النتائج 1 إلى 14 من 14
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    أسس الفلسفة ج 1 / العلامة الشهيد مرتضى مطهري

    [align=center][/align]

    [align=center]أسس الفلسفة[/align]

    [align=center][ 9 ][/align]

    [align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة العلامة مرتضى المطهري
    [/align]

    "العلم" هو الأمر الوحيد المقدس من وجهة نظر كل أفراد الإنسان، من كل قومية ومن تابعي جميع الطرق والمذاهب وكل هؤلاء يعترفون بعظمته وقدسيته، وحتى أجهل الناس فإنه لا يستصغر العلم ولا يحقره.
    واحترام العلم وحبه ليس منبعثاً فقط من كونه أفضل وسائل الحياة، وليس فقط من أنه يمنح الإنسان القدرة والقوة في نضاله خلال حياته من أجل بسط سلطانه على الطبيعة، ولو كان الأمر كذلك لنظر الإنسان إلى العلم نفس النظرة التي ينظر بها إلى كل وسيلة عملية أخرى.
    ويقترن تاريخ العلم بالآلام والمصائب والمتاعب وألوان الحرمان التي تحملها العلماء في سبيل تحصيل العلم ففاضت حياتهم المادية بالمرارة ولو كان الإنسان باحثاً عن العلم بهدف تغطية حاجاته المادية فلماذا إذن قد تحمل كل هذا ونسي ذاته وانصرف عن ملذات العيش وطيبات الحياة في سبيل تحصيل العلم؟
    إن علاقة العلم بالروح لأرفع من هذه الارتباطات الوضيعة والحقيرة التي تبدو لأول وهلة وكلما كانت المعرفة أقرب إلى اليقين وأدنى إلى تبديد الشك والجهل وأقرب إلى الكلية والشمول بحيث تكشف ستاراً أكبر فإن أهميتها تزداد والطلب لها يشتد.

    [align=center][ 10 ][/align]
    وهناك مجموعة من المواضيع - من بين كل المجهولات التي يأمل الإنسان في إيجاد الحلول لها - يعيرها الإنسان الدرجة القصوى من الأهمية، وهي تلك المسائل المرتبطة بالنظام الكلي للعالم والحركة العامة للحوادث والتي تؤخذ على أنها رمز الوجود وسر الكون.
    والإنسان - سواء نجح أم خاب- لا يستطيع أن يكف نفسه عن المحاولات الفكرية والنشاطات العقلية التي تدور حول بدء العالم وغاية الوجود ومبدئه وحول الحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والمتناهي واللامتناهي والعلة والمعلول، والواجب والممكن، وغيرها من الأمور التي هي من هذا القبيل. وهذه الحاجة الفطرية هي التي أوجدت الفلسفة.
    فالفلسفة تجعل الوجود بأجمعه ميداناً ليجول فيه الفكر البشري، وهي تحمل العقل الإنساني على جناحها وتحلق به إلى عوالم هي منتهى آماله وغاية طموحه.
    وتاريخ الفلسفة مع تاريخ الفكر البشري توأمان ولهذا فنحن لا نستطيع أن نعتبر قرناً معيناً ولا منطقة خاصة على أساس أنهما مبدأ ومنشأ ظهور الفلسفة على وجه الأرض. فالإنسان- بحكم رغبته الفطرية- لم يفوت أية فرصة أتيحت له في أي وقت وأي مكان للتفكير وإبداء الرأي حول النظام الكلي للعالم. وقد أنبأنا التاريخ منذ تدوينه بأنه قد ظهر في مناطق متعددة من العالم مثل مصر وإيران والهند والصين واليونان فلاسفة ومفكرون من الدرجة الأولى استطاعوا أن يؤسسوا مذاهب فلسفية ذات أهمية فائقة، وقد بقيت بعض هذه الآثار الفلسفية من تلك الفترات التاريخية التي لا نبعد عنها كثيراً، فلم تتطاول يد الأيام لمحوها وتضييع الفرصة علينا للإطلاع عليها.

    [align=center][ 11 ][/align]
    ومن الآثار الفلسفية التي انحدرت إلينا وهي أقدم وأفضل من غيرها تلك الآثار الناتجة من النهضة العلمية والفلسفية اليونانية التي بدأت قبل ألفين وستمائة عام تقريباً ولا تعتبر هذه الفترة طويلة جداً في مقياس التاريخ بحيث تقضي على هذه الآثار وتمحوها.
    وقد بدأت هذه النهضة الفكرية في أطراف آسيا الصغرى واليونان ثم كانت الإسكندرية امتداداً لهذه النهضة، وبعد ذلك سارت الإسكندرية وأثينا نحو الاضمحلال والتمزق وأمر جستنيان إمبراطور روما الشرقية في سنة (529) ميلادية بتعطيل الجامعات وإغلاق مدارس أثينا والإسكندرية، وقد توارى العلماء من شدة الخوف، وانفرط نظام التعليم والتدريس. وفي هذه الأثناء بزغ نور الإسلام في جهة أخرى من العالم، وبهذا بدأت نهضة أخرى وتهيأت الظروف لمدنية جديدة وعميقة.
    وتوقدت جذوة طلب العلم في النفوس بسبب تشويق وتجليل قدوة المسلمين وأوليائهم الكبار لمكانة العلم ولدارسيه، فانبعثت من هذا تيار المدنية الإسلامية الواسعة والعظيمة، وترجمت الكتب من اللغات المتباينة ولا سيما الكتب اليونانية، وأصبحت المدن الكبيرة في البلاد الإسلامية العريضة مهداً للعلم ومركزاً للحركة. وشد الرحال إلى البلاد الإسلامية أناس من أوربا الحالية وهم متعطشون إلى العلم، وقد أدى هذا- بعد مرور عدة قرون- إلى تحولات ضخمة في أوربا في مجالات العلم والمعرفة.
    وهناك شيء مسلّم من وجهة النظر التاريخية وهو أن لأهل الشرق حقاً في أعناق اليونانيين القدماء فيما كسبوه من علم لأن العلماء اليونانيين قد ترددوا كثيراً على الشرق واقتبسوا من رصيد

    [align=center][ 12 ][/align]
    علمائه ثم عادوا إلى أوطانهم وأتحفوا أبناءها بما حملوه إليهم من تلك البلاد.
    ونحن لا نريد في هذه المقدمة أن نعرف بفلسفة الشرق القديمة ولا بمقدار الفائدة التي ظفر بها اليونانيون القدماء من تلك الفلسفة ولسنا أيضاً بصدد التعريف بالفلسفة الإسلامية التي سبقتنا بعشرة قرون ولا بمقدار الفائدة التي اكتسبتها أوربا من تلك الفلسفة.
    ولا نحاول هنا معرفة مقدار الميراث الذي انحدر إلى المسلمين من اليونانيين وما هي التحولات التي حدثت لهذا الميراث في المرحلة الإسلامية، وما هي الكيفية التي كتب بها المسلمون تراث اليونان، وما هو المقدار الذي أضافه المسلمون في هذا المضمار، فهذه المواضيع لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع هذا الكتاب. وعلاوة على هذا فإنها تحتاج إلى تحقيق وتقديم وثائق تاريخية ليكون الحكم أقرب ما يكون إلى النتائج العلمية ويكلفنا هذا وقتاً طويلاً ومجالاً واسعاً مما يؤهله إلى تدوين كتاب مستقل بشأنه.
    أما الذي يرتبط بشكل أكبر- إلى حد ما- بهذا الكتاب ولم يجر البحث فيه إلا قليلاً فهو القيام بتعريف إجمالي للفلسفة الإسلامية التي نشأت منذ ثلاثة قرون ونصف تقريباً وحتى الوقت الراهن. فهذه الفلسفة لم تنتقل إلى العالم بصورة دقيقة، ولم يلتفت إليها شبابنا ممن تتلمذ في المدارس والجامعات الحديثة، لأن كل المعلومات التي تصلهم إنما هي عن طريق الأوربيين.
    وقد أسست هذه الفلسفة المعروفة بـ " الحكمة المتعالية" على يد صدر المتألهين الشيرازي المشهور بـ "ملا صدرا" في القرن الحادي عشر الهجري، ومنذ هذا التاريخ فما بعد اتخذت الدراسات الفلسفية

    [align=center][ 13 ][/align]
    في إيران تلك التحقيقات التي قام بها ذلك العالم الفذ في المواضيع الفلسفية المهمة محوراً لها.
    وتدور معظم بحوث صدر المتألهين حول الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية. وقد تمثل صدر المتألهين بصورة رائعة ما وصل إليه من آثار اليونانيين القدماء ولا سيما أفلاطون وأرسطو، واستطاع أيضاً هضم ما قدمه الفارابي وأبو علي وشيخ الإشراق وغيرهم من تفسير أو من إبداع، واستوعب أيضاً ما أدركه العارفون العظام بوحي من أذواقهم وقوة عرفانهم، ثم شاد أساساً جديداً على قواعد وأصول محكمة لا يتطرق إليها الخلل، وأخرج مسائل الفلسفة بشكل رياضي بوساطة البرهان والاستدلال، بحيث تستنبط وتستخرج إحداها من الأخرى، وبهذا أخرج الفلسفة من التبعثر والتشتت في طرق الاستدلال.
    ومنذ عصر أرسطو ذلك الفيلسوف الثائر ضد آراء أستاذه أفلاطون تلاحظ وجود مذهبين فلسفيين يسيران بشكل متواز، ويعتبر أفلاطون ممثلاً لأحد هذين التيارين، أما أرسطو فهو الممثل للتيار الآخر، وقد وجد أتباع لكل واحد من هذين المذهبين في كل مرحلة تاريخية لاحقة، وعرف هذان المذهبان الفلسفيان في أوساط المسلمين باسم مذهب الإشراقيين ومذهب المشائين. واستمرت المشاجرات الفلسفية بين هذين الاتجاهين فترة تزيد على الألفين من الأعوام بين اليونانيين ثم في الإسكندرية وبعد ذلك بين المسلمين، ثم بين الأوربيين في القرون الوسطى.
    وقد وضع صدر المتألهين نهاية حاسمة لهذا النزاع الطويل بالأساس الجديد الذي شاده في فلسفته، ومنذ هذا الزمن فما بعد لم يعد معنى لوقوف أحد هذين الاتجاهين في مقابل الآخر. وقد

    [align=center][ 14 ][/align]
    لاحظ كل من جاء بعده واطلع على فلسفته أن النزاع الذي امتد لألفي عام بين المشائين والإشراقيين قد اختتم على يد هذا الفيلسوف العظيم.
    وكان فلسفة صدر المتألهين رائعة وغير مسبوقة ولكنه أفاد من جهود المحققين الكبار الذين تقدموا عليه خلال ثمانية قرون، والذين كان لكل منهم نصيب في تقدم الفلسفة وتطورها.
    وقد مرت - مع الأسف- منذ ظهور هذه الفلسفة ولحد الآن أربعة قرون ولم تُقّدَم خلالها هذه الفلسفة ولو إجمالاً إلى أوربا. ويؤيد هذا الزعم المتخصصون بشؤون الشرق.
    يقول البروفسور إدوارد براون المستشرق البريطاني المعروف والمتوفى سنة 1304 هجرية شمسية والذي أنفق عمره في البحث والتحقيق في شؤون إيران وتاريخها في كتاب تاريخ الآداب في إيران - الجزء الرابع:
    " رغم انتشار فلسفة ملا صدرا ورواجها في إيران لم أجد لها أثراً على ألسنة الأوربيين إلا بشكل خلاصتين سطحيتين وناقصتين. فقد كتب كنث كوبينو بعض الصفحات التي تتناول عقائد ملا صدرا، ويبدو أنّ معلوماته كلها مستقاة من الدروس الشفاهية التي حضرها عند معلميه في إيران، ولم يكن لهؤلاء المعلمين- على ما يظهر- اطلاع كامل على آراء ذلك الرجل. وفي نهاية حديث كوبينو عن ملا صدرا قال أن الطريقة الحقيقية لملا صدرا مأخوذة بعينها من ابن سينا. بينما يقول صاحب روضات الجنان بشأن ملا صدرا كان.. منقحاً أساس الإشراق بما لا مزيد عليه، ومفتحاً أبواب الفضيحة على طريق المشاء والرواق. ولكن هناك تعريفاً لهذا المذهب أكثر اختصاراً وأكثر جدية وأقرب إلى الصحة وهو التعريف

    [align=center][ 15 ][/align]
    الذي قدمه الشيخ محمد إقبال (أي الدكتور إقبال الباكستاني) ".
    وقد سجل إدوارد براون في نفس ذلك الكتاب:
    " إن أشهر كتب ملا صدرا هو الأسفار الأربعة وشواهد الربوبية" ، ثم علق في الحاشية: " بأن كنت كوبينو قد أخطأ في معنى الأسفار فأخذها على أنها جمع سفر وهو الكتاب".
    وكتب في كتاب " مذاهب وفلسفات آسيا الوسطى" ص 81:
    "لقد كتب ملا صدرا عدة كتب أخرى تتعلق بالسفر". ولم تصل أيدينا إلى الكتاب الذي ألّفه المرحوم إقبال الباكستاني باللغة الإنكليزية أثناء دراسته في جامعة كمبريدج والمسمى بـ "تطور الحكمة في الإٍسلام"، ولكن القدر المسلم أنه كان مختصراً جداً ولا يرسم صورة واضحة للحكمة الإسلامية.
    ويعتبر هذان المستشرقان (كنت كوبينو وإدوارد براون) من أكبر المستشرقين.
    يقول العالم المتتبع المرحوم الشيح محمد خان القزويني الذي قضى ثلاثين سنة في المكتبات الأوربية وعقد روابط وثيقة وعن قرب مع كثير من المتخصصين بشؤون الشرق في مقالة نشرت في مجلة "إيرانشهر" الصادرة في برلين وذلك بمناسبة وفاة إدوارد براون وأدرجت في كتاب "بيست مقالة" (ومعناه "عشرون مقالة") - يقول بحق إدوارد براون :
    "لم يتحمل هذا العناء ولم يبذل كل هذا الجهد أي مستشرق من أوروبا أو أمريكا في موضوع الآداب الإيرانية ولا سيما تلك الآداب والأذواق والمعنويات الإيرانية، أي أنه لم يكن هناك مثله من

    [align=center][ 16 ][/align]
    أحب من أعماق قلبه حباً خالصاً أفكار الحكماء والعارفين وأصحاب المذاهب المنتشرة في إيران".
    وذكر في تلك المقالة إن كنت كوبينو "هو من كتّاب فرنسا المشهورين وله كتب عديدة فلسفية واجتماعية ودينية وتاريخية، وهو مؤسس طريقة معينة في فلسفة التاريخ تعرف باسم "الكوبينية"، ولهذه الطريقة اتباع منتشرون في ألمانيا، وقد عيّن منذ سنة 1271 (هجرية قمرية) نائباً أول لسفارة فرنسا في طهران وعيّن سنة 1278 وحتى سنة 1280 وزيراً مفوضاً لفرنسا في طهران".
    وقد لاحظتم أن أحد هذين المستشرقين يعتبر صدر المتألهين تابعاً لمذهب المشائين، أما الآخر فهو يستند في رد هذا القول إلى واحد من كتب التراجم والتاريخ (وهو روضات الجنات). أحدهما يقول إن الأسفار هي جمع سَفَر أي السياحة في الأرض، والآخر يقول أنها جمع سفر وهو الكتاب. ولو كلف هذان الكاتبان أنفسهما عناء قراءة الصفحة الأولى من كتاب الأسفار لعرفا أن الأسفار هنا ليست جمعاً للسفر بمعنى السياحة ولا للسفر بمعنى الكتاب.
    ويبدو أن المقصود بالمعلم الشفاهي الذي يقول إدوارد براون أنه قد علّم كوبينو فلسفة ملا صدرا في إيران هو رجل يهودي اسمه "ملا لاله زار"، وقد تمت بمساعدته ترجمة كتاب "مقال في المنهج"، لديكارت إلى اللغة الفارسية.
    وعندما يذكر كوبينو أستاذ صدر المتألهين وهو الفيلسوف العظيم مير محمد باقر الداماد فإنه يعتبره فيلسوفاً "جدلياً" (ديالكتيكياً).
    وهو يشير إلى ذهاب ملا صدرا إلى درس مير داماد بإشارة من الشيخ البهائي ومقدار ما حصله منه بقوله:

