريكا وعلى خطى هدفها المتمركز على أمركة العالم ، حدّدت نقاط إنطلاق ، تبدأ منها حركتها الهائلة ، هذه النقاط تمتاز بعدة خصائص تمكن الولايات ا لمتحدة الامريكية من ممارسة عملها على الهدف المذكور ، وكانت أفغانستان النقطة الاولى ، والعراق النقطة الثانية ، وربما ستكون الصومال النقطة الثالثة .
كل نقطة من هذه النقاط مدخل للتغيير العالم الذي يحيط به ، مدخل ناجح وميسّر ، وليس من شك إنّ كل مدخل له مجريات خاصة به ، تنبع من طبيعتة وطبيعة المحيط الذي يتصل به .
وفي الحلقات المقبلة سوف نخصصها للحديث عن العراق في تتبع الفكر الامريكي لخلق العالم الجديد ، باعتباره نقطة الأنطلاق لذلك بعد أفغانستان .

كان العراق هو النقطة الثانية للإنطلاق الأمريكي من أجل تلك الأستراتيجية الكبيرة ، أي تغييرالعالم ، في نطاق المصالح والقوة ، ذلك إنَّ هدف الصراع يكمن في المصلحة والقوة ، وهذا ما يشير إليه القران الكريم وقد بينته في كتابي ( الصراع الأجتماعي في القران الكريم ) ، ولكن السؤال الطبيعي هنا يتصل بسبب هذا الأختيار ، فلماذا العراق وليس غيره ؟ .
أعتقد هناك مجموعة عوامل تكافيء هذا الأختيار، منها : إنّ العراق يشكل ثاني إحتياطي نفطي في العالم ، وبذا يوفّر ا لمصلحة الحسّاسة بالنسبة لأمريكا ، ويهيئ سوقاً إستهلاكية مذهلة في المستقبل ، كما أن هذه الثروة بهذا السعة يمكن أن تتحول إلى آلية تهديد للانظمة النفطية الأخرى ، فأنها بديلة عن كل تمرد أو مساومة أو أي شكل من أشكال اللعب ، في التعاطي مع التوجهات الأمريكية في هذا المجال ، ومن ثم العراق بلد حضاري عريق ، ومنه يمكن أن تنطلق أدوات التحرك المحيط ، فالبلد متعدد القوميات والمذاهب والأديان ، وهذه نقطة قوّة يمكن أستغلالها للتوغل في هذا المحيط ، والشعب العراقي مُتعب منهك ، وحرارة التفاعل بين الشعب والقيادة منخفضة ، ولا ننسى أن شمال العراق يكاد أن يكون مضموناً ، وهناك تاريخ عميق ومصيري بين بعض فصائل ا لقوة في شمال العراق وبين أمريكا ، والجيش العراقي يعاني من هبوط معنوي ، وهو جيش يكاد أن يكون عقائديا وغير محترف ، والعراق مهدّد من الاطماع الأيرانية والاطماع التركية ، ولا قبل له برد هذه الأطماع بدون دعم من قوة دولية مؤثرة ، الأمراض والجوع والتشرد والجهل يخيم على العراق وشعب العراق ، وثقة الشعب العراقي بايران مهزوزة بعد تلك السياسة المتخلفة التي مارسها الحكم الايراني بحق العراقيين ، والعراق يشكل نقطة توازن إقليمي بالنسبة للكويت بل لكل الخليج ، في مواجهة الأطماع الفارسية الصريحة ، ويمكن بعد أستقراره واستعادة عافيته أن يكون المنافس لمصر ... ومن ثم ثقافة الأنسان العراقي ، وتطلعاته الفكرية ، وتمرده المستمر على أنظمة الحكم ... وقد خاض الجيش العراقي حربين كبيرتين ، وهو جيش معروف كأداة قمعية ضاغطة ، فهو جيش إنقلابات وقمع ... وأخيرا، لا مثيل لموقع العراق الاسترتيجي ، فهو عمق سوريا في مواجتها مع الكيان الصهيوني ، وهو حاجز بين تركيا و ايران ، وقد ثبت تاريخيا ، أن فتح العراق يؤدي إلى ا لتحكم بالمشرق العربي ، ولذا كانت بداية الفتح الأسلامي من العراق .
لهذه المقتربات أختارت أ مريكا العراق كنقطة بداية للتغيير العالمي الذي رسمته دوائرها الاستراتيجية ، والسؤال الجديد ، منذ متى بدأ هذا التخطيط ، ومتى ستكون لحظة الشروع الأولى ، هذا ما سنتطرق له لاحقا .

