البيان والبرنامج السياسي
لحزب الدعوة الإسلامية
شعبان 1412 هـ
آذار 1992 م
بسم الله الرحمن الرحيم
(ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم انّه كان من المفسدين ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون) (آل عمران 104)
ابتلي شعبنا العراقي المسلم بسلسلة من الحكومات التي تعاقبت على حكمه والتي مارست سياساتها على اسس تتنافى من حيث المبدأ والأهداف والوسائل مع الأسس الإسلامية على كل الأصعدة، مما عرض الشعب العراقي إلى المزيد من المشاكل والمحن تاركةً
آثارها على كل مرفق من مرافق الحياة، حتى وصلت غايتها من التردي والإنحطاط وذروتها من التجاوز على ارادة الشعب في ظل نظام صدام.
وقد شرعت الحركة الإسلامية بعملية التوعية والتغيير منذ نهاية الخمسينات لهذا القرن، وتصاعدت مسيرتها على مرّ الزمن حتى تبلورت معالمها في مجالات الحياة المختلفة. ولم يكن الرد الإستعماري ازاء هذا الفعل التغييري الرائد والهادف إلاّ بلغة القمع الدموي الذي كرست له أضخم الأجهزة ورفدته أكثر الخبرات الدولية. وشهدت الأمة أبناءها الأبرار يمارسون عملية بث الوعي التغييري وهم يخطون نهجاً إسلامياً يستهدف تحكيم الإسلام في كل مجال، ويجزلون العطاء بدمائهم الزاكية من أجل حمل لواءه والذود عن مقدساته والدفاع عن كرامة الأمة. فتضمخت مسيرة الحركة الإسلامية عبر جهادها بالدم، وتقدمت قوافل الشهداء من ابنائها تترى في مسيرة المواجهة المحتدمة. وراح النظام وعبر تطورات محلية واقليمية ودولية يتمادى في غيّه ويرتكب الجرائم التي يندى لها جبين التأريخ على مرأى ومسمع العالم كله، فاقدم على اغتيال الفكر والقيم والإنسان، وامتدت يده الآثمة لقتل الشهيد الإمام محمد باقر الصدر (رضي الله عنه) وأتسعت دائرة اجرامه لتشمل ايران والكويت في حربين مجنونتين عرضت العراق والمنطقة إلى أفدح الخسائر.
وقد برهن شعبنا الأبي على رفضه لنظام الحكم الشرس من خلال ما سطر من بطولات في انتفاضاته المتكررة والتي كان آخرها صفحة العز والفخر التي سطّرت في انتفاضة 15 شعبان 1411 هـ والتي عمّت كل مدن العراق والتي ساهم كل الشعب العراقي بمختلف قومياته ومذاهبه فيها.
وتتجه الأنظار ـ اليوم ـ إلى الأبرار من أبناء الأمة الذين عرفتهم بالمحن وخبرتهم في ساحات المواجهة والإبتلاء، من أجل الوصول إلى الحل الذي يلبي طموحاتها وتطلعها إلى الحرية والإنعتاق، وبما يعيد للشعب العراقي عزته ومنعته، وللمنطقة الأمن والإستقرار.
والدعوة الإسلامية التي دأبت على طرح افكارها وتصوراتها على الأمة من خلال وسائل الأعلام المتاحة في مختلف المناسبات، فكان بيان التفاهم الذي اصدرته في مطلع الثمانينات والذي راعت فيه الخصوصيات العديدة للشعب العراقي من حيث تكوينته الإجتماعية وقواه السياسية الفاعلة، فكان بيان التفاهم دعوة لكل الفرقاء السياسيين من أجل النهوض بمهمة خلاص الشعب العراقي وصيانة استقلال العراق ووحدة ترابه.
وهي اليوم تقدر ان هناك حاجة ماسة إلى طرح برنامجها السياسي الذي يترجم موقفها ومن موقع المسؤولية حول مختلف القضايا التي تفرضها الساحة السياسية المتحركة بمفرداتها والعوامل الفاعلة فيها، بما يلبي حاجات الواقع ويتكفل بتوضيح المواقف والتصورات بكل ما يرتبط بمصلحة شعبنا المسلم.
فكان (برنامجنا) الذي يأخذ على عاتقه توضيح الرؤى والتصورات للجوانب المختلفة في واقع العراق السياسي، تلبية للحاجة الآنية والإنتقالية وللمرحلة المستقبلية على صعيد النظام السياسي الدستوري المرتقب والذي يتولى شعبنا العراقي صياغته، وما يرتبط بذلك من مهمات تتولى اصلاح الدمار والخراب الذي لحق ببلدنا الجريح.