    [align=center][ 17][/align]
    "وبعد عدة سنوات وصل إلى ما نعهده فيه من بلاغة وفصاحة". وليس غرضنا انتقاد طريقة المستشرقين لأنه من غير المتوقع من أبناء الأمم الأجنبية أن يأتوا ويفسروا فلسفتنا وعلومنا وديننا وآدابنا وتاريخنا ويقدموها للعالم كما هي. والمثل العربي يقول:
    "ما حك ظهري مثل ظفري".
    وإذا كان هناك أناس يتوقون إلى معرفة تاريخنا وآدابنا وديننا وفلسفتنا وهم يريدون نقلها إلى العالم فإن الطريق الوحيد لذلك هو أن ينهضوا لهذا العمل بأنفسهم.
    أما الأشخاص القادمون من الأمم الأخرى فلو فرضنا أنهم ينهضون بالعمل بأتم حياد وحب فإنهم- بسبب نقص اطلاعهم- سيقعون فريسة لأغلاط واشتباهات كبيرة، كما نلاحظ وجود أخطاء متعددة في توضيح تاريخنا وآدابنا وعاداتنا، ناهيك بالفلسفة التي تحتاج إلى تخصص فني ولا يكفي فيها معرفة اللغة ومراجعة الكتب.
    ولهؤلاء المعتقدين بالمستشرقين نذكر هذه القصة نموذجاً لما قدمنا الحديث عنه، فقد نشر كنت كوبينو الذي عاش في زمان ناصر الدين شاه وأقام في إيران وتكلم اللغة الفارسية بطلاقة -نشر كتاباً أسماه " ثلاثة أعوام في إيران" باللغة الفرنسية وترجم بعد ذلك إلى اللغة الفارسية. وهو عندما يشرح كيفية سؤال الإيرانيين لبعضهم عن أحوالهم يقول:
    " عندما يستقربك المجلس ويجلس صاحب الدار مع بقية الحضور فإنك تتجه إلى صاحب الدار وتسأله:
    أيكون أنفك سميناً؟
    ويجيبك صاحب الدار: بحمد الله أنفي سمين، فكيف هو

    [align=center][ 18 ][/align]
    أنفك؟ وقد لاحظت في بعض المجالس أن شخصاً قد سُئِل هذا السؤال خمس مرات وأجاب عنه. ويذكر في مقام المدح أن واحداً من علماء طهران كان متميزاً بخصلة مهمة وهي أنه عندما يذهب إلى لقاء أحد الوجهاء فهو لا يسأله عن أنفه فقط ولا عن أنوف أقربائه فحسب وإنما يسأله عن أنوف الخدم والحراس أيضاً".
    فهذا الرجل بسبب عدم معرفته الدقيقة باللغة الفارسية قد وقع في هذا الخطأ فظن أن جملة "دماغ شماجاق است؟" تعني " أيكون أنفك سميناً؟"، وهو ينقل هذه القضية متهكماً ساخراً(بينما هي تعني: أتصور أن المقصود عند الإيرانيين (هل أنت مرتاح؟ هل أنت طيّب الخاطر؟) لا الدماغ بمعنى المخّ!! "أيكون مخك سليماً؟").
    ومن المؤكد أن كنت كوبينو لم يكن مغرضاً في هذا النقل ولكن معرفته الناقصة باللغة الفارسية قادته إلى هذا الخطأ.
    وعندما يكون الأمر على هذه الصورة في التعريف بالآداب والعادات فكيف يكون الحال في مورد الأفكار الفلسفية؟
    ونحن نعلم أنه في إيران - ذلك المكان الذي ترعرعت فيه أفكار أمثال ابن سينا وصدر المتألهين- قد رغبت أجيال في معرفة تلك الأفكار، وبعد أن ينفقوا أعمارهم لهذا الهدف لا يخرج من بين آلاف الطلاب إلا بعدد أصابع الكف الواحدة ممن يفهمون هذه الفلسفات ويدركون آفاقها.
    وعلى هذا فكيف نطمئن بأن الفلسفة الإسلامية لعشرة قرون مضت وفلسفة ابن سينا كما يفهمها طلابه قد ترجمت كما تستحق أن تترجم وقد أُدّي المقصود في الترجمة كما هو موجود في الأصل.

    [align=center][ 19 ][/align]
    في نفس الوقت الذي كان صدر المتألهين مشغولاً فيه بتقليب أمور الفلسفة وتشييد أساسه الجديد (في القرن الحادي عشر الهجري الموافق للقرن السادس عشر الميلادي) ظهرت في أوربا حركة فلسفية وعلمية عظيمة كانت قد تهيأت مقدماتها منذ عدة قرون.
    وفي الوقت الذي آثر فيه صدر المتألهين العزلة للتفكير والرياضة في المنطقة الجبلية لمدينة قم حتى يتفرغ لكتابة أفكاره العميقة، أشاع ديكارت الفيلسوف الفرنسي نغمة جديدة في أوربا، فقد ألقى من عاتقه تقليد القدماء واتخذ لنفسه طريقة حديثة واختار زاوية من هولندا للانعزال وفرّغ نفسه للأعمال العلمية.
    ومنذ عصر ديكارت فما حققت أوربا اكتشافات علمية ضخمة وبسرعة هائلة.
    وتبدلت طرق التحقيق العلمي في مختلف التخصصات وظهرت موضوعات جديدة. وبالإضافة إلى ظهور علماء في العلوم الطبيعية والرياضية فقد ظهر فلاسفة عظام بصورة متلاحقة، وبهذا دخلت الفلسفة في مرحلة جديدة.
    واهتمت الفلسفة الجديدة اهتماماً ضعيفاً بتلك الموضوعات التي كانت محور البحث في القرون الوسطى، أما الموضوعات التي لم يهتم بها القدماء فقد نالت في هذا الزمن كل الاهتمام.
    وبرزت على الساحة في أوربا مذاهب فلسفية متباينة منذ عصر ديكارت وحتى العصر الحاضر، وكان لكل من هذه المذاهب أتباع ومؤيدون. فبعض انصرف إلى الفلسفة العقلية، وبعض نظر إلى الفلسفة من نافذة العلوم التجربية العقلية، وبعض اعتقد بأنه يمكن البحث والتحقيق في مسائل الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية وأبدى آراء في هذا المجال، وبعض ادعى أن الإنسان عاجز عن إدراك

    [align=center][ 20 ][/align]
    هذه المواضيع، وكل ما قيل في هذا المضمار- نفياً أو إثباتاً- فقد كان قولاً بغير دليل. كانوا إلهيين في عقائدهم وبعض كانوا ماديين.
    وعلى الإجمال لم يحصل أي تقدم مهم في هذا الفن المسمى بـ "الفلسفة الحقيقية" أو "العلم الأعلى" وهو الفن الذي يأخذ على عاتقه التحقيق في النظام الكلي للعالم وتوضيح الوجود بأسره، سواء في أوربا القرون الوسطى أم في أوربا الحديثة، ولم يظهر نظام قوي مقنع يحفظ الفلسفة من التشتت والتفرق وأدى هذا إلى ظهور مشارب متناقصة في أوربا.
    وأما ما هو موجود في أوربا باسم الفلسفة وهو يستحق الإعجاب والاستحسان فهو لا يربط بالفلسفة، وإنما هو متعلق بالرياضيات أو الفيزياء أو بعلم النفس.
    ومن الإنصاف أن نعترف بأن الفلاسفة المسلمين الذين وجّهوا معظم جهودهم للتحقيق الفلسفي قد أنجزوا الشيء الكثير ودفعوا الفلسفة- التي أوصلها اليونانيون إلى منتصف الطريق- نحو الأمام، ومع أن مسائل الفلسفة اليونانية عند ورودها إلى الحوزات الإسلامية لم تكن تتجاوز مائتي مسألة فإنها قد بلغت في الفلسفة الإسلامية سبعمائة مسألة، وتغيرت فيها أصول وطرق الاستدلال حتى في المسائل الأساسية لليونانيين، واكتسبت الفلسفة خاصية رياضية. وتظهر هذه الخاصية بجلاء فلسفة صدر المتألهين. ومن الإنصاف أن ننسب هذا التقدم إلى العلماء المسلمين.
    وسوف تتضح هذه المواضيع خلال هذا الكتاب مدّعمة بالوثائق والأدلة.

    [align=center][ 21 ][/align]
    منذ فترة من الزمن اقتحم إيران تيّار الفلسفة الأوربية، فترجمت بعض الكتب الفلسفية إلى اللغة الفارسية، ولعل أول أثر فلسفي يترجم إلى هذه اللغة هو كتاب " مقال في المنهج " لديكارت الذي ترجم قبل قرن من الزمن على يد كنت كوبينو ومساعدة بعض من أعوانه، ثم شاع صيت العلوم الغربية وترددت على ألسن الناس أسماء العلماء والفلاسفة الغربيين، وانتشرت الكتب باللغة المحلية، واستطاع البعض أن يطلّع على ما يكتب أو ينشر في المجلات باللغة العربية مما يدور حول النظريات الحديثة.
    ومع أنه قد مرت برهة من الزمن على رغبة بعض الناس في تطعيم الفلسفة القديمة بالعقائد والآراء الحديثة، وفي إجراء المقارنة بين النظريات المعاصرة ونظريات الفلاسفة المسلمين، ولكن هذا الأمر لم يتحول إلى المجال العملي مع الأسف الشديد، ومنذ ذلك الزمن ولحد الآن إما أن تكتب المؤلفات الفلسفية بطريقة القدماء، وأحياناً كانت تتبع الآراء القديمة في تناولها للأمور المتعلقة بالطبيعيات والفلك، ونحن نعلم أن النظريات الحديثة تخالفها تماماً، وإما أن تكون ترجمة ونقلاً فقط للنظريات الحديثة.
    ولما كانت طريقة التحقيق وتناول الفلاسفة المحدثين مختلفة تماماً عما نعهده عند القدماء، ومن ناحية أخرى فإن أغلب المسائل المطروحة في الفلسفة القديمة وخصوصاً في فلسفة صدر المتألهين وهي تؤدي دوراً أساسياً في فلسفته لم تنل إلا اهتماماً ضعيفاً أو لم يُلتَفت إليها إطلاقاً وصُرف الاهتمام نحو مواضيع أخرى لم يعرها القدماء إلا اهتماماً ضئيلاً أو لم يهتّموا بها إطلاقاً- لما كان الأمر كذلك لم تستطع هذه الكتب بقسميها أن تحقق الهدف الذي كان يتطلع إليه ألئك الداعون إلى التطعيم والمقارنة.

    [align=center] [ 22 ][/align]
    ولهذا فإن هذا الكتاب - الذي يمثل الجزء الأول منه الآن أمام نظر القارئ الكريم - لم يولّف بأحد هذين الأسلوبين الفلسفيين اللذين مرّ الحديث عنهما قبل قليل.
    وهو يشتمل على دورة فلسفية مختصرة، ويوضح أمهات المسائل الفلسفية، وقد تم بذل الجهد فيه- حد الإمكان- ليكون مفهوماً عند أغلب الناس سهل التناول وذلك ليتمكن الأشخاص الذين يتذوقون الدراسات الفلسفية ويتمتعون باطلاع ولو مختصر في هذا المجال من الاستفادة منه، ولهذا أعرضنا عن ذكر الأدلة والبراهين المتعددة لكل موضوع وانتقينا أسهل السبل وأبسط البراهين لإثبات المدعى.
    واستفيد في هذا الكتاب من التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام من عمرها، واستفيد أيضاً فيه من تحقيقات علماء أوربا العظام.
    واستعرضنا فيه المسائل التي تحظى بالأهمية في الفلسفة القديمة والمسائل التي هي جديرة بالبحث في الفلسفة الحديثة. وسوف نلاحظ ضمن هذا الكتاب بعض المسائل التي لم يتقدم بحثها لا في الفلسفة القديمة ولا في الفلسفة الحديثة، مثل معظم المسائل الواردة في المقالة الخامسة، ومثل المسائل المدرجة في المقالة السادسة.
    وفي المقالة السادسة تمّ تناول جهاز الإدراك والتمييز والتفكيك بين الإدراكات الحقيقية والإدراكات الاعتبارية بالنقد والتمحيص بشكل لم يسبق له مثيل. وأوضحنا فيها هوية الإدراكات الاعتبارية وموقعها بحيث استطعنا فصلها عن الفلسفة. وقد كان اختلاطها بالفلسفة سبباً لوقوع كثير من الفلاسفة في الضلال.
    واحتفظت الفلسفة في هذا الكتاب بحدودها ولم تختلط بالعلم، وروعيت العلاقة بين العلم والفلسفة، ولكن قطعت فيه العلاقة تماماً

    [align=center][ 23 ][/align]
    بين الفلسفة وعلم الفلك القديم والطبيعيات القديمة، واستفدنا أيضاً في الموقع المناسب من النظريات العلمية الحديثة.
    ـــــــــ
    ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي دام بقاؤه الذي أنفق عمره في تحصيل الفلسفة وتدريسها، وأحاط بآراء ونظريات الفلاسفة المسلمين الكبار من قبيل الفارابي وابن سينا وشيخ الإشراق وصدر المتألهين وغيرهم،وعلاوة على هذا فإنه استوعب بدافع فطري وذوق طبيعي أفكار الفلاسفة المحققين في أوربا، وهو ينهض بعبء تدريس الفقه والأصول وتفسير القرآن. وبالإضافة إلى هذا فهو ينفرد بتدريس الحكمة الإلهية في الحوزة العلمية في قم. وقد حضرت جانباً من دروسه الفلسفية (إلهيات الشفاء لأبن سينا) واستفدت من هذه الدروس الشيء الكثير.
    وتدور في ذهنه- منذ سنين عديدة- فكرة تأليف دورة فلسفية تشتمل على التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام، وتضّم الآراء والنظريات الفلسفية الحديثة أيضاً، بحيث تستطيع تقريب المسافة الواسعة التي تبدو أنها تفصل بين النظريات الفلسفية القديمة والحديثة، فتؤخذان على أنهما فنان مختلفان وغير مرتبطين ببعضهما. وبحيث تستطيع هذه الدورة الفلسفية التي تلبّي الحاجات الفكرية المعاصرة وتبيّن قيمة الفلسفة الإلهية التي تتجلى فيها عظمة العلماء المسلمين، والتي تشيع عنها الفلسفة المادية أنها قد انتهت مرحلتها التاريخية.
    ومنذ برهة من الزمن والأستاذ يراقب ازدياد المنشورات الفلسفية واهتمام الشباب المثقف بالآثار الفلسفية للعلماء الأوربيين التي

    [align=center][ 24 ][/align]
    تخرجها المطابع في كل يوم بصورة ترجمة لمقالة أو كتاب، وهذا بنفسه دليل على وجود روح البحث والتفحص وطلب الحقيقة عند هؤلاء. وليس هذا الشيء أمراً استثنائياً وإنما له سابقة تاريخية تمتد لآلاف السنين. ومن جهة أخرى فهو يلاحظ المنشورات الطافحة بالدعايات السياسية والحزبية للفلسفة المادية الجديدة (المادية الديالكتيكية). كل هذه الأمور دفعته ليخطو نحو هدفه خطوة جديدة، فبادر إلى تشكيل مؤسسة إسلامية للبحث والنقد الفلسفي تضم مجموعة من العلماء. وتم الاتفاق منذ سنتين ونصف على أن يعّد الأستاذ بعض البحوث الفلسفية خلال الأسبوع ثم تقرأ هذه المواضيع في اجتماعات المؤسسة، وخصصوا لها ليلتين من الأسبوع. ثم يسمح للحاضرين في إبداء آرائهم وانتقاداتهم. وأسعفني الحظ في حضور هذه الاجتماعات عندما كنت في قم وذلك قبل سنة ونصف، ولا تزال هذه المؤسسة تواصل سيرها. ونتيجة لهذه الجهود دونّت لحد الآن أربع عشرة مقالة فلسفية، أربع منها يحتويها هذا الجزء الذي هو الآن بين يدي القارئ الكريم.
    إن هذا العمل لشيء مهم جداً يدفع الفلسفة في إيران إلى مرحلة جديدة من عمرها.
    فطلاب الفلسفة كانت معلوماتهم تنحصر فيما يقرءونه في كتبهم الدراسية المتداولة، ولكنه لم يمر على محاولة الأستاذ هذه إلا بضع سنين حتى ازداد في قم عدد الطلاب الذين يتمتعون بمعلومات فلسفية جامعة نسبياً وإحاطة بالبحوث الفلسفية ولا سيما الفلسفة المادية، وعرفوا- بدقة- المغالطات التي يتوسل بها أصحاب هذه الفلسفة.
    وكان الطلاب والمتذوقون منذ البدء يكتبون هذه البحوث،

    [align=center][ 25 ][/align]
    واهتّم بها بعض طلاب البحث الخارج في الحوزة العلمية في قم وأخذوا يتداولونها من يد إلى يد، حتى اقترح بعضهم أن تطبع هذه البحوث قبل سنة ونصف لتصل إلى أيدي الناس عموماً. وقد ذكر هؤلاء أن هذه الدراسات كتبت باللغة الفارسية ومع أن الأستاذ قد سعى في جعلها سهلة التناول ولكنها مع ذلك عسيرة الفهم لأغلب الناس ولهذا فهي محتاجة إلى التوضيح وتجديد النظر فيها.
    وفي هذه الأثناء ألجأتني الظروف-وبعد خمس عشرة سنة من الدراسة العلمية في قم- لأغيّر مكان عملي إلى طهران.
    ولكثرة أعمال الأستاذ العلمية من تدريس وتأليف في الفقه والأصول والتفسير والفلسفة فقد ألقى مسؤولية إنجاز هذا الأمر على عاتقي. وحاولت خلال عدة شهور-وعندما تسمح لي أعمالي- أن انهض بهذه المهمة، فوضحت بعض أقسامها وأضفت بعض الأمور ( وذلك في المجالات التي رأيت فيها لزوم الإضافة)، فظهرت بهذه الصورة التي ترون. وأنا وحدي الذي أتحمل مسؤولية هذا العمل.
    ووفقت لحد الآن إلى كتابة التعليقات لأربع مقالات من هذه السلسلة، وجمعتها لتكون الجزء الأول من هذا الكتاب. وتتناول المقالة الأولى تعريف الفلسفة ( ما هي الفلسفة؟)، وتتعلق المقالات الثلاث الأخرى بمسائل العلم (الإدراك) وهي بعنوان. " النظرية الواقعية والنظرية المثالية" و "العلم والإدراك" و "قيمة المعلومات".
    أما المقالات التي كتبت لحد الآن من قبل المؤلف فهي:
    المقالة الخامسة: ظهور الكثرة في العلم.

    [align=center][ 26 ][/align]
    المقالة السادسة: الإدراكات الاعتبارية.
    المقالة السابعة: مباحث الوجود.
    المقالة الثامنة: الإمكان والوجوب- الجبر والاختيار.
    المقالة التاسعة: العلة والمعلوم .
    المقالة العاشرة: الإمكان والفعلية - الحركة- الزمان .
    المقالة الحادية عشرة: الحدوث والقدم -التقدم، التأخر، المعية.
    المقالة الثانية عشرة: الوحدة والكثرة.
    المقالة الثالثة عشرة: الماهية- الجوهر والعرض.
    المقالة الرابعة عشرة: الكون ورب الكون (الإلهيات).
    ـــــــــ
    وتناولها ضمن هذه البحوث كثيراً من آراء العلماء السابقين والمحدثين بالبحث والنقد، وانصب اهتمامنا بصفة خاصة-ولعلّه سوف تذكر في محلها- على المادية الجديدة ( المادية الديالكتيكية) وسعينا جهد الإمكان لنوضح الانحرافات الواقعة في هذا المذهب.
    وهناك عقائد مادية منذ أقدم الأزمنة كانت تنفي العلة الأولى أو تنفي تجرد الروح. ويظهر هذا بجلاء في بعض الكتب الفلسفية، ولكن المقطوع به تاريخياً أنه لم يوجد عند الماضين مذهب مادي معيّن ينكر كل ما وراء الطبيعة ويعتبر الوجود مساوياً للمادة. ومنذ العصور التاريخية القديمة كانت هناك بحوث عن عالم ما وراء الطبيعة، ولا شك أن هذه البحوث كانت ساذجة في أول الأمر ثم اتسعت وأصبحت برهانية وأكثر منطقية.

    [align=center][ 27 ][/align]
    ويظهر من الكلمات التي نقلها القدماء أن "هرمس" الحكيم قد نظم أول بحث فلسفي بشكل مذهب فلسفي، وتربى في هذه المدرسة الفكرية مجموعة من الفلاسفة يدعون بـ"الهرامسة". ويبدو من كتاب العلل المنسوب إلى "بليناس" أن الفلسفة كانت تسمى في ذلك العهد باسم علل الأشياء. وأتباع هذا المذهب يعترفون بوجود عالم ما وراء الطبيعة.
    وتوجد لدينا بعد هذه المرحلة نظرات فلسفية مختلفة للمالطيين، ونستطيع أن نعتبر مرحلة المالطيين المرحلة الثانية لتكامل الفلسفة. وحسب ما يذكر التاريخ القديم والحديث وحسب ما ورد من ذكر لعقائد هؤلاء وآرائهم في كتب الفلسفة فإنهم كانوا يتحدثون عن عالم ما وراء الطبيعة.
    وكذلك اليونانيون المعاصرون للمالطيين أو المتأخرون عنهم حتى زمان سقراط .
    وينقل مثل هذا عن فلاسفة الهند والصين المعاصرين للمطاليين (في القرن السادس قبل الميلاد) أو قبل ذلك.
    وعلى أية حال فنحن لم نجد بين الماضين مذهباً فلسفياً معيناً ذا أتباع وهو ينكر تماماً ما وراء الطبيعة.
    أما الأفراد الماديون الدهريون الذين وجدوا في أغلب الأزمنة فهم أشخاص متحيرون مترددون يزعمون أن الأدلة التي يعرضها الإلهيون لم تستطع إقناعهم.
    وعلى هذا فلا يمكن اعتبار الفلسفة المادية ذات جذور تاريخية، وإنما هي استطاعت أن تحدث ضجة في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لأسباب سوف نذكرها عما قريب، واتخذت لنفسها شكل المذهب الفلسفي، وأخذت تتباهى وتظهر قوتها أمام المذاهب

    [align=center][ 28 ][/align]
    الأخرى، ولم يستمر هذا طويلاً حتى طويلاً حتى اندحرت في القرن العشرين وفقدت رونقها وجلالها وجبروتها.
    ففي الحقيقة إذن تاريخ الفلسفة المادية لا يمتد إلى أبعد من القرن الثامن عشر.
    ولكن الماديين يحاولون أن يمنحوا المذهب المادي خلفيّة تاريخية غائرة في الماضي، ويحاولون إضفاء صفة المادية على العلماء العظام في العالم. فيقولون أن الطليعة في الثورة العلمية هم من الماديين، وأن الماديين هم الذين استطاعوا تفجير هذه الثورة. وعندما يتحدثون عن أرسطو يزعمون "أنه كان يتقلب بين المادية والمثالية".
    وأحياناً يصفون ابن سينا بأنه " كان مادياً".
    ويعتبر الماديون في ما ينشرون جميع الفلاسفة اليونانيين منذ زمن ثاليس المالطي وحتى زمان سقراط من الماديين.
    ويسمى بخنر الألماني المادي الشهير الذي عاش في القرن التاسع عشر في المقالة الخامسة من شرحه لنظرية دارون والذي ترجمة إلى اللغة العربية الدكتور شبلي شميل، يسمى بخنر في هذه المقالة كثيراً من الفلاسفة بالماديين من قبيل انكسيماندر (انكسيمندروس) وإناكسيمن (انكسيمانوس) واكزينوفان ( اكسينوفانوس) وهراكليت (هرقليطوس) وبرمانيد (برمانيدس) وامبيروكل (انباذقلس) وديموكريت (ديمقراطيس).
    ولكن الحقيقة أنه لا يمكن اعتبار هؤلاء العلماء ماديين بمعنى كونهم منكرين لما وراء الطبيعة.
    وصحيح أن هذه المجموعة من العلماء عُرفت في تاريخ الفلسفة باسم الطبيعيين أو الماديين (وذلك في مقابل الرياضيين

    [align=center][ 29 ][/align]
    "الفيثاغوريين" القائلين بأن أصل العالم هو العدد وفي مقابل السوفسطائيين المنكرين لوجود العالم الخارجي) لأنهم يقولون بوجود المادة أو الأصل الأولي في الطبيعة.
    فمثلاً يقول ثاليس أن الماء هو مادة المواد، ويعتبر انكسيمندروس الهيولى المبهمة مادة المواد، وانكسيمن الهواء، وهرقليطوس النار، وانباذقلس العناصر الأربعة، وذيمقراطيس الذرات الصغيرة التي لا تقبل الانقسام. فهؤلاء العلماء جميعاً كانوا يفسرون الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية، ولكنه لا يوجد دليل واحد على أنهم كانوا ينكرون ما وراء الطبيعة.
    والذي يعتمد عليه الماديون وبعض الكتاب في نسبة إنكار ما وراء الطبيعة إلى هذه المجموعة لا يرتبط إطلاقاً بهذا الموضوع، وإذا بنينا على اعتبار كل القائلين بالمادة الأولى وتفسير الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية من جملة الماديين فلابد أن نعتبر كل الإلهيين من قبيل سقراط وأفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا وصدر المتألهين وديكارت، بل كل الأنبياء والأولياء في مختلف الأديان من الماديين أيضاً.
    وعلاوة على هذا فإن الكتب الفلسفية تنقل بعض الآراء عن قدماء اليونان في الموضوعات المتعلقة بما وراء الطبيعة وهي تكشف عن أنهم كانوا من الإلهيين، مثل عقيدة ثاليس وعقيدة انكسيمانوس في باب علم الباري.
    ومن الغريب أن بخنر نفسه ينقل أموراً تناقص مايدعيه، فمثلاً يقول بحق هرقليطوس:
    " كان هرقليطوس يعتقد بأن النفس الإنسانية هي شعلة نار منبعثة من الأزلية الإلهية"

    [align=center][ 30 ][/align]
    ويقول بحق انباذقلس الذي يُعتبر الأب الأول لـ " الداروينية" ويعترف بأنه قد شرح بدقة نظرية التطور وتنازع البقاء لأول مرة- يقول بحقه:
    "كان يعتقد بمفارقة النفس وينسب هذا إلى غاية معنوية وهي إن النفس تعود في تلك الغاية إلى حالتها الأولى حيث الراحة والشوق والحب".
    والشيء الوحيد الذي يمكن أن يقال هو أن العلماء الذين سبقوا سقراط قد تأثروا غالباً ببيئتهم فاعتقدوا بأمور تختلط بالشرك في مورد الآلهة وأرباب الأنواع.
    وينقل بخنر عن هرقليطوس:
    "إن أصل العالم هو النار وهي تتأجج تارة وتخبو تارة أخرى، وهذه لعبة لـ "جوبيتر" (أحد الآلهة) وهو يلعبها دائماً مع نفسه".
    ولا شك أن كلام هؤلاء العلماء لا يخلو من الرمز ولهذا فنحن لا نستطيع أن نقطع بمقصودهم الحقيقي.
    وينقل صدر المتألهين في أواخر الجزء الثاني من الأسفار كلمات من ثاليس وانكسمايس وإنكساغورس وانباذقلس وأفلاطون وأرسطو. وديمقراطيس وأبيقورس (ابيكور) وفلاسفة آخرين. ويدعى أن هذه الكلمات ترمز إلى أمور لم يدرك حقيقتها ناقلو أحاديثهم، ثم يؤولها بما يتلاءم مع آرائه في الحركة الجوهرية وحدوث العالم.
    والأدلة التي تذكر على أساس أنها ثبتت كون بعض القدماء أو المتأخرين من الماديين ليس لها أي ارتباط بهذا الموضوع من قبيل "الاعتقاد بالمادة الأصلية أو مادة المواد" أو " تعليل الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية" أو الاعتقاد بأن "نظام الوجود نظام

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [align=center][ 31 ][/align]
    واجب وضروري" أو الاعتقاد بأنه " لا شيء يأتي من لا شيء" أو إعطاء الأهمية للمنطق التجربي في تحقيق المسائل الطبيعية، وأمثال هذه الأدلة.
    ويظن الماديون- لعدم تعمقهم في المسائل الإلهية- إن هذه المواضيع المتقدمة تتنافى مع الاعتقاد بعالم ما وراء الطبيعة، ولهذا كل ما يتفوّه بموضوع منها فهم يعدونه من جملة الماديين، ومع أن الأشخاص المتهمين بالمادية يصرحون بأنهم على خلاف ذلك ولكن الماديين لا يتراجعون عن تلك الاتهامات.
    ولم يقتصر هذا الخطأ والخلط على هؤلاء بل امتد ليشمل بعض الكتاب لتاريخ الفلسفة وبعض كتاب الموسوعات ودوائر المعارف من غير الماديين.
    وسنوضح فيما بعد السبيل التي سلكت في مسألة " الحدوث والقدم" ومسألة " العلة والمعلول" فانتهت بهم إلى هذه الأخطاء.
    نعم يوجد شيء لا يمكن إنكاره وهو أن بعض القدماء أنكروا تجرد الروح وبقاءه بعد الموت. وأصحاب هذه العقيدة هم ديمقراطيس وابيكور وأتباعهما.
    واكتسبت هذه العقيدة (عدم بقاء النفس بعد الموت) أتباعاً لها منذ القرن السادس عشر الميلادي في أوربا. ويقال أن أول من كتب كتاباً في رد أرسطو بالنسبة إلى تجرد الروح هو بطرس بومبوناتيوس وذلك في عام 1516م. وشاعت هذه العقيدة تدريجياً وازداد أنصارها وكتبت عدة كتب في هذا الموضوع.
    ويقول بخنر في المقالة السادسة من كتابه: إن بومبوناتيوس هذا كان من أتباع السيد المسيح ومن المدافعين عن تعاليمه، ثم يعقب

    [align=center][ 32 ][/align]
    بأن الناس جميعاً في القرن السابع عشر كانوا بهذا الشكل، ولعل علة الإيمان هذا هي الخوف من بطش الكنيسة أو رسوخ العقائد المتوارثة.
    وحسب ما نقله بخنر فإن إنكار وجود الله علنا لم يبدأ إلا في القرن الثامن عشر، فكتب بارون هولباخ في سنة 1770 كتاباً سماه " نظام الطبيعة" أنكر فيه بصراحة وجود الله وحقيقة الدين.
    واتفق مجموعة من العلماء في القرن الثامن عشر على تأليف دائرة للمعارف كان بعض كتّابها مادياً من قبيل هولباخ وديدرو ودلامبرت. بالخصوص كان يظهر التحير والتردد. ويقول بخنر: " إن دلامبرت صرح لمرات عديدة بأن أفضل السبل في مسائل ما وراء الطبيعة هو أن نقول (لا نعلم)".
    ويُنقل عن ديدرو حديث لا يفهم منه إلا أنه حائر متردد.
    أما في القرن التاسع عشر فقد ظفرت الفلسفة المادية بأتباع كثيرين، وأذيعت نظرية دارون المتعلقة بتحول الأنواع في النصف الثاني من هذا القرن، أي في سنة (1859م)، واعتبرها الماديون أفضل وسيلة لتقدم الفلسفة المادية.
    ولم يكن دارون مادياً في عقائده، بل قد فرضيته هذه من الناحية البيولوجية (علم الأحياء)، ولكن الماديين استفادوا من هذه النظرية لصالح فلسفتهم المادية.
    وقام الدكتور شبلي شميل المادي المعروف بترجمة شرح بخنر لنظرية دارون إلى اللغة العربية، ثم أضاف إليه بعض المواضيع المتنوعة وأذاع هذا الكتاب باسم "فلسفة النشوء والارتقاء". ويعترف الدكتور في ديباجة هذا الكتاب بأن دارون قدم نظرية

    [align=center][ 33 ][/align]
    التطور في الموجودات الحية من الناحية العلمية ( لا الفلسفية)، ولكن بعض المؤيدين للفلسفة المادية من قبيل هكسلي وبخنر اتخذوها وثيقة تصدّق دعاوى الفلسفة المادية.
    ويقول في الصفحة (16) من ذلك الكتاب:
    "والأعجب من هذا أن دارون مع كونه الواضع الأساسي لهذا المذهب فهو لم يستنتج منه كل النتائج التي كان يلزم استنتاجها".
    وينقل عن دارون في المقالة الأولى من شرح بخنر من الترجمة العربية هذه الجملة:
    "إن كل الموجودات الحية التي وجدت على الأرض قد تفرعت - حسب ما اكتشفتُ لحد الآن- من أصل واحد. والخالق هو الذي نفخ الروح وبعث الحياة في أول موجود حي وجد على هذه الأرض".
    وبالإضافة إلى التيار الدارويني الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأضفى على الفلسفة المادية رونقاً ونضارة فإن هناك تياراً آخر قد ظهر في هذا الوقت وأعطى للمادية شكلاً وهيكلاً آخر وأوجد مذهباً جديداً سمي بالمادية الديالكتيكية .
    وقد ساهم كل من كارل ماركس (1818-1883) وفردريك انجلز (1820-1895) في إيجاد هذا المذهب، وكانا يتمتعان بأفكار ثورية وإحساسات اجتماعية متوقدة.
    ومن ميزات هذا المذهب أنه يقتفي أثر منطق خاص يسمى بالمنطق الديالكتيكي".
    ويعتبر كارل ماركس المؤسس الأول للمادية الديالكتيكية،

    [align=center][ 34 ][/align]
    وتتلمذ لمدة قصيرة على يد هيجل الفيلسوف الألماني الكبير وتعلم منه المنطق الديالكتيكي.
    ولم يكن هيجل في أفكاره الفلسفية مادياً، ولكن كارل ماركس تعلق بالفلسفة المادية وأقام أساسها على المنطق الديالكتيكي الذي تعلمه من أستاذه فظهرت المادية الديالكتيكية.
    وهناك ميزة أخرى لهذه الفلسفة وهي أن المقصود والهدف الأصلي منها- على خلاف سائر الأنظمة الفلسفية التي وجدت لحد الآن-ليس هو التحقيق في المسائل الفلسفية المعقدة، وإنما المقصود منها إيجاد أساس للأفكار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة.
    وبدلاً من أن ينفق حاملو لواء هذا المذهب أعمارهم- مثل سائر الفلاسفة والعلماء- في التفكير وتحقيق المسائل المعقدة العلمية والفلسفية فإنهم وقفوا جهودهم للعمل الحزبي والنضال السياسي.
    ونشرت مجلة "انترناسيوناليست"(ومعناها "الأممية") التي تصدر في إيران متحدثة باسم أتباع هذا المذهب سنة 1325 هـ ش أن كارل ماركس اجتاز مرحلة الدكتوراه في سن الرابعة والعشرين واقتحم عالم النضال السياسي، وأمضى سنوات من النضال والاضطراب والملاحقات والنفي حتى الواحدة والثلاثين من عمره حين أبعد من باريس قاصداً لندن، فتارة يلجأ إلى ألمانيا وأخرى تضمّه باريس وثالثة تؤويه بروكسل. وفي أثناء إقامته في بروكسل كلّفه الاتحاد العام للشيوعيين في بروكسل بوضع برنامج للحزب الشيوعي فألف كتاب "المانيفست"(أي "البيان الشيوعي") الذي قال فيه لينين: أن هذا الكتاب تتجلى فيه

    [align=center][ 35 ][/align]
    المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية وتتجلى فيه أيضاً نظرية النضال الطبقي والتعاليم الاجتماعية والاقتصادية لمذهب ماركس.
    وأمضى كارل ماركس منذ سنة 1851 حتى آخر عمره في لندن. وفي الوقت الذي كان يتوقّد حماساً تفرّغ لكتابة "رأس المال" الذي تقول عنه المجلة السابقة الذكر أنه أساس النظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمذهب كارل ماركس.
    وحسب ما تذكر هذه المجلة فإن "انجلز" قد غادر المدرسة في سن الثامنة عشرة واتجه إلى برلين وانخرط في السلك العسكري، وفي ضمن أدائه للوظيفة شارك في المؤتمرات التي تعقدها جامعة برلين واتصل بالجناح اليساري لمذهب هيجل. والتقى في سن (24) لأول مرة في باريس بكارل ماركس، ومن هنا بدأ نضالهما المشترك.
    وبعد هذه الحوادث أصبحت الفلسفة المادية تابعة في تقدمها للحركة الحزبية فبمقدار ما يزداد نفوذ الحزب الشيوعي في العالم فإنه يحمل معه الفلسفة المادية المعروفة بالمادية الديالكتيكية.
    وفي السنوات الأخيرة نشرت في بلادنا كتب ومقالات كثيرة تحت عنوان "المادية الديالكتيكية".
    واستغلت هذه المنشورات- لعلاقتها بالمراكز الحزبية- كما تستغل المنشورات الحزبية للإعلان والدعاية (وليس للعمل العلمي أو الفلسفي).
    والهدف الأصلي من المنشورات الحزبية هو تعبيد الطرق السياسية. وأصحابها يجيزون التوسل بكل وسيلة لإزالة كل الموانع التي تقف سدّاً في طريقهم، وحسب أصولهم الحزبية فإن "الهدف يبرر الوسيلة".

    [align=center][ 36 ][/align]
    ولا تتقيد الأخلاق الحزبية بإظهار كل شيء كما هو موجود، وإنما هي ملتزمة بإظهاره بشكل يؤمّن الوصول إلى الهدف، ولا يُتّبع هذا الأسلوب في الدراسات العلمية والفلسفية لأن الهدف الأساسي منها هو إرضاء نزعة البحث عن الحقيقة في نفس الإنسان.
    ويتخيل الماديون في هذه القرون المتأخرة إن العلوم الحسية والتجربية بشكل عام تتقدم لصالح المادية، ولكن أتباع المادية الديالكتيكية يغرقون في المبالغة مدّعين إن الاتجاه المادي ثمرة مباشرة وخاصة لا تنفك عن العلوم التجربية، وينالهم العجب من أن العلماء وواضعي حجر الأساس لهذه العلوم لم يكونوا ماديين.
    ويدعي أتباع هذا المذهب بصراحة أنه إما أن نكون تابعين للحكمة الإلهية ومؤمنين بوجود الله وعندئذ لابد من التنكر لكل العلوم والصناعات والاختراعات، وإما أن نحتضن هذه وعندئذ لا مفرّ من الإعراض عن الحكمة الإلهية.
    وأقل فائدة يظفر بها القارئ المتذوق من قراءة هذا الكتاب هي أنه يدرك جيداً كون المادية الديالكتيكية- على رغم ادعاء أتباعها- لا ترتبط بالعلوم، وجميع أسسها إنما هي تحريفات واستنباطات شخصية ألفها أشخاص حسب ميولهم.
    وأهم دليل يذكره هؤلاء في دعاياتهم أن في هذه القرون المتأخرة اقترن نمو العلوم الحسية والتجربية مع ترعرع الفلسفة المادية.
    ولكن الحقيقة هي أن التقدم العلمي الأخير في أوربا قد حصل نتيجة للهزّة القوية التي عرضت للأفكار وأسقطت المسلّمات التي دامت آلافاً من السنين بشأن الفلك والطبيعيات وأوجدت دهشة وتشتتاً فكرياً رهيباً.

    [align=center][ 37 ][/align]
    وصحيح إن هذا التحول قد حصل الموضوعات الحسية أو الحدسية ولكن هذا الزلزال قد امتد إلى الأفكار في المواضيع النظرية والعقلية وكذلك المسائل الدينية، وأدى هذا إلى ظهور مذاهب فلسفية مختلفة ومتناقضة في أوربا، وكل مجموعة منهم سلكت طريقاً معيناً، ومن جملتها هذه الفئة التي أعلنت عن نفسها أنها تسلك السبيل المادي. ونحن نعلم أن السوفسطائية التي كسد سوقها منذ ألفي عام، عادت اليوم ودبّت الحياة فيها وجرت الدماء في عروقها من جديد. ولو كان ظهور المذاهب التي اقترنت مع ظهور العلوم الحديثة دليلاً على الارتباط المباشر والسليم لهذه المذاهب بتلك العلوم لكانت المذاهب من قبيل " السوفسطائية والمثالية" أيضاً من الثمرات المباشرة والخواص التي لا تنفك عن العلوم الجديدة.
    ولكن ظهور المذاهب المتنوعة في أوربا له سبب رئيسي آخر، وهو أن هذه البلاد تفتقر إلى مذهب فلسفي عقلي محكم وقوي ومتلائم مع العلوم الحديثة. ووجود سلسلة من العقائد السخيفة التي يطلق عليها اسم "الحكمة الإلهية" في أوربا قد هيأ الجو وفتح الباب على مصراعيه أمام الفلسفة المادية. ومن يرجع إلى الكتب المادية يجد ما هي نوعية العقائد التي بها هاجمها هؤلاء بشدة. وحتى إن مجموعة العلماء المحدثين الأوربيين المعتقدين بالنظرية الإلهية يعانون كثيراً من محتويات هذه الحكمة الإلهية.
    يقول العلامة الفلكي المؤمن فلاماريون في كتابه المسمى "الله في الطبيعة":
    "يلاحظ الناظر المدقق والباحث عن الحقيقة في عصرنا اتجاهين مختلفين في المجتمع ذي الأفكار الإنسانية، وكل واحد من هذين قد اجتذب نحوه جمعاً من الناس واستبدّ بهم. فمن جانب يوجد

    [align=center][ 38 ][/align]
    "العلماء الكيمياويون" وهم مشغولون في مختبراتهم بدراسة ما يقع للمواد الكيميائية من أفعال وانفعالات، وهذا جانب من الجوانب المادية للعلوم، واستخرجوا بهذا التركيبات الجوهرية للأجسام.ويعلن هؤلاء بصراحة إن هذه المركبات المستخرجة من العمليات الكيميائية لم يشاهد فيها وجود الله إطلاقا.
    ومن جانب آخر يوجد " الحكماء الإلهيون" وهم قابعون في أماكنهم على مجموعة من الكتب القديمة والنسخ المخطوطة التي يعلوها غبار الزمن، يحققون فيها ويفتشون في محتوياتها بشوق عظيم ورغبة عارمة يترجمون نصوصها ويستنسخون آياتها الدينية وأحاديثها المذهبية وهم يعتقدون بأنهم قد أصبحوا مشاركين للملك "رفائيل" في اتجاهه، ويعلنون بأنه توجد فاصلة طولها ستة آلاف فرسخ بين إنسان العين اليسرى وإنسان العين اليمنى للأب الخالد (وهو الله)".
    وخصص القديس "توما الاكويني" الذي يعتبر أكبر الحكماء في القرون الوسطى وتتجلى فيه الحكمة "الاسكولاستية" (المدرسية) وبقيت كتبه لمدة أربعمائة سنة هي الكتب الرسمية للحوزات العلمية والدينية في أوربا- خصص فصلاً من كتاب "المجموعة اللاهوتية" يدور حول هذا السؤال:
    "ما هو عدد الملائكة التي يمكن أن تحلّ في رأس إبرة؟".
    ويقول الدكتور شبلي شميل في الجزء الثاني من كتاب فلسفة النشوء والارتقاء في الفصل المعنون بـ "القرآن والعمران" ما يأتي:
    "لقد أحرزت الفلسفة بين المسلمين أقصى ما يمكنها من تقدم في النهضة الأولى، ولكنها بين المسيحيين انمحت وتلاشت في أول

    [align=center][ 39 ][/align]
    اصطدام لها، وحرمت الدراسات كلها ما عدا تلك التي تتعلق بـ (اللاهوت المسيحي)".
    أما في المرحلة الجديدة للحكماء الإلهيين فقد ظهر فيها أمثال ديكارت وأعوانه ولكن هؤلاء العلماء لم يوفقوا لإبداع فلسفة إلهية قوية ومقنعة.
    ومن المؤكد أن هذا التبعثر الفلسفي لم يكن ليوجد لو أن الحكمة الإلهية في أوربا قد أحرزت التقدم الذي ظفرت به بين المسلمين، وعند ذاك لم يكن الميدان ليسمح للسوفسطائيين أن يشيعوا خيالاتهم، ولا للماديين أن ينشروا غرورهم، وبالتالي فلا المثالية تستشري ولا المادية تستحكم.
    ـــــــــ
    وسعينا في هذا الكتاب إلى توضيح كل انحرافات المادية الديالكتيكية. وربما يعترض علينا بعض الناس الذين عرفوا أن هذه الفلسفة لا تتمتع بأساس رصين بأننا قد تناولناها بالنقد والتمحيص أكثر مما تستحق، ولكننا نذّكر هؤلاء بأننا لم نلاحظ في هذا مقدار القيمة الفلسفية والمنطقية لهذه الفلسفة، وإنما لاحظنا كثرة المنشورات المتعلقة بالمادية الديالكتيكية في بلادنا بحيث اجتذبت اهتمام كثير من شبابنا، ولعل بعضهم قد آمن بأن المادية الديالكتيكية هي أرفع نظام فلسفي للعالم وهي ثمرة مباشرة للعلوم الحديثة ومن خواصها التي لا تنفك عنها، وإن الحكمة الإلهية قد انتهت مرحلتها التاريخية، ولهذا رأينا من اللازم أن نتناول محتويات هذه الفلسفة وذلك المنطق بالتحليل والنقد لتتبين للجميع قيمتها الواقعية.

    [align=center][ 40 ][/align]
    ونحن نستند في تعليقاتنا إلى الآراء والعقائد المنسوبة للماديين على كتب الدكتور تقي الآراني.
    ويعترف أتباع المادية الديالكتيكية بأن الدكتور الآراني هو من أفضل علماء هذا المذهب الفلسفي. تقول مجلة "مردم"(وهي تعني "الناس") (وهي لسان حال حزب الشعب الإيراني) العدد الصادر في شهر بهمن سنة 1327 في مقالها الرئيسي:
    "لا نظير للدكتور الآراني من حيث سعة المعلومات والإحاطة العلمية".
    ونشر الدكتور الآراني مجموعة من المقالات في مجلة "الدنيا" جمعها مؤيدوه بعد وفاته في أجزاء مستقلة طبعت عدة مرات، منها "المادية الديالكتيكية" و "العرفان والأصول المادية" وغيرها.
    وألّف مجموعة من الكتب المستقلة لعل أهمها "يسيكولوجي"(يطلق هذا الاصطلاح في اللغة الفرنسية على "علم النفس"، ويطلق عليه في اللغة الإنجليزية اسم "سيكولوجي". وحروف هذه الكلمة واحدة في اللغتين غير أن الحرف الأول منها لا ينطق في الإنجليزية).
    ومع أنه قد مرت على وفاة الدكتور الآراني خمس عشرة سنة تقريباً ولكن أتباع المادية الديالكتيكية لم يستطيعوا أن يكتبوا أفضل منه. فهو قد عرض المادية الديالكتيكية بحلّة جميلة أفضل مما كانت عليه في كتابات كارل ماركس وانجلز ولينين وغيرهم، وذلك لأنه كان طويل الباع في اللغة والآداب الفارسية وله إلمام في الجملة باللغة العربية، ولهذا فاقت كتبه الفلسفية مؤلفات سابقيه.

    [align=center][ 41 ][/align]
    ولهذا السبب اعتمدنا في هذا المضمار على أقواله مع أن هناك مؤلفات وترجمات كثيرة تتناول هذا الموضوع.

    [align=center]
    مرتضى المطهري
    طهران / 12 / 1332 هـ .ش[/align]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [align=center][ 43 ]
    المقــَـــــالة الأولــــــى

    [ 44 ][/align]
    ما هي الفلسفـــة؟
    يحتوي الكون كثيراً من الموجودات وعدداً لا يحصر من الظواهر ونُعّد نحن جزءاً من هذه المجموعة.
    وكثيراً ما يحدث أن نظن بأن شيئاً ما موجود وله أساس من الواقع ونضفي عليه صفة الصدق ثم يتبن لنا أنه لا أساس له من الواقع وهو مندرج تحت عنوان الكذب. وكثيراً ما يحدث أيضاً أن نعدّ شيئاً ما معدوماً ونصفه بالكذب ثم يتضح لنا بعد ذلك أنه كان صحيحاً وهو متصف بميزات وله آثار متعددة في هذا الكون.
    ونحن نعلم أن حب الاطلاع وغريزة الفحص في كل ما تصل إليه أيدينا والبحث عن علله الوجودية مغروسة في أعماقنا. ومن هنا فلا بد أن نميز الموجودات الحقيقية والواقعية (وباصطلاح الفلسفة: الحقائق) من الموجودات المتخيلة ( وهي الوهميات والاعتباريات)(سوف نذكر في نهاية هذه المقالة أن "الفلسفة" تقع في مقابل "السفسطة". ولما كان السوفسطائي منكراً لأي واقع خارج الذهن ومعتبراً الإدراكات والمفاهيم الذهنية كلها لوناً من ألوان الفكر الخالص فهو ينكر إذن أن يكون هناك معنى لقولنا: إن الحقيقة هي الإدراك المطابق للواقع.
    أما الفيلسوف فهو يذعن ويسلم بأن هناك واقعاً خارج أذهاننا وهو يعتبر بعض الإدراكات حقيقة لأنها تطابق الواقع، ويسلم بأن بعض الإدراكات لا تطابق الواقع (وهي الإعتبارات والوهميات) .
    فمن وجهة نظر الفيلسوف تنقسم الإدراكات والمفاهيم الذهنية إلى ثلاث فئات رئيسية:
    أ-الحقائق: وهي تلك المفاهيم التي لها مصاديق واقعية في الخارج.
    ب-الاعتباريات وهي المفاهيم التي ليس لها مصداق واقعي في الخارج ولكن العقل يعتبر لها مصداقاً.أي أن العقل يعتبر الشيء الذي ليس هو مصداقاً واقعياً لهذه المفاهيم- يعتبره مصداقاً. وسوف نوضح في فصل مستقل كيفية ظهور الإدراكات الإعتبارية، وكيف أن العقل لا مفرّ له من اعتبار مجموعة من المفاهيم.
    ولكي يميز القارئ الكريم الإدراكات الحقيقية من الإدراكات الإعتبارية في الجملة نذكر هذا المثال:
    لو شكّل ألف جندي فوجاً من الجيش فإن كل جندي يعتبر جزءاً من هذا الفوج، أما الفوج فهو عبارة عن مجموعة الجنود. ونسبة كل فرد إلى المجموع هي نسبة الجزء إلى الكل. ونحن ندرك كل فرد من هؤلاء ولنا أحكام مختلفة حول الأفراد، وندرك أيضاً مجموع الأفراد الذي أطلقنا عليه اسم" الفوج" ولنا أحكام معينة بحقه.
    فإدراكنا للأفراد إدراك حقيقي لأن له مصداقاً واقعياً خارجياً، أما إدراكنا للمجموع فهو اعتباري لأن المجموع لا مصداق له في الخارج والذي له تحقق في الخارج إنما هو كل فرد من الأفراد وليس المجموع.
    ج-الوهميات: وهي الإدراكات التي لا مصداق لها إطلاقاً في الخارج وهي باطلة من أساسها مثل تصور الغول والعنقاء والحظ وأمثالها.
    وتسعى الفلسفة بموازينها الدقيقة إلى فصل الأمور الحقيقية عن الفئتين الأخريين.
    وتمييز الأمور الاعتبارية - التي تبدو كأنها حقيقية - من الحقائق يعتبر من المواضيع المعقدة التي زلّت فيها أقدام كثير من الفلاسفة.
    وحاول العلماء المحدثون في أوربا - والذين انصرفوا إلى نقد العقل وفهم الإنسان - أن يفصلوا مخلوقات الذهن عن الحقائق التي لها واقع خارجي، وأدى هذا إلى انحراف بعضهم نحو " السفسطة" (idealism ) القائلة أن جميع المفاهيم هي مخلوقة أذهاننا. ودفع البعض الآخر إلى اختيار " أسلوب الشك" ( scepticism) ).
    وبذلت الفلسفة الإسلامية جهداً ملحوظاً في هذا المضمار وقدمت تحقيقات نافعة للتفكيك بين الاعتباريات والحقائق. ونرجئ تفصيل ونقد العلماء الأوربيين وتحقيق العلماء المسلمين إلى المقالة الخامسة) .

    [align=center][ 45 ][/align]
    وبغض النظر عن هذا الدافع الغريزي لتأمين احتياجات الحياة

    [align=center][ 46 ][/align]
    فنحن كلما اقتحمنا فرعاً من فروع العلم المختلفة فإن إثبات كل خاصة من خواص الموجودات لموضوعها يحتاج إلى ثبوت الموضوع نفسه قبل ذلك ( نحن محتاجون إلى الفلسفة من ناحيتين:
    الأولى: إن الإنسان قد غرست في نفسه غريزة حب الاطلاع، وهو يحب دائماً أن يميز الحقائق من الأوهام، والأمور التي لها واقع من الأمور التي لا واقع لها.
    الثانية: أن العلم بجميع فروعه يحتاج إلى الفلسفة، لأن العلم - كما سوف يذكر- سواء أكان طبيعياً أم رياضياً، وسواء أكان يتقدم بالأسلوب التجربي أم بالأسلوب البرهاني والقياسي فهو يأخذ موضوعه مفروض الوجود والواقعية ثم يتناول آثاره وحالاته بالبحث والتمحيص، ومن الجلي أن ثبوت حالة لشيء أو تحقق أثر له لا يمكن إلا في حالة وجود ذلك الشيء نفسه.
    فإذا أردنا أن نطمئن إلى أن هذه الحالة أو ذاك الأثر موجود لذلك الشيء. فلا بد لنا قبل ذلك من الاطمئنان بأن ذلك الشيء بنفسه موجود، ولا يتحقق هذا إلا في ظل الفلسفة).
    وهذه المجموعة من البحوث البرهانية التي تهدف إلى تأمين ما

    [align=center][ 47 ][/align]
    سبق ذكره وتكون نتيجتها إثبات الوجود الحقيقي للأشياء وتشخيص علل وأسباب وكيفية ومرتبة وجودها- كل هذه يطلق عليها اسم "الفلسفة".
    ويختلف عن هذا أسلوب البحث ونتيجة الفحص في العلوم الأخرى (المقصود هنا هو التفريق بين الفلسفة والعلم. ويحتاج هذا الموضوع إلى دقة كبيرة، لأن لفظ "الفلسفة" قد استعمل أخيراً بصورة واسعة، ونتج عن ذلك أن ظل معناه مبهماً بحيث أصبح الناس يفهمون من هذا اللفظ معانٍ مختلفة، فبعض يظن أن الفلسفة تعني إبداء الآراء المشوبة بالدهشة والحيرة بالنسبة إلى الكون. وبعض تخيل أنها تعني الأقوال المبعثرة أو الأحاديث المتناقصة. وبعض لا يميّز بين المسائل الفلسفية والمسائل التي تبحث في العلوم، ومن هنا فهو ينظر حل مشكلة فلسفية من العلوم الأخرى، أو يطلب الجواب عن سؤال متعلق بالعلم من الفلسفة. وبعض آخر لا يفرق بين الأسلوب الفكري المتبع في الفلسفة ( وهو أسلوب القياس العقلي) والأسلوب الفكري المستخدم في العلوم ولا سيما العلوم الطبيعية ( وهو الأسلوب التجربي)، ولهذا فهو ينتظر حل المسائل الفلسفية الدقيقة والعميقة بواسطة المجاهر أو بواتق المختبرات العلمية، من أنها لا يمكن إزالة الغموض عنها إلا بواسطة البراهين العقلية الخاصة.
    وتعود جذور لفظ " الفلسفة" إلى اليونانيين ، فكانت تطلق سابقاً ويقصد منها معنى عام يشمل كل المعلومات النظرية والعملية، فتكون مرادفة تقريباً للفظ "العلم". وشاع الاصطلاح حتى بين علمائنا، ولكن العلماء فصلوا أخيراً بين لفظ العلم ولفظ الفلسفة وذلك منذ تخلّت بعض العلوم عن أسلوب البرهان والقياس العقلي وأحلّت الأسلوب التجربي محله، فأصبح كل لفظ من هذين يطلق على معنى خاص.
    ولابد من النظر بعين الاعتبار إلى أن الاصطلاحات الشائعة بين العلماء المحدثين تختلف أيضاً باختلاف آرائهم وأساليبهم في فهم عقل الإنسان وحدود قدرته وقواه المدركة.
    وعادة يطلق العلماء - الذين يؤمنون بقيمة الأسلوب التجربي والأسلوب العقلي في البرهان والقياس- لفظ "العلم" على تلك المواضيع الناتجة من تجارب الإنسانية، ولفظ "الفلسفة" على تلك المسائل النظرية والعقلية المحضة.
    ولما كانت الحكمة الأولى حصيلة خالصة لقوة العقل البشري ولا دخل للتجربة الحسية في مسائلها ففي أغلب الأحيان عندما تطلق كلمة "الفلسفة" فإن المقصود بها هو الحكمة الأولى (كانت تعتبر أحد الفروع الثلاثة للفلسفة النظرية، وكان العلماء السابقون يسمونها بـ "الفلسفة الحقيقية" لأنها نظرية وعقلية محضة، ويسمونها بـ " العلم الكلي" لأنها تبحث في أكثر الأمور كلية وهو الوجود، ويطلقون عليها أيضاً اسم "الإلهيات" لأن إحدى مسائلها هي مسألة علة العلل وواجب الوجود. وأطلق عليها اليونانيون القدماء اسم "الميتافيزيقية" (metaphysics) لأسباب خاصة سوف نستعرضها في نهاية هذه المقالة).
    ومنذ بداية القرن السابع عشر فما بعد ظهرت فئة من العلماء تنكر قيمة "البرهان والقياس العقلي" وتعتبر الأسلوب التجربي هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه. ويعتقد هؤلاء أن الفلسفة النظرية والعقلية المستقلة عن العلم لا تتمتع بأي أساس، وليس العلم إلا ثمرة للحواس، وهذه الحواس لا تتعلق إلا بأعراض الطبيعة وظواهرها (p (phenomenon) ، إذن لا قيمة لمسائل الفلسفة الأولى التي هي نظرية وعقلية محضة ومتعلقة بكنه الواقع وبأمور غير محسوسة، ولا يمكن إدراك هذه المسائل للإنسان، لا نفياً ولا إثباتاً، فلابد من إخراجها من حيّز البحث ولا بد من اعتبارها ضمن الأمور غير القابلة للتحقيق.
    ومن العلماء المنكرين لقيمة الفلسفة العقلية والنظرية الفيلسوف الفرنسي الشهير أوجست كونت (a (uguste comte) الذي عاش في القرن التاسع عشر، وهو يعتقد بفلسفة حسية تعتمد على العلم، والفلسفة عنده تعني بيان علاقات العلوم فيما بينها وكذلك بعض الفرضيات الواسعة التي تستفيد منها كل العلوم أو أغلبها . ويسميها بهذا الاسم لوجود بعض الشبه بالفلسفة الأولى من حيث العموم والكلية فيها.
    ويطلق اليوم اصطلاح "الفلسفة العلمية" على الأساليب المتّبعة في العلوم والطرق السائدة في كل علم.
    فهذه الفلسفة الحسية التي جاء بها أوجست كونت وهكذا سائر الأنظمة الفلسفية الحسية التي أعلنها الفلاسفة الحسيون e piristes)) كلها تعتمد على العلوم الحسية، فهي إذن محدودة مثل تلك العلوم، ولا تتجاوز حدود تفسير أعراض وظواهر الطبيعة (p henomeno ).
    ولا نتعرض في هذه المقالة للفلاسفة الحسيين ولا لأولئك الذين يقولون أن الفلسفة الأولى ليست قابلة للتحقيق والبحث لأنها نظرية وخارجة عن مجال الحس والتجربة. وقد خصصنا مقالة أخرى في هذه السلسلة من المقالات لرد عقيدة هذه الفئة من العلماء، وأوضحنا هناك أن أسلوب البرهان والقياس العقلي مفيد ومعتبر وأن مسائل الفلسفة قابلة للتحقيق.
    وينحصر اهتمامنا هنا في مناقشة أولئك الذين يتناولون مواضيع هذه الفلسفة نفياً أو إثباتاً.
    ويشمل النقاش الماديين ( Materialistes) وأتباع المادية الديالكتيكية (materialism -Dialectic)الذين أبدوا آراءً في مسائل هذه الفلسفة دون أن يفككوا بين هذه المسائل والمسائل المتعلقة بالعلوم.
    والغريب أن هذه المجموعة من العلماء تعلن عن نفسها أنها تابعة للمنطق الحسي والتجربي، مع أنها قد تناولت هذه المسائل بالنفي أو الإثبات، والحس والعلوم الحسية لا يمكنها إثبات ذلك ولا نفيه.
    ويحسن بالقارئ الكريم أن يلاحظ منذ الآن، وسوف يحصل له اليقين بذلك في المقالات اللاحقة، إن الفلسفة المادية وآخر أشكالها "المادية الديالكتيكية" هي لون من ألوان الفلسفة النظرية وليست فلسفة حسية ولا تجربية.
    ومن المؤكد أنه قد وجد في أوربا بعض العلماء الذين آمنوا بالفلسفة الحسية ولكن فلسفة هؤلاء لم تكن مادية ولا إلهية، وذلك لأن الفلسفة الحسية قيدتهم على الرغم منهم بالمسائل المتعلقة بالعلوم الحسية، والمنطق الحسي يفرض عليهم السكوت إزاء كنه الوجود وحقيقته.
    وأشهر الفلسفات الحسية هي الفلسفة الوضعية (positivisme) ومؤسسها هو الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت.
    أما الفلسفة المادية في شكلها الأخير (المادية الديالكتيكية) فهي تسهب في الحديث - لأغراض دعائية - عن الحس والعلوم الحسية، وأحياناً يحرفون مسألة علمية ليصدقوا بها أحاديثهم، ولكنهم لم يتقيدوا بالمنطق الحسي لأنهم قد تناولوا بالنقد مسائل الفلسفة الأولى النظرية والعقلية، وهذه المسائل لا تدخل مجال الحس ولا التجربة.
    ولهذا تناولنا في هذه المقالة تعريف الفلسفة الأولى ( التي يتناولها بالبحث الماديون أيضاً شاءوا أم أبوا) وفصلها عن مسائل العلوم (وقد خلط الماديون بين هذين البحثين ولم يستطيعوا فصل أحدهما عن الآخر).
    فالمقصود من الفلسفة في هذه المقالة هو الفلسفة الأولى التي هي نظرية وعقلية صرفة، والهدف من هذه المقالة هو تعريفها وتوضيح الفرق بينها وبين سائر الأقسام التي تسمى اليوم بالعلوم.
    ولا نجد مفرّاً من ذكر مقدمة قصيرة ليتمكن القارئ الكريم من إدراك تعريف الفلسفة بشكل دقيق وليستطيع تمييز المسائل الفلسفية من المواضيع العلمية:
    تشكل العلوم المنتشرة في المجتمعات البشرية أقساماً مختلفة، ويعرف كل قسم منها باسم خاص، فهناك الفيزياء، الكيمياء، الحساب، الهندسة، الفلك، الأحياء، و... وكل واحد من هذه يطلعنا على لون معين من المعارف بحيث نستطيع قبل أن نَرِدَ ذلك القسم أن نعرف ما هو لون المسائل التي سنواجهها في هذا المجال لأننا نعلم:
    إن كل علم عبارة عن البحث في سلسلة من المسائل المتعلقة بموضوع معين، وتوجد رابطة خاصة تربط بين مسائل كل علم وتصلها ببعضها وتفصلها عن مسائل العلوم الأخرى.
    إذن لكي نظفر بتعريف لكل علم، ولكي نميز كون المسألة الفلانية لأية مجموعة من المسائل هي منضمة، ولأي علم هي منتمية، ولا بد أن نشخص موضوعات العلوم أنفسها. فما دمنا لا نعرف ما هو موضوع علم الحساب وما هو موضوع علم الهندسة فإننا لا نستطيع أن نفرق بين مسائل الحساب ومسائل الهندسة، وهكذا بقية العلوم.
    وننتقل من هذه المقدمة لنقول أن الفلسفة بدورها قد أخذت على عاتقها حل مشكلات معينة، وتدور مسائلها حول موضوع معين. وهي لا تتدخل فيما يتعلق بالمسائل العلمية، ولا تسمح أيضاً لهذه المسائل أن تتطفل على حدودها.
    والفلسفة عبارة عن البحث والدراسة في سلسلة من المسائل التي تتحدث عن مطلق الوجود وأحكامه وأعراضه على أساس البرهان والقياس العقلي. وهي تتكلم عن وجود الأشياء أو عدمها وتدقق في أحكام مطلق الوجود ولا تنظر إلى الأحكام والآثار المختصة بموضوع واحد أو عدة مواضيع معينة، وهذا بعكس العلوم التي تتناول دائماً موضوعاً واحداً أو عدة مواضيع مفروضة الوجود ثم تدقق في أحكامها وآثارها وهي لا تنظر إلى وجود الأشياء ولا إلى عدمها.
    وليتضح هذا الموضوع أكثر نذكر هذين المثالين:
    لو أخذنا موضوع الدائرة وقلنا أن محيط كل دائرة يساوي (3,14) مضروباً في قطرها، فهذا متعلق بعلم الهندسة، ومعنى هذا الكلام هو كل دائرة لها وجود خارجي فإن لها خاصية (تساوي محيطها مع 14،3) مضروباً في قطرها). إذن فرضنا للدائرة وجوداً خارجياً ثم أثبتنا لها هذه الخاصية (وهي أن محيطها يساوي 3,14 مضروباً في قطرها).أما لو تسائلنا: أيكون للدائرة وجود خارجي أم أن ما نتصوره دائرة ليس إلا شكلاً كثير الأضلاع؟
    فهذا موضوع يتعلق بالفلسفة، لأننا هنا لم نتحدث عن خواص الدائرة ولا عن أحكامها وإنما تحدثنا عن وجودها أو عدمها.
    والمثال الآخر يدور حول الجسم، فلو قلنا أن لكل جسم شكلاً، أو لكل جسم إشعاعاً، فهذا مرتبط بالعلوم الطبيعية. أما لو قلنا: أيكون الجسم (وهو الشيء الذي له ثلاثة أبعاد) موجوداً في الخارج أم أن ما نحسّ به على أساس أنه جسم وله ثلاثة أبعاد ليس في الواقع إلا مجموعة من الذرات الخالية من أيّ بعد؟
    فهذا موضوع فلسفي.

    [align=center][ 48 ] [/align]
    موضوعاً أو عدة مواضيع مفروضة الوجود ثم يواصل دراسة الخواص ويوضح الآثار.

    [align=center][ 49 ][/align]
    ولا يتناول أي علم البحث في أن الموضوع الفلاني موجود أم لا؟ وإذا كان موجوداً فما هي كيفية وجوده؟

    [align=center][ 50 ][/align]
    وإنما هو يأخذ الموضوع مفروض الوجود ثم يبحث أحكام هذا الموضوع، ويحيل مسألة وجوده وكيفية ذلك الوجود إلى مجال آخر (هو الحس أو البرهان الفلسفي).

    [align=center][ 51 ][/align]
    ونستطيع أن نلخص ما مضى من حديث فيما يأتي:
    نحن قد نخطئ أحياناً أو نتردد في بعض خواص الأشياء وأحكامها فنقول مثلاً: أن التركيب الفلاني لا طعم له (بالقطع أو بالترديد) مع أن له في الواقع طعماً، أو بالعكس.

    [align=center][ 52 ][/align]
    وأحياناً أخرى قد نخطئ أو نجهل أصل وجود الأشياء أو عدمها فنقول مثلاً: الروح ليست موجودة في الخارج، أو نقول أن الحظ له تحقق في الواقع.

    [align=center][ 53 ][/align]
    فهذان لونان وأسلوبان من البحث في هذين المثالين ليسا هما متشابهين.
    فلا بد أولاً من إثبات وجود الشيء أو أخذه مفروض الوجود ثم ننتقل إلى البحث في خواصه وأحكامه.
    نعم كثيراً ما يحدث هذا الأمر وهو أن تثبت البحوث العلمية أحكاماً وخواصّ لموضوع ما، ثم نعرف من هذا كيفية وجود هذا الموضوع وبأية علة هو مرتبط. مثلاً إذا أثبتنا في العلوم الطبيعية أن جزءاً من الذرة المسمى بـ " البروتون" يدور حول نفسه بحركة سريعة، إذن نستطيع القول:
    "إن لدينا في الخارج حركة وضعية دائرية"
    ومن الجلي أن في هذا الحديث قضيتين:
    الأولى: أن جزء الذرة المسمى بالبروتون يدور حول نفسه، وهذا القول يعتمد في إثباته على البرهان الطبيعي والتجربة العلمية.

    [align=center][ 54 ][/align]
    الثانية: أن لدينا حركة وضعية دائرية في الخارج، وهذا يعتمد على القول الأول، ولا يستند مباشرة إلى التجربة.
    وبهذا يتضح أن العلوم بأسرها تتوقف في صمود محاولاتها واستمرا تقدمها على الفلسفة. وكذلك الفلسفة فهي تتوقف في بعض المواضيع على شيء من مسائل العلوم فهي تستفيد وتنتزع منها بعض النتائج (إلى هنا اتضح الفرق بين الفلسفة والعلم، وعرفنا كيف تحتاج العلوم إلى الفلسفة في إثبات موضوعاتها. ونريد أن نبيّن هنا كيف تستفيد الفلسفة أحياناً من العلوم، فهي لا تستفيد منها بهذا النحو وهو أن تكون بعض المسائل العلمية في صف ورتبة المسائل الفلسفية، ولا تستفيد منها بحيث نستنتج المسألة الفلسفية من المسألة العلمية، وإنما تستفيد منها بهذا الشكل وهو أن الفلسفة "تنتزع" بعض المسائل ذات الوجهة الفلسفية من مسائل العلوم.
    ويلزمنا أن نبيّن الفرق بين معنى الانتزاع ومعنى الاستنتاج لكي نعرف أن المسألة الفلسفية ليست هي نفس المسألة العلمية وليست هي مستنتجة منها وإنما هي منتزعة منها.
    الاستنتاج: وهو يعني أن يقوم العقل بأخذ نتيجة جزئية من حكم كلي أي أنه يحيط علماً بالجزئي بوساطة الكلي. مثلاً لو ثبت لنا أن كل موجود طبيعي معرض للفناء فإننا " نستنتج" كون الشجرة فانية لأنها موجود طبيعي، وإذا أردنا أن نرتبها ترتيباً منطقياً قلنا: "الشجرة موجود طبيعي، وكل موجود طبيعي معرض للفناء، إذن الشجرة معرضة للفناء".
    وإذا دققنا في هذا وجدنا أن العلم بالجزئي قد ولد من العلم بالكلي، فهو يعتبر إذن نتيجة له.
    ومن الواضح أن مسائل الفلسفة لا يمكن أن تستنتج من مسائل العلم، لأن المعطي للنتيجة لا بد أن يكون أكبر في شموله وكليته من الآخذ للنتيجة، والحال أن المسائل الفلسفية أعم وأكبر كلية من جميع المسائل الأخرى لأن موضوعها هو مطلق الوجود، وليس بين الموضوعات ما هو أكبر كلية من الوجود.
    الانتزاع: وهو اصطلاح تستعمله الفلسفة وعلم النفس لعمل ذهني خاص يمكن تسميته أيضاً بـ "التجريد" . وهو يعني أن الذهن عندما يدرك عدة أشياء متشابهة فهو يقيس بعضها إلى البعض الآخر ويميز بين صفاتها المختصة وصفاتها المشتركة ثم يصوغ من الصفة المشتركة مفهوماً كلياً يصدق على كل تلك الأفراد، وحينئذ يقال أن هذا المفهوم الكلي قد انتزع من هذه الأفراد، مثل مفهوم الإنسان المنتزع من الصفات المشتركة بين علي وخالد وغيرهما.
    وفي اصطلاح الفلسفة يستعمل لفظ الانتزاع في موارد أخرى.
    فالمقصود من قولنا أن المسألة الفلسفية "تنتزع" من المسألة العلمية هو أن الفلسفة تسير في استدلالها الفلسفي على أساس مسألة علمية ثم تصل إلى نتيجة فلسفية. وبعبارة أخرى فإن الفلسفة ترتب قياساً منطقياً تحتل فيه المسألة العلمية صغرى هذا القياس (لا كبراه) ، ثم تستنتج الفلسفة نتيجة فلسفية حسب قواعدها الكلية.
    إذن أصبح واضحاً أن الفلسفة شيء غير العلم وأن بينهما علاقة خاصة، وحسب هذه العلاقة فإن العلم يستفيد من الفلسفة، كما أن الفلسفة أيضاً تستفيد من العلم.
    وسوف يجيء في المقالات الآتية أن حاجة العلوم إلى الفلسفة غير منحصرة فيما ذكرناه، وإنما كل القوانين الكلية العلمية متوقفة في قطعيتها وقانونيتها على أصول عامة لا يمكن إثباتها إلا في ظل الفلسفة).
    وتوجــد هناك عدة ملاحظـــات
    الملاحظة الأولى:
    لما كان البحث الفلسفي مختلفاً مائة بالمائة عن البحوث العلمية

    [align=center][ 55 ][/align]
    في الأسلوب، إذن فالمسألة العلمية ومن أي علم كانت لا يمكن أن تصبح جزء البحث الفلسفي، بل ينفصل كل لون من الدراسات الفلسفية (الإلهية والمادية) عن البحوث العلمية، ويسير بإسلوبه الخاص ويتحدث عن وجود الأشياء وعدمها.
    وبهذا يتضح أن الظنون لازمت علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية (التحولية) لا تتمتع بأساس سليم.

    [align=center][ 56 ][/align]
    فهؤلاء العلماء يزعمون أن الفلسفة الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) تعتمد فقط على مجموعة من المقدمات العقلية والظنون الساذجة التي لم تتأكد صحتها، بينما فلسفتنا تستند إلى العلم المعاصر الذي تقدم بوساطة الحس والتجربة، وفي كل يوم تؤكده صحة مسيرة آلاف التحف التي تقذف بها مؤسساته الصناعية، وهو لا يعتمد على غير الحس والتجربة وليس فيه إثارة مما وراء المادة.
    ويدعون أيضاً أن الفلسفة ما وراء الطبيعة تؤدي إلى طرق مسدودة يتوقف فيها البحث ويموت بسببها العلم، أما فلسفتنا فهي مستندة إلى العلم وتقدم بتقدمه.
    وفيما مضى من حديث جواب لهذا الادعاء ولكن الفصول القادمة بإذن الله سوف توضح الموضوع بشكل أدق.
    وينبغي أن يعلم هؤلاء العلماء أن البحث الفلسفي منفصل أساساً عن البحث العلمي، وأن المادية الديالكتيكية - مثل

    [align=center][ 57 ][/align]
    الميتافيزيقية تماماً- تستفيد من نتائج العلوم الحقيقية (يقصد بالعلوم الحقيقية ما يقابل العلوم الاعتبارية، وكان القدماء يسمون العلوم الاعتبارية بالعلوم العملية كعلم الأخلاق وغيره) بالاعتماد على البحث الفلسفي. ولكن النزاع واقع في أن أياً من هاتين الفلسفتين قد أخذت ما يلزمها من مقدمات بصورة صحيحة وسليمة ؟(لو دققنا في كتب المادية الديالكتيكية لوجدنا المسائل المطروحة فيها للبحث إنما هي لون من الاستنباط النظري من الفرضيات والنظريات العلمية قام به العلماء الماديون. وسوف نبين في الفصول القادمة الأسس الفلسفية والمنطقية للمادية الديالكتيكية مع نقدها. وسوف نعرف كيف إنها استنباطات خاطئة من النظريات والفرضيات العلمية).
    ويشهد ما قلناه إننا لا نجد في حديثهم السابق أية مسألة علمية طبيعية أو رياضية، ولا نجد أيضاً أثر لهذا الحديث في الكتب الطبيعية أو الرياضية.
    وإذا كانت الفلسفة الميتافيزيقية لا تتغير كما تتغير العلوم (من شاء أن يعرف المعنى الحقيقي لتكامل العلوم والفلسفة، وأي لون من التكامل الموجود في العلوم لكن الفلسفة محرومة منه فليرجع إلى المقالة الرابعة).
    فسبب ذلك أن العلوم تعتمد على الفرضيات وهي تتغير بتقدم وتوسع التجربة، أما الفلسفة فهي تعتمد على البديهيات وتعطي نتائج علمية ثابتة.
    ويؤيد هذا الرأي أن الفلسفة لا تأبى التغيير في المجالات التي تأخذ فيها مقدماتها من العلوم كالفلكيات والجواهر والأعراض وغيرها فهي تتغير كالعلوم بتغير الفرضيات.

    [align=center][ 58 ][/align]
    والأروع من هذا أن هؤلاء العلماء يعرضون لنا "المادية الديالكتيكية المتغيرة بتغير العلم" على أساس أنه رأي ثابت غير متغير (فهو يواجه طريقاً مسدوداً).
    الملاحظة الثانية:
    نقتنص مما مرّ من حديث خول علاقة الفلسفة بالعلوم ما يأتي:
    1-تحتاج العلوم جميعاً إلى الفلسفة في إثبات وجود موضوعاتها.
    2-تختلف البحوث الفلسفية عن الآراء العلمية في الإِطلاق (سبق لنا أن أوضحنا في الحاشية (1و2 ص 46 وص 47) أن كل علم يتخذ موضوعاً أو عدة مواضيع يقصر عليها نشاطه ليكتشف خواصها وآثارها، أما موضوع الفلسفة ومجال نشاطها فهو مطلق الوجود العاري عن كل قيد، ولهذا فإن كل علم يتحرك في محيط محدود ولا تتجاوز نظرياته حدود موضوعه الخاص. وإذا قال علم بأن الشيء الفلاني موجود فهو يعني أنه موجود في دائرة عملي، وإذا قال أنه غير موجود أي أنه غير موجود في هذه الدائرة. أما الفلسفة فلكون موضوعها عاماً وهو مطلق الوجود فإذا قالت أن الأمر فلاني غير موجود فمعنى ذلك أنه لا وجود له إطلاقاً) والتقييد والعموم والخصوص.
    ونقصد بهذا أن البحث المادي يستطيع فقط إثبات أو نفي الوجود المادي ولا يستطيع إثبات ولا نفي مطلق الوجود، لأن نشاط كل علم لا يخرج عن حيّز موضوعه، ولما كان موضوع العلم هو المادة إذن إثباته ونفيه لا يتجاوز حدود المادة ولا يحقّ له أن يتناول غير المادة نفياً ولا إثباتاً. وهذا بخلاف الفلسفة حيث أن موضوعها مطلق ولا يقتصر على موجود معين.

    [align=center][ 59 ][/align]
    وعلى هذا فإنه من الممكن أن تثبت العلوم شيئاً ولا تقتنع الفلسفة بهذا الإثبات، أو تنفي العلوم أمراً ولا تعتني الفلسفة بهذا النفي.
    المثال الأول:
    تقول التجارب الطبية أنه في حالة التفكير تطرأ كيفية خاصة على مادة المخ يسميها العلماء الطبيعيون بالإدراك.
    ومعنى هذا القول أن الإدراك ظاهرة مادية حسب ما تثبت التجارب.
    ولكن أيكون هناك موجود آخر بالنسبة إلى الإدراك وهو ليس مادياً أم لا؟
    إن البحث الطبيعي والتجارب صامتة عن هذا (من أحب التفصيل فليرجع إلى المقالة (3))، وعلى فرض كونه موجوداً فالبحث الطبيعي لا يستطيع أن يُريه لأن كل مقدمة لا يمكنها أن تعطي نتيجة إلا من سنخها.
    ومعنى المادة والوجود في الطبيعيات واحد وذلك لغرض فني (فالمادة تساوي الوجود)، ونفي الوجود فيها يساوي نفي المادة.
    ولما كان أفق الفلسفة أوسع فإنها لا تقتنع بمجرد نفي شيء من قِبل البحوث الطبيعية وإنما هي تواصل سيرها.
    المثال الثاني:
    يقول الرياضي أن المعادلة الجبرية تشتمل على طرفين وفيهما

    [align=center][ 60 ] [/align]
    أرقام سالبة أو موجبة، ونحن نستطيع أن نأخذ أحد الأرقام الموجبة من طرف ونبدل إشارته إلى السلب ونضعه في الطرف الآخر وبالعكس دون أن يختلّ توازن المعادلة. وهذا شيء مبرهن عليه وحق أيضاً.
    والفلسفة توافق على هذا الكلام على أساس أن معناه هو ثبوت النتائج المثبتة، وليس معناه تبديل الوجود إلى عدم أو بالعكس.
    وإجمالاً فإن حال العلوم مع الفلسفة حال ذلك الحطّاب الذي حمل فأسه وقصد الجبل ليحطب فلقي شخصاً منحدراً من ذلك الجبل فقال للحطاب: "ارجع لا شيء هناك"، فمعنى هذا القول أنه لا يوجد حطب في الجبل، لأن الشيء يساوي الحطب بالنسبة إلى غرض الحطاب (الحطب = الشيء)، ومن البديهي كون ذلك القول لا يعني إنه لا يوجد أي شيء على الإطلاق فلا جبل ولا تراب ولا صخر ولا نبات. وإذ قيل هذا الصّياد يحمل سلاحه ويتجه نحو الجبل فمعناه حينئذ أنه لا صيد هناك، فالصيد والشيء عند الصياد بمعنى واحد (الشيء = الصيد). وهكذا ...
    أما الذي له هدف عام فإن لهذا القول (لا شيء هناك) عنده معنى واسعاً بحيث يضطره ليكذّبه.
    ونستنتج مما مضى :
    "نحن لا نستطيع أن نردّ بما أعدّه العلم نفياً أو إثباتاً أية نظرية فلسفية موجبة أم سالبة".
    الملاحظة الثالثة:
    قلنا أن البحث الفلسفي يدور حول وجود الأشياء أو عدمها

    [align=center][ 61 ][/align]
    فإذا لم يؤثر البحث الفلسفي في فرد ما ( أي لم يستطع أن يقطع بوجود شيء على الإطلاق) فهذا الفرد يسمى بـ "السوفسطائي" أو المثالي وهو يقابل الفيلسوف. ومن هنا فإن المذهب الذي يتعرض لوجود الأشياء وعدمها ينقسم أولاً إلى الفلسفة والسفسطة أو الواقعية (realism) والمثالية (Idealism) (سوف نوضح في المقالة الثانية معنى هذين اللفظين (الواقعية والمثالية) ).
    وتنقسم الفلسفة من حيث إثبات أو إنكار ما وراء الطبيعة إلى مدرستين هما (الميتافيزيقية) (تعود كلمة "الميتافيزيقية " إلى أصول يونانية، وهي مركبة من كلمتين: (ميتا) وهي تعني ما بعد، و(فيزيك) وهي تعني الطبيعة، فيكون معنى الكل هو ما مراء الطبيعة.
    ويعترف تاريخ الفلسفة بأن أرسطو قد ألّف كتباً في جميع علوم ذلك الزمان (القرن الرابع قبل الميلاد) ما عدا علم الرياضيات.
    ومجموع مؤلفاته يشكّل دائرة للمعارف تضمّ دائرة للمعارف تضّم ثلاثة أقسام:
    أ-العلوم النظرية: وتشمل كتباً مختلفة في الطبيعيات وفي نهاية هذا القسم يكون كتاب الفلسفة الأولى.
    ب-العلوم العملية: وتشمل الأخلاق وتدبير المنازل وسياسة المدن.
    ج-العلوم الإبداعية: أي الشعر والخطابة والجدل.
    ولما كانت الفلسفة واقعة بعد الطبيعيات بحسب ترتيب التأليف ولم يكن المؤلف قد أطلق عليها اسماً ولا عنواناً خاصاً فقد أُطلق عليها فيما بعد اسم الميتافيزيقا (أي ما بعد الطبيعة) ويعني ذلك القسم من البحث الواقع بعد الطبيعيات، وبتطاول الزمن وأخطاء المترجمين أصبح معناه علم ما وراء الطبيعية من المجردات، وصار يطلق على الفيلسوف الإلهي اسم " الميتافيزيقي".
    ففي البدء كان هذا الخطأ لفظياً ولكنه أًصبح منشأ لأخطاء معنوية كبيرة.
    ومن يراجع الكتب المادية يجدها تعرّف الميتافيزيقا بأنها:" ذلك العلم الباحث عن الله والروح".
    ويحسن بالقارئ الكريم أن يصون نفسه من هذا الخلط فلا يظن أن موضوع البحث الميتافيزيقي هو الله أو الروح وإنما موضوع الميتافيزيقا (الفلسفة الأولى) هو مطلق الوجود، ومن المحتمل حينئذ أن يكون شخص ما ميتافيزيقياً وهو نفس الوقت مادي.
    ولكنه لشيوع هذه المصطلحات فضلنا أن نطلق كلمة "الميتافيزيقا" على المذهب الفلسفي المعترف أيضاً بما وراء الطبيعة .و(المادية).

    [align=center][ 62 ][/align]
    وتنقسم المادية من حيث الاعتماد على منطق ثابت أو منطق متغير إلى مدرستين هما: (المادية الميتافيزيقية) و (المادية الجدلية) (الديالكتيك (Dialectic) من أصل يوناني وهي مشتقة من ديالكو ( dialogos) وتعني المباحثة والمناظرة.
    وكان لفظ الديالكتيك يطلق على الأسلوب الخاص الذي كان يتبعه العالم اليوناني العظيم سقراط في مناظراته. فهو لكي يثبت للطرف المقابل خطأه يبدأ بذكر مقدمات لا تعقيد فيها ثم ينتقل إلى التساؤل ليظفر بإقرار الطرف المقابل له ويواصل أسئلته حتى يصل إلى نقطة يجد فيها المباحث له نفسه وقد سلّم بدعوى سقراط.
    وهذا الأسلوب في الخطاب يطلق عليه اليوم اسم "الأسلوب السقراطي" في علوم التربية والتعليم.
    ثم استعمل أفلاطون وهو تلميذ سقراط هذه الكلمة لتدلّ على الطريقة الخاصة التي يتبعها في تسيير العقل بالأفراد المحسوسة، لأن متعلق العلم لابد منه كونه كلياً لا جزئياً. والمعرفة الحقيقية هي إدراك "المثل" وهي حاصلة لروح كل فرد قبل أن يأتي إلى هذا العالم. والعلم في هذا العالم إنما هو "تذكر" للماضي. ويعتقد أفلاطون بأننا نستطيع بواسطة الرياضة الفكرية وعن طريق الذوق والحب أن نذّكر النفس بالماضي.
    إذن يسمي أفلاطون طريقته الخاصة لكسب هذا اللون من المعرفة بواسطة التذكر باسم "الديالكتيك" وقد استعمل العلماء المحدثون من قبيل كانتْ الألماني وغيره هذه الكلمة في بعض الموارد.
    أما الفيلسوف الألماني الشهير هيجل الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر فقد اختار لنفسه منطقاً خاصاً وأسلوباً معيناً لإعطاء الفرصة للعقل ليكتشف الحقائق وأطلق على هذا المنطق اسم "الديالكتيك".
    وسوف يأتي معنى " المنطق الديالكتيكي" لهيجل في المقالات الآتية.
    ولم يكن هيجل في نظرياته الفلسفية مادياً، ولكن كارل ماركس وأنجلز اللذين تتلمذا على يديه واستعارا منه المنطق الديالكتيكي كانا من ذوي النظريات المادية وممن يقتفون أثر الفلاسفة الماديين في القرن الثامن عشر.
    وأشاد ماركس وأنجلز نظرياتهما المادية على أساس منطق هيجل، ومن هنا ظهرت "المادية الديالكتيكية".
    وفي الحقيقة فإن الديالكتيكية هي تركيب من الفلسفة المادية للقرن الثامن عشر ومنطق هيجل استطاع كارل ماركس وأنجلز أن يربطا بينهما.
    وكما سوف يأتي فإن أحد أصول المنطق الديالكتيكي هو أصل الحركة. فالديالكتيك يقول أنه لابد من دراسة الأشياء كلها في حالة الحركة والتغيير. ويدعى الديالكتيك أن الجمود وعدم التغيير إنما هو من خواص التفكير الميتافيزيقي. ومن هنا فإن علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية يطلقون اسم "المادية المتافيزيقية" على تلك الفلسفة المادية التي تفكر بطريقة مينافيزيقية، أي أنها مادية مشيدة على أساس الجمود وبقاء الموجودات على ما هي عليه.
    إذن فالمادية الميتافيزيقية تقع في مقابل المادية الديالكتيكية ( materialism- dialectic) ).

    [align=center][ 63 ][/align]
    وكل من هذه المذاهب قد انقسم على أيدي الأتباع والمريدين إلى أقسام أخرى ليس هذا محل ذكرها.
    والشيء المهم هنا والذي ينبغي أن نشير إليه هو أن هذه التقسيمات مهمة من ناحية تاريخ الفلسفة، وليس لها أهمية كبيرة

    [align=center][ 64 ][/align]
    عند من استفرغ جهده في البحث والنقد هادفاً إلى تمييز الحق من الباطل وفصل الصدق عن الكذب

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي


    [ 65 ]

    المقَـــــالة الثَانيـــة


    [ 66 ]

    الفلسفة والسفسطة
    (توجد فئة من العلماء الذين عاشوا قبل سقراط يطلق عليهم اسم السوفسطائيين ويستفاد من المصادر التاريخية الموجودة تحت أيدينا أن هناك عاملين لظهور السفسطة في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد:
    أحدهما: ظهور الآراء والعقائد الفلسفية المختلفة والمتضادة و والمحيّرة.
    الثاني: رواج فن الخطابة ولا سيما الخطابة القضائية بشكل منقطع النظير.
    أي أنه قد ظهرت مذاهب فلسفية مختلفة وقام كل واحد منها بتقديم نظرية معينة حول العالم وبأبطال عقائد الآخرين، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فقد وقعت منازعات مالية كثيرة في أثر حادثة تاريخية عرضت لسكان تلك المنطقة ثم انتقل الموضوع إلى المحكمة، وأخذ بعض العلماء على عاتقهم مهمة المحاماة في المحاكم العامة وتحت نظر وسمع جموع غفيرة من الناس وقاموا بالدفاع عن حقوق موكليهم بخطابات مؤثرة.
    وتألق في هذا الأفق نجم الخطابة فافتتح الأساتذة صفوفاً لتعليم هذا الفن وبدءوا يدرسون أصولها وذلك في مقابل أجر يتقاضونه من الطلاب، فاجتمعت للأساتذة بهذا أموال طائلة.
    وسعت هذه الفئة لكي تقدم دليلاً وتقيم برهاناً على ما تدعيه حقاً كان أم باطلاً، وأحياناً كان الطرفان كلاهما يقدمان الدليل، وشيئاً فشيئاً انتهى الأمر بهم إلى الاعتقاد بأنه ليس هناك في الواقع حق ولا باطل، ولا صدق ولا كذب بحيث ينطبق عليه رأي الإنسان أحياناً ويخالفه أحياناً أخرى، وإنما الحق هو ذلك الشيء الذي يعتبره الإنسان حقاً، والباطل هو ذلك الشيء الذي يظنه الإنسان باطلاً، وسرت هذه العقيدة تدريجياً إلى سائر أمور العالم فقالوا أن الحقيقة تتبع بصورة عامة الشعور والإدراك الإنساني، وكل ما يدركه أيّ إنسان من أمور العالم فهو صحيح، وإذا اختلف شخصان في الإدراك فكلاهما يتصفان بالصحة.
    وكانت هذه الفئة ماهرة في كل علوم وفنون عصرها، ومن هنا جاء إطلاق كلمة " السوفيست" عليهم، ومعناها العالم، وقد ترجمت الكلمة إلى العربية فقيل "السوفسطائي"، وصارت هذه الكلمة بعد ذلك تطلق على كل الذين يستخدمون هذا الأسلوب، أي أنهم لا يلزمون أنفسهم بأي أصل علمي ثابت، ويسمى هذا المسلك بالسوفسطائية.
    ويعدّ بروتوكوراس( protagoras) واحداً من السوفسطائيين وهو يقول: " إن الإنسان هو مقياس كل الأشياء". كل إنسان إذا حكم بشيء حسب ما فهمه على حق، لأن الحقيقة ليست شيئاً سوى ما يفهمه الإنسان، ولما كان الناس يدركون الأشياء بشكل مختلف، فالشيء الواحد مثلاً قد يظنه إنسان صدقاً ويتخيله آخر كذباً ويشك ثالث في صدقه وكذبه، إذن أصبح الشيء الواحد صادقاً وكاذباً في نفس الوقت وصواباً وخطاً في وقت واحد.
    وكوركياس ( gorgias) أحد هؤلاء أيضاً. وتنقل عن هذا الرجل براهين على أنه من المستحيل أن يوجد أي شيء وإذا فرضنا -محالاً- أنه قد وجد فهو لا يمكن إدراكه وإذا فرضنا -محالاً- أنه قد عرف فهو لا يمكن تعريفه ولا وصفه للآخرين. وهو يذكر لمزاعمه الثلاثة أدلة مبسوطة في كتب التاريخ التي تتعرض له.
    وقام في وجه هؤلاء سقراط وأفلاطون وأرسطو وكشفوا للناس مغالطات السوفسطائيين وأثبتوا أن للأشياء واقعاً معيّناً وكيفية خاصة بغض النظر عن إدراكنا. والحكمة هي عبارة عن العلم بأحوال الأعيان الموجودة كما هي موجودة .وإذا استطاع الإنسان أن يفكر بصورة صحيحة فإنه يستطيع أن يلمّ بالحقائق، ولهذا الغرض قام أرسطو بجمع وتدوين قواعد المنطق لكي يفكر الإنسان بشكل صحيح ويميز الصواب من الخطأ.
    ولكن فئة أخرى ظهرت على مسرح الأحداث من زمن أرسطو فما بعد وتسمى "بالمشككين" ويسمى مذهبهم بمذهب الشك ( ( scepticism). ويعتقد هؤلاء بأنهم اختاروا السبيل الوسطى، فلا هم يقتفون أثر السوفسطائيين في زعمهم لا يوجد واقع خارج ذهن الإنسان، ولا هم يتبنون عقيدة السقراطيين القائلين بإمكان معرفة حقائق الأشياء، وإنما هم يزعمون أن الإنسان يفتقر إلى وسيلة يمكن أن يطمئن بها لكي توصله إلى حقائق الأشياء، والحس والعقل كلاهما يخطئان، ولا تكفي في هذا المضمار الطرق المنطقية التي وضعها أرسطو لكي تصون الفكر عن الخطأ، فيبقى الطريق الصحيح الوحيد للإنسان في جميع المسائل هو التوقف وعد الإدلاء بأي رأي قطعي. وحتى المسائل الرياضية من قبيل الحساب والهندسة فنحن نوافق عليها بالترديد وعلى أساس أنها لا ترتفع عن مستوى الاحتمال.
    وكان لهذا المذهب كثير من الأتباع في اليونان ثم في الإسكندرية واستمر حتى بعد قرون من ميلاد المسيح. وظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي مسالك فلسفية تشبه هذا المذهب في قليل أو كثير، وسوف يأتي شرح هذه الفلسفات في المستقبل بإذن الله.
    وندحض في هذه المقالة المذهب "السفسطي" المرادف للمذهب "المثالي"، وهذان معاً يشكلان النقطة المقابلة للمذهب الواقعي (الفلسفة).
    ولا بد هنا من ذكر بعض التوضيح لكلمتي "المثالية" و "الواقعية"، لأن الكتب المادية الحديثة تستعمل كلمة "المثالية" في مقابل "المادية" (أصالة المادة). ويفهم من هذا أن كل العلماء من غير الماديين إنما هم مثاليون.
    ولكي يستوعب القارئ الكريم الموارد التي تستعمل فيها هاتان الكلمتان "المثالية" (ايده آليسم) و "الواقعية" (رياليزم)، ويحيط علماً بالمغالطات التي نتيجة لاختلاف المعاني التي اعتورت هذه الكلمات ولا سيما كلمة " ايده آليسم" (المثالية) على طول التاريخ، لا بد لنا من شرح المعنى اللغوي والاصطلاحي لهاتين الكلمتين كما جاء في نظريات الفلاسفة وكما يظهر من ترجمة دائرة المعارف البريطانية.
    المثالية : = ايدياليزم:
    أصل كلمة ايدة ( idee) يوناني، وذكرت لها معانٍ مختلفة من قبيل الظاهرة والشكل والنموذج وغيرهما، وهي مشتقة من "ايده ئيو" ومعناها الرؤية.
    واستعملها أفلاطون لأول مرة ضمن المصطلحات الفلسفية بمعنى "النموذج" أو " المثال" الذي هو أحد معانيها اللغوية، وقصد بها سلسلة من الحقائق المجردة التي كان يقول بها وتعرف بيننا اليوم باسم "المثل الأفلاطونية".
    ويقول أفلاطون أن لكل نوع من أنواع موجودات هذا العالم المادية وجوداً مجرداً عقلياً، والأفراد المحسوسة لكل نوع إنما هي ظل ذلك الوجود المجرد، وهو النموذج الكامل لهذه الإفراد، ويسميه "ايده"، وترجمت هذه الكلمة في المرحلة الإسلامية إلى كلمة "مثال". ولا ينكر أفلاطون وجود الأفراد المحسوسة وإنما يعتبر وجودها وجوداً متغيراً جزئياً فانياً على عكس "المثال" الذي يعتقد بكونه متمتعاً بوجود كلي باق وغير متغير.
    ويعتقد الإشراقيون من بين المسلمين بالمثل الأفلاطونية. ويشير مير فندرسكي في قصيدة معروفة له إلى هذا الموضوع بقوله:
    "إن الفلك بما يحتوي من نجوم، رائع وجميل
    وصورته التي في الأسفل هي نفسها التي في الأعلى
    وصورته السفلى إذا ارتقى عليها بسام المعرفة
    إلى الأعلى فسوف تكون كالأصل
    وسوف تكون الصورة العقلية اللانهائية والخالدة
    واحدة سواء وجد الأفراد جميعاً أم لم يوجدوا
    وقد أودع العارفون الماضون هذا الحديث في الرمز
    ولن يدرك هذا الرمز إلا من كان عارفاً
    ولا يدرك عمق هذا الحديث أي فهم ظاهري
    وحتى لو كان الفارابي أو ابن سينا".
    ومن المعروف أن الشيخ الرئيس ابن سينا يخالف بشدة الاعتقاد بالمثل الأفلاطونية وقد وجّه إليها انتقادات شديدة وشهّر بها كثيراً.
    ويعتقد أفلاطون بأن الأفراد المتغيرة المادية تدرك فقط بالحواس أما العلم فلا يتعلق بها، لأن العلم لا يتعلق إلا بشيء كلي خارج عن الزمان والمكان أي بـ"المثال".
    وحسب ما تذكره كتب تاريخ الفلسفة فإن "المثالية" كانت تطلق فقط على "الاعتقاد بالمثل" إلى أواخر القرن السابع عشر، ولم يكن لها أي معنى آخر . ولكن هذه الكلمة استعملت بعد ذلك في موارد عديدة حتى قيل لعلّه لم تشاهد لغات الدنيا كلمة مثلها قد استعملت بهذه الكثرة في المعاني.
    أما المعنى المصطلح عليه والشائع في زماننا والذي يستعمله الماديون في مؤلفاتهم ويعرفون به " المثالية" والذي جرينا عليه في هذه المقالة فهو:
    أن كلمة " المثال" تعني مطلق التصورات الذهنية (حسية كانت أم خيالية أم عقلية)، و "المثالية" تعني مذهب الذين يعدون هذه التصورات الذهنية هي الأصيلة، أي أن هذه التصورات صنيعة الذهن، وليس هناك وجود خارجي لهذه الصور في العالم المنفصل عنا.
    ولما كان هذا المذهب منكر الشيء بديهي وهو العالم الخارجي وأنه ليس بشيء، فهو إذن مثل السفسطة المنكرة للبديهيات والتي لا تعتبر العالم الخارجي شيئاً، وقد استعملنا في هذه المقالة المثالية مرادفة للسفسطة وجعلناها في مقابل "الواقعية" المؤمنة بأصالة الواقع الخارجي.
    ويبقى علينا أن نشير إلى ملاحظة مهمة وهي أن الماديين يعرفون المثالية في كتبهم بنفس هذا المعنى المرادف للسفسطة ولكنهم لا يعيرون أهمية للتحولات والتغيرات التي طرأت على هذه الكلمة منذ عهد أفلاطون وإلى يومنا هذا بحيث أصبحت لها دلالات مختلفة ومعانٍ متباينة. وهم يسمون جميع العلماء من غير الماديين من قبيل أفلاطون وأرسطو بـ " المثاليين"، ويقولون عنهما أنهما يدفعان إلى الانحراف عن أصول المادية نحو المثالية أي السفسطة.
    ومع أن الدكتور تقي الآراني يعرف المثالية بنفس هذا التعريف في كتيب له بعنوان "المادية الديالكتيكية" ولكنه بعد أن يستعرض عقيدة "بركلي" ذلك المثالي المعروف وعقيدة ديكارت في خواص الأجسام الأولية والثانوية وعقيدة كانت أيضاً في كون الزمان والمكان ذهنيين -بعد هذا يواصل حديثه قائلاً: " إن شرح جميع أقسام المثالية خارج عن موضوع مقالتنا وداع إلى إطالة الكلام، لأن المثالية قد تشعبت كثيراً، ونسج كل فيلسوف في خياله شيئاً واستدل لنفسه استدلالاً خاصاً وأخرج للناس -حسب قوله - دليلاً جديداً لإثبات كون العالم ذهنياً".
    ولا نقصد من ذكر هذه الملاحظة أن نناقش في الاصطلاح فلكل فيلسوف الحق في أن يضع لنفسه اصطلاحاً خاصاً، وحينئذ لا مانع من جعل المثالية في مقابل المادية، ولكن المثالية حينئذ يكون لها معنى آخر غير أصالة التصور.
    ولكن هدفنا هو أن ننبّه على أن المصطلحات المختلفة ينبغي أن لا تصبح منشأ للمغالطات أو الغموض.
    والحقيقة أن "المثالية" بمعنى أصالة التصور تقابل " الواقعية" التي هي بمعنى أصالة الواقع. والمثالي هو المنكر للعالم الخارج عن الذهن من قبيل بروتا غوراس protogoras) ) وغورغياس ( Gorgias) من اليونانيين القدماء، وبركلي ( Berkely) وشوبنهاور ( Schopenhauer) من الأوربيين المتأخرين.
    أما كون الإنسان إلهياً أو روحياً فلا علاقة له بالمثالية، ونحن مع أننا ندحض أصول المثالية ولا نقول بأصالة الذهن ولكننا مع ذلك نثبت بنظرة واقعية عقائدنا الإلهية والروحية بأدلة ناصعة محكمة.
    الواقعية : = رياليزم .
    وهذه الكلمة مشتقة أيضاً من "ريل" ( Reel ) بمعنى الواقع أو الحقيقة واستعملت على مـرّ التاريخ بمعانٍ مختلفة:
    أ-تعرف فلسفة "الاسكولاستيك" (Scholastic) بفلسفة المدرسيين. وقد جرى بين أصحاب هذه الفلسفة في القرون الوسطى جدال عظيم حول مبحث واحد جعلوه شغلهم الشاغل وهو وجود الكلي.
    فالكلي مثل "الإنسان" أهو موجود أم لا ؟
    وعلى فرض وجوده أهو موجود في الذهن أم في الخارج؟
    فالقائلون بأن للكلي واقعاً مستقلاً عن الأفراد أطلق عليهم اسم "الواقعيين"، أما الذين أنكروا وجود الكلي في الخارج والذهن واعتبروا الكلي لفظاً فارغاً فقد أطلق عليهم لفظ "الاسميين" ( Nominaliste) ، وأما القائلون بأن للكلي وجوداً ذهنياً ووجوداً خارجياً ضمن الأفراد فقد أطلق عليهم اسم "التصوريين" أو " المثاليين".
    ولا يخلو من الفائدة أن ننبّه على أن فلسفة المدرسيين لم تفكك بين مسألتين:
    أ-مسألة وجود الكلي.
    ب- مسألة المثل الأفلاطونية.
    فهذان الموضوعان قد اختلطا فيما بينهما. والقارئ المطّلع على الفلسفة الإسلامية يعلم بأن هذه الفلسفة قد فصلت هاتين المسألتين. فالمسألة الأولى تذكر في المنطق وأحياناً تذكر في الفلسفة، ولم يكن بين الفلاسفة اختلاف بشأنها بل كانوا جميعاً يتناولونها بأسلوب واحد. أما المسألة الثانية فكانت تطرح في الفلسفة في فصل خاص ولم يكن للفلاسفة بإزائها موقف واحد، فبعضهم نفى وبعض أثبت. وهذا المبحث- على أية حال- كان عبثاً ولا معنى له بتلك الصورة التي كان يطرح فيها خلال القرون الوسطى في أوربا.
    ويقول المرحوم فروغي في الجزء الأول من "سير الحكمة في أوربا" بعد نقلة للنزاع حول الكليات في القرون الوسطى:
    "أرجو أن تلاحظوا أن البحث في الكليات لم يكن عبثاً ولا فائدة منه، فهو يحمل في طياته النزاع هو المسألتان السابق ذكرهما ولا علاقة له بمسألة وحدة الوجود.
    ولكننا نعلم مما سبق أن ذلك النزاع وبتلك الصورة كان عبثاً، وأساس ذلك النزاع هو المسألتان السابق ذكرهما ولا علاقة له بمسألة وحدة الوجود.
    ب-المعنى الثاني للواقعية هو المعنى الذي شاع أخيراً في المصطلحات الفلسفية وهو يعني أصالة الواقع الخارجي، وبهذا المعنى تكون "الواقعية" في مقابل "المثالية" التي تعني أصالة الذهن أو التصور. ونحن نستعمل هذا اللفظ بهذا المعنى في هذه المقالة.
    والواقعية في الآداب تقابل المثالية أيضاً، فالأسلوب الواقعي هو الذي يعتمد في الحديث أو الكتابة على العيّنات الواقعية والاجتماعية، أما الأسلوب المثالي فهو الذي يعتمد على الخيالات الشاعرية للمتحدث أو الكاتب).
    أو
    الواقعية والمثالية
    كل واحد منا إذا نظر منا إذا نظر إلى نفسه واستعرض حياته ثم عاد القهقري إلى أيامه السوالف وأوغل في ماضيه إلى الحد الذي تعلقت

    [ 67 ]
    به ذاكرته فسوف يجد أنه منذ تفتحت عيناه وبدأ... يراقب جمال هذا الكون وقبحه- منذ هذا الوقت شاهد أشياء " هذا الكون"

    [ 68 ]
    خارجة عنه، وقام بأعمال حسب ما يحلو له (ولا ننسى أن نذكر هنا أنه خلال هذا الاستعراض سوف نصادف أيضاً بعض الأخطاء التي أدركناها تدريجياً عن طريق العلم والعمل).

    [ 69 ]
    وإذا كررنا هذا الشيء مرات عديدة ودققنا في كل مرحلة من مراحل حياتنا فسوف تتضح جيداً تلك الحقيقة القائلة: (يوجد في

    [ 70 ]
    الواقع كون وهو خارج عني وأنا أستطيع أن أؤدي فيه أعمالاً حسب ما أحب).

    [ 74 ]
    فإذا أخذنا هذا المعلوم الفطري (لكي لا يختلط علينا الأمر لا بد من الإشارة إلى أن المعلومات الفطرية أو الفطريات قد استعملت في المصطلحات بمعنيين:
    الأول: تلك المعلومات الناشئة مباشرة من العقل، وتدركها القوة العقلية دون أن تعتمد على الحواس الخمس أو على أشياء أخرى، وإنما هي موجودة في العقل بحسب الطبع.
    ويوجد اختلاف بين العلماء في أن معلومات كهذه أهي موجود فعلاً أم لا وجود لها؟
    فجميع المعلومات عند أفلاطون فطرية وليس العلم إلا تذكراً.
    أما ديكارت( Descartes) وأتباعه فيقولون أن بعض المعلومات فطرية وناشئة من العقل.
    الثاني: تلك الحقائق المسلمة التي تتّفق عليها كل العقول ولا يمكن إنكارها ولا التشكيك فيها لأي أحد. وإذا أنكرها شخص أو تردد فيها فإنما يفعل ذلك لساناً، أما عملاً فهو يقبلها ويعمل بها. واللفظ الوارد في المتن يقصد به المعنى الثاني لا الأول) بعين الاعتبار ثم سمعنا أن في هذا العالم أشخاصاً لا يصدقون بأن للكون والوجود واقعاً خارجاً

    [ 75 ]
    عن ذواتنا أو هم منكرون للواقع أساساً، فستنتابنا لأول وهلة الحيرة ويتملكنا العجب، خاصة إذا علمنا أن هذه الفئة كانت من العلماء والباحثين الذين قضوا شطراً كبيراً من أعمارهم في سبيل إكتناه أسرار الوجود من قبيل بركلي (جورج بركلي Berkely) ( أسقف إنجليزي ولد عام 1685 م وتوفي سنة 1753.
    والذي يبدو من شرح حياته ونظرياته أنه من أصحاب الحس وفلاسفة (Empiriste)،أي من القائلين بكون التجربة والحس منشأ لكل العلوم، ولا يعترف بالمعلومات العقلية والفطرية التي كان يعترف بها بعض فلاسفة أوربا. وهو يتبع في هذه النظرية العالم الإنجليزي المعاصر له جون لوك (G Lock) (G.، ولكنه في نفس الوقت لا يعترف بوجود خارجي للمحسوسات ولا يعترف بأن منشأ الإحساس هو التأثيرات الخارجية، ويذكر الأخطاء التي تقع فيها الحواس دليلاً على أن الإحساس لا يكون دليلاً على الوجود الخارجي للمحسوسات.
    ويقول بركلي أن للتصورات الذهنية وجوداً خارجياً وبهذا يثبت وجود النفس، ويقول أن الإدراك يحتاج إلى مدرك وهو النفس.
    ويظهر بركلي أنه لا ينكر وجود الأشياء، ولكنه يتساءل:
    ما معنى قولنا: "أن الشيء الفلاني موجود ؟"
    لو تعمقنا في هذه الجملة لوجدنا معناها:
    "أنني أدرك وجوده".
    فمثلاً إذا قلنا: الأرض موجودة، السماء موجودة، الجبال موجودة ، السماء موجودة، الجبال موجودة، البحار موجودة، أو قلنا: الشمس تشع النور أو هي جسم ذو بعد أو أن الأرض تدور، فإن كل هذه الجمل صحيحة ولكن معناها هو: أننا علمنا بهذا الشكل".
    فالوجود إذن هو الوجود في إدراك الشخص المدرك.
    وينكر بركلي أن يكون من السوفسطائيين ويعلّل ذلك بأنه لا ينكر وجود الموجودات، ولكنه يقول أن معنى الوجود عندي غير ما يتخيله الآخرون فهو عندي الوجود في إدراك الشخص المدرك.
    فهو يعدّ الحس- إذن- منشأ للعلم ولكنه ينكر أن يكون منشأ الحس هو الوجود الخارجي للشيء المحسوس. وهو يعترف بوجود النفس فهي القوة المدركة عنده، ويعترف أيضاً بوجود الله، ويستدل على ذات الله بهذه الطريقة:
    نحن نرى صور المحسوسات تظهر في أذهاننا بترتيب خاص ونظام معيّن ثم تذهب منه، وهذا الظهور والاختفاء خارج عن اختيار أنفسنا، فمثلاً أحياناً نحس أنه نهار وفي تلك الحال لا نستطيع الإحساس بأنه ليل، وبعده عدة ساعات نحسّ أنه ليل وفي تلك اللحظة لا نستطيع أن نحس بأنه نهار، وهكذا في سائر المدركات البصرية والسمعية وغيرهما فإن لها نظاماً خاصاