الدراسة في الخارج ... نزيف عقول أم رصيد للمستقبل؟


الدراسة وتحصيل العلم تقليد صيني عريق، بدأ منذ عصر فيلسوف الصين ومعلمها الأول، كونفوشيوس، الذي كسر احتكار الطبقة العليا للتعليم عندما أقام أول مدرسة غير حكومية وقبل تلاميذه بدون النظر إلى أصولهم العائلية، في خطوة قد تبدو متناقضة مع دعوته الطبقية إلى الهرمية أو الهيراركية الاجتماعية. اعتبر كونفوشيوس التعليم مثل الماء والهواء، حق لكل إنسان بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو طبقته، ولعله أول صيني اعتبر التعليم أحد الحقوق الأساسية للإنسان. وقد وضع كونفوشيوس هيكل النظام التعليمي القديم في الصين، شاملا الأهداف التربوية والمناهج الدراسية وأساليب التعليم. وارتبط التعليم في العقلية الصينية بارتقاء السلم الاجتماعي، فالأفضل تعليما وعلما لديه فرصة أفضل لتقلد المناصب الرسمية والارتقاء الاجتماعي. وقد تكرس هذا التقليد مع اعتماد نظام الامتحان الإمبراطوري في الصين القديمة، الذي كان السبيل الوحيد لقبول الموظفين والمسئولين الحكوميين. بدأ هذا النظام في السنة السابعة لعهد الإمبراطور ون دي لأسرة سوي (618 –907 م) واستمر حتى نهاية أسرة تشينغ (1644- 1911م )، أي أنه دام أكثر من 1300 سنة. وفي العصر الحديث كان عدد كبير من رواد نهضة الصين الثقافية، وزعماء حركة الرابع من مايو الثقافية وقياداتها السياسية، من الذين درسوا في الخارج وخصوصا في الدول الغربية واليابان وعادوا إلى وطنهم، ومنهم صون يات صن زعيم ثورة 1911، الأديب الصيني لو شيون وهو أحد رواد حركة رابع مايو الثقافية سنة 1919 والزعيم الراحل دنغ شياو بينغ.

بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن نمو الاقتصاد الصيني خلال الثلاثين عاما الفائتة جعل من الصين قوة جاذبة لطيورها المهاجرة من العلماء والخبراء، خاصة أن عديدا من مناطق الصين أنشأت ما يسمى بالحدائق الصناعية للعائدين من الدراسة في الخارج، حيث تقدم لهم شروطا تفضيلية في العمل والاستثمار للاستفادة من خبرتهم في إقامة مشروعات تنمية تكنولوجية، وهناك نماذج عديدة لدارسين صينيين أمضوا فترة في الخارج وعادوا إلى وطنهم وحققوا نجاحا كبيرا. فالصين خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، على عكس الهند مثلا التي تشكو من "نزيف العقول"، تشجع بطريقة منهجية أفضل عقولها على اكتساب الخبرات القيمة في الخارج، ثم العودة لإقامة مشروعات أو العمل في المواقع الحكومية المميزة. وإضافة إلى الحوافز المباشرة، نجحت الصين في خلق بيئة اقتصادية كلية ديناميكية تغري دارسيها بالعودة. ويلعب الباحثون الصينيون الذين درسوا بالخارج دورا مؤثرا في المشروعات العلمية الصينية الكبيرة، مثل برنامج الفضاء وخريطة الجينوم البشري. والدارسون العائدون هم الذين أسسوا تقريبا كل شركات التكنولوجيا العالية المسجلة ببورصة ناسداك، ومنهم تشارلز تشانغ، مؤسس ومدير أشهر شبكة إنترنت في الصين sohu.com، إدوارد تيان رئيس تشاينا نتكوم، ثاني أكبر شركة تليفونات ثابتة في الصين،، روبين لي المدير التنفيذي لأكبر محرك بحث باللغة الصينية، بايدو، وغيرهم. تسعى الصين بكل السبل للاستفادة من عقولها التي تعلمت في الخارج، وصار العائدون قوة أساسية في كل مجال مهم، فالمؤسسات المالية المهمة، مثل البنك المركزي ولجنة تنسيق البورصة، مليئة بأفراد درسوا في الخارج، يفيدون بلدهم بخبرات عملية تساعد في صياغة النظم والسياسات المستقبلية للصين التي تزايد انخراطها واندماجها في المجتمع الدولي. الجامعات الصينية من جانبها تنفق مبالغ كبيرة لاجتذاب العلماء الصينيين الحاصلين على شهاداتهم الأكاديمية من الخارج، حيث تقدم لهم مزايا في الراتب والإقامة والمعاملات الأخرى. وحسب البروفيسور فنغ لو، من مركز الصين للبحوث الاقتصادية بجامعة بكين، يتراوح الراتب السنوي للاقتصادي العائد بين ثلاثين وخمسين ألف دولار أمريكي، إضافة إلى المسكن والمعاملات الأخرى.

ولمزيد من المعلومات http://www.chinatoday.com.cn/Arabic/2008n/0812/p36.htm