ويتقدم برنامجنا السياسي بيان سياسي يستعرض مسيرة الجهاد الحافلة بتضحيات شعبنا الجسيمة منذ مجيء هذا الحكم العميل.
اننا اذ نضع هذا البرنامج السياسي الذي يتعامل مع الواقع العراقي الحافل بالمتغيرات والأزمات الحادة داخلياً وخارجياً نقدر ما لهذه العوامل من دور كبير في صياغة اي منهاج يراد له ان يتحرك على مثل هذه الأرضية السياسية. ونحن اذ نستمد برنامجنا هذا من روح الإسلام وعلى هدي شريعته. نجد فيه كل السعة والمرونة التي تستوعب مفردات واقعنا ضمن اطاره الشامل، ويبقى البرنامج السياسي الإسلامي يتمتع بخصوصيتين اساسيتين هما الصلابة والمرونة فيما تتطلبه الأحكام الثابتة والمرنة ويكون جديراً باستيعاب كل المتغيرات ومن موقع الإنفتاح على الساحة والعوامل المؤثرة فيها، وليتيح لأبناء شعبنا تحقيق أملهم المنشود في بعث التآلف والتعايش في ظل حياة مفعمة بالحرية وعابقة بالحب والعدل.
البيان السياسي
الإنقلاب الأسود.. بداية المحنة
(لا يتخذ المؤمنونَ الكافرينَ أولياء من دونِ المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللهِ في شيء)
كان وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق للمرة الثانية عبر انقلاب 17 تموز 1968 وبدعم من الدوائر الإستعمارية، بداية مرحلة جديدة في تاريخ الشعب العراقي حيث بدأ النظام بتنفيذ مخطط واسع يرمي إلى احكام قبضته على مقاليد السلطة وانفراده بها وممارسة سياسة القمع والملاحقة لكل معارضيه وتنفيذ مسلسل اجرامي رهيب استهدف بنية المجتمع العراقي الواحد وتمزيق اواصره وطمس معالم حضارته وقيمه من خلال إشاعة الفساد الخلقي والفاحشة ونشر الميوعة والمناهج التربوية الفاسدة ومحاربة الإسلام فكراً وتراثاً وشعائر.
واتبع النظام سياسة التمييز القومي والطائفي إمعاناً في تمزيق وحدة المجتمع العراقي فتعرض الكرد المسلمون إلى حملات اضطهاد ومطاردة وملاحقة وصلت إلى حد الإبادة الجماعية باستخدام الأسلحة الكيماوية وممارسة سياسة مسح وابادة الآف القرى الكردية من الوجود وتشريد اهلها وتهجيرهم إلى شتى أنحاء العراق واضطرار الآلاف منهم لمغادرته واللجوء إلى الدول المجاورة.
كما حاول النظام بذر روح العداء والخلاف بين القوميتين الرئيسيتين اللتين يتشكل منهما الشعب العراقي وهم العرب والكرد. واستخدم النظام سلاح الطائفية لتمزيق وحدة الشعب العراقي المسلم من خلال إتباع سياسة تمييز وفرز طائفي في الجيش ومؤسسات الدولة فضلا عن قطاعات التجارة والصناعة والتعليم. وقد كرس سياسته الجائرة هذه بسنه قوانين تتنافى مع قيم المجتمع العراقي ومبادئه الإسلامية وتناقض طبيعة المجتمع العراقي المكون من مذاهب وطوائف متعددة وكان من آثار سياسته التعسفية تهجيره قرابة نصف مليون عراقي بعد تجريدهم من جنسيتهم العراقية ومصادرة اموالهم وممتلكاتهم واحتجاز ابنائهم في سجونه الرهيبة وتمزيق وحدة الأسرة العراقية بتشريعه قوانين للتفريق بين الزوج وزوجته على اساس عنصري. واشاعة كل ما من شأ نّه اضعاف الأواصر بينهما.
ومارست السلطة بعد وصولها إلى سدة الحكم مباشرة سياسة فرض الإنتماء إلى حزب البعث على كافة قطاعات الشعب وحصر الوظائف وفرص التعليم بالبعثيين فيما كانت أجهزتها تلاحق كل من يحمل فكراً ورأياً لا ينسجم مع أفكارها ومنعت ممارسة العمل السياسي بكل صوره وسنّت القوانين التي اباحت ممارسة القتل والمطاردة ومصادرة
الأموال والممتلكات لكل من ينتمي إلى تنظيم سياسي غير حزب البعث فامتلأت سجون العراق بالآلاف من العراقيين الذين لم يكن لهم ذنب سوى رفضهم لسياسة التبعيث وحملهم لأفكار وتصورات سياسية لا ترضى عنها السلطة.
