ستة مجرمين خطرين ثبت مرضهم العقلي فروا منه في نيسان 2003... وما زالوا طلقاء! .. مستشفى الرشاد للامراض العقلية يخرج اصحاء لاتستقبلهم العوائل!
في اثناء دخول القوات الأمريكية إلى بغداد (فتحت) لهم الابواب ففروا وسقط الكثيرون منهم قتلى بالرصاص ودعس السيارات
بعض مرضاه يرددون كلمة (امريكان) ويعتريهم الخوف من مشاهدة الجنود باسلحتهم!
احد نزلائه شاعر يحفظ الشعر الجاهلي ويحارب بقصائده الارهاب
بعض نزلائه يسهمون في اعمال المستشفى اليومية اسوة بالعاملين
أغلب الحالات المرضية ناتجة عن الشد النفسي وسوء الاوضاع
تحذير: الاطفال هم الاكثر عرضة للاصابة بالامراض النفسية والعصبية لما يشاهدونه من اعمال القتل والتفجير.
مدير المستشفى: (العوائل!) لا تسأل عن مرضاها، ولا تستقبلهم حين يشفون وتتركهم للشوارع!
عبد الزهرة المنشداوي

تصوير: نهاد العزاوي

لا يبعد مستشفى الرشاد للامراض النفسية والعصبية عن مدينة الثورة كثيراً، ولا تفصله عن منطقة الاورفلي التابعة للمدينة سوى بضع مئات من الامتار، لهذا يرسم السيد جاسم العبودي من سكنة المدينة صورة مأساوية لهؤلاء المرضى المساكين، الذي شاء حظهم ان يكون مرور القوات الأمريكية المتجهة نحو بغداد من المنطقة التي بقع فيها المستشفى. ويبدو ان هناك من رأي باطلاق سراحهم وفتح الابواب لهم للخروج ضرباً من العمل الانساني وحفظاً لحياتهم، ولكن ما ترتب على ذلك كان خطراً وكان ثمنه غالياً.

لقد سقط الكثير منهم قتلى (والحديث للسيد جاسم العبودي) نتيجة لإطلاق النار المتبادل بين القوات الاميركية من جهة والقوات المدافعة من جهة اخرى. وفريق منهم كان ضحية لحوادث دعس السيارات.

الأهالي وأصحاب الجوامع والحسينيات وبدافع إنساني سارعوا إلى إيواء العديد منهم ووفروا لهم ما استطاعوا من مؤن واغطية بانتظار ما سوف تؤول إليه الأمور.

هذا ما بدر من الخيرين في المنطقة، وبالمقابل كانوا متحيني الفرص في انتظار محموم من اجل الاستيلاء على اثاث ومقتينات المستشفى "وكل حسب اختصاصه بطبيعة الحال" وكان "للمكبسلين" في ذلك دور لا ينسى، وبغيتهم كانت صيدليات المستشفى التي تحوي انواعاً متعددة من العقاقير والحبوب المخدرة، فاستولوا على محتويات الصيدليات برمتها، واقاموا تجارتهم في "سوق مريدي" وعريبة".

يذكر محدثي بان ابواب وشبابيك المستشفى قد تم اقتلاعها والاستيلاء عليها من قبل أصحاب النفوس الضعيفة ايضاً، لكن مجموعة خيرة من اهالي المدينة ورجال الدين وضعوا حداً لذلك ووقفوا وقفة مشرفة للحفاظ على ما تبقى.

داخل المستشفى
الدكتور الاختصاصي محمد رشيد العبودي سارع إلى استقبالنا في مكتبه مرحبا، ولم تفته الاشادة بشخص الاستاذ فخري كريم صاحب مؤسسة المدى الثقافية فيما يتولى من مهمة نشر الثقافة في وقت اشتدت حاجة المجتمع العراقي اليها وابدى استعداده للأجابة عن اية اسئلة او استفسارات نود طرحها. باستثناء تصوير المرضى او نشر اسمائهم لأسباب لا يحبذها ذوو المرضى.

لهذا طلبنا من الدكتور العبودي ان يعطينا لمحه عن المستشفى فقال: انشيء المستشفى في العام 1948 وبدا باستقبال مرضاه منذ عام 1950 ويستوعب الآن 1250 سريراً المشغول منها في الوقت الحاضر 900 سرير فقط يتوزعون بين 550 مريضاً و340 مريضة.

وعن المشكلات التي يواجهها المستشفى في الوقت الراهن قال: ان المستشفى فقد الكثير من مرضاه نتيجة الاحداث، إذ فتحت الابواب على مصراعيها وفر من فر منهم، ولكن بعض ذوي المرضى سارعوا باعادة بعضهم إلى المستشفى وبقي الآخرون مجهولي المصير. وتكمن المشكلة في ذلك ان هناك مرضى من النوع الخطر الذين لا يتورعون عن ارتكاب الجرائم بسبب حالتهم المرضية ولذلك لن تترتب عليهم أية مسؤولية جزائية اضافة إلى ذلك ان المستشفى يحوي قسماً تابعاً للقضاء العدلي وغير تابع للمستشفى، يودع فيه مجرمون ارتكبوا جرائم خطيرة مودعون في قسم خاص، شددت عليه الحراسة من قبل الشرطة. وهؤلاء يتم احالتهم من قبل القضاة للبت في صلاحيتهم العقلية، وبطبيعة الحال ان الكثير من المجرمين يدعون بالجنون لتجنب الحكم، ويلعب بعض المحامين دوراً فعالاً في مثل هذه الحالات، فيطلبون من المحاكم احالة موكليهم إلى لجان طبية عدلية للبت في اهليتهم القانونية وقد فر الكثير منهم لا بل اغلبهم اثناء الاحداث الاخيرة، ومن ضمنهم ستة مجرمين خطرين ثبت جنونهم فاودعوا المستشفى ولم نعثر لهم على اثر لحد الآن.

وهنا لا بد من الاشارة إلى ان عمل اطباء اللجنة العدلية لا يخلو من مخاطر بتعاملهم مع مجرمين خطرين قد يتعرضون لأذاهم حين تكون نتائج الفحوصات في غير صالح هؤلاء.


مجرم يدعي الجنون
هل صادف ان استقبل المستشفى مجرماً ادعى الجنون ليسقط عنه التبعات القانونية؟

نادراً ما يحدث ذلك. وأذكر ان احدهم فعل ذلك لكنه لم يستطع الاستمرار بادعائه هذا لمدة طويلة وسرعان ما اعترف بحيلته وفضل ان يقضي محكوميته في السجن بدل ان يقضيها في مستشفى للامراض العقلية.



مريض يوقد ناراً
عندما سمح لنا السيد المدير العام بالتجوال داخل المستشفى جلب، انتباهنا وجود ملاعب لكرة السلة وكرة اليد واقسام للمرضى معنونة بابن الرازي وابن سينا وغيرهما، لكن العناية بالاماكن المخصصة للزراعة والحدائق تكاد تكون معدومة،؟ واملنا ان تتنبه ادارة المستشفى لذلك، ولاسيما ان المساحة واسعة وان زراعة الورد وشتلات الزينة تضفي جواً بهيجاً المرضى في اشد الحاجة اليه.

"أم رنين" باحثة اجتماعية احالنا اليها السيد المدير العام لتطلعنا على الورش المعدة للمرضى لممارستهم الاعمال التي يجيدونها فسألنا عنها فقيل انها دخلت إلى قاعة يحاضر فيها احد الاطباء المختصين بالامراض العصبية، فتوجب علينا انتظارها أنسنا ناراً اوقدها بعض المرضى وراح يتدفأ على شواظها، فكانت فرصة ان نلتقي به ونحاوره.

كان المريض في العقد الثالث من العمر هادئاً ووديعاً ويحظى بتعاطف من موظفي المستشفى، وعندما اقتربنا منه تخلى عن الكرسي الذي كان يجلس عليه مختاراً وامرنا بالجلوس. سألناه عن محل سكنه فأجاب بأنه من اهالي البصرة وانه حاصل على شهادة دبلوم في السياحة والفندقة ولم نكمل الحديث معه إذ دعاه بعضهم فذهب مسرعاً.

موظف المستشفى اخبرنا بان هذا المريض قد اصبح من ملاك المستشفى، وهو يعمل مع الموظفين ويكلف باعمال يقوم بانجازها على اكمل وجه وعندما ينتهي الدوام في المستشفى يذهب إلى "عنبره" اسوة بالمرضى فينال نصيبه من وجبات الطعام، وفي الصباح ما ان ينهي فطوره الصباحي حتى يسارع للالتحاق ببقية العاملين بنفس الهمة لينجز ما يوكل اليه.



هلا بيك هلا!
لحسن الحظ وجدنا الباحثة الاجتماعية "ام رنين" خارج قاعة المحاضرات، فرجوناها ان تطلعنا على ورش المرضى في المستشفى فأشارت إلى احد العاملين ليدلنا عليها.

فسرنا وراءه وراح يعالج قفلاً ضخماً وفتحه بعد جهد جهيد، فطالعنا عدداً من المرضى يستقبلون الشمس ويتدفأون باشعتها. في حين رافقنا مريض شاب يلف رأسه بكوفية وهو يردد هلا بيك "هلا وبجيتك هلا" لكن مرافقي طلب منهم العودة إلى أماكنهم فامتثلوا لذلك. لكنهم طلبوا مني ان اوزع عليهم السجائر وعندما فعلت رفضوا وطالبوا بعلبة لكل واحد.



لقاء مع شاعر في غرقة مقفلة
ق. ع شاب اشقر في العشرينيات من عمره موفور الصحة يرتدي دشداشة فوقها (قمصلة) تبدو هيئته مقبولة فهو نظيف ووسيم. قال مرافقي انه شاعر ويكتب الكثير من القصائد، ومؤخراً ألقى قصيدة امام وزير الصحة، كانت القاعة التي ضمتني معه مرتبة، وعلى جدرانها لوحات زيتية وبعض المنمنمات من عمل المرضى، وهي ورشة لشعراء وفناني المستشفى. لم يظهر على (ق.ع) أي عارض من عوارض الجنون، وكان حديثه معي مرتباً وعقلانياً وذكر لي أنه "يحب" الشعر الجاهلي وعندما سألته عما إذا كان قرأ قصائد من الشعر الحر وخاصة للسياب، اجاب بانه قد قرأ له. وفي هذه هذه الاثناء خيرني مرافقنا في ان اترك الورشة او يعمد إلى اغلاقها من الخارج لاكمال الحديث بسبب ارتباطه بعمل مكلف به.

فاخترت أن ابقى مع هذا الشاعر الذي اثار فضولي ولأطلع على ما كتب.

جلس امامي ورفع احدى ساقيه ووضعها على الكرسي بينما ترك الاخرى على الارض.

قلت له هل استطيع ان اسمع منك ما كتبت من قصائد؟

فتلا علي قصيدته التي تقول

شعرها الاشقر

"استلقت على العشب فمال إلى الاخضر

سبحان الذي جعل صورة النهار

بالشعر تتأثر

وقف العصفور يتفكر

وأحيانا يتذكر

شعر ام قطعة مرمر؟"

فاستزدته وراح يملي علي لكنني كنت قلقاً بعض الشيء من ان يطيل المرافق غيابه

"ايها الطبيب دعني وشأني

مريض أنا ولست جاني"

وكان للأرهاب حيزاً في شعره إذ يقول:

"لقد اصبح الارهاب سياسة

وتقلد المجرمون جوائز القداسة"

اسمعني كثيراً من شعره وتمنى علي ان انشر له قصيدة من قصائده.

اردت تغيير الحديث فسألته عمن رسم اللوحات الزيتية المعلقة على الجدران.

فذكر لي ان الذي رسمها صديق عزيز عليه خرج من المستشفى مؤخراً وهو يفتقده الآن.

لا انكر باني شعرت بالطمأنينة والارتياح حين رأيت باب الورشة يفتح من جديد ويدخل المرافق يسألني هل سمعت اشعار (ق.ع)

فأجبته بالايجاب لكني سألته ايضاً عن رسام اللوحات الزيتية، فقال بان الذي رسمها مريض كان نزيل المستشفى يمضي اوقاته في الرسم وهو من عائلة معروفة، وان احد اشقائه يحتل الآن مركزاً مرموقاًفي الحكومة.



لوحة الرسام
تمعنت طويلاً في لوحة هذا الرسام الذي من الله عليه بالشفاء واخرجه معافى.

ابعاد اللوحة كانت 30سم × 30سم استخدم فيها لونين الاسود والابيض، شغل معظم مساحتها شكل بلون رمادي يمكن ان يشبه الانسان، لكنه ممطوط من الجانبين فيبدو بهيئة مربع متوج برأس دائري ويدين قصيرتين ولكن ما يجلب الانتباه هو صورة لدودة سوداء ضخمة متجهة إلى يمين اللوحة ربما لا يعرف وجهتها حتى الرسام نفسه.

ولوحة اخرى رسمت بالوان حارة لأشجار وبيوت غريبة الطراز ذكرتني باعمال فنسنت فان كوخ. أما مشغل النساء فيتميز بحراسة مشددة، ويبدو مرتباً ونظيفاً وتوجد فيه ماكنة خياطة تمارس المريضات عملهن بها. وثمة اعمال تطريز وممنمات من عمل المقيمات في المستشفى. وقد اثارت انتباهي صورة منفذة بالباستيل على الورق المقوى. وكانت (الفنانة) التي نفذتها تقف بقربي. وعندما ابديت اعجابي بالرسم فرحت لذلك وطلبت مني ان احتفظ بها، وهي امرأة قد ناهزت الخمسين وقد خط الشيب شعرها المرسل على كتفيها.



العناية والطعام
اثناء التجوال في داخل المستشفى لم يشك احد المرضى من نقص في الطعام، وذكروا لي بأنهم يتناولون في الصباح البيض والجبن وعند الغداء لحم الدجاج، وفي المساء غالباً ما يتناولون اللحوم الحمراء باستثناء احد المرضى الذي قال بان اللحم فيه "رائحة". مع ملاحظة ان السيد مدير عام المستشفى الدكتور محمد رشيد العبودي ذكر لي ان طعامه الذي يتناوله من نفس المطعم الذي يعد طعام النزلاء.

الدكتور العبيدي وبعض الباحثين الاجتماعيين في المستشفى كالوا الثناء لجمعية الصليب الاحمر التي ساهمت مساهمة لا يمكن نكرانها "على حد قولهم" في تأهيل المستشفى وتزويده بالاسرة والاثاث التي نهبت بعد سقوط النظام، وقام بمشاريع ضخمة لاعادة المستشفى إلى ما كان عليه.

وقد افادنا السيد المدير العام كذلك بالقول ان الامراض العصبية والنفسية تعتبر الأقل ما بين دول العالم ويعزو ذلك إلى الروابط الاسرية.

واعتبر الاطفال الاكثر عرضة للامراض النفسية والعصبية لما يشاهدونه من اعمال القتل والتفجير، بينما الإنسان الراشد اقل عرضة للاصابة، وقال: ان اغلب الحالات التي تعرض على المستشفى هي ناتجة عن الشد النفسي وسوء الاوضاع.

وحول مساهمة النظام المباد في زيادة الاصابة بالامراض العصبية ذكر ان ذلك يعتمد على عدة اسباب منها الاستعداد والوراثة، ولا شك بان ضحايا كثيرين كانوا فريسة لهذه الامراض نتيجة سوء الاوضاع التي كانت سائدة، وإلى الآن بعض المرضة يرددون كلمة "امريكان" ويعتريهم الخوف من مشاهدة الجنود واسلحتهم.



مشكلة المرضى
يتم تأهيل اعداد كثيرة من نزلاء المستشفى من اجل عودتهم إلى المجتمع وعوائلهم، ولكن مع الأسف ان (العوائل) تترك مرضاها دون السؤال عنهم، وحتى في حالة شفائهم فانهم يتركون في الشوارع ولا تستقبلهم عوائلهم. وهناك فكرة مشروع باقامة منازل لهؤلاء قريبة من المستشفى نعمل جادين على تنفيذها ولدينا الارض المخصصة لها التي يمكن البناء عليها وهو الحل الوحيد.

بهذا ختم الدكتور العبيدي حديثه.