قلنا في الحلقات السابقة ، إن العراق في التصور الأستراتيجي الأمريكي الجديد نقطة إنطلاق ، نحو تحولات مفصلية في العالم ، تحولات ثقافيّة و سياسية واقتصادية وستراتيجية ، أمّا ما هي مساحة التغيير التي سوف تبدأ من العراق ، وذلك بعد أنْ يستكمل مهامه وأبعاده في العراق بالذات ، هذا ما سوف يأتي في الحلقات المقبلة بأذن الله تعالى ، وبيّنا في الحلقة الخامسة أسباب هذا الأختيار ، والأن نجيب على السؤال الذي طرحناه كأمتداد لأستكمال الرؤية فيما يخص الجواب على السؤال الكبير .
متى بدأت تهيئة العراق كنقظة إنطلاق في هيكل التخطيط الأمريكي لتغيير العالم ؟
السؤال المطروح لا يتعلق بلحظة التنفيذ ، هذه القضية لها حلقتها الخاصّة ، بل يتعلق بالتهيئة ، أي بمجموعة التمهيدات التي توفّر الاسباب المعقولة للبديء بالتنفيذ .
في تصوري التهيئة تزامنت مع حرب الخليج الثانية ، وسواء كانت القيادة متورطة أو هو قرار ذاتي ، كانت فرصة ذهبية للشروع بخلق مناخ التهيئة ، وقد إعتمدت خطة التهيئة على تحطيم قدرات الجيش العراقي ، لأن وجود جيش قوي يحول دون الشروع بالعمل المذكور ، واعتمدت على تحطيم
البنية التحتية ، و تأزيم النفس العراقية ، وعزل العراق ، ولم يكن الحصار لأسقاط النظام ، بقدر ما هو من أجل توفير فرصة الانهيار الكامل ، الأنهيار الذي يوظف كل الظروف ، للبديء بجعل العراق نقطة بديء في هيكل الأستراتيجية الأمريكية القاضية بأمركة العالم . والأن أصبح العراق جاهزاً لذلك ، وقد بيّنا علائم ذلك في الحلقة السابقة .
العراق أُختير نقطة بدئ ضخمة ، وهو الان دخل مرحلة الصلاحية لذلك ، ولكن كيف سوف تسير الأمور على هذا الطريق ؟ وما هي علاقة ذلك بمستقبل العراق ؟
الجواب في ا لحلقات السابقة

كيف سوف تجري الامور ؟
سؤال في غاية الأهمية والخطورة ... لا يمكن أن يكون العراق نقطة تحوّل بإتجاه الأمركة العالمية من دون تغيير النظام الحالي ، هذه بديهية لا مزاح فيها ، ولا خلاف حولها .
لكن لماذا ؟ ثم ألا يمكنْ المساومة بين الطرفين ؟! كل يعطي لخصمه ما يريد ، وبذلك يتجنب الطرفان المتاعب والمشاكل ، ويخرج الأثنان منتصران ، وقد طرحت مثل هذه التساؤلات أكثر من مرّة ، وكان الجواب التقليدي ، أنّ أمريكا لا تطمئن إلى وعود النظام ، ولا أجدني مرتاحاً لهذا التعليل ، والذي أراه ، إنّ عملية التغيير التي تهدف إليها الاستراتيجية الأمريكية ، تحتاج إلى نظام جديد بمعنى الكلمة، تريد طاقماً ينسجم معها من داخله ، من قناعاته الذهنية والشعورية ، تستوجب نموجاً يشاركها التخطيط وليس نموذجاً في رسم التنفيذ وحسب ، نموذج منغمس في فلسفتها الفكرية والأقتصادية والسياسية والتربوية ، يتفاعل مع المهمة بالأفق ، بالتفكير ، ومن هنا يمكننا ان نضع أول معلم لأستكشاف مستقبل المعارضة العراقية ، وهذا ما سوف نفصّل به لا حقا .
كي تُستكمَل شروط وظروف البداية لا بد من تغيير النظام مهما كانت النتائج قاسية ، وبعد ذلك تاتي الخطوات التالية على إمتداد الهدف المرسوم ، الهدف الكبير.
ليس المهم كيفية التغيير ، بل المهم هو التغيير ، وليس من شك ، سوف تلجأ أمريكا إلى اقلها خسارة وحسما... وكل ذلك له صلة بما ينتظر العراق مستقبلا ... الحلقات التالية توضح ذلك .