وقد صودرت الحريات بكل أشكالها فسيطرت السلطة على جميع وسائل الأعلام والصحافة واحتكرت العمل السياسي والنقابي والمهني وتحول جهاز الحزب إلى مؤسسة تجسسية تراقب الناس وتحصي عليهم انفاسهم فاشاعت بذلك أجواء الإرهاب والخوف والرعب داخل صفوف الشعب ونشأت جراء ذلك قيم وأعراف غريبة وشاذة عن أخلاق المجتمع العراقي وأصالته.
لقد كانت مجابهة التيار الإسلامي المتنامي داخل العراق في الستينات المهمة الرئيسية التي أوكل تنفيذها لحزب البعث. فبدأت السلطة بضرب مراكز القوة الإسلامية والتي كانت تتمثل بالحوزة العلمية والحركة الإسلامية المنظمة فجرى التضيق على المرجعية الدينية والتي كانت ممثلة آنذاك بالإمام الحكيم (قدس سره)ومحاولة النيل من سمعته باتهام نجله الشهيد السيد مهدي الحكيم بالضلوع في حركة انقلابية مزعومة.
كما قام النظام بتفتيت الجامعة العلمية في النجف الأشرف من خلال تهجير الآلاف من اساتذة وطلبة هذه الحوزة. كما قام النظام بالسيطرة على الكليات والمعاهد الإسلامية في مختلف أنحاء العراق ومصادرة أموال وممتلكات مشروع جامعة الكوفة.
وراحت أجهزة الأمن والمخابرات تلاحق أبناء الحركة الإسلامية وقياداتها ورموزها فزج بالآلاف من خيرة شباب العراق ورجالاتهم في سجون البعث الرهيبة حيث تعرضوا إلى التعذيب، والإضطهاد، والإعدام، وكان في طليعتهم الشهيد الشيخ عبد العزيز البدري والشهيد الأستاذ عبد الصاحب دخيّل (ابو عصام) الذي كان من أبرز قياديي الحركة الإسلامية. واستمرت تلك الحملات الظالمة لتطال أفواجاً أخرى من خيرة أبناء العراق وكفاءاته الإسلامية العلمية من العلماء والأساتذة والأطباء والمهندسين والطلبة وتصاعدت تلك الحملات باعدام قبضة الهدى الشيخ الشهيد عارف البصري وصحبه الأبرار عام 1974 واصدار أحكام السجن المؤبد على أعداد أخرى من أبناء الحركة الإسلامية.
ولم يتوقف المخطط البعثي.. فعمد النظام إلى منع مواكب الطلبة والجامعة وضيق على الشعائر الحسينية وزوار العتبات المقدسة ولقد اوغل هذا النظام باجرامه في صفر من عام 1397 هـ (1977 م) حين تصدى النظام بطائراته ودباباته وقواته القمعية لجموع الجماهير التي كانت تسير على الأقدام في مسيرة سلمية متوجهة نحو كربلاء.. من النجف الأشرف حيث سقط المئات من الأبرياء شهداء وجرحى جراء عدوان النظام فيما كانت أجهزة الأمن تقوم بحملات اعتقال وتفتيش طالت قطاعات واسعة من الجماهير وجرت محاكمات صورية حكمت بالإعدام على عدد كبير منهم وبالسجن لأعداد اخرى.
من التغيير إلى المواجهة
وعلى الرغم من حملات الملاحقة والمطاردة والتضييق التي مارستها السلطة بحق الحركة الإسلامية ومحاولات وأدها إلاّ انّها باءت بالفشل. فقد استطاعت الحركة الإسلامية استقطاب قطاعات واسعة من الشعب العراقي وشرائحه المختلفة. وراح الشعب العراقي يتطلع اليها للإطاحة بالنظام الغاشم الذي صادر حريات الأمة واستباح مقدساتها.
فمنذ تأسيس حزب الدعوة الإسلامية عام 1957 على يد الإمام الشهيد الصدر وثلة من المفكرين والعلماء عمل على احداث تغيير فكري وثقافي في أوساط المجتمع العراقي وتوعيته لإستنقاذه من الأنظمة العميلة التي تعاقبت على حكم العراق وانتشاله من الأفكار الدخيلة المستوردة وطرح المشروع الإسلامي البديل لها.
ولقد احست الدوائر الإستعمارية بخطورة الأوضاع في العراق واحتمالات نجاح التيار الإسلامي في الإطاحة بنظام البعث وما سيشكل ذلك من تغيير في الخارطة السياسية في المنطقة لصالح شعوبها فتحركت تلكم الدوائر بسرعة لترتيب اوضاع الحكم في العراق. فاوعزت بتنحية أحمد حسن البكر وتنصيب صدام رأساً للنظام لما يمتاز به من صفات اجرامية دموية لإنجاز مهمة محاصرة وضرب الوجود الإسلامي في العراق.
