|
-
نقد الفكر السلفي الوهابي
نقد الفكر السياسي السلفي
في سقيفة بني ساعدة وعندما خضعت المعارضة لخلافة قريش، والمتمثلة في الأنصار، لخلافة أبي بكر، كان واضحا أن المسلمين كانوا متجهين إلى أزمة سياسية وشيكة. فخضوع أغلب الأنصار، أيا كان أسبابه، كان قد حل مسألة شكلية تمثلت في أي القبائل سوف يتولى "سلطان محمد". ولكنه لم يضع أو يقرر آلية واضحة للاستخلاف وشروط الإمامة وحدود الطاعة وصلاحيات الخليفة وواجباته وحقوقه وآليات احتمال عزله إذا كان هذا ممكنا. كل هذا ترك لفقهاء المسلمين ومنظريهم بعد عدة قرون من هذه الحادثة. وبما أن الوحي قد انقطع بوفاة النبي عليه السلام، كان على المسلمين أن يحلوا معضلات واجهتهم في تلك المسائل، كان ابسطها مثلا السؤال: من أين يأكل الخليفة ؟ فبعد أن رأى المسلمون أبو بكر الصديق بعد يوم واحد من استخلافه ماشيا نحو السوق حاملا بضاعته على كتفه، تنبه بعض الصحابة أن خلافة المسلمين أمر يجب أن يتولاه متفرغ لهذا الأمر، تلك هي البداهة، فما كان منهم إلا أن بعثوه إلى خازن بيت مال المسلمين ليفرض له من المال والطعام ما يكفيه ليتفرغ لمهمته الجليلة. وكان السؤال التالي هو: كم يفرض له من بيت المال؟ وهكذا توالت الأسئلة.
ولكن استمرار الحياة ومضي السنين وتعقد الأحوال وكثرة الفتوحات ووفرة الأموال أتت بأسئلة أكثر صعوبة وأشد وقعا على حياة المسلمين وعلى مستقبلهم فيما بعد، بل وحتى على عقيدتهم. وخلال هذا كله تعامل صحابة النبي مع هذه الأمور بما كان يرونه صالحا لها ولهم، أو بما كان يراه لهم صاحب الأمر واستدعى وجوب الطاعة له بموافقته والعمل برأيه. ومن الملاحظ أن في أغلب هذه الأمور تعامل الصحابة وولاة أمرهم مع هذه الأسئلة والحوادث الناشئة على أساس قاعدة بسيطة وضعها النبي عليه السلام فحواها أن الناس أعلم بشؤون دنياهم. ونظرة سريعة لمواقف عمر بن الخطاب وأحكامه وقراراته كافية وحدها لسوق أدلة كثيرة على ذلك، بل حتى أنه عطل بعض النصوص عندما اقتضت المصلحة ذلك واختلف الظرف الذي قيل فيه النص، واثبت الزمن صحة موقفه. وفي كل هذا لم يكن يدور بخلد هؤلاء الصحابة أن أفعالهم وأقوالهم وبعض مواقفهم سوف تُنَظِرْ وتؤسس لأحكام وفتاوى سوف يضفي عليها الفقهاء والأصوليون فيما بعد صفة "الشريعة الإسلامية"، لتصبح جزءا لا يتجزأ من المنظور الإسلامي الذي سوف يضفي صفة الشرعية على مواقف وآراء عديدة تبدو في أحيان كثيرة، وعلى أحسن الأحوال، أنها تنافي البداهة وقيم العدالة والحق ومحاربة الجور والظلم، وذلك بسبب اختلاف الظرف والزمان والمكان.
ومن الملاحظ أن هؤلاء الصحابة تباينت مواقفهم في عدة أمور، سفك المسلمون، يقودهم الصحابة أنفسهم، بسببها دماء بعضهم البعض. ففي السنوات الست الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان واجه المسلمون أزمة كانت من الخطورة بحيث بقى أثرها ليصبغ التاريخ الإسلامي بحمرة دم هذا الخليفة لسنوات طويلة قادمة، وليفترق الناس بسببها إلى فرق وشيع كفرت وفسقت بعضها بعضا واستحلت دماء بعضها بعضا، وسلت فيها السيوف على أمر كان ظاهره المطالبة بالقصاص وباطنه الخلافة والملك. وفيما كان بعض المسلمين يحاصرون الخليفة في عاصمته ينوون قتله أو على الأقل عزله بسبب استغلاله لمنصبه ومحاباته لأقاربه ضمن أمور أخرى، كان الخليفة يرفض أن ينزع قميصاً كان يرى أن الله هو الذي ألبسه إياه وأن محاباته لأهله هي ضمن حقوقه كخليفة. وتحزب له البعض الآخر من المسلمين، فقسم دخل معه في بيته ليقاتل دونه، وقسم وقف على بابه يدفع عنه الناس، وقسم اكتفى بالكلام. وكان من المسلمين من اعتزل هذا كله، فمنهم من خرج من المدينة، ومنهم من دخل بيته، ومنهم من بقي في بلاده بعيدا ينتظر. ثم قُـتل الخليفة. وعندما جرى دمه جرى أيضا معه دماء آلاف من المسلمين، سالت أول قطرة منه في المدينة ثم جرف طوفانه أمصار الإسلام ومدنهم. وعندما واجه المسلمون هذا الإشكال فيما بعد، أستقر الرأي على أنه "قُتل عثمان مظلوما ومن قتله كان ظالما ومن خذله كان معذورا"(قاله سعيد بن المسيب. تاريخ الخلفاء، السيوطي). وليس المهم هنا السؤال أنه إذا كان قتل مظلوما فكيف يكون من خذله معذورا، وليس مهم أيضا أن نلاحظ محاولة إرضاء طرفي الخلاف في هذا الجواب وعدم التورط مع فريق دون آخر، ولكن المهم هو أن كل من لعب أدوارا في هذه المواقف المتناقضة كانوا هم الصحابة، بعضهم من المهاجرين الأوليين ذوي السابقة، وكلهم ممن يحتج به في كتب الحديث والفقه والسنة.
ثم خاض الصحابة، والمسلمون معهم، حروبا فيما بينهم. وتعددت الأسباب المعلنة فيما بين المطالبة بدم الخليفة القتيل، أو رد الخلافة إلى أهل الشورى (كان البعض يقصد بها من بقي من الستة الذين أوصى إليهم عمر)، أو أحقية شخص بالخلافة، و الكل كان يسعى في الحقيقة للخلافة و الملك. وكان الأغلبية العظمى من الصحابة، من ذوي السابقة إلى الإسلام والباع الطويل في الدفاع عنه بل ومن المبشرين بالجنة، وأحد نساء النبي، كانوا كلهم يخوضون في هذه الحروب مع هذه الفرقة أو تلك. وبقيت قلة قليلة، غلب عليهم إما صفة صغر السن عند وفاة النبي عليه السلام من أمثال عبدالله بن عمر الذي رده النبي في أحد المعارك لصغر سنه، وأسامة بن زيد الذي رفض الصحابة قبل وفاة النبي مباشرة أن يكون هذا الشاب الصغير قائدا عليهم وفيهم شيوخ المهاجرين وذوي السابقة والخبرة، أو غلب عليهم حداثة الإسلام كأمثال أبي بكرة الذي أسلم يوم الطائف في شوال سنة ثمان من الهجرة، أو أمثال أبي موسى الأشعري الذي أسلم بمكة ثم هاجر إلى الحبشة أو رجع إلى قومه، اختلفت الروايات هنا، ثم لم يرى النبي إلا في خيبر سنة سبع من الهجرة. هذه القلة القليلة اعتزلت هذه الفرق كلها، لتتحول فيما بعد إلى حجة للسلف والسلفيين في وجوب اعتزال "الفتن"، وليكونوا هم من يُقصَد "بالسلف" عند استعمال هذا المصطلح في هذا الموضوع بالذات. ويبقى سؤال. كيف تترك آراء ومواقف أغلب الصحابة من المتقدمين وذوي الرأي والسابقة والخبرة وممن شهد لهم النبي بالجنة كما ورد بالأحاديث لرأي هؤلاء؟ بل ويتخذون حجة، عند بعض الفقهاء، للتدليل على موقف الإسلام والشريعة الإسلامية. إذ أن من غير المفهوم أن تترك آراء ومواقف علي والحسن والحسين ومحمد أبناء علي وعمار بن ياسر وعمرو بن العاص وابنه عبدالله والزبير بن العوام وابنه عبدالله وطلحة بن عبيدالله وابنه محمد وأم المؤمنين عائشة وأخيها محمد وأبو سعيد الخدري وعثمان بن حنيف وحجر بن عدي وجارية بن قدامة وخزيمة بن ثابت (ذو الشهادتين) وقيس بن سعد بن عبادة والنعمان بن بشير وعقبة بن عامر وفضالة بن عبيد، وهؤلاء البعض وليس الكل ممن خاض هذه المعارك، وهم ممن لهم السابقة ومنهم من شهد بدر وغيرها من المعارك مع النبي، أقول من غير المفهوم أن يُقفز على مواقفهم وتترك آرائهم لموقف ورأي أبي بكرة وعبدالله بن عمر وأسامة بن زيد. ما الذي حدث ليجعل آراء بعض صغار الصحابة وبعض التابعين تتغلب على آراء جمع جليل من قدماء الصحابة وأهل الرأي والبلاء فيهم ومن بقي من أهل الشورى؟ ألا يخالف هذا مبدءاً من مبادئ السلف وهو تقديم فهم الصحابة للنصوص على فهم المتأخرين؟ فكيف يترك فهم علي والزبير وطلحة وعمرو بن العاص لفهم أبي بكرة وأبن عمر وأسامة؟