كي يتحول العراق إلى نقطة تحوّل مركزية للتأثيرعلى المساحة المتصلة به ، لا بد أن يكون دائرة مستقرّة ، ولا بد أن يتحول إلى نموذج متقدم على صعيد التنمية الأقتصادية في حدود ملحوظة ، ولا بد أن تعود فاعلية الأدراة ، وتعالج قضايا الصحة والبيئة ، ولا تترك مشكلة الديون بلا علاج معقول ، يتناسب مع الوضع الجديد ، ولا بد من إعادة النظر بسير العملية التعليمية ، إصلاح آلياتها ومناهجها وبعث الحيوية في قطّاعها ، ولا بد أن يكون هناك هامش من الحرية ، ولا بد أن تتم معالجة مسألة القضاء بسرعة ، وتعاود المصارف والبنوك نشاطها، والسياسة الاقتصادية ستنهج فلسفة السوق الحرّة ، وتُدشن فلسفة الشراكة السياسية ، وسوف يبدأ المواطن العراقي يمارس عملية الانتخاب ، كل ذلك تحت أشراف أمريكا ، بشكل وآخر .
ولكن كيف يجري ذلك ؟ أنّ القضيّة ليست بهذه السهولة ، هي صعبة ، من المعاجز الكبرى التي سوف يشهد التاريخ بها فيما إذا حصلت ، والاسباب معروفة ، هذا ما سوف نطرقه مفصّلا في حلقات مُقبلة .
إنّ عراقا غير مستقر ، وغير قوي أقتصاديا ، وغير ديمقراطي في حدود نسبية ، وغير حر في حدود ملحوظة ، لا يمكن أن يكون مشعاً بالأمال الامريكية ، اي لا يمكن أن يكون نقطة إنطلاق أمريكية نحو أمركة المحيط ، وذلك في سياق أمركة العالم .
الجنوب هو المشكلة ، لأنه يجاور إيران ، وإيران سوف لا تترك الجنوب من تدخلات قد تصل إلى تحريض الشيعة بعضهم ضد بعض ، وعمل مخابراتي من أجل مصالح سياسية وإقتصادية وزعامية ، ولأن الجنوب عانى من إضطهاد كبير ، ولان في الجنوب حشداً عشائرياً كبيراً ، وا لعشيرة في الأيام الاخيرة تحولت إلى مركز قوى مؤثر للغاية ، ولان القيادات الدينية لها جماهيها العريضة هناك ، وهي مختلفة ومتناحرة ، ولان الجنوب في صراع من نوع ثقيل مع النظام ، وتقول المصادر هناك مجاميع مسلحة ، كما أن هناك اجندة سعودية وكويتية ، فالامر على هذا الاساس معقّد للغاية ، يصعب السيطرة عليه . هذه القضية سوف لا تترك من قبل الآتين بعد التغيير ، وربما يكون للزمن دوره هو الآخر في تذليل المشكلة ، وربما ستكون مشاكل الجنوب بين أهله أكثر من أن تكون بين أهله والوضع الجديد ، نظراً لتعدد الولاءات والزعامات ، وأعتقد إن بعض مفاتيح الحل تكمن لدى الرموز ، لدى الكبار من زعماء العشائر ورجال الدين ، ويمكن للوضع الجديد أن يعالج الأمرمن خلال هذه الرموز ، بالامتيازات والعلاقات والتحالفات ، وسيكون لانتشار الفضائيات ووسائل الأتصال الحديثة ، وتوفّر فرص العمل ، سيكون لكل ذلك أدوار كبيرة في معالجة هذه النقطة الحسّاسة ، ومن دون شك قد تصل قواعد عريضة من الناس إلى قناعة مفادها الانصراف للاعمال الجادة ، فيما إذا توفّرت فرص العمل المثمر، وفيما إذا إ تسعت دوائر الصراع بين الزعامات من دون طائل ، وهذا متوقع إلى حد بعيد .
ولكن ما هو مستقبل القوى السياسية والاحزاب ؟
سوف نواصل الحديث عن ذلك لاحقا .