ومنذ تسنمه لمقاليد السلطة كاملة في تموز 1979 باشر صدام بتنفيذ مخطط واسع ورهيب يستهدف ابادة الحركة الإسلامية وجماهيرها حيث شنت أجهزته القمعية الأمنية والمخابراتية حملات اعتقال واسعة وعمليات إعدام جماعية طالت علماء الإسلام والآلاف من مجاهدي الحركة الإسلامية والمتعاطفين معها.
ولقد بلغت ذروة هذه الحملة القمعية باصدار النظام لقراره المشؤوم المرقم 461 والمؤرخ في 31 / 3 / 1980 والذي نص على اعدام كل المنتمين لحزب الدعوة الإسلامية والمؤمنين بافكاره والمتعاطفين معه وبأثر رجعي، فكان هذا القرار سابقة تاريخية لم يشهدها العراق من قبل فهو يعني اهدار دم كل الإسلاميين في العراق. وقد ترجمت السلطة قرارها هذا باعدام الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر واخته العلوية بنت الهدى فكانت جريمة تاريخية طالت قمة سامية من قمم الفكر الإسلامي وهو من أبرز علماء الإسلام فيما كانت تجري في الوقت نفسه حملات اعدام لخيرة شباب وطلائع العراق الواعية نساءً ورجالا من أبناء الحركة الإسلامية. ولم يتوقف قرار السلطة المشؤوم باعدام الدعاة عند حدود الذين اتهمتهم السلطة بل تعدت آثاره ليشمل اُسرهم وذويهم إلى الدرجة الثالثة فتعرض الكثيرون للفصل من وظائفهم ووضعوا تحت رقابة أجهزة السلطة وحرموا من أبسط حقوق المواطنة.
وقد تزامنت هذه الحملات الظالمة مع عمليات تهجير قسرية واسعة النطاق شملت مئات الآلاف من العوائل العراقية ممن شك النظام في ولاءاتهم للسلطة فكانت جريمة مروعة تخطت كل الأعراف والقيم والمبادئ الإنسانية حيث اسقطت جنسياتهم العراقية وجردوا من كل ممتلكاتهم واموالهم والقوا على الحدود العراقية ـ الإيرانية يواجهون البرد والظروف الجوية القاسية فمات الكثيرون وبخاصة الأطفال والمسنين وإمعاناً من النظام في جريمته النكراء قام باحتجاز الآلاف من أبناء المهجرين وايداعهم سجونه الرهيبة دون ذنب اقترفوه. فما كان على الحركة والحالة هذه إلاّ التصعيد الميداني على كل المستويات والإستمرار في طريق المواجهة رغم وعورته وكثرة التضحيات فيها.
الحرب العراقية ـ الإيرانية
وازاء المأزق الداخلي الذي كان يمر به النظام نتيجة تصاعد العمليات الجهادية المسلحة ضد رموزه ومؤسساته القمعية وحالة الغليان والسخط الشعبيين اللذين عما العراق نتيجة ممارسات النظام الغاشم من جهة وتنفيذاً لرغبات الدوائر الغربية من جهة أخرى اقدم صدام على طعن الثورة الإسلامية فزج العراق في حرب ظالمة مع ايران بعد ان الغى ومن طرف واحد اتفاقية الجزائر التي وقعها مع شاه ايران عام 1975.
فبدأ فصل جديد كانت حصيلته تدمير قدرات كلا البلدين المسلمين الجارين وسقوط أكثر من نصف مليون قتيل وأكثر من هذا العدد من المعوقين والجرحى طيلة سني الحرب الثمان فضلا عن خسائر لا تقدر لحقت بالمرافق الإقتصادية والصناعية والزراعية والنفطية في كل من العراق وايران كبلّت العراق بديون كبيرة.
لقد كانت مبررات وادعاءات النظام عشية شنه الحرب على ايران هي استعادة السيطرة الكاملة على ممر شط العرب واستعادة بعض الأراضي التي تنازل صدام بنفسه عنها لشاه ايران في اتفاقية الجزائر عام 1975 إلاّ ان القادسية السوداء توقفت دون ان يحقق النظام أياً من ادعاءاته تلك. بل ان صدام عاد ليعترف من جديد باتفاقية الجزائر في عام 1990 م استعداداً لزج العراق ثانية في مغامرة هوجاء جديدة بغزوه الكويت.
