البحرين من ربيع الديمقراطية الي خريف الغضب
2006/09/06

د. سعيد الشهابي
عندما وقع أكثر من ثمانين ألفا من المواطنين في مطلع العام عريضة أممية تطالب الأمم المتحدة بالتدخل لمساعدة شعب البحرين علي تقرير مصيره، كان الحدث يبدو عاديا، لأسباب عديدة: اولها ان البعض اعتقد ان الاوضاع في هذا البلد الخليجي مستقرة وليس هناك اضطراب سياسي تستدعي مثل هذا العمل، ثانيها ان الكثيرين لم يتوقعوا ان بالامكان ايصال تلك العريضة للجهة المعنية (الأمين العام للامم المتحدة) نظرا للقبضة الامنية التي فرضها الحكم علي الوضع العام، وصعوبة تهريب الاوراق الموقعة عبر المنافذ الرسمية.
ثالثها: ان البعض اعتقد ان تلك العريضة ليست سوي واحدة من العرائض الشعبية والنخبوية التي قدمت لجهات متنوعة خلال الثمانين عاما الماضية، وبالتالي فهي لا تعني الكثير، رابعها: ان تطورات المنطقة خصوصا العدوان الاسرائيلي ضد لبنان وفلسطين في الشهور الاخيرة سوف يقلل اهميتها، وبالتالي فستكون جهدا ضائعا بدون اهتمام او مردود. خامسها ان الاعلام الرسمي البحريني، بما يمتلكه من امكانات مادية وبشرية، سوف يتمكن من التشويش علي العريضة والقائمين عليها، وإضعاف انعكاساتها علي المواطنين. ولكن الامور اختلفت تماما بعد تسليم هذه العريضة في منتصف الشهر الماضي الي مكتب الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك من قبل وفد يمثل المعارضة، امتلك الشجاعة الكافية لقطع المسافات من اجل تنفيذ الوعد بايصالها الي أعلي سلطة دولية. ولعلها المرة الأولي في تاريخ المنطقة ان يستطيع أحد شعوبها ايصال صوته بطريقة حضارية سلمية حول قضية محورية لديه، الي الأمين العام للأمم المتحدة، الامر الذي ستكون له انعكاسات متلاحقة مستقبلا. وليس مستبعدا ان تقوم أجهزة الأمن البحرينية التي أسسها الضابط البريطاني، إيان هندرسون، في 1966، بملاحقة اعضاء الوفد الذي تحدي العائلة الحاكمة وأوصل صوت أهل البحرين (شيعة وسنة، إسلاميين وليبراليين) الي الجهة التي لعبت دورا في الإشراف علي قيام الدولة المستقلة بعد الانسحاب البريطاني. فحتي العام 1968 كان شاه إيران يطالب بالبحرين ويعتبرها جزءا من إيران، ولكنه في ذلك العام أبدي استعدادا، للمرة الأولي، للاستماع الي تطلعات الشعب البحراني، معترفا بحقه في تقرير مصيره. وبعد عامين كان الوضع مهيأ لزيارة وفد رسمي من الامم المتحدة الي تلك الجزيرة الخليجية لاستمزاج آراء أهلها، ليعود الي نيويورك ويبلغ المسؤولين في المنظمة الدولية بان الأغلبية الساحقة منهم تريد الاستقلال بشرط ان يكون للشعب دور في ادارة شؤونه، في إطار شراكة سياسية مع عائلة آل خليفة الحاكمة.
بعد الانسحاب البريطاني من البحرين في منتصف اب (اغسطس) 1975، تولي رئيس الوزراء الحالي، الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، منصبه، وبادر لاتخاذ خطوات لتنظيم شكل الدولة الجديدة علي اساس الشراكة السياسية بين العائلة والشعب، فتم انتخاب مجلس تأسيسي لكتابة دستور تعاقدي بين الطرفين، نظمت علي أساسه اول انتخابات شرعية في البلاد لمجلس وطني بصلاحيات متوافق عليها بين الطرفين. ولكن سرعان ما انقلب الحكم ضد ذلك الاتفاق التاريخي الذي أشرفت الامم المتحدة عليه، وتم حل المجلس الوطني المنتخب وتعليق العمل بالمواد الدستورية التي تنظم الممارسة الانتخابية. من هنا قرر أهل البحرين، العودة مجددا الي الأمم المتحدة، مطالبا اياها مساعدته في تقرير مصيره. وفي هذا الإطار تبدو العريضة الاخيرة، أوسع مدي من العرائض السابقة، لانها لا تتعلق بمطالب محدودة او اختلافات سياسية داخل النظام القائم، بل هي إسقاط لشرعية نظام الحكم تفتح الطريق لمنازلات مستقبلية متواصلة، وتسلب الشرعية كذلك عن الاجراءات السلطوية، بما في ذلك انتخاب نصف اعضاء مجلس الشوري. وتجدر الاشارة الي ان شعب البحرين عرف بنضالاته الوطنية والقومية التاريخية منذ مطلع القرن الماضي. ففي العام 1922 حدثت اول انتفاضة شعبية ضد العائلة الحاكمة، ووقعت عرائض احتجاجية وجهت الي المعتمد السياسي البريطاني الذي يمثل سلطات الحماية (الاحتلال) البريطاني. وتواصلت كتابة العرائض ضد استبداد الحكم في الثلاثينات، مطالبة بدستور ومجلس تشريعي، شارك فيها كافة ابناء البحرين. وكانت العريضة التي قدمها وجهاء البلاد (سنة وشيعة) في 1938 للحاكم باكورة العمل الوطني الذي تجاوز الانتماء المذهبي والايديولوجي. وتكررت الاحتجاجات والعرائض خلال الحرب العالمية الثانية ضد البريطانيين في الاربعينات. وفي الخمسينات تواصل النضال الوطني حتي بلغ اوجه في 1954 ـ 1956، عندما شكلت قيادة مشتركة بين الأطياف المذهبية والسياسية قادت الانتفاضة الشهيرة، عرفت يومها بـ الهيئة التنفيذية العليا ثم تحول اسمها الي هيئة الاتحاد الوطني . ووقعت خلال تلك الانتفاضة عرائض من اهمها عريضة موجهة الي وزير الخارجية البريطاني، سلوين لويد، تتضمن مطالب اصلاحية في مقدمتها انشاء مجلس تشريعي عبر انتخابات حرة. وفي التسعينات نشطت حركة العرائض، فكان منها العريضة النخبوية في 1992 الموجهة للأمير السابق، والعريضة الشعبية في 1994، ثم العريضة النسائية في 1995 التي تطالب بانهاء القمع وانتهاكات حقوق الانسان.
هذا التوجه لكتابة العرائض ممارسة متحضرة، تؤكد العقلية الديمقراطية لدي أهل البحرين، وطبيعتهم السلمية، وقدرتهم علي الوقوف معا في الهم السياسي، بعيدا عن التمايزات المذهبية والأيديولوجية والعرقية. هذا التوجه السلمي قوبل بقسوة شديدة من قبل الحكم، علي عدد من الأصعدة منها:
اولا: تشكيل فرق الموت، وهي ظاهرة جديدة ـ قديمة، للتصدي للنشطاء بالقمع والتصفية الجسدية اذا اقتضي الامر. وكان من اول ضحاياها الشاب نوح خليل آل نوح، الذي اختطفته فرق الموت في 1998 وألقت جثته بالقرب من باب منزله بعد يومين، ممزقة بالتعذيب الوحشي. وآخر ضحاياها الشاب مهدي عبد الرحمن، الذي اغتالته في 20 اب (اغسطس) الماضي، احدي مجموعات فرق الموت . وقد رفضت الحكومة التحقيق في جريمة الاغتيال، وتسترت علي مرتكبيه.
ثانيا: مارست فرق الموت هذه اعمالا قمعية برز منها الاعتداء علي مسيرة نظمت امام القصر الملكي العام الماضي، وشوهدت صور ضحاياها واضحة علي الانترنت وفي ادبيات المعارضة. كما قامت في شهر اذار (مارس) الماضي باعتداء علي مسيرة سلمية بالقرب من مجمع الدانة التجاري، وقبلها في مطار البحرين الدولي.
ثالثا: تقنين سياسات القمع بأساليب غير معهودة الا لدي الانظمة المتطرفة في قمع مواطنيها. وآخر هذه القوانين قانون الارهاب الذي أصدرته العائلة الحاكمة الشهر الماضي، والذي تنص المادة السادسة منه علي ما يلي: يعاقب بالإعدام كل من أنشأ أو أسس أو نظم أو أدار، علي خلاف أحكام القانون، جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة أو عصابة أو فرعا لإحداها، أو تولي زعامة أو قيادة فيها، يكون الغرض منها الدعوة بأية وسيلة إلي تعطيل أحكام الدستور أو القوانين أو منع إحدي مؤسسات الدولة أو إحدي السلطات العامة من ممارسة أعمالها . أما المادة السابعة من هذا القانون الذي أصدره الديوان الملكي وأقره مجلس الشوري (الذي ينتخب نصف أعضائه) فتنص علي ما يلي: يعاقب بالسجن المؤبد كل من أكره شخصا علي الانضمام إلي إحدي الجمعيات أو التنظيمات المنصوص عليها في المادة (6) من هذا القانون، أو منعه من الانفصال عنها . وليست هناك دولة في العالم تحكم بالاعدام علي من يعارض دستورها، خصوصا اذا كان هذا الدستور مفروضا من طرف واحد هو الحكم، وليس للمواطنين دور في صياغته او اقراره، كما هو الحال في البحرين.