المهم أنه هكذا شاء فقهاء السلف. واحتج السلفيون بهم وبمواقفهم بالإضافة إلى بعض الأحاديث النبوية المروية عنهم في وجوب اعتزال الفتن وطاعة الأمراء أيا كان أحوالهم إلا أن يظهر هؤلاء الأمراء الكفر البواح المخرج من الملة والذي يملكون عليه من الله برهان. ولكن هذا الموقف وما تلاه من أحداث تمخض عن إشكال يعبر عنه حديث ورد في صحيح مسلم عن حوار دار بين رجل وعبدالله بن عمرو بن العاص، فعندما قال له الرجل: "هذا أبن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما). قال: فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله، وأعصه في معصية الله" (صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة). هو إشكال تمخض عن عدم وضوح العلاقة بين شرعية الحاكم أو شرعية أوامره، وبين النصوص المقدسة التي تفرض بعض القيم التي قام عليها الإسلام والذي أعتقد المسلمون أنها وجدت لتطبق لا لتقرأ في المصحف فقط، وأيضاً بين الطاعة التي تفرضها بعض الأحاديث التي تداولها بعض الصحابة. وهو من ناحية أخرى إشكال بين هذا كله وبين من يختاره الإنسان في ذلك الزمان ليسأله عن رأيه في هذه المسألة أو أي مسألة أخرى. إذ كيف من الممكن أن يكون واضحا لرجل يرى حاكما ما يدعي الإيمان بالنص ومن أتى به ثم يراه يخالف نصوصا مقدسة تُـثَـبْت مبادئ من المفترض أن تحترم وتتبع ولا يستتبع ذلك الطعن في شرعية الحاكم أو شرعية طاعته، ولا يستتبع ذلك إجراءات بديهية ترجع الحق إلى نصابه؟ ولو أن هذا السؤال كان قد طرح على علي أو طلحة أو الزبير أو معاوية أو عائشة أو عمرو بن العاص أو عمار بن ياسر أو حتى عمر بن الخطاب، مع ما نعرف من شخصيته القوية وصدعه بالحق، فلنا أن نتخيل ماذا سوف يكون الجواب. بل وحتى التوقيت، فلو كان هذا السؤال في سنة 35 للهجرة لأختلف الجواب عنه في ما بعد سنة 40 للهجرة، ولأعتمد أيضا على من تسأل هذا السؤال. ثم إذا كانت الطاعة هي في طاعة الله فما هي حدود الخروج عن الطاعة عندما يأمر الحاكم بالمعصية؟ أليس هذا يعتمد أيضا على رأي وفهم من يسأله الإنسان في ذلك الوقت؟ ألم تُعرَّف البيعة فيما بعد على أنها "عهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ولا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره" (مقدمة أبن خلدون)، ولكن كم من الكُتّاب الإسلاميين تفاخر برد ذلك الرجل على عمر بن الخطاب بأنه سوف يقومه بسيفه إذا رأى منه عوجاً مما أدى بعمر أن يحمد الله على ذلك. ألم يقرر فقهاء السلف تحريم قتال الحكام والخروج عليهم إلا إذا أظهروا الكفر الصريح المخرج من ملة الإسلام؟ فهل العوج هو الكفر المخرج من الإسلام؟ ثم كيف يعصي هذا الرجل الحكام في معصية الله؟ هل يرفض هذا الأمر بأضعف الإيمان ويفعل ما يطلب منه؟ أو بالكلام ومحاولة الإقناع؟ فماذا إذا أصروا؟ يكفي المرء أن يقرأ سيرة الحجاج ليعرف ماذا حدث للرافضين.
كل هذا لم يملك المسلمون الأوائل له تصورا واضحا وإنما كان كل واحد يفتي ويعمل على حسب ما يراه أو تملي عليه ظروفه. وهذا ما يدلل عليه انضمامهم لهذا المعسكر أو ذاك أو اعتزالهم أو تنقلهم بين هذا الفريق أو ذاك. وما كان يراه هذا الصحابي أو ذاك أو ما كانت تملي عليه ظروفه من القتال أو تركه تحول فيما بعد إلى جزء من التنظير الإسلامي ليكّون مفهوما ثابتا في الشريعة الإسلامية عند البعض، بل ودليلا معتبرا يحتج به، سواء كنت من أنصار هذا الفريق أو ذاك. وتلك كانت مشكلة هذا الرجل الذي سأل ذلك الصحابي. فقد شهد هذا الرجل، على الأرجح، معارك الصحابة بعضهم مع بعض وسمع آرائهم في بعضهم البعض، وكان قبل ذلك سمع عن أو شهد خلافة أبي بكر وعمر ثم جاء متحيرا ليسأل، وما ازداد إلا حيرة. وقبل أن نسترسل يجب أن نذكر أن عبدالله بن عمرو بن العاص، الذي أجاب على سؤال الرجل، كان مع أبيه ومعاوية في صفين وكانت بيده الراية يومئذ. إلا إنه، وكما يذكر هو، لم يقاتل في هذه المعركة واكتفى بحمل الراية، وأنه ندم على مشاركته فيما بعد كما تقول المصادر(الاستيعاب في معرفة الأصحاب، القرطبي). بعد ذلك الحوار بستة قرون كتب النووي شارحا هذا الحديث: "هذا فيه دليل لوجوب طاعة المتولين للإمامة بالقهر من غير إجماع ولا عهد".
يتبع
-
من المفيد هنا أن نذكر آراء الصحابة في بعضهم البعض في الفتنة التي عمت المسلمين بعد مقتل عثمان. نبدأ بعلي بن أبي طالب. عندما بعث علي عمار بن ياسر إلى من اعتزل القتال ليقنعهم بموقفه، رجع إليه عمار بفشله، فقال علي: "دع هؤلاء الرهط. أما [عبدالله] بن عمر فضعيف، وأما سعد [بن أبي وقاص] فحسود، وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتلت أخاه يوم خيبر، مرحب اليهودي" (الإمامة والسياسة ، لأبن قتيبة). وقال لعبدالله بن عمر عندما رفض بيعته وآثر أن ينتظر حتى يبايعه الناس أولاً: "لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرا وكبيرا لأنكرتني" (تاريخ الطبري والكامل في التاريخ ، حوادث سنة 36 هـ). وقال لطلحة يوم الجمل: "جئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت. أما بايعتني ؟" (تاريخ الطبري). وقال للزبير في يوم الجمل أيضا: "أتطلب دم عثمان مني وأنت قتلته. سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره". أما أم المؤمنين عائشة فكان رأيها في مخالفيها كالآتي: "إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله"(تاريخ الطبري). وعن علي وخلافته فإن أمنيتها "أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك"(تاريخ الطبري). وشكت أهل البصرة بأنهم هددوها بالقتل وذلك "ليزيدوا حدود الله تعطيلا، فعاندوا فشهدوا علينا بالكفر وقالوا لنا المنكر"(تاريخ الطبري). وكان رأيها في علي أنه عطل حدود الله وأنه "بدل"(تاريخ الطبري). ولم يكن رأيها في أخيها محمد بن أبي بكر بأحسن من ذلك ولا في عمار بن ياسر. وأما الأمر بين طلحة والزبير فلخصه أحد رجالهم بقوله: "والله لو ظفرنا لافتتنا. ما خلىّ الزبير بين طلحة والأمر، ولا خلىّ طلحة بين الزبير والأمر"(تاريخ الطبري). ويقصد بالأمر خلافة المسلمين لو كانوا انتصروا في معركة الجمل. وكان رأي الزبير فيمن قدم من مصر على عثمان أنهم "الغوغاء من الأمصار ونزاع القبائل وظاهرهم الأعراب والعبيد"(تاريخ الطبري). ومن الملفت للنظر أن الرواة يذكرون أن الزبير بن العوام أراد الرجوع عن رأيه في قتال علي، ولكن عندما عيره أبنه عبدالله بأنه خائف من القتال رجع وخاض في دماء المسلمين على أية حال ليثبت لأبنه شجاعته وخطأ ظنه(تاريخ الطبري). وعندما ناظر عمار بن ياسر أبو موسى الأشعري، ذكر أبو موسى أنه سمع النبي عليه السلام يقول: "أنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم …… "، فكان فهم عمار لهذا الحديث أن هذا القول هو في أبو موسى الأشعري خاصة "أنت فيها قاعدا خيرٌ منك قائما"(تاريخ الطبري). وكان رأي رجال أبي موسى في عمار أنه "عبد" وأنه كان "أمس من الغوغاء". ومن المفيد هنا أن نذكر رأي صاحب كتاب الاستيعاب في موقف أبو موسى الأشعري من علي، فقد ذكر أنه "كان منحرفا عن علي لأنه عزله ولم يستعمله"(الاستيعاب في معرفة الأصحاب، القرطبي). وكان رأي الأشتر، وهو من أصحاب علي، في أبو موسى الأشعري أنه "من المنافقين قديما"(تاريخ الطبري). ونستطيع أن نسترسل هنا لنملأ عدة صفحات، ومن مصادر أخرى كثيرة وفي فترات زمنية مختلفة، عن آرائهم في بعضهم البعض وعن أسباب مواقفهم وتحزباتهم، ولن نذكر هنا آراء علي بن أبي طالب وأصحابه في معاوية وأصحابه أو العكس، فالأمر أكثر وأشهر من أن يعاد هنا.