الإرهاب.. أداة الحكم
لقد كان الإرهاب وسيلة النظام للتشبث بالسلطة والقمع أداة لمواجهة أي صوت معارض او رأي قبالها، ولم تسلم شريحة من شرائح الشعب العراقي من البطش والتنكيل حتى داخل دائرة الحزب الحاكم نفسه حيث كانت تجري باستمرار عمليات تصفية تشمل حتى كبار الحزبيين من مدنيين وعسكريين بل انّها وصلت إلى دائرة الزمرة الحاكمة فكانت تصفيات عام 1979 والتي صفى بها صدام مناوئيه داخل السلطة.
ولقد كانت اللغة الوحيدة التي يتخاطب بها النظام مع معارضيه هي لغة الإرهاب والقمع ولم يتورع عن ارتكاب أية جريمة في داخل العراق أو خارجه اذا ما أحس بأي صوت معارض سواء كان فرداً أو مجموعة سياسية أو قومية. فكان جراء هذه السياسة الغاشمة ان مسحت مدن عراقية كاملة لانّها عبرت عن رفضها للنظام كما حصل في جيزان الجول والدجيل وحلبجة وغيرها من قرى ومدن العراق ولم يتورع عن استخدام مختلف الأسلحة وأشدها فتكاً بما فيها الأسلحة الكيماوية ضد أبنائه.
كما ان أجهزة النظام الإرهابية راحت تلاحق المعارضين السياسيين وتغتالهم خارج العراق حيث اغتالت الشهيد سهل السلمان في دولة الإمارات عام 1981 والشهيد الدكتور اياد حبش في ايطاليا عام 1986 والشهيدين سامي عبد المهدي ونعمة مهدي محمد عام 1987 في باكستان والشهيد السيد مهدي الحكيم في الخرطوم عام 1988 فضلا عن عمليات تصفية لعدد آخر من المعارضين في الخارج.
لقد نجح صدام في الإنفراد بالسلطة بعد تصفية كل الرموز والقيادات البعثية فتحولت السلطة في العراق من سلطوية الحزب الواحد إلى سلطوية الفرد الذي تحيط به اُسرته فيما تحولت المؤسسة الحزبية إلى جهاز بوليسي يحمي الحاكم وينفذ سياساته. ان طبيعة الحكم الإرهابية هذه التي لا تفهم إلاّ لغة قطع الرؤوس والتفنن بالتعذيب اضطرت الحركة الإسلامية ومن موقع المعارضة لإساليب القوة التي تركزت ضد صدام وازلامه المتورطين بدماء الأبرياء.
تبعيث الجيش
ومنذ مجيء حزب البعث إلى السلطة مورست سياسة مشبوهة داخل المؤسسة العسكرية حيث جرت تصفية كل العناصر التي يشك في ولائها للنظام اما بالإقالة أو الإغتيالات أو الإعتقال ومورست عملية تبعيث اجباري لضباط الجيش ومنتسبيه وأعتبر البعثيون الجيش مؤسسة مغلقة غير مسموح لأية قوة سياسية أخرى ممارسة أي نشاط فيها حيث كانت عقوبة الإعدام جزاء لكل من يشك في انتمائه أو تعاطفه مع أي تيار سياسي عراقي آخر. فيما كانت سياسة التمييز الطائفي والعنصري تتحكم في اختيار مواقع التوجيه والقيادة في المؤسسة العسكرية.
لقد اساء النظام إلى مكانة الجيش العراقي وسمعته وكفاءاته ومهاراته ودوره من خلال استخدامه كأداة لقمع أي تحرك شعبي وجماهيري فتحول الجيش من قوة لحماية الشعب والوطن إلى وسيلة لحفظ الزمرة المتسلطة وتنفيذ سياساتها العدوانية ضد الشعب فزج النظام بالجيش في معارك مخزية مع شعبنا الكردي واستخدمت القوات المسلحة لقمع انتفاضات شعبنا في الوسط والجنوب بدءاً من انتفاضة صفر 1397 هـ (1977م) ومروراً بالعديد من المناسبات التي استخدم فيها الجيش لضرب تطلعات شعبنا وانتهاء بانتفاضة شعبان المجيدة 1412 هـ (آذار 1991م).
لقد كانت أمنية جيشنا العراقي ان تتاح له الفرصة الحقيقية لممارسة دوره المشرف في قضايا الأمة المصيرية إلاّ ان السلطة البعثية عطلت دوره المشرف هذا وزجته في حروب مع جيران العراق لم تخدم إلاّ اعداء القضية المركزية من صهاينة ومستعمرين بل ساهمت على العكس من ذلك في تعطيل وشل قدرات المسلمين والعرب واوجدت حالة من العداء بين شعوب المنطقة عرباً ومسلمين ووفرت للكيان الصهيوني فرصاً ذهبية لتثبيت وجوده الغاصب في فلسطين وفرض هيمنته العسكرية على كل المنطقة.
النظام والقضية الفلسطينية
لقد رفع البعثيون حين وصولهم إلى السلطة شعار تحرير فلسطين وادعوا ان مجيئهم إلى السلطة هو الرد العملي على نكسة حزيران 1967م. إلاّ ان عقدين من الزمن كانا كافيين لكشف زيف هذا الأدعاء وبطلان الشعارات البراقة التي رفعها النظام لتضليل الجماهير وخداعها طيلة سنيّ حكمه البغيضة. لقد ساهم النظام بشكل فعال وخطير في اضعاف وتمزيق وتشتيت المقاومة الفلسطينية وقامت عناصر مخابراته باغتيال العديد من القادة الفلسطينيين وتواطأ مع النظام الأردني في مجازر ايلول الأسود عام 1970 بحق الفلسطينيين وعطل قدرات شعوب المنطقة وبدد امكاناتها في أزمات وحروب محلية واقليمية لم تخدم سوى الصهاينة وأعداء الأمة.
وكانت حماقته الأخيرة بغزوه الكويت أكبر اساءة للقضية الفلسطينية حيث تمّ طعن انتفاضة الحجارة داخل فلسطين وتمزيق الصفين العربي والإسلامي. كما ادّت إلى اسدال الستار على عملية تهجير ملايين اليهود من الأتحاد السوفيتي واوروبا الشرقية دونما ضجة إلى الكيان الصهيوني. كما ادّت تهديدات صدام الفارغة بحرق نصف اسرائيل إلى تعاطف دولي مع الكيان الصهيوني حيث انهالت المساعدات المالية والعسكرية بشكل لم يحلم به الصهاينة من قبل كما تمّ عزل منظمة التحرير الفلسطينية سياسياً بعد ان جرها النظام إلى صفه وتأييده في غزوه للكويت.
الموارد النفطية..
إن الموارد الهائلة للنفظ وارتفاع أسعاره في عقد السبعينات وفرت للعراق ثروة مالية ضخمة كان من الممكن لو أحسن استثمارها احداث نهضة علمية وزراعية وصناعية ورفع مستوى معيشة الفرد العراقي إلى مصاف مواطني الدول الغنية إضافة عن دعم الشعوب الإسلامية والعربية التي تواجه مخاطر المجاعة والفقر والتخلف. إلاّ ان النظام أستغل هذه الموارد الضخمة في تنفيذ سياسات لا تنسجم مع مصالح الشعب العراقي حيث بددت تلك الثروات على الزمرة الحاكمة واستخدمت في شراء الذمم في العراق وخارجه وبناء مؤسسات قمعية لمطاردة المخلصين من العراقيين واحصاء أنفاسهم في الداخل والخارج وحياكة مؤامرات لزعزعة الأمن والإستقرار في المنطقة واهدار الثروات في حروب في داخل العراق ومع جيرانه لم يكن فيها للشعب العراقي أية مصلحة حقيقية ولم تجلب له غير البؤس والشقاء والفقر.
لقد تعاملت الزمرة الحاكمة في العراق مع الموارد المالية الهائلة وكأنّها فيء شخصي واستخدمت لتكريس سلطة رأس النظام وتنفيذ رغباته العدوانية الهوجاء حيث تمت سرقة عشرات المليارات من الدولارات من أموال شعب العراق وأُودعت في البنوك والشركات الأجنبية لصالح صدام واُسرته وكانت نتيجة كل تلكم السياسات الرعناء ان أوصلت العراق إلى ما هو الآن عليه حيث أصبح العراق مثقلا بالديون وبات الشعب العراقي يتضور جوعاً وتفتك به الأمراض والأوبئة.
غزو الكويت.. الحماقة القاتلة
وبعد توقف الحرب العراقية الإيرانية في آب 1988 وجد صدام نفسه وقد فشل في تحقيق أي من أحلامه وطموحاته الشخصية فلم يستطع اسقاط النظام في ايران ليصبح شرطي المنطقة رغم جسامة التضحيات والخسائر المادية التي لحقت بالعراق. فيما كان يمتلك ترسانة عسكرية هائلة توفرت له خلال سنوات حربه مع إيران حيث انهالت عليه مختلف أنواع الأسلحة والمعدات المتطورة من دول الغرب والشرق وساهمت الحكومات الخليجية بدفع فواتيرها وتغطية نفقاتها حينما كان صدام يتصدى لضرب الصحوة الإسلامية في المنطقة ويمارس سياسة البطش والقمع على مرأى ومسمع من حكومات المنطقة التي تراصفت مع النظام ضد ارادة الشعب العراقي. وشاركته في قمع تطلعات هذا الشعب. بعد ان صور لها دوره الهام والخطير في حماية الدول الخليجية من تنامي الصحوة الإسلامية كما وخدعها من خلال اعلامه المضلل في تشويه صورة الحركة الإسلامية على انّها أداة إرهابية في المنطقة.
