[align=center]
مسؤولية الحوار
[/align]

أكّد القرآن الكريم على الحوار الموضوعي الهادئ في العديد من الآيات الكريمة، قال تعالى:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم).
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).
ولقد حدثنا القرآن في الكثير من الآيات الشريفة عن الحوارات التي عقدها الأنبياء عليهم السلام مع الأقوام التي بعثوا إليها، حيث كان تبليغ رسالتهم ودعوة الناس إلى الحق إنما يقوم أساساً على الحوار الهادئ.
ففي سورة هود نجد قصة نوح عليه السلام مع قومه، وكيف أنه عليه السلام اعتمد
الحوار العلمي إلى أبعد الحدود، لكنهم أصروا على الضلال:
(ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلاّ الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم. فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).
كان هذا منطق الكافرين المستكبرين في مواجهة دعوة النبي نوح عليه السلام، ورغم أن هذا المنطق يعبر عن حالة مستحكمة من التكبر والتمرد على القيم الإنسانية، وشعور أجوف في الاستعلاء لا يريد أن يخوض أي عملية حوار، لكن النبي نوحاً (ع)، لم ينه الحوار وينسحب من ساحاتهم، لأن ذلك هو ما يريدونه بالضبط فانسحابه يعني انتصارهم، إنما واصل الحوار معهم من النقاط التي أرادوا إنهاء العملية الحوارية عندها:
(قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون. ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلاّ على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكنّي أراكم قوماً تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكّرون. ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين).
لقد خاطبهم نوح عليه السلام بحميمية عندما قال لهم (يا قوم) حيث نسبهم إليه، ونسب نفسه إليهم، وكان يتلطف في توجيه أنظارهم، ولمس وجدانهم ويبصّرهم بأن الأمر ليس موكولاً إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها، وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم..مبدأ الاختيار في العقيدة والاقتناع بالنظر والتدبر، لا بالقوة والسلطان والاستعلاء.
ثم يحاول عليه السلام أن يفهمهم أن هروبهم من دعوته إذا كان نتيجة خوفهم من الخسارة المالية التي تترتب عليهم بما يفرضه عليهم الرسول لمصلحته الشخصية، فان عليهم أن يطمئنوا إلى أن الأنبياء لن يطلبوا أجراً من أحد لأن أجره على الله في الدنيا والآخرة. ثم ينعطف إلى أتباعه، الفقراء البسطاء الذين لا يقفون في المستوى الأعلى من الهرم الاجتماعي الطبقي الذي يقيس الناس بمقياس المال والجاه والنسب والقوة، ليعلن لهم أنه لا يمكن أن يطرد هؤلاء المؤمنين، فإنهم سيلاقون الله تعالى ويقدمون له نتائج أعمالهم وسيجدون عند الله المقام الكبير والشأن العظيم.
والحوار الهادئ هو أسلوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأول في نشر دعوته في مكة وخارجها، فلم تحدثنا كتب السيرة المعتبرة عن موقف متشنج للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تخلى فيه عن الحوار الهادئ، ولجأ إلى أسلوب آخر مع الناس الذين كان يدعوهم إلى الإيمان بالتوحيد وبرسالته الخاتمة.
رغم كثرة الأذى الذي تعرض له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل قريش من استهزاء وسخرية واتهام ورمي الأوساخ وتسليط الصبيان لرميه بالحجارة وغيرها من الأساليب.. رغم كل ذلك الأذى إلاّ أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتخل عن الحوار كخط عام وأساس في طرح رسالته ودعوة الناس إليها.
لقد وقفت قريش هذا الموقف الإرهابي العنيف من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أدركت أنها ستهزم بالحوار، وأنها عاجزة عن الوقوف أمام منطق الرسالة والرسول، لذلك لجأت إلى العنف، والإرهاب، والتشكيك ورمي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بشتى التهم الباطلة كالسّاحر والمجنون وغيرها من تهم العاجزين، وهي تعلم كل العلم أن كل تلك التهم باطلة مفتراة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنه العجز عن مجاراته والوقوف أمام دعوته الإلهية التي يحركها في الوسط الاجتماعي من خلال العقل والوجدان.
وخلال تلك السنوات كانت قريش تبذل كل جهودها من أجل قتل الحوار وقطع كل الطرق أمام حركة الفكر، فقد لجأت إلى التشويش ومنع أصحاب الرسول من قراءة القرآن الكريم، لكي تمنع الناس من الاستماع إلى كلام الله سبحانه، يروي ابن هشام في سيرته قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي فيقول:

(كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث: أنه قدم مكة ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بها فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل يقصدون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسّاحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته فلا تسمعن منه شيئا.
قال: فوالله ما زالوا بي حتّى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتّى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلي عند الكعبة.. فقمت منه قريبا فأبى الله إلاّ أن يسمعني بعض قوله.. فسمعت كلاما حسنا.. فقلت في نفسي والله إني رجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.. فمكثت حتّى انصرف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيته فاتبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا فوالله ما برحوا يخفونني أمرك حتّى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، فأبى الله إلاّ أن يسمعني قولك فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عليّ أمرك.
قال: فعرض عليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولا أحسن منه ولا امراً أعدل منه. فأسلمت وشهدت شهادة الحق). سيرة ابن هشام 1/407.
إن أمثال هذه الحوادث كانت تحدث أمام قريش فترى أن لقاء الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واستماعهم إلى حديثه كاف لأن يقنعهم بالدخول إلى الإسلام، في حين أنها عاجزة تمام العجز عن منع الناس عن الرسول من خلال الحوار، فكان موقف قريش يتمثل بالأساليب الملتوية والإرهابية والتخويفية لإبعاد الناس عن الرسول، فكانت قبل مواسم الحج تستنفر طاقاتها لمنع لقاء الحجيج بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعندما أرسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة من المسلمين إلى الحبشة، حاولت قريش منعهم من الهجرة لكنها فشلت في ذلك، فأرسلت وفداً إلى النجاشي ليساومه على إعادتهم إلى مكة، لكن الوفد فشل في هذه المهمة، فقد استطاع المسلمون المهاجرون أن يكسبوا موقف النجاشي ويحصلوا على دعمه من خلال الحوار الهادئ.
فشلت قريش في كل محاولاتها الإرهابية والتشويشية لأن هذه المحاولات عاجزة عن إسكات صوت الحق، وهي إنما لجأت إلى تلك الأساليب لأنها لا تريد لغة الحوار، ومن يعجز عن الحوار يلجأ إلى الأساليب الملتوية.
وسار على نهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحوار الهادئ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، فالإمام علي(عليه السلام) اعتمد الحوار مع خصومه عندما غصبوا حقه في الخلافة، وكذلك فعلت بضعة الرسول فاطمة الزهراء عليها السلام، وكان لاحتجاجاتها على أبي بكر وأحاديثها مع الأنصار وخطبتها البليغة الرائعة في مسجد أبيها ووصيتها ذات الموقف الاحتجاجي البليغ، لقد كان لكل ذلك أكبر الأثر في تعريف الأمة بحقها الضائع وحق زوجها المغصوب. ولم يكن هناك أفضل مما فعلته (سلام الله عليها) لمصلحة الإسلام في ظل تلك الظروف، فما فعلته كان أفضل الخيارات لأنها المعصومة المنزّهة عن الخطأ.
وعندما بايعت الأمة أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة، ثم خرج عليه أصحاب الجمل، بذل الإمام عليّ (عليه السلام) كل جهوده السلمية من أجل منع الحرب، فقد أراد حل الأزمة بالطرق الحوارية. وقد أوصى (عليه السلام) جيشه بذلك فقد روى الحاكم في المستدرك 3/371: (لما كان يوم الجمل نادى عليّ في الناس: لا يرمين رجل بسهم ولا يطعن برمح ولا يضرب بسيف ولا تبدءوا القوم بالقتال، وكلموهم بألطف الكلام فإن هذا مقام من أفلح فيه فلح يوم القيامة).
ويروي المؤرخون أن جيش البصرة وهم أصحاب الجمل عندما تأهبوا للبدء في قتال جيش الإمام عليّ(عليه السلام) أرسل لهم رسولاً يحمل بيده المصحف الشريف يدعوهم إلى ما فيه لعل ذلك يمنع من وقوع الحرب، لكنهم قتلوه ورفضوا الحوار. ثم باشر أصحاب الجمل القتال فرموا معسكر الإمام بالسهام وقتلوا نفراً منهم، وكان أصحاب الإمام(عليه السلام) يطلبون منه أن يرد عليهم بالقتال،ولكنه كان يتأخر في ذلك على أمل أن يعود القوم إلى رشدهم فلا تقع الحرب. وفي آخر لحظة لم يترك الإمام(عليه السلام) محاولات الحوار فدعا طلحة والزبير إلى الحوار، وتحدث إليهما مذكّراً إياهما بحقه الشرعي وببيعتهما له وما أخبر به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الزبير في خروجه ظلماً على الإمام علي(عليه السلام)، وبعد كل تلك المحاولات أصر أصحاب الجمل على القتال فكانت تلك الكارثة المأساوية التي نخرت جسم الأمة الإسلامية. (انظر: تاريخ الطبري وفتوح ابن أعثم وشرح النهج في أحداث الجمل). وعلى هذا النهج الثابت سار أبناؤه الأئمة عليهم السلام فكان الحوار ومنطق العقل هو الخيار الأول الذي يتبعونه مع الناس ومع خصومهم ومخالفيهم، وقد علّموا شيعتهم على هذا المنهج وأعدّوا أجيالاً من العلماء الذين انتشروا في مختلف الأمصار لينشروا فكر أهل البيت عليهم السلام عبر الحوار والمحاججة، ولم ينتشر التشيع مدى الدهور إلاّ من خلال الحوار العلمي الرصين.

وتتحدث كتب التاريخ عن مناظرات الأئمة مع المخالفين والخصوم من المذاهب الأخرى.. ومع الزنادقة والفلاسفة من الأديان وأصحاب النحل المختلفة. وعلى هدى مدرستهم سار تلامذتهم أعلام التشيع ورموز الطائفة الذين أرسوا أسس المدرسة الشامخة لأهل البيت عليهم السلام، ولم يرد عن الأئمة عليهم السلام أو أحد تلامذتهم أنه رفض الحوار والمحاججة، وقدّم عليه أسلوبا آخر، فذلك ليس من أخلاق مدرستهم القرآنية التي هي الإسلام الأصيل الذي جاء به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
روى أبو القاسم الكوفي في كتاب (التبديل) أن إسحاق الكندي، فيلسوف العراق في زمانه، اخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وأن بعض تلامذته دخل يوما على الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فقال له أبو محمد عليه السلام:
أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن ؟
فقال التلميذ: نحن تلامذته كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو غيره ؟
فقال أبو محمد عليه السلام: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك ؟
قال: نعم.
قال: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها فانه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها، فانه سيقول: من الجائز لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعاً لغير معانيه.
فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له:
أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكر في نفسه، فرأى ذلك محتملاً في اللغة، وسائغاً في النظر.
وفي المناقب ج44 ص424: فقال:
أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك.
فقال: انه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.
فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني من أين لك.
فقال: امرني به أبو محمد.
فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثم أنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألفه(1).
تشير هذه الرواية إلى أهمية الحوار العلمي الهادئ في الوصول إلى نتائج كبيرة على مستوى العمل الفكري، كما تبيّن طريقة أهل البيت عليهم السلام في إدارة الحوار وأساليبه المتنوّعة، فقد يدخلون الحوار بصورة مباشرة، وقد يوكلون المهمة الحوارية إلى أشخاص آخرين، وذلك حسب طبيعة الظرف والحاجة.
لقد تواصلت عطاءات أهل البيت عليهم السلام في هذا الاتجاه، فأسس أتباعهم ورواد مدرستهم الإسلامية الأصيلة، منظومة العلوم الإسلامية المختلفة في العقائد وعلم الكلام والفقه والأصول وغيرها، وذلك من خلال النشاط العقلي الذي ميّزهم عن غيرهم من المسلمين، وتفوقوا عليهم عبر الحوار العلمي المتين والمحاججة الموضوعية الهادفة، فكان لهم قصب السبق في الميادين العلمية، في حين كان مخالفوهم يلجئون في الكثير من الحالات إلى أساليب العنف والتشهير والتشكيك، مستغلين قربهم من السلطان وميول الحكّام إلى العقائد المخالفة لعقائد آهل البيت عليهم السلام.
وعلى طول التاريخ الشيعي نلاحظ أن الحوار هو السمة البارزة لهذا التراث العملاق، وأن الحوزات الشيعية الرائدة في بغداد والحلة وكربلاء والنجف كانت تنمو وتتطور وتؤسس النظريات الكبيرة في مختلف المجالات، من خلال ظاهرة الحوار والنقاش والمباحثة العلمية. ولعل هذا من أبرز ما يميز حوزات الشيعة ومدارسهم الدينية عن غيرهم، وهو موضع فخر واعتزاز وشموخ الشيعة على مدى الدهور.
بل إننا نلاحظ أن الفترات التي تقل فيها ظاهرة الحوار والمباحثة، لا تشهد نمواً فكرياً،وتظل تعيش حالة الجمود والتوقف، حتّى تعود فيها الحيوية من خلال عودة البحث والمناقشة والحوار.كما حدّثنا التاريخ عن الفترة التي أعقبت وفاة الشيخ الطوسي قدس سره. حيث يفسر ظاهرة الجمود تلك أستاذنا الكبير الإمام الشهيد الصدر (قدس سره) في كتابه (المعالم الجديدة للأصول) بأنها حدثت لأن الشيخ الطوسي عندما أسس حوزة النجف الأشرف لم تكن هذه الحوزة الفتية تضم علماءً على نفس مستوى حوزة بغداد التي تركها الشيخ الطوسي (ولهذا كان لابد لكي يتحقق ذلك التفاعل الفكري الخلاق أن يشتد ساعد الحوزة الفتية التي نشأت حول الشيخ في النجف حتّى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري بانتظار بلوغ الحوزة الفتية ذلك المستوى، وكلف ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عام ليتحقق ذلك ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوراثة العلمية للشيخ حتّى تتفاعل مع آرائه وتتسرب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلاق إلى الحلة).
ويضيف الإمام الشهيد الصدر (قدس سره) سبباً آخر إلى نشوء ظاهرة الجمود تلك، بقوله: (إن نمو الفكر العلمي والأصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلاً عن العوامل الخارجية التي كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي،

ومن تلك العوامل عامل الفكر السني، لأن البحث الأصولي في النطاق السني ونمو هذا البحث وفقاً لأصول المذهب السني كان حافزاً باستمرار للمفكرين من فقهاء الإمامية لدراسة تلك البحوث في الإطار الإمامي، ووضع النظريات التي تتفق معه في كل ما يثيره البحث السني من مسائل ومشاكل والاعتراض على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين).
وعندما بدأ التفكير الأصولي السني في تلك الفترة ينكمش وينضب، فإن التفكير العلمي لدى فقهائنا فقد أحد المثيرات المحركة له، الأمر الذي يمكن أن نعتبره عاملاً مساعداً في توقف النمو العلمي، كما يقول السّيد الشهيد.
وقد انتهت تلك المرحلة على يد العالم الكبير ابن إدريس الذي أعاد للنشاط العلمي الشيعي حيويته وقابلياته الإبداعية من خلال مناقشاته الجريئة لآراء الشيخ الطوسي، في كتابه (السرائر) في مقابل كتاب الشيخ الطوسي (المبسوط).
ومن عطاءات الحوار في الحياة العلمية الشيعية أنه ساهم في بلورة وتطوير الكثير من النظريات العلمية والأفكار الأساسية في الأوساط الشيعية، ودفع بالبحث العلمي إلى مراحل متقدمة إلى الأمام. وهي حالة ما كانت لتحصل لولا حرية البحث وفسح المجال مفتوحاً أمام حركة الحوار ليأخذ مدياته المطلوبة في الحياة العلمية. فكل حقول المعرفة وآفاق الفكر هي مادة للحوار والنقاش، وكل نظرية وفكرة لدى علمائنا هي موضع دراسة وتحليل، كما أن آراء علماء وفقهاء الشيعة تظل مطروحة للأخذ والرد من قبل تلامذتهم ومعاصريهم والأجيال اللاحقة، وهذا هو الذي حفظ تراث الشيعة من الجمود وأبقاه حياً متواصلاً. فالجهد العلمي الذي يتوصل إليه أحد السابقين لا ينتهي بموته ويتجمد في حدود فترته الزمنية، إنما يتعمق ويمتد ويتأصل من خلال مناقشات العلماء في الأجيال اللاحقة، الأمر الذي جعل الفكر الشيعي سلسلة متواصلة الحلقات، يثري اللاحق نتاج السابق. وما التقدم الهائل الذي حققه علم الأصول عند الشيعة الإمامية، إلاّ نتيجة البحث والمناقشة الحرة وفق الأسس العلمية الرامية للوصول إلى الحقيقة.
ونلاحظ أيضا أن الكثير من الكتب الهامة والقيمة التي صنّفها علماء الشيعة كانت كتباً حوارية، تجمعت فصولها وأبوابها من خلال مناقشة أفكار علماء المذاهب الأخرى، والرد عليهم بصورة علمية رصينة، أو من خلال تبادل المراسلات الحوارية والردود على أفكار بعضهم البعض حتّى تكون الغلبة لعلمائنا لأن آراءهم هي آراء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ومن تلك الكتب كتاب (دلائل الصدق) الذي كان ردوداً متبادلة بين العلامة الحلي وبين الفضل بن روزبهان، وقد أضاف إلى هذه الردود العلامة الكبير المغفور له الشيخ محمد حسن المظفر (قدس سره) تعليقاته وآراءه فكان كتاباً رائعاً في محتواه. ومنها كتاب (منهج الرشاد) للعالم الكبير الإمام جعفر كاشف الغطاء (قدس سره) وهو جواب على رسالة بعثها إليه إمام الوهابيين سعود العنزي، ومن تلك الكتب التي كانت في حقيقتها حوارات مطولة بين علمائنا وغيرهم والتي انتهت بالاعتراف بأحقية عقيدة أهل البيت عليهم السلام كتاب (المراجعات) للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (طاب ثراه).
كما جمعت مناقشات وحوارات عدد كبير من علمائنا مع مفكري المذاهب والأديان الأخرى، وصدرت في كتب مستقلة، وهي تشهد بقدرة أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)على الحوار الفكري وتمسكهم بمنطق البحث العلمي، وإعطاء العقل دوره المتميز في قضايا الفكر، ومن تلك الكتب حوارات العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان (قدس سره) مع أحد المستشرقين حول التشيع، وكتاب الردود المتبادلة حول كتاب السقيفة للمغفور له المجدد الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)، وصولاً إلى الكتب العديدة لحوارات آية الله السيد محمد حسين فضل الله (دام ظله) مع الصحفيين والمفكرين والباحثين من مختلف المذاهب من المسلمين والمسيحيين، والتي عرض فيها سماحته حلول الإسلام الأصيلة لمشاكل الحياة وبالشكل الذي أثار إعجاب الآخرين من المذاهب الأخرى وحتّى من المسيحيين.
إن الحوار هو سمة علمائنا ومراجعنا على مرّ الدهور والفترات، وهم قد أخذوا هذا المنهج العلمي من أئمتهم عليهم السلام الذين حفظوا مكانة العلم وقيمته في الأمة والحياة الإسلامية.
وخلافاً لمنهج الأئمة عليهم السلام، نلاحظ أن رفض فكرة الحوار واللجوء إلى أساليب التشويه والتشكيك والاتهام بالتهم الباطلة كالشرك والكفر وغيرها، هي من الأساليب التي أثارها ضدهم مخالفوهم من أعداء أهل البيت(عليهم السلام)والتشيع، فلقد لجأ هؤلاء إلى هذه الأساليب بعد أن عجزوا عن الدخول مع علمائنا في حوار علمي ومطارحات موضوعية.
وقد يلجأ أعداء مدرسة أهل البيت إلى العنف عندما يعجزون عن منازلة علمائنا فكرياً، كما حدث مع العالم الفذّ الشهيد الأول رضوان الله عليه، ومع الشهيد الثاني، ومع الشهيد الثالث التستري صاحب (إحقاق الحق) وغيرهم الكثير من شهداء الفضيلة من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
الموقف الإسلامي من الرأي الآخر
يروي العلامة الطبرسي في كتابه الاحتجاج أن المأمون العباسي جمع للإمام الرضا عليه السلام عدداً كبيراً من علماء النصارى والمجوس وغيرهم من أهل الملل والنحل لمناظرته والدخول معهم في حوار مفتوح، وقد ناظرهم الإمام عليه السلام مناظرةً حرةً قدم فيها فكر الإسلام ودحض عقائدهم ومقالاتهم.

وينقل عن أحد الملحدين أنه قال للمفضل بن عمر بعد أن رأى منه حدّة في الكلام: (يا هذا إن كنت من آهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد فما كان هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدى في جوابنا، وأنه للحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرف حجتنا، حتّى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أننا قطعناه، أدحض حجّتنا في كلام يسير وخطاب قصير يُلزمنا به الحجة، ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه).
هكذا كان الأئمة عليهم السلام في قضايا الفكر حتّى مع الزنادقة والملحدين يتحاورون بالأسلوب الهادئ والحجة القاطعة التي ينتصرون فيها لعقيدتهم. وقد أثّرت منهجيتهم في الحوار في نفوس الملحدين والأعداء. كانت مواقفهم عليهم السلام هادئة رصينة لأن المسألة تدور في أجواء المناقشة الفكرية ولا مكان في هذه الأجواء للانفعال والسب والشتم وغير ذلك من الأساليب البعيدة عن روح العلم وأخلاق الفكر.
إن من يملك القوة في فكره والثقة في نفسه لا يخشى الحوار العلمي، بل يرحب به ويدعو إليه.. أما الذي لا يملك هذه المواصفات فنراه يتهرب من الحوار ويلجأ إلى الأساليب التشهيرية وطرق الاتهام والسب بل وحتّى العنف عندما يواجه الفشل والهزيمة. ومما يؤاخذ على ابن تيمية أنه كان شديداً على من يخالفه الرأي فبدل أن يدخل معه في حوار علمي، فإنه يلجأ إلى اتهامه بأبشع التهم الخارجة عن أخلاق الإسلام، وكان كثير السب والشتم للعلماء الذين يخالفهم الرأي والعقيدة. وقد جرى على هذا المنهج البعيد عن الإسلام وعن كل أخلاقيات المنطق العلمي، طائفة من المسلمين يكفّرون كل من يخالفهم الرأي دون أن يدخلوا معهم في نقاش وحوار، فتهمة الكفر والشرك جارية على لسانهم في كل حديث مع المسلمين الآخرين، والأكثر من ذلك أن الضرب والعنف وسيلتهم في التعامل مع من يخالفونه الرأي عندما يعجزون عن رده بالسب والاتهام بالكفر.
ورد عن الإمام عليّ قوله: ما حاججني عالم إلاّ غلبته وما حاججني جاهل إلاّ غلبني. وهذه مسألة طبيعية فالعالم يقدّر أبعاد الفكرة ويحترم الرأي المقنع، أما الجاهل فليس لهذه المقاييس أي اعتبار عنده.