المهم من هذا كله أن مواقف الصحابة أملتها ظروف أو رغبات أو مطامح أو مشاعر بالظلم والافتئات أو حتى شعور بالضعف والخوف. ألم يفر الصحابة عن النبي في أكثر من موقعة، ألم يغير بعض الصحابة مواقعهم في أحد الفريقين المتصارعين بسبب المال أو الولاية أو حتى الفراسة في أن فريقه هو لا محالة الخاسر، ألم يعطي أحد الصحابة مصر ومن عليها من البشر إلى صحابي آخر مقابل "خدماته". كانوا بشرا مثلنا تماما، يرغبون ويطمحون ويضعفون ويخافون، بل وحتى تتعارض مصالحهم مع مصالح الدعوة الإسلامية أحيانا وليفضلوا مصلحتهم في نهاية المطاف، ويكفي أن يراجع الإنسان ترجمة حاطب بن أبي بلتعة في أي مصدر شاء ليملك الدليل على ذلك. وليس من المعقول ولا من العدل أن تكون رغباتهم وطموحاتهم ومصالحهم وضعفهم أو حتى قوتهم وجرأتهم مصدرا للتشريع يضفى عليه صفة القدسية وتكون حجة لا ترد بأسم الشريعة الإسلامية. لماذا يصر فقهاء السلف على الأمر بالكف عن الخوض في خلافات الصحابة وحروبهم التي أراقت دمائهم ودماء آلاف المسلمين معهم؟ أليس الخوض فيها لفهم دوافعها وأسبابها وسيلة لمعرفة ما يجب أن يكون جزءا من الشريعة وما يجب أن يطرح منها؟
ولنضرب مثالا هنا يوضح ما نقصد. وليكن موضوع أهل الحل والعقد واستدلال الفقهاء على عددهم المفترض، هو المثال. وذلك لأن الفقهاء استدلوا في أغلب آرائهم بأحداث سقيفة بني ساعدة، وهذه الأحداث باتت من الشهرة بحيث يغني عن التمهيد بعرض أحداثها هنا، وذلك سعيا للاختصار. كتب الماوردي عن الخلاف في عدد أهل الحل والعقد: "اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى. فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاما والتسليم لإمامته إجماعا، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالا بأمرين: أحدهما أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، …… والثاني، عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليهما امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع أبن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنه حكم وحكم واحد نافذ" (الأحكام السلطانية، الماوردي). الخلاصة هنا، أنه لم يكن هناك عند فقهاء المسلمين نصا يوضح آلية انعقاد الإمامة، وبدلا من أن يجتهد الفقهاء، كما اجتهد هؤلاء الصحابة بما أملت عليهم مصالحهم والأحداث والظروف المحيطة بهم آنذاك، قرروا أن يغضوا النظر تماما عن أسباب هذه المواقف والأقوال وليأخذوها على علاتها كمصدر للتشريع. فرُفض الخيار الأول من الفقهاء، وهو أنه لا تنعقد الإمامة "إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاما"، تم رفضه لأن أبي بكر لم ينتظر ببيعته قدوم غائب، ومن الواضح أن السؤال التالي لم يهم أحد من الفقهاء، وهو كيف ينتظر مع ما جوبه به من معارضة قبل وبعد بيعته، كما توضحها أحداث السقيفة، وما تلاها من أحداث. بل أنه لم يسلم من تداعياتها حتى بعد وفاته، وهو ما أشار إليه عمر عن طريقة استخلاف أبي بكر بأنها "فلتة وقى الله شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه" (تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي). وقول العباس لعلي أصبح أيضا مصدرا للتشريع، مع غض النظر تماما عن أسبابه ودوافعه. واختيار عمر للستة في موضوع الخلافة أصبح أيضا دليلا تبنى عليه أحكام الشريعة، ولم يكن يهم الفقهاء أن اختيار عمر أتى بسبب أن هؤلاء الستة هم من يعلم عمر أن النبي عليه السلام توفي وهو راض عنهم، ولو كانوا أقل أو أكثر، لكان عددهم اختلف. كما أن عمر لم يشأ أن يختار أحدا بعينه ليخلفه من باب الورع والتقوى، وذلك لأنه لا يريد أن يتحمل تبعات الخلافة حيا وميتا كما قال هو، ولكن الفقهاء غضوا النظر تماما عن هذا الجانب وجعلوا تقوى عمر وورعه مصدرا للتشريع والاستدلال. الخلاصة أنه لم يكن هناك نص، وبدلا من أن يجتهد الفقهاء عند اختلاف الزمان والمكان والظروف بما يصلح لها، آثروا أن يتبنوا ما اجتهد به غيرهم في ظرف وزمان ومكان معين، وليصبغوه بصبغة الشريعة، وليحكموا به على أنه رأي الإسلام. وموضوع عدد أهل الحل والعقد ما هو إلا موضوع صغير ضمن مواضيع أكثر أهمية وأشد وقعا على حاضر الأمة ومستقبلها. فمواضيع مثل هل يمكن عزل الخليفة، وهل رأي الشورى ملزم له أم لا، وصلاحيات الخليفة وواجباته، وكيف يتم اختيار الخليفة، وكيف تتم مراقبة مهامه، كلها لم يملك المسلمون عليها نص واضح من القرآن والسنة. وبدلا من أن يتنبهوا إلى الحكمة من وراء ذلك، آثروا أن يتبنوا آراء وأحكام قال بها بعض الصحابة ضمن ظروف وأحوال ومصالح معينة، ثم أضفوا على هذه الأقوال والأفعال صفة الاستمرارية والثبات والصلاحية لكافة الأزمان والعصور وذلك من خلال إضفاء صفة الشريعة الإسلامية عليها، وكانت خلاصة الإجابات على الأسئلة السابقة أن الخليفة لا يمكن عزله وأن منصبه مدى الحياة، ورأي الشورى غير ملزم له، وصلاحياته واسعة يتصرف بالبلاد والعباد بما يشاء، ويمكن نصحه إذا أنحرف عن الجادة ولكن بالتأكيد لا يمكن معاقبته أو الخروج عليه، أما اختياره، فإن غلب على الخلافة بسيفه فله أن يبقى ولا يجوز لأحد الاعتراض. واستدلوا بكل ذلك على آراء وأفعال وخلافات وصراعات الصحابة مع بعضهم البعض، بعد أن عزلوا ظرف الزمان والمكان والسبب في هذه المواقف أو تلك.
كتب أبو الأعلى المودودي: "إني لا أفهم (الصحابة كلهم عدول) بمعنى أنهم جميعا لا يخطئون وأن كل واحد منهم كان فوق كل نوع من نقاط الضعف أو النقائص البشرية وأن كل واحد منهم لم يخطئ قط، إنما أفهمها على أن أيا من الصحابة لم يتجاوز الصدق والصواب في روايته عن الرسول …… أما إذا فهمناها على أن الصحابة كلهم، دون استثناء، كانوا عادلين في كافة الأمور فلم يصدر عن أي واحد منهم فعل يخالف العدل والإنصاف فإن هذا التفسير لن ينسحب عليهم جميعا. ومما لا شك فيه أن كثرتهم الغالبة كانت ذات شأو بعيد في العدل والإنصاف، ولكن لا يمكن أن ننكر أن بعضا منهم صدرت عنه بعض الأمور التي تخالف العدل أيضا …… أما اكتساب الفيض والعلم منه [يقصد المودودي اكتساب الصحابة العلم من النبي] والتأثر بصحبته وتعليمه فلم يكونوا فيه سواء. فالمجتمع الذي وضيء بنور النبوة كان، على أي حال، مجتمعا بشريا ولم يكن أفراده سواء في تلقي واستقبال هذا النور …… وفوق هذا وذاك كان لكل واحد منهم طبيعته الخاصة ومزاجه المختلف عن غيره، كذلك لم تكن محاسنهم وعيوبهم ومساوئهم متماثلة متناظرة. لهذا تأثر كل واحد منهم بصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام وتعليمه بما يتفق واستعداده الخاص، فكان من الممكن أن يكون بينهم، بل كان بينهم بالفعل، من بقيت في داخلهم، رغم هذه التربية العالية في تزكية النفس، بعض العيوب في جانب من الجوانب بأي حال من الأحوال. فهذه حقيقة لا يمكن إنكارها أبدا، كما أن احترام هؤلاء الصحابة الكرام وإجلالهم لا يقتضي ضرورة إنكارها" ( الخلافة والملك، أبو الأعلى المودودي، ملحق: الاعتراضات التي أخذت على هذا الكتاب، ص 205 – 209. ما بين [ ] هو من إضافتي للتوضيح، وما بين ( ) هو في النص الأصلي).
استقر الأمر لمعاوية بعد مقتل علي بن أبي طالب وتنازل أبنه الحسن لصالحه. وكان فيما أشترط الحسن لنفسه أن يكون هو الخليفة من بعده، ولكنه مات قبل ذلك. تقول بعض الروايات أن زوجته قد وضعت له السم بعد أن أغراها معاوية بأمور. ثم اضطر معاوية أن يواجه صحابي آخر هو حجر بن عدي ثم قتله سنة 51 للهجرة. كان ذلك بسبب اعتراضه على الولاة في الكوفة وحصبهم بالحصى، وكان قد "التف على حجر جماعات من شيعة علي يقولون أمره ويشدون على يده ويسبون معاوية ويتبرؤون منه"(البداية والنهاية، ابن كثير)، ثم إنه عسكر في "ثلاثة آلاف بالسلاح وخرج عن الكوفة. ثم بدا له وقعد" (سير أعلام النبلاء، الذهبي). وبعد وفاة معاوية جاء إلى الحكم أبنه يزيد. وخلال فترة حكمه قتل الحسين بن علي وجماعة من أهل بيته لخروجه عليه وطلبه الإمارة. ثم وجه جيشا إلى المدينة، وفيها جماعة من الصحابة وأبنائهم ومن التابعين، بعد أن "جعل الرجل منهم يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه. ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى أجتمع شيء كثير من العمائم والنعال" (البداية والنهاية). ثم دخل الجيش المدينة بعد أن قاتل أهلها واستباحها ثلاثة أيام يعمل فيها الجنود كيفما شاءوا. نقل السيوطي عن الحسن البصري قوله: "والله ما كاد ينجو منهم أحد، قتل فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم ومن غيرهم، ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذراء" (تاريخ الخلفاء، السيوطي). ونقل أبو الفداء في تاريخه هذه الإحصائية عن القتلى "كانوا سبعمائة (في الإمامة والسياسة لأبن قتيبة "ألفا وسبع مئة") من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من وجوه الموالي وممن لا يعرف …… ثم إن مسلما (قائد جيش يزيد) بايع من بقي من الناس على أنهم خوّل وعبيد ليزيد بن معاوية" يفعل فيهم ما يشاء ويحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم متى شاء. ومسلم هذا هو مسلم بن عقبة قائد جيوش يزيد إلى المدينة. "ذكروا أنه قتل يوم الحرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلا ولم يبق بدري بعد ذلك" (الإمامة والسياسة، لأبن قتيبة). ثم سار هذا الجيش من المدينة إلى آخر من بقي من الصحابة ممن لا يزال يحمل السلاح، عبدالله بن الزبير، في مكة. وحاصر هذا الجيش مكة ونصب المنجنيق "على الكعبة ورموها حتى بالنار" (البداية والنهاية، ابن كثير)، ثم احترقت الكعبة "واسود الركن وانصدع في ثلاثة أمكنة منه" (المرجع السابق). وانتهى عبدالله بن الزبير قتيلا بيد الحجاج بعد ذلك بسنوات بعد أن حوصرت الكعبة مرة ثانية ورميت بالمنجنيق "فقتلوا خلقا كثيرا، وكان معه خمس مجانيق فألح عليها بالرمي في كل مكان" (المرجع السابق)، كان ذلك في خلافة عبد الملك بن مروان.
في كل هذه الحروب و "الفتن" ظل من قال باعتزال الحروب بين المسلمين، بكافة طوائفهم وفرقهم، آمنا مستقرا لم يتعرض لسوء. واستوعب كل من بقي من التابعين ومن سوف يشملهم مصطلح "السلف" فيما بعد هذه الدروس جيدا، وعرضوا التاريخ على عقولهم، وعرضوا أيضا نهايات من خاض في "الفتن" وسلامة من أعتزلها، فخرجوا بنتائج لخصها الحسن البصري في موقفين. أولاهما، قيل له: ألا تدخل على الأمراء فتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر. قال الحسن: ليس للمؤمن أن يذل نفسه، إن سيوفهم لتسبق ألسنتنا، إذا تكلمنا قالوا بسيوفهم هكذا، ووصف لنا بيده ضربا (الطبقات الكبرى، أبن سعد). النتيجة الأولى عند السلف: اعتزل الحكم والحكام ما امكنك. والموقف الثاني، عندما سئل عن رأيه في "الفتن"، مثل خروج يزيد بن المهلب وأبن الأشعث على السلطة آنذاك، وكيف ينبغي للمسلم أن يقف منها، كان جواب الحسن: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد ؟ قال الحسن غاضبا: نعم ولا مع أمير المؤمنين (المرجع السابق). النتيجة الثانية عند السلف: اعتزل جميع الفرق المتصارعة على الحكم حتى الذي يملك زمام الأمر الآن.
كانت المحصلة النهائية لكل هذه الحروب والدماء والأعراض هو رسوخ مبدأ الاعتزال في "الفتن" وأن لا يبايع الإنسان حتى يرى الآخرين قد بايعوا واجتمعوا على فرد معين، بمعنى آخر لا تكن أول من يبايع. ومن الملفت للنظر هو ظهور القول بأن ظلم الولاة وعسفهم ما هو إلا عقوبة من الله أنزلها على الأمة بسبب فساد الناس وابتعادهم عن الدين. والسلف بذلك يلقون تبعات القتل والنهب والفساد وانتهاك الأعراض على الناس أنفسهم أو في أحسن الأحوال فهم، أي الناس، من تسبب في ذلك فلا داعي للشكوى والتذمر وبالتأكيد لا داعي للخروج على الحكام وحمل السيوف. قال أبو العز الدمشقي في شرح العقيدة الطحاوية: "وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم. بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل. فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل …… فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم" (شرح العقيدة الطحاوية، الدمشقي). فعندما لم يحتمل الناس ظلم الحجاج وعسفه ومسارعته في سفك دماء المسلمين، هدأ الحسن البصري الناس قائلا لهم: "يا أيها الناس، إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف ولكن عليكم السكينة والتضرع". فالحل لظلم الولاة ومسارعتهم في دماء الشعوب هو السكينة والتضرع لأنه أتى بسبب ذنوب المظلومين من الشعوب فعليهم بالتضرع إلى الله حتى يغفر لهم خطاياهم ويرفع عنهم هذا البلاء بطريقة ما لا يوضحها فقهاء السلف. وكان السبب في هذا الرأي عند الحسن واضحا، لأنهم، أي الناس، لا يصبرون حتى يفرج الله عليهم "ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه. فوالله ما جاءوا بيوم خير قط". ومن الغريب أن القول بظلم الولاة وعسفهم إنما هو نتيجة لذنوب الشعوب ومعصيتهم الله كان قد قال به عبدالله بن عمر قبل ذلك. ينقل أبن كثير في تاريخه أنه عندما انهزم أهل المدينة يوم الحرة وصاح النساء والصبيان، صاح أبن عمر قائلا: "بعثمان ورب الكعبة". كان التاريخ ماثلا بكل بوضوح في ذهن الحسن ومن قبله أبن عمر، إذ لم يرى الحسن يوم خير قط من بعد مقتل عثمان إلى يوم طالبه الناس بأن يفتي بالخروج على الحجاج والحث على ذلك. وينقل الرواة أنه عندما لم يطعه رجال في رأيه ذلك وخرجوا مع أبن الأشعث فأنهم "قتلوا جميعا".
لاحظ عبدالرحمن بدوي أمرا لافتا في شخصية الحسن البصري، فهو "يعظ وينهر، لكن حين الصدام مع الموعوظ أو المنتهر يتلطف ويكاد يتراجع ويستسلم. وتلك كانت طبيعة الرجل، فلا يطلب منه أحد أكثر من هذا. فمبدؤه: لا خروج ولا كتمان، أي لا تمرد ولا عنف ولكن لا كتمان لما يعتقد أنه حق. يقول رأيه، ولا يلجأ إلى العنف في الدفاع عنه، ولا يحتمل الاستشهاد في سبيله" (تاريخ التصوف الإسلامي) وأنه "ليس مستعدا للصدام مع السلطة أبدا". كما لاحظ أمرا آخر عندما نقل خبرا عن سؤال الحجاج للحسن عن رأيه في علي وعثمان وكان خلاصة جواب الحسن أن علم ذلك عند الله، فعلق بدوي قائلا: "فهو هنا لم يشأ الحكم على الخلاف بين علي وعثمان، أو بالأحرى وأصحاب عثمان" (المرجع السابق). إذن عدم الخوض في خلافات الصحابة كان مرجعه نوع من التقية لا تنزيه اللسان عنها. فالحسن هنا يراعي مصلحة النفس، وهو ما أمر الإسلام به، إذ أنه من غير المعقول أن يعرض نفسه لاحتمال القتل بيد الحجاج لا لشيء إلا ليفضل صحابي على آخر أو ليحكم له أو عليه. ولكن تقيته هذه سوف تتحول مع مرور الزمن ونسيان السبب إلى مبدأ لدى بعض الفقهاء وليستدلوا بنفس الخبر مع الحجاج على صحة موقفهم في عدم الخوض في خلافات الصحابة وفيما جرى بينهم.
يتبع
-
السلف نموذجا للتقية
لم يكن الحسن وحيدا في موقفه ذلك، فالآخرين قد استوعبوا دروس التاريخ أيضا ولكن هذه المرة بتجارب شخصية مريرة. سعيد بن المسيب كان في المدينة أيام وقعة الحرة وقضى لياليها وحيدا في المسجد النبوي يخيل إليه أنه يسمع الأذان من قبر النبي فيقيم الصلاة وحده ويصلي (سير أعلام النبلاء، الذهبي). وعندما اقتيد إلى مسلم بن عقبة وقال له: بايع (على أنه عبد قن ليزيد)، كان رده: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر مسلم بضرب عنقه "فشهد رجل أنه مجنون فخلى سبيله" (البداية والنهاية ، ابن كثير). فكان من نتائج ذلك أنه "لم يُر أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد". كما أنه ابتعد عما قد يفهم على غير وجهه الصحيح من قبل الولاة والحكام، حتى أنه لما توفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأرادوه لشهود جنازته رد قائلا: "أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أشهد هذا الرجل الصالح في البيت الصالح" (الطبقات الكبرى، أبن سعد). ومن المصادفة أن علي بن الحسين، على الرغم من موقف أبيه من الأمويين، كان قد اعتزل هو الآخر "الفتن" والخروج على الحكام، بعد أن نجا من مذبحة كربلاء وما كاد بسبب صغر سنه، ولزم بيته (وهذا هو أحد الأئمة المعصومين لدى الشيعة الإثنى عشرية). وترسخ مفهوم اعتزال الفرق المتحاربة من المسلمين، أيا كانت، في ذهن أبن المسيب، فلما أراده عامل عبدالله بن الزبير على المدينة أن يبايع لعبدالله كان رده: "لا. حتى يبايع الناس" فضربه ستين سوطا (سير أعلام النبلاء، الذهبي). وكان موقفه هذا سببا في سلامته واطمئنان الولاة والخلفاء له ووثوقهم من عدم مخالفته لهم مهما فعلوا. وفي ذلك خبر ذو دلالة. لما أراد عبد الملك بن مروان أن يعقد البيعة لولديه من بعده الوليد وسليمان، بعث إلى ولاة أمصار المسلمين ليأخذوا لهما بالبيعة. "فبايع الحجاج لهما بالعراق، فلم يختلف عليه أحد. وبويع لهما بالشام ومصر واليمن"(الإمامة والسياسة، لأبن قتيبة). ولكن سعيد بن المسيب رفض أن يبايع لحديث النبي عليه السلام "إذا كانت بيعتان في الإسلام فاقتلوا الأحدث منهما". وعندما فشلت كل المحاولات لإقناعه كتب عامل المدينة إلى عبد الملك بن مروان برفض سعيد البيعة، فكان جواب عبد الملك، ذو الدلالة، إلى عامله ما يلي: "مالك ولسعيد. وما كان علينا منه أمر نكرهه. وما كان حاجتك أن تكشف عن سعيد أو تأخذه ببيعة. ما كنا نخاف من سعيد ؟". نعم لم يكن عبد الملك يخاف من سعيد حتى وإن لم يبايع وأصر على رفضه. عبد الملك بن مروان الذي أوصى أبنه الوليد عند وفاته "وأخرج أنت إلى الناس، والبس لهم جلد نمر، واقعد على المنبر، وادع الناس إلى بيعتك، فمن مال بوجهه عنك كذا، فقل له بالسيف كذا"، عبد الملك كان يعلم أن سعيد قد استوعب دروس التاريخ ولم ينس تجاربه الخاصة في الحرة. إلا أنه، وبعد أن لام عامله على التعرض لأبن المسيب، لم يكن يريد أن يكون موقفه بالرفض من البيعة مثلا يحتذى من العامة فأكمل كتابه بالآتي: "فأما إذ قد ظهر ذلك وانتشر أمره في الناس، فادعه إلى البيعة، فإن أبى فاجلده مئة سوط واحلق رأسه ولحيته والبسه ثيابا من شعر وأوقفه في السوق على الناس لكيما لا يجترئ علينا أحد غيره".
فهم بعض أهل الدين، والناس معهم، رسالة عبد الملك إلى عامله. فإنهم، وإن لم يطلعوا عليها على الأرجح، فقد رأوا نتائجها بأعينهم. اعتزل كل الفرق المتصارعة على الحكم، تسلم ويأمنك كلهم. ومن نسي من الناس، ولم يكن التاريخ وما تناقله الرواة عن نهايات من خاضوا مع الخارجين كافيا بإقناعهم بأي الآراء هو الصواب وأي المواقف يجب أن يتخذ ويلتزم، كان السيف كفيلا بإقناعه، وليتذكر الناس وليقوم رجال الدين بالدعوة مرة أخرى إلى وجوب اعتزال الفتن. كان اعتزال الفرق المتقاتلة على الملك أو رفض من أراد أن يخرج على الحكام هو سبيل السلامة والأمان في تلك الأيام ولازال. وهذا ما فهمه السلفيون جيدا، فكان من يشملهم لفظ "السلف" في هذا الموضوع بالذات هم عبدالله بن عمر وأسامة بن زيد وأبي بكرة، ولا يشمل هذا اللفظ علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم. ولكن في مواضيع أخرى قد تجد أن من يشملهم هذا اللفظ قد اختلف تماما، ومن كان خارجا منها هناك قد دخل فيها، ومن كان داخلا تجده قد خرج. فإذا أحتج أحدهم بالسلف في أي موضوع كان، فإن السؤال التالي البديهي الذي يجب أن يسأل هو الاستفهام عن أي من السلف يقصد.
تشريع اجبار المسلمين على البيعة
كان الناس في ذلك الوقت، أي من بعد استتباب الأمر لمعاوية، مشغولون بقضية الطاعة، من دخل فيها ومن خرج منها. وكان الخلفاء والولاة يشددون على الطاعة ويحذرون من شق عصاها والخروج عن الجماعة، ويستخدمون في ذلك الأحاديث النبوية مدعومة بحد السيف. كانت مسألة "شرعية الحاكم" مسألة قد حُسمت أو كادت. من أتى إلى الخلافة بطريقة ما، أجبر الناس على البيعة له، ومن خرج بعد ذلك فإنه قد نكث بيعته وخرج عن الجماعة وشق عصا الطاعة. كان ذلك حتى أتى الإمام مالك بن أنس وأفتى فتوى جرّت عليه العذاب والتنكيل فيما بعد، ولتذكر في كتب التراجم تحت عنوان "ذكر محنته". بعث أبو جعفر المنصور أبن عمه جعفر بن سليمان بن العباس إلى المدينة ليأخذ أهلها بالبيعة، وهناك كان جعفر بن سليمان يجبر الناس عند البيعة على الحلف بالطلاق ثلاثا بأنهم لا يرجعون عن هذه البيعة ولا ينكثونها. ثم نقل إلى جعفر بن سليمان أن الإمام مالك يفتي الناس "بأن أيمان البيعة لا تحل" وهي "لا تلزمهم" عند الخروج على الخليفة، ونقلوا إليه أيضا أن ذلك بسبب "استكراهك إياهم عليها" وأن الإمام "يفتي بذلك أهل المدينة أجمعين" (الإمامة والسياسة، لأبن قتيبة). فالإمام كان يرى أنه لا شرعية للحاكم من بيعة المستكره عليها، ولا تلزمه طاعة وإن حلف على ذلك. "فدس إليه جعفر بن سليمان بعض من لم يكن مالك يخشى أن يؤتى من قبله، ومن مأمنه يؤتى الحذر، فسأله عن الأيمان في البيعة، فأفتاه مالك بذلك طمأنينة إليه وحسبة فيه. فلم يشعر مالك إلا ورسول جعفر بن سليمان يأتيه. فأتوا به إليه منتهك الحرية مزال الهيبة" (المرجع السابق). وكانت عقوبة الإمام أن "ضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما" (وفيات الأعيان، أبن خلكان) وبلغ به "ألم الضرب حتى أضجعه". بعد ذلك بقرون كتب الإمام الذهبي عن محنته: "هذه ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير" (سير أعلام النبلاء، الذهبي)، وكتب أبن الجوزي أن الإمام ضرب "لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان" (نقلاً عن وفيات الأعيان، أبن خلكان). وكان سبب الفتوى هو حديث "ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق" (المصنف، أبن أبي شيبة)، فإذا كان المكره على طلاق امرأته لا يكون طلاقه صحيحا فمن باب أولى أن الحاكم لا يكون شرعيا بإكراه الشعب على بيعته، ومن ثم لا يلزم الشعب طاعته ولو حلف له على ذلك. ذكر الذهبي أن أبو جعفر المنصور "نهى مالكا عن الحديث (ليس على مستكره طلاق)" ، وإن كان الإمام مالك قد تعرض للمحنة بسبب هذا الحديث وما استنتج منه، فقد تم للمنصور ما أراد، فقد نُسي هذا الحديث تماما من كتب الحديث. فإذا قرر أحدهم أن يبحث عن هذا الحديث، الذي بسببه ضرب وخلع كتف أحد الأئمة الأعلام في التاريخ الإسلامي، فلن يجده في أي من كتب الحديث المتداولة بين الناس، ولن تجد هذا الحديث إلا في "المصنف" لأبن أبي شيبة موقوفا على أبن عباس وليس مرفوعا إلى النبي عليه السلام. ما أشدَّ عجبي.