لقد شجعت الترسانة العسكرية الهائلة صداماً ليفكر في مغامرة جديدة ليحقق طموحاً شخصياً ويصبح زعيماً للمنطقة دون منازع. فجاء غزوه للكويت تجسيداً لهذا الطموح واستمراراً لنهجه العدواني وأسلوبه في حل النزاعات المحلية والأقليمية والذي اعتمد استخدام القوة العسكرية والعنف دون اكتراث بالقيم والأعراف الدولية وليكشف وجهه الحقيقي واستهتاره بالقيم الإنسانية وتعاليم الإسلام والأعراف العربية وحقوق الجوار. كما جاء هذا الغزو تنفيذاً لمخطط صدام الإجرامي بتمزيق شعوب المنطقة وبذر روح العداء والشقاق بينها خصوصاً وانّه شعر بان دوره من وجهة نظر غربية قد انتهى بعد ان استنفذ مهمته السابقة وعاد خطراً وبؤرة توتر بالمنطقة بسبب خزين الأسلحة الذي توفر له. هذا يضاف إلى ان الدول الإستعمارية شعرت بأن الأرضية السياسية العراقية مجمعة ضد صدام ولا يمكن ان تتقبله رغم اختلاف وجهة نظرها.
ان غزو صدام للكويت وما جر ذلك من حرب مدمرة ومآسي طالت الشعبين العراقي والكويتي وحالة التمزق والتشتت التي لحقت بشعوب المنطقة وتكريس التواجد الأجنبي فيها يشترك مع صدام في تحملها حلفاءه ومساندوه وشركاءه بالأمس من دول الغرب والشرق وحكومات المنطقة الذين وقفوا معه ابان الحرب العراقية الإيرانية. فقد انهالت على النظام مختلف أنواع الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا العسكرية الحديثة فيما قامت الولايات المتحدة بتزويده بالمعلومات المخابراتية الدقيقة ووفرت له الغطاء الأعلامي والسياسي للتعتيم على ممارساته الأجرامية القمعية بحق الشعب العراقي فضلا عن القروض والائتمانات المالية المفتوحة لدعم اقتصاده ومشترياته من السلاح والعتاد.
وفي نفس الوقت تكفلت الدول الخليجية بتغطية نفقات حربه مع ايران ووضعت موانئها وأراضيها وأجواءها في خدمة المجهود الحربي للنظام وساهمت في ملاحقة معارضي النظام ممن لجؤوا إلى هذه الدول حيث تعرضوا للملاحقة والإعتقال والتعذيب والتسفير وسُلّم الكثير منهم إلى أجهزة النظام القمعية حيث كان ينتظرهم الموت الأكيد.
لقد كانت سفارات النظام والتي هي في حقيقتها مراكز وأوكار للتجسس وملاحقة أبناء العراق كانت تعمل بكل حريتها في دول الخليج حيث مارست عمليات الإغتيال ومطاردة المعارضين وابتزازهم سياسياً ومالياً كما وقفت الصحافة الخليجية تدافع عن نظام صدام وجرائمه بحق الشعب العراقي وتبرر له حرب السنوات الثمان مع ايران وتعتم على ما يجري داخل العراق من مآسي يقترفها النظام بحق العراقيين وتشوه سمعة الحركة الإسلامية التي تصدت للنظام ولم تتوان الصحافة الخليجية حتى عن تبرير القصف الكيماوي الهمجي للنظام لمدينة حلبجة والذي راح ضحيته أكثر من خمسة آلاف من الكرد المسلمين العراقيين الأبرياء.
أجل لقد كان صدام فارس الصفحات الأولى في الصحافة الخليجية والوجه البارز في وسائل الأعلام لسنين طويلة وحتى عشية احتلاله للكويت..
ونقولها وبمرارة ان حزب الدعوة الإسلامية قد وجه وبمناسبات متتالية وعديدة مذكرات إلى الحكومات الخليجية دعتها يومذاك إلى التوقف عن دعم النظام مالياً وعسكرياً واعلامياً ومنع سفاراته وعناصر مخابراته من ملاحقة أبناء شعبنا العراقي الذين لجؤوا إلى هذه الدول هرباً من بطش النظام.
كما ان الدعوة الإسلامية كانت قد شخصت منذ وقت مبكر بأن صداماً سوف ينقلب على هذه الأنظمة وعلى الكويت بشكل خاص بمجرد طيه لصفحة الحرب العراقية الإيرانية وهو الأمر الذي حدث بالفعل ومن المؤسف انّه لم تلق تلك النداءات آذاناً صاغية من الحكومات الخليجية التي آثرت التحالف مع صدام ضد مصالح شعوبها والمنطقة فكان ان حلت «أم الكوارث» التي اكتوى الجميع بنارها وآثارها المدمرة. وبعد ان انكشف الوجه الحقيقي الكالح لصدام لأبناء الخليج عموماً ولأبناء الكويت خاصة إلاّ ان الذي يؤسف له هو تفشي ظاهرة الخلط بين صدام والشعب العراقي مما يسبب بعض الكراهية بين شعبين مسلمين عربيين جارين.
أميركا.. التحكم بالنفط
لقد وفر صدام بغزوه الكويت المبررات الكافية للأدارة الإمريكية لتشرع بتنفيذ مخططها في السيطرة الكاملة على المنطقة النفطية في الخليج. فبعد انهيار المعسكر الشرقي وتفكيك الأتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة وانتفاء حاجة اوروبا للحماية الإميركية وقرب الأعلان عن ولادة الوحدة الأوروبية والتي ستعزز بدورها كتلة اقتصادية سياسية كبيرة تشكل محوراً رئيسياً في النظام الدولي. كما ان بروز اليابان كقوة اقتصادية عملاقة تنافس الأقتصاد الإمريكي كل ذلك دعى الإدارة الإمريكية كي تخطط للسيطرة على المستودع النفطي في الخليج والذي يعتبر شريان وعصب الحياة في اوروبا واليابان ولتضمن امريكا بالتالي الدور الرائد في النظام الدولي الجديد وهي تتحكم بمصادر الطاقة وشريان الحياة في العالم الصناعي. فجاءت عملية غزو الكويت لتشكل الفرصة التي كانت تنتظرها امريكا لتنفيذ مخططها فسارعت بارسال قواتها إلى المنطقة تحت غطاء قرارات مجلس الأمن الدولي.
لقد كان موقف حزب الدعوة الإسلامية واضحاً وحاسماً في ادانة وشجب غزو صدام للكويت واستنكاره ورفض كل ما ترتب عليه. كما طالب الحزب بانسحاب غير مشروط لقوات صدام من الأراضي الكويتية واحترام ارادة الشعب الكويتي المسلم في استقلال بلده والعيش الآمن الكريم في وطنه. كما انّه ادان تواجد الحشود العسكرية الإمريكية والغربية باعتبار ان القوات الإمريكية انّما جاءت لتحقيق هدفين رئيسين لا علاقة لهما بدعوى تحرير الكويت.
الأول: تدمير الجيش العراقي والبنى التحتية للإقتصاد والمجتمع العراقي.
الثاني: احكام السيطرة على منابع النفط وانهاك المنطقة وتحقيق الهيمنة الإمريكية للتحكم بشريان الأقتصاد الدولي الممثل بالنفط.
لقد ترك غزو صدام للكويت آثاراً خطيرة انعكست على طبيعة العلاقات بين حكومات المنطقة وشعوبها ونسفت مفهوم الأمن القومي العربي واحدثت شرخاً في مجمل العلاقات بين الدول العربية نفسها والتي انقسمت ازاء عملية الغزو إلى مؤيد له ضمناً ومعارض له علناً، كما انسحبت آثاره على شعوبها التي عانت من آثار هذا الغزو وتلك التي انخدعت بشعارات صدام الكاذبة الداعية إلى تحرير فلسطين وتوزيع الثروة العربية فكان ان نالت القضية الفلسطينية القسط الأكبر من آثار ونتائج الغزو.
ان اصطفاف منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات مع صدام وتأييد للغزو أدّى إلى عزل هذه المنظمة عربياً واسلامياً ودولياً كما خسرت المنظمة الدعم المالي الكبير والذي كانت تتلقاه من الدول الخليجية فيما حرم الفلسطينيون المقيمون في دول الخليج من فرص العمل بعد اخراجهم من هذه الدول مما فرض صعوبات مالية على ذويهم في فلسطين المحتلة وانسحبت آثاره على انتفاضة الحجارة في الأرض المحتلة. كما تضرر الإردنيون واليمنيون والسودانيون جراء الغزو بسبب مواقف حكوماتهم التي أيدت صدام.
الأشقاء الإسلاميون.. مواقف لا مسؤولة
يتبع