هذه الاجراءات لم تفت في عضد المعارضة، وان كان بعض الافراد المحسوبين عليها سابقا قد قرر التخلي عن معارضة النظام او التحق به. وليس جديدا القول بان السلطة تستغل امكانات الدولة لشراء المواقف وتوظيف الاقلام والمنظمات لترويج مشروعها السياسي. ولكن ثمة عاملا مهما في ما جري في البحرين في السنوات الخمس الاخيرة، وهو ان المشروع السياسي الحالي قد صاغته أيد أمريكية بدأت بالعمل بعد وفاة الامير السابق في اذار (مارس) 1999، وقامت بالاتصال ببعض العناصر المحسوبة علي المعارضة، وتمكنت من اقناع بعضها بالالتحاق بذلك المشروع. وتواصل الدور الامريكي في ادارة المشروع وحمايته وجذب بعض اطراف المعارضة اليه من خلال عدد من القنوات: اولها السفارة الامريكية في البحرين، اذ ما فتئت السفارة هناك في الاتصال مع الأفراد والجمعيات، وتشجيعها علي الانخراط في المشروع. ثانيها: مكتب المعهد الوطني للديمقراطية (ان دي آي)، الذي فتح مكتب خاصا له في المنامة، ونظم الندوات وفتح الحوارات مع الجهات المؤثرة في البلاد. والأهم من ذلك انه ساهم في صياغة اللوائح الداخلية لبعض الجمعيات السياسية، بما يتوافق مع المشروع. ولعل الطرف الأمريكي الأهم في بلورة المشروع كان جهاز الاستخبارات المركزية الامريكية (سي آي أيه) الذي بدأ اتصالاته ببعض الافراد في العام 1999، واستطاع اقناع بعضهم بالانخراط في المشروع، واصبح الضامن الاقوي لهم من أي أذي قد يلحق بهم من العائلة الحاكمة. ولذلك لم يكن غريبا ان لا يفوت الرئيس جورج بوش اية فرصة بدون ذكر التجربة البحرينية كمثال ايجابي للتغيير الذي تشجعه ادارته. واذا كان الدور الامريكي في ذلك المشروع قد مكن للنفوذ الأمريكي بشكل أكبر وكرس الهيمنة المطلقة للحكم، فانه في الوقت نفسه أصبح الآن وبالا علي مهندسيه لعدد من الاسباب: اولها ان الانكشاف التدريجي للدور الامريكي قد بدأ يتضح لدي بعض الجهات الشعبية، فبدأت بالنأي عنه، ثانيا: ان هذا الانكشاف أصبح يهدد مصداقية المشروع، فبادر الطرفان لمحاولة احتواء ذلك، فقررا غلق مكتب (ان دي آي) المذكور، بمسرحية غير محبوكة الاخراج، ثالثا: ان الحكم أكد خواء مجالسه الديمقراطية بسلبها حق التشريع والمحاسبة والرقابة، وتجاهل قراراتها كما حدث عندما أصر الحكم علي ابقاء المكتب التجاري الاسرائيلي في المنامة برغم قرار مجلس الشوري ضده. رابعا: ان الانتصار التاريخي الذي حققه حزب الله ضد العدوان الاسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة بدأ يحاصر العناصر التي تسعي لمسايرة المشروع او الانخراط فيه، خصوصا ان شعب البحرين معروف بمواقفه الدينية والوطنية ودعمه لنضال الشعبين الفلسطيني واللبناني، وان ذلك الموقف لا ينسجم مع المشروع الامريكي.
هذه العوامل دفعت الامور في البحرين الي مفترق طرق جديد يخشي ان يتحول الي نقطة افتراق تاريخي بين طرفي المعادلة السياسية: الحكم والشعب. وثمة نقاط ضعف لدي الطرفين. فالعائلة الحاكمة تجد نفسها بعد خمسة اعوام علي المشروع تواجه أزمة شرعية حقيقية، خصوصا في ضوء العريضة الأممية التي قدمت للامم المتحدة، وما تعكسه من وجود رفض شعبي لها. كما تجد تصرفاتها وسياساتها مكشوفة أمام الاضواء، بما في ذلك هيمنتها المطلقة علي المال العام والاستحواذ علي الاراضي والسواحل، وعدم حدوث اي تغير نفسي ايجابي لدي المواطنين تجاهها، الأمر الذي أدي الي انعزالها بشكل أكبر. هذا بالاضافة الي الاصطفاف الشعبي المتزايد في مواجهة مشاريعها خصوصا التجنيس السياسي. وثمة مواقع ضعف علي الصعيد الشعبي: منها ان بعض الجهات الفاعلة انساقت مع المشروع الامريكي لعدم ادراكها لدور واشنطن في المشروع، وعدم رغبتها في التصادم مع العائلة الحاكمة لأسبابها الخاصة، وانتشار حالة عامة من الاحباط في صفوف المواطنين نتيجة ما يشاهدونه من مواقف هزيلة لدي الافراد والمجموعات التي كان يتوقع منها ان تحافظ علي قدر من الصمود في مقابل المشروع الامريكي، ولكن بعضها انهار تماما، وانساق ضمن ذلك المشروع. ومنها ايضا الشعور العام بتعمق الضائقة المعيشية بين الناس نتيجة السياسات الحكومية خصوصا في مجال الوظيفة والسكن، وعدم بروز معالم انفراج وشيكة. هذا الوضع المتأرجح خلال السنوات الخمس الأخيرة بدأ يأخذ منحي أكثر ايجابية في الشهور الاخيرة.