في تصوري إنّ المركب ا لمنتظر ، أي الخلفية العسكرية وا لواجهة المدنية سوف يسارع بعملية التغيير داخل العراق بعد الحدث الكبير ، تنشيط ا لأقتصاد وإصلاح الإدارة وترميم المرافق العامة وتطبيع العلاقات مع دول الخليج والعالم ، وتأصيل القضاء بحدود معقولة وتوظيف القوات المسلحة لمهماها الحقيقية وإعادة عملية التعليم إلى نشاطها الحي ، ونفط العراق قادر على تأمين كل هذه الأمور والمتطلبات ، واعتقد ان تنظيم هذه الثروة واستثمارها واعادة الحيوية إليها سوف لا تاخذ وقتا طويلا ، لان كل متطلبات المرحلة ا لحالية والتالية تستوجب ذلك ، بل أن المستقبل على أكثر الاصعدة متوقف على هذه الثروة العظيمة ، وسوف تسعى الشركات الامريكية بهذا التسريع ، فإن المعركة كلها في هذا الاتجاه ومن اجله وسبيله . فليس من مصلحة الأمريكان وغيرهم من أصحاب ا لمصالح في العراق ان تتاخر عملية إعادة الحياة الطبيعية في البلد ، وليس من شك سوف يشهد العراق ولو بعد فترة زمنية نسبية من حصول الحدث الكبير حرية تشكيل الأحزاب والنقابات والمؤسسات ، وهي فقرة مهمة على المدى البعيد كي يكون العراق نقطة انطلاق للتاثير على المحيط ، وأعتقد إن شركات الأ ستثمار سوف تشهد حركة فاعلة في العراق ، بل سيكون لها دور كبير في تحديث الوضع وا لتسريع بحركته .
ولكن ما هو وضع المعارضة العراقية بعد الحدث ا لكبير ؟
ما هو مصير الخط الديني ؟
ما هو مصير الأسلامي ؟
ما هو مصير الخط اليساري ؟
نحاول في الحلقات المقبلة ان نستشرف بعض الخصائص والمحتملات .

المرحلة المقبلة بعد الحدث المحتمل قد تشهد نشأة فكر سياسي متنوع في أوساط الشعب العراقي ، سوف يزدهر الشارع العراقي يالفكر السياسي الأسلامي والقومي والديمقراطي واليساري ، وذلك بصرف النظر عن مساحة الوجود الشعبي لهذه التيارات ، وربما يبزغ فكر ليبرالي تتولاه فصائل مثقفة من العراقيين ، خاصّة إذا كانت هناك فسحة حرية وهامش ديمقراطي ، وسوف نرى مشاهد حزبية جديدة ، تهتم باليومي والزمني بشكل رئيسي ، لأن مشاكل الناس تصعد إلى السطح وتسيطر على هاجسهم وإهتمامهم ، وقد تغير بعض الاحزاب الايدولجية شيئا من خطابها العام ، حيث تولي لهذه ا لقضايا قسطاً كبيراً من إهتمامها وأتصور سوف تشهد الحركة الفنية من رسم ونحت وتمثيل مديات من التصور والمذاهب المتعددة ، ولا شك سوف تزدهر حركة الأدب العراقي بشكل سريع ومبدع ، ذلك ان الطاقات المكبوتة سوف تتفجر وتتحرك بقوة وفاعلية ، ولنا ما حصل في أوربا الشرقية شاهد كبير على ما نقول .
إن المرحلة التي تلي الحدث الآتي ستكون مليئة بالمفاجئات على صعيد العطاء الفكري والفني والسياسي ، وهذا التوقعات طبيعية مع كل تغير كبير يحصل في مثل الظروف التي يمر بها العراق .

ما هو مصير ا لتيار الديني / الأسلامي بعد الحدث الكبير ؟
إلى أين مسيره ؟
لا شك أن التيار الديني / الإسلامي يشكل القاعدة الشعبية العريضة في العراق ، ولذلك أسبابه الموضوعية ، منها الجهود العظيمة التي بذلها الشهيد العظيم محمد باقر الصدر وجماعة ( ذات الشوكة ) ومن ثم الأثار الكبيرة التي تركتها الثورة الإسلامية في إيران ، ومن بعد ذلك حركة الشهيد محمد الصدر ، ولا أختلف مع بعض التحليلات التي تذهب إلى أن النازلة التي يعيشها الشعب العراقي هي الاخرى من أسباب التوجه الديني بشكل عام . وتتحدث الأخبار عن ملايين الناس تتوجه إلى زيارة العتبات المقدسة ، وعن صلاوات جمعة زاخرة بالمصلين من مختلف الأعمار وإنتشار ظاهرة الحجاب . وبالتالي هناك تيار ديني قوي وجارف في ا لعراق .
فاين سيكون مصير هذا التيار بعد التغيير ؟
من الحلقة المقبلة نبدأ باستعراض بعض التصورات والله الموفق .

لايمكن أن نتوقع مصير التيار الإسلامي الديني في العراق إذا لم نعرف أهم مفردات هذا التيار الكبير ، وفي الحقيقة إنّ من أبرز مفردات التيار المذكور هي :
أولاً : تيار السيد الشهيد محمد الصدر ، وهو تيارجديد ، ظهر على الساحة أثناء بروز السيد الكريم ونما بعد إستشهاده قبل سنوات .
ثانياً : تيار ا لسيد السيستاني ، وهم مجموع مقلديه في العراق .
ثالثاً : تيار السيد محمد باقر الحكيم رئيس ا لمجلس الأعلى للثورة الأسلامية ا لمتواجد مقره في طهران .
رابعاً : تيار السيد محمد الشيرازي الذي ورثه أخوه السيد صادق الشيرازي .
خامساً : تيار الشيخ الخالصي .
سادساً : تيار الحركة الأسلامية المنظمة وفي مقدمتها حركة الدعوة ومنظمة العمل .
هذه هي أهم مفردات التيار الديني / الاسلامي في العراق ، أما التيارات الدينية السنية فهي ضعيفة ، وسبب ضعفها يعود إلى إنها لم تقم بعمل نشط ضد النظام ، كما إنها لم تتمتع بمفهوم المرجعية الدينية الموجود لدى الشيعة ، وهناك أسباب أخرى لا مجال للحديث بها .
هذه المفردات اكثرها ذات نشاط سياسي في العراق ما عدا توجة التيار ا لذي ينطوي تحت قيادة السيد السيستاني ، لانه لا يؤمن بالعمل السياسي ، وقد تجنب أي صدام مع السلطة . ولكن مجرد إذا حصل التغيير ربما يتحرك سياسيّاّ ، وأعتقد أن السيد مجيد الخوئي يعول على هذا التيار في المستقبل كأحدى آليات تحركه ، وربما يستمر على منواله الحالي ، ولكن من الصعب لان التقليد سوف يختلط بالسياسة في العراق ، وسوف تتداخل ا لصراعات والتحالفات وتتعقد الساحة الشيعية ا لعراقية ، فمن العسير ا لأنعزال عن كل هذه الملابسات .
ربما يسأل البعض عن تيار الشهيد الكبير محمد باقر الصدر ، وفي الحقيقة لا يوجد مثل هذا التيار الا باسم حزب الدعوة .
والأن ما هو مصير هذا التيار الطاغي ؟
الجواب في الحلقات المقبلة .
ما هو مصير التيار الديني / الإسلامي بعد التغيير المحتمل ؟
لقد مضى بنا تعداد أهم مفردات التيار، والان نريد أن نستعرض مقترابات كل واحد من هذه المفردات بشكل عام ، لأن ذلك ضروري بل مقدمة ملحة من اجل الوصول إلى أحتملات مقبولة في صدد المصير الذي ينتظر هذا التيار .
تيار السيد محمد باقر الحكيم ... هذا التيار يستمد قوّته وقوامه من الدعم الإيراني ، هذه حقيقة معروفة ، وإيران كانت وما زالت الداعم الاكبر للسيد الحكيم ، كذلك هناك دعم كويتي لأغراض سياسية بعيدة ، وتلاحظ الكويت بهذا الدعم دور أيران من السيد ، كذلك يكون السيد بمثابة مزاحم للحركة الأسلامية الأيديوجية ، كما أن تيارالسيد الحكيم يستمد ا لمدد والقوة من بعض رؤساء العشائر الذين تحالف معهم خلال عمله الطويل ، كما أن علاقته الميدانية بالشمال هي الاخرى مادة دعم . ولكن السيد الحكيم سوف يواجه مصاعب كبيرة ، منها الضغط الايراني ، ومنها أن تيار السيد محمد الصدر ضده بشكل فاعل ، ومنها ، إن العراقيين من اصحاب التجربة في أيران لا يرتاحون للسيد ، وهم من اكثر القطاعات العراقية التي تجيد الصراع معه في المستقبل ، ومنها أن التيار الشيرازي يتقاطع معه كليا ، وهو قطاع مهم خاصّة في كربلاء ، ومنها ان الدعوة على غير وئام مع السيد ، وهي قوة لا بأس بها ، خاصّة على صعيد إدارة الصراع ، ومنها أن السيد سوف يكون من الصعوبة يوازن بين ايران وا لكويت ومتطلبات المرحلة الجديدة ، هناك صعوبات كبيرة ومعقدة سوف تواجه تيار السيد الحكيم .