في سنة 145 للهجرة خرج محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (المهدي أو النفس الزكية) في المدينة على أبي جعفر المنصور. جاء في تاريخ الطبري "أن مالك بن أنس أستفتي في الخروج مع محمد، وقيل له أن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر المنصور. فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته". وبعد ذلك قتل محمد بن عبدالله في المدينة وقتل معه جمع كثير ونكب الإمام. وفي إشارة من الموقف من الخروج على الحكام علق المنصور العباسي بعد قتل محمد: "لو وجدت ألفا من آل الزبير كلهم محسن وفيهم مسيء واحد لقتلتهم جميعا، ولو وجدت ألفا من آل عمر كلهم مسيء وفيهم محسن واحد لأعفيتهم جميعا".
بعد ذلك بقليل خرج أخوه إبراهيم بن عبدالله بن الحسن على المنصور أيضا في البصرة وخرج معه "جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم" كما قال الطبري. واستفتى الناس هذه المرة الإمام أبو حنيفة فكان "يجهر بالكلام أيام إبراهيم جهرا شديدا" (تاريخ بغداد، الخطيب) و "يفتي الناس بالخروج معه" (مقاتل الطالبين، الأصفهاني). جاء في شذرات الذهب "خرج مع إبراهيم كثير من القراء والعلماء منهم: هشيم، وأبو خالد الأحمر، وعيسى بن يونس، وعباد بن عوام، ويزيد بن هارون، وأبو حنيفة، وكان يجاهر في أمره ويحث الناس على الخروج معه كما كان مالك يحث الناس على الخروج مع أخيه محمد". وعن أبو خالد الأحمر الذي ورد ذكره أعلاه كتب الذهبي: "كان موصوفا بالخير والدين، وله هفوة، وهي خروجه مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن. وحديثه محتج به في سائر الأصول". ثم قتل إبراهيم، وقتل معه جمع كثير، واستبيحت البصرة يوم وليلة يفعل فيها الجند ما يشاؤون، ومات الإمام أبو حنيفة في السجن، قيل إن المنصور "سقاه سما لقيامه مع إبراهيم" (شذرات الذهب، أبن العماد). قال بعض السلف فيما بعد عن الإمام أبي حنيفة أنه كان "جهميا مرجئا" وأنه "يرى السيف في أمة محمد"(تاريخ بغداد، الخطيب).
بعد تلك الحوادث بعدة قرون كتب أبن تيمية: "وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على كل إنسان وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة، كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت …… وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والكذب وشرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور والخروج عما أمر الله به من طاعتهم هو محرم وإن لم يحلف عليه …… ولهذا من كان حالفا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم … لا يجوز لأحد أن يفتنه بمخالفة ما حلف عليه، والحنث في يمينه، ولا يجوز أن يستفتي في ذلك. ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه، والحنث في أيمانهم، فهو مفتر على الله الكذب مفت بغير دين الإسلام" (مجموعة الفتاوى، أبن تيمية). وبعد أن ذكر أن بعض الفقهاء يقررون أن "يمين المكره بغير حق لا ينعقد" وأن هذا هو مذهب مالك وأحمد والشافعي، رد عليهم رأيهم هذا على أساس أنه "إذا أكره ولي الأمر الناس على ما يجب عليهم من طاعته ومناصحته، وحلّفهم على ذلك، لم يجز لأحد أن يأذن لهم في ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك، ويرخص لهم في الحنث في هذه الأيمان. لأن ما كان واجبا بدون اليمين فاليمين تقويه، لا تضعفه، ولو قدر أن صاحبها أكره عليها".
كان التاريخ وحوادث الزمان يتكرران أمام فقهاء السلف، وفي أذهانهم معارك الجمل وصفين وعبدالله بن عمر وأسامة بن زيد وأبي بكرة، وكيف انتهى هؤلاء الذين اعتزلوا "الفتن" وكيف كانت نهاية من خاض فيها. لم يكن المهم لماذا اعتزل هؤلاء ولكن المهم هو منع إراقة دماء المسلمين والسلامة في هذه المنازعات والمعارك. كانت القاعدة بسيطة: بايع من أتى على رأس السلطة، لا تسأل كيف ولماذا، ولا تخرج عليه أو تعين عليه من أراد الخروج، وإن خرج خارج وحل محل الذي بايعته أولاً، ثم محق كل معارضة لسلطانه، فبايعه، ووجب عليك له نفس الذي وجب للأول.
ولكن فقهاء السلفيين وما اختاروهم هم ليدخلوا ضمن تعريف "السلف" في هذا الموضوع بالذات، لم يستطيعوا على ما يبدو أن ينهوا إشكال النصوص والتاريخ. فكان دائما هناك، من بين السلفيين أنفسهم وممن يؤمن بنهجهم، من يخرج على الحكام ويشق عصا طاعتهم، بل ويكفرهم أيضا، على مر العصور والأزمان. وكما كانت هناك نصوص وآثار استدل بها هؤلاء على وجوب طاعة الحكام وعدم الخروج عليهم مهما فعلوا، كان الآخرين يملكون نصوصا وآثارا على العكس. وكانت الأسئلة التي تمر في أذهان هؤلاء السلفيون الخارجون على تراثهم تبدو لأول وهلة بديهية. فعندما يقرأ نصا في القرآن الكريم (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه الحكام والقوانين الوضعية. وعندما يقرأ في كتب الحديث تلك النصوص الكثيرة عن "لا طاعة لمن عصى الله" و "لا طاعة لمن لم يطع الله" و "سيكون أمراء بعدي يأمرونكم بما تعرفون ويعملون ما تنكرون، فليس أولئك عليكم بأئمة" ضمن نصوص أخرى كثيرة (استشهد بتلك النصوص، ضمن نصوص أخرى، د. محمد المسعري، المعارض السلفي السعودي المقيم في لندن، ضمن كتابه "طاعة أولي الأمر حدودها وقيودها")، فإنه يتسائل عن شرعية الحاكم وحكمه. ثم ليتدخل منطق التفكير الحديث الذي أتى من سنوات التعليم ومعارف ومبادئ علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، والتساؤل عن قيم العادلة والحق ونفي الظلم والانتصار للمظلوم، ليضيف لهذا كله نوع من البداهة والحس والمنطق السليم، الذي يبدو أنه قد أضاعها المسلمون مع ما أضاعوا عندما دخلوا على الخليفة عثمان ليقتلوه، ليكتب أحد الإسلاميين: "السياسة، برأي المتواضع، ليست حشيشا أو شيء يجب أن يحظره القانون. وإنما السياسة هي الإدارة العامة لشئون الناس وهذه الإدارة إما تفضي إلى عدل أو إلى ظلم …… نحن مادة القرار السياسي الذي يتخذه الأمير أو الملك أو رئيس الجمهورية. نحن المعنيون به. نحن ضحاياه أو فرسانه. عليه إذن، فالقرار السياسي ليس شيئا منعزل عنا، ولا يؤثر فينا، أو يتجاوزنا أو يتخطانا ولا يدوس علينا أبدا. إنه قرار لنا أو علينا ولا وسطية في الأمر من هذه الزاوية. ومجالس الوزارات، والوزراء، وجيوشهم الادراية، ووزاراتهم، ما هي إلا أدوات لتنفيذ القرار السياسي، أدوات لنقل القرار السياسي من كونه فكرة تتأرجح في رأس الأمير أو الملك أو الرئيس، إلى واقع نعيشه في البيوت، بل حتى في المضاجع والمطابخ. وحيث أن الأمر، أمر السياسة عموما والقرار السياسي خصوصا، يمسنا إلى هذه الدرجة، فينبغي إذن أن تتغير نظرتنا للسياسة والحكم ولرجال السياسة والحكم أينما كانوا وحيثما حلوا. وينبغي أن ندرك أننا لا نستطيع، وإن أردنا، أن ننعزل عن السياسة وشئونها وعن رجال الحكم ونشاطاتهم. وذلك لأن النظام السياسي له قنوات من خلالها يدخل إلى بيوتنا ويجلس معنا بكامل حضوره. وإذا كان الأمر كذلك وبهذه الخطورة فينبغي علينا أن نطالب بحقوقنا عليه ومكاننا منه ومراقبتنا له. والوطن كإنتماء، في المحصلة النهائية، ليس قصيدة شعرية ولا نشيدا وطنيا ولا بيرقا مطرزا ولا عرضا مسرحيا. إنما الوطن هو الأمن والخبز والحرية والمساواة مجتمعة وفي إطار إنساني. غير أن الأمن وحده لا يصنع الوطن والانتماء، لأن حظيرة الخنازير فيها أمن. والخبز وحده لا يصنع الوطن والانتماء، لأن كل مواخير العالم فيها خبز. والحرية وحدها لا تصنع الوطن والانتماء، لأن كل أدغال العالم وأحراشه فيها حرية. والمساواة وحدها لا تصنع الوطن الانتماء، لأن كل سجون العالم ومعتقلاته فيها مساواة" (عندما يحكم الإسلام، د. عبدالله النفيسي). وليخلص الكاتب بعد هذه المقدمة، وهو يتبع عادة السلفيين، وإن لم يكن هو منهم، في سوق أدلة من الكتاب والسنة والأثر والاحتجاج بابن تيمية وأبن القيم وآخرين، إلى أن الإسلام يستدعي تكوين الأحزاب ومراقبة الحكام وحق اختيارهم وعزلهم وفرض الشورى عليهم وإلزامهم برأي الأغلبية وإن خالف رأي الحكام وإنهاء الحكم الوراثي.
لاحظ أبو الأعلى المودودي أن "وقوف بعض أكابر الصحابة موقف الحياد في بيعة علي رضي الله عنه، ومع أن تصرفهم هذا صدر عن نية حسنة منهم بغرض درء الفتنة وسد أبوابها، إلا أن الحوادث التي تلته أثبتت، على العكس، أن تصرفهم هذا عاون أكثر وأكثر على تفاقم الفتنة التي أرادوا درأها" (الخلافة والملك، أبو الأعلى المودودي). وكتب أيضا عن نتائج القول بصحة إمامة الفاسق وتحريم الخروج عليه وإن كان ظالما متعسفا، وهذا ما اعترض عليه الإمام أبو حنيفة فأبطل إمامة الفاسق، "فكانت النتيجة الحتمية لهذا أن يقعد المسلمون مطمئنين راضين بحكومة الحكام المستبدين الظالمين ذوي السلوك المشين والخلق الذميم ويتركون، لا محاولة تغييرهم، بل حتى مجرد التفكير في ذلك. وفي سبيل ذلك أعلن أبو حنيفة بكل شدة وقوة وإصرار أن إمامة من هم كذلك باطلة بطلانا قطعيا" (المرجع السابق).
قبل أكثر من ألف عام كتب الإمام أبو بكر الجصاص عند كلامه عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها، سلفهم وخلفهم، وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجُهَّال أصحاب الحديث، فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "فتنة" إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية، مع ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)، وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره. وزعموا مع ذلك أن السلطان لا يُنْكَرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله، وإنما يُنْكَرُ على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح، فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين لها، لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور، حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الإسلام، حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذاهب الثنوية والخرمية والمزدكية. والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر" (أحكام القرآن ، الجصاص).
لخص الشيخ محمد الغزالي أحد جوانب الإشكالية، مع ملاحظة أن كلامه هذا كان تعقيبا على موقف السلفيين من نقاب المرأة والغناء ولكنه ينطبق تماما على هذا الموضوع أيضا، فكتب متذمراً: "مشكلة أهل الحديث هؤلاء أنهم يفهمون الحديث على نحو ما، ثم يجعلون فهمهم هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم". (نقلاً عن حوار هادئ مع محمد الغزالي، الشيخ محمد العودة. وهو ينقل عن كتاب مستقبل الإسلام للشيخ محمد الغزالي).
يتبع
-
النص حمال وجوه والسلفيين استنقائيين
كان ضمن الإشكال أن النص "حمال أوجه". وأن النص يحتمل الرأي ونقيضه. وكان ضمنه أيضا أن هناك نصوص تدل على أمر ما، ونصوص أخرى تدل على نقيضها. وضمنه أيضا أن فهم أحد "السلف" لأمر ما، كان على النقيض تماما من فهم آخر من "السلف" أيضا. وإن موقفهم، أي السلف، في أمر ما قد يحسب لهم أو عليهم، وأنه وجهة نظر على أية حال. وأي أقوالهم ومواقفهم هو مراد الشريعة والشارع؟ وكان ضمن الإشكال أن موقف السلفيون من الأمراء والحكام يبدو مجافيا لمنطق العدالة ونفي الجور والظلم وحفظ حقوق الناس وكرامتهم. كل هذا، وما سبق، وضع السلفيون المخلصون لتراثهم أمام موقف حرج من التاريخ الإسلامي، وأمام ما أُصِّرَ عليه على من يدخل ضمن تعريف "السلف" في هذا الأمر، بدءا من مقتل عثمان وحتى وقتنا الحاضر.
كل هذه الإشكاليات وهذا الهجوم، جوبه به السلفيون بشكل عنيف. فقد اتخذت هذه الاعتراضات أشكال عديدة، تمخضت في بعضها عن أعمال عنف وقتل وتخريب. وتكونت جماعات، تحمل أسم السلفية وتدعي منهج السلف، وكان لها فهمها الشخصي للنصوص واستحلت بذلك ما حرم السلفيون، وفي بعض الأحيان، ما اتفق المسلمون على تحريمه إلا شواذ الفرق. وكان العامل المشترك في معظم هذه الفرق هو رفض ولاية الفاسق والإصرار على تكفير الحكام، ثم اشتطت بعض الجماعات إلى ما وراء ذلك. وكأن ما أراده السلفيون من القبول والرضا بالحكام على علاتهم وتحريم الخروج عليهم، وذلك من باب حفظ دماء المسلمين، كان السبب في الانقلاب إلى رفض متطرف أريقت به دماء المسلمين مرة أخرى. والطريف أن الكل كان يستشهد بالقرآن والحديث وابن تيمية وابن القيم.
حاول السلفيون عند ذلك تنظيم صفوفهم وإبراز حججهم، خاصة وأن الأمر يتعلق بأمن واستقرار بعض الدول الذي تتبنى صراحة المذهب السلفي وتدعو إليه. وشغلت المطابع في هذه الدول بإصدار الكتب والرسائل والفتاوى التي تحث على طاعة ولاة الأمر وتحريم الخروج عليهم، وتقرير مبدأ السلف على أنه مذهب "أهل السنة والجماعة" وأنه الرأي الوحيد "للسلف الصالح في القرون المفضلة" وهو قول "الجمهور". وكانت خلاصة الردود تتركز على ثلاثة محاور. المحور الأول، وهو الأهم، ويتركز على عرض أحاديث طاعة الحكام وإن جاروا، وتحريم الخروج عليهم إلا في حالة الكفر البواح والذي يملك عليه العلماء دليل، ثم عرض أقوال ومواقف "السلف" الذين اعتزلوا الفتن وترجيح مواقفهم على من سواهم، وأخيرا، حصر مبدأ تغيير المنكر باليد، والذي ورد في بعض الأحاديث، بالحكام فقط دون سواهم. المحور الثاني هو تفسير بعض آيات القرآن الكريم والتي قد يفهم منها تكفير الحكام بما يبعد هذه الشبهة عنهم. فكان الرد على من فهم من الآية الكريمة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أن الحكام كفرة بسبب تبنيهم للأحكام الوضعية، أنهم قسموا الكفر إلى نوعين، عملي واعتقادي. الاعتقادي، هو كفر مخرج من ملة الإسلام، وهو أن يستحل الإنسان المحرمات بقلبه ويعتقد صحة ذلك وهو يعلم أنه مخالف للشريعة. والعملي هو أن يعمل المحرمات، أيا كانت هذه المحرمات ما عدا الشرك بالله، ولكنه لا يعتقد في قلبه أنها حلال، وهذا كفر أصغر لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام. وفي ذلك قال الشيخ أبن عثيمين (الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية والأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية): "والحكم بغير ما أنزل الله ليس بكفر مخرج من الملة، ولكنه كفر عملي، لأن الحاكم بذلك خرج عن الطريق الصحيح" (فتنة التكفير، إعداد: علي حسين أبو لوز، ص 25 "الهامش"). وأما الشيخ الألباني ففصل قائلا: "فكل المعاصي، وبخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال عملي للربا والزنى وشرب الخمر وغيرها هي من الكفر العملي، فلا يجوز أن نكفر العصاة المتلبسين بشيء من المعاصي لمجرد ارتكابهم لها، واستحلالهم إياها عمليا، إلا إذا ظهر، يقينا، لنا منهم، يقينا [هكذا تكررت كلمة "يقينا" في النص المطبوع]، ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله اعتقادا. فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة" (المرجع السابق). والسبب في عدم استطاعتنا الحكم على الحكام بأنهم كفرة قد بينه الألباني أيضا، وخلاصته أننا لا نستطيع أن نسأل الحكام، ونضمن إجابتهم عند السؤال، إن كانوا قد استحلوا الحكم بغير ما أنزل الله عن اعتقاد بأنه أفضل من حكم الإسلام أو لمجرد هوى في نفوسهم(المرجع السابق). وكان الدليل الرئيسي في هذا التقسيم للكفر هو أثر نقل عن أبن عباس وهو قوله "هو كفر دون كفر" وذلك عند تعليقه على الآية السابقة. وتجدر الملاحظة هنا أن أبن عباس كان خارجا من مصطلح "السلف" في قضية اعتزال الفتن وذلك لانضمامه لمعسكر علي في حروبه، ولكنه يشمله هذا المصطلح هنا لصالح قضية كان لا يراها صحيحة أصلاً بدليل مشاركته في تلك الحروب، وفي هذا دليل صارخ على مطاطية وانتقائية الفكر السلفي. وعندما ثار اعتراض على هذا الأثر من جهة سنده، رد الشيخ أبن عثيمين بأنه "يكفينا أن علماء جهابذة كشيخ الإسلام أبن تيمية وأبن القيم وغيرهما تلقوه بالقبول، ويتكلمون به وينقلونه، فالأثر صحيح" (المرجع السابق، الهامش). أما المحور الثالث فهو جديد في طرحه، وهو يمثل ما يمكن اعتباره بداية لتحول جدير بالملاحظة في النظرة السلفية التقليدية لمسألة الخروج على الحكام. فقد أوضحنا فيما مضى أن الخروج على الحكام في نظر السلفيين لا يحل إلا في حالة الكفر الصريح الذي يخرج بصاحبه من الإسلام. هذا الشرط، فيما يبدو، قد أصابه ضعف أيضا في الخطاب السلفي التقليدي، قال الألباني مخاطبا من يقول بكفر الحكام: "هبوا أن هؤلاء الحكام كفار كفر ردة، وهبوا أيضا، أن هناك حاكما أعلى على هؤلاء، فالواجب والحالة هذه أن يطبق هذا الحاكم الأعلى فيهم الحد. ولكن، الآن، ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلمنا، جدلا، أن هؤلاء الحكام كفار كفر ردة ؟ ماذا يمكن أن تصنعوا وتفعلوا ؟ …… فما الذي نستطيع نحن وأنتم فعله مع هؤلاء، حتى تقفوا أنتم وحدكم ضد أولئك الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار ؟" (المرجع السابق). وفي تقريظه لما كتبه الشيخ الألباني عن هذين المحورين الأخيرين، كتب الشيخ عبد العزيز بن باز (الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وعضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية) بأن رسالة الألباني "كلمة حق أصاب فيها الحق وسلك فيها سبيل المؤمنين" (المرجع السابق). وعلق الشيخ أبن عثيمين على كلام الألباني السابق: "إن هؤلاء الذين يحكمون على ولاة المسلمين بأنهم كفار، ماذا يستفيدون إذا حكموا بكفرهم؟ أيستطيعون إزالتهم؟ لا يستطيعون …… ما الفائدة؟ حتى لو كان الإنسان يعتقد فيما بينه وبين ربه أن من هؤلاء الحكام من هو كافر كفرا مخرجا من الملة حقا، فما الفائدة من إعلانه وإشاعته إلا إثارة الفتن" (المرجع السابق، الهامش). ويبدو أن هذا القول كان شائعا عن الشيخ أبن عثيمين لدرجة أن جماعات المعارضة السعودية تتناقله في إصداراتها، فقد نقل أحد المعارضين هذا القول للشيخ عن الحاكم: "… وهبه كان كافرا، فَلِمَ إيغار الصدور عليه" (طاعة أولي الأمر حدودها وقيودها، د. محمد المسعري). ثم يعرض السلفيون طريقة الخلاص "الشرعية" من ظلم الولاة وعسفهم، قال الألباني: "وفي هذا بيان لطريق الخلاص من ظلم الحكام الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح …… وليس طريق الخلاص ما يتوهم بعض الناس، وهو: الثورة بالسلاح على الحكام، بواسطة الانقلابات العسكرية. فإنها، مع كونها من بدع العصر الحاضر، فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها الأمر بتغيير ما بالأنفس" (مسائل علمية في الدعوة والسياسة الشرعية، علي الحلبي الأثري).[أقول أنا: يجب أن أعترف بأنني أحياناً أخجل فيما أنقله هنا عن بعض ممن يعتبرهم العامة علماء على أنه فكر يجب أن يحترم ويناقش]. إذن، خلاصة المحور الثالث هو أنه حتى وإن كان الحاكم كافرا فليس هناك فائدة من الطعن في شرعية الحاكم ومحاولة الخروج عليه، فمن الأجدر القبول به والسكوت عنه. وحتى نلاحظ هذا التحول في الطرح، فقد كتب الشيخ عبدالعزيز بن باز قبل حوالي خمس وعشرين سنة من رأي الشيخين الألباني وأبن عثيمين وتقريظه هو شخصيا، عند كلامه في نقد دعاة القومية العربية، وبعد أن نقل الآيات من سورة المائدة والتي تكفر وتفسق من لم يحكم بما أنزل الله، ما يلي: "وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله ولا ترضاه، فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات. يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده وتحكم شريعته وترضى بذلك لها وعليها …… وليعلموا يقينا أنهم إن لم يرجعوا إلى دينهم ويستقيموا عليه ويحكموه فيما شجر بينهم، فسوف ينتقم الله منهم، ويفرق جمعهم، ويسلبهم نعمته، ويستبدل قوما غيرهم يتمسكون بدينه ويحاربون ما خالفه" (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، عبدالعزيز بن باز). أن السلفيون الجدد في محاولتهم لحل إشكال جاءوا بإشكال جديد يضاف إلى ما سبق.
في الثاني من أغسطس سنة 1990م دخلت قوات الاحتلال العراقي إلى دولة الكويت وعاثت فيها قتلا وتخريبا وتدميرا، ثم هددت هذه القوات سلامة دول الخليج الأخرى. وترتب على ذلك أن القوات العسكرية الأمريكية والأوروبية تواجدت على أرض المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج لحماية مصالحها وضمان سلامة دول الخليج العربي ومن ثم تحرير دولة الكويت من الاحتلال. ولكن الأمر لم يخلو من معارضة بعض الجماعات الإسلامية، المتواجدة داخل وخارج دول الخليج العربي، لهذا الوجود الأجنبي ومقاتلة المسلمين لبعضهم البعض، مما استدعى رجال الدين في هذه الدول إلى عقد المحاضرات وكتابة الرسائل لتفنيد هذه الشبه. وكان من ضمن ذلك، محاضرة ألقاها الشيخ عبدالعزيز بن باز جاء فيها: "ولما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم اشتبهت على بعض الناس، وتأخر عن المشاركة فيها بعض الصحابة من أجل أحاديث الفتن، كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة، وجماعة رضي الله عنهم. ولكن فقهاء الصحابة الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل، قاتلوا مع علي، لأنه أولى الطائفتين بالحق، وناصروه ضد الخوارج وضد البغاة الذين هم من أهل الشام، لما عرفوا الحق، وأن عليا مظلوم، وأن الواجب أن ينصر، وأنه هو الإمام الذي يجب أن يتبع، وأن معاوية ومن معه بغوا عليه بشبهة قتل عثمان" (المرجع السابق). وإن كان الأمر هنا هو إرجاع الحق إلى أصحابه الشرعيين ودفع احتلال ظالم بغيض استباح الأرواح والأعراض، فلا يملك المرء إلا أن يتسائل: تُرى ماذا حدث هنا لكل تراث السلف في وجوب اعتزال الفتن وقتال المسلمين بعضهم البعض؟ ولماذا اختلف، ضمناً، تعريف السلف عما كان عليه سابقا؟.
من كل ما سبق عرضه في هذا المبحث اتضح أن مصطلح السلف هو مصطلح انتقائي ذو خاصية مرنة، تستطيع أن تدخل فيه من تشاء وتخرج منه من تشاء، هذا إذا كانوا يملكون بعض الصفات المشتركة وعاشوا في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام. وهذا المصطلح أحيانا يسع الكل، وأحيانا أخرى لا يسع إلا أفراداً قلة. كما أنه من المستطاع أن تحتج بالسلف على رأي وضده في نفس الوقت، بناءا على من تدخله في مصطلح السلف أو ما تخرجه منه. إن الاحتجاج بالسلف، هكذا دون تحديد، من الممكن أن يكون إحدى أدوات التضليل التي مارسها البعض، ولازال، لفرض عقيدة أو رأي ما. هذا الإشكال كان أحد الأسباب، ضمن أخرى، في أن أكثر الجماعات المتطرفة في العالم الإسلامي تدعي نهج السلف والسير عليه. فمن المغرب العربي حتى الفليبين توجد الجماعات التي تدعي السلفية والتي تمارس القتل والنهب والاختطاف، ولم يجدي كل هذا التراث السلفي، في تحريم قتال المسلمين والحكام وإن جاروا وظلموا، في إقناع هؤلاء أن الشريعة تحرم ذلك. وفي المملكة العربية السعودية لم يجدي عشرات الآلاف من الدعاة وخطباء المساجد في كتم تلك المعارضة الدينية التي انتهت بأعمال عنف في أكثر من حادثة. إن الخطاب السلفي يمثل إشكالية، ضمن إشكاليات أخرى، تجعل منه مركزا لإفراز متناقضات لا تحل، كما يبدو، إلا بدماء الأبرياء.
يصر السلفيون على أن الإسلام دين ودولة. ولكنهم عند التطبيق العملي لهذه المقولة، أصروا على أن يتركوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر. إنه إشكال وقع فيه المسلمون بعد ست سنوات من تولي عثمان الخلافة ولازالوا فيه إلى الآن.
انتهى
-
في الحقيقة لقد دُهشت من جرأة ناقل هذا الموضوع في محورين. الأول هو عدم ذكره للمصدر الذي تم النقل منه مما يوحي معه ضمناً بالنسبة إلى نفس الناقل. والآخر هو جرأته على بتر وإضافة مقاطع وعناوين في النص الأصلي. عندما تفضل مشكوراً أحد الأخوة بتنبيهي إلى هذا العمل افترضت أنا حُـسن النية، ولكن آخرين اندفعوا في إتجاه أنا أكره الخوض فيه.
أتمنى على القائمين على هذه الشبكة الكريمة أن يعيدوا الحق إلى نصابه.
أدناه سوف تجدون الرابط الأصلي للموضوع، وبما أن الموضوع قد أخذ مكانه الآن في بطن كتاب مطبوع فإني أدع للإخوة المشاركين أن يسألوا عنه الناقل إن أصر على النسبة للنفس.
تحياتي
فرناس
http://secularkuwait.org/vb/showthread.php?t=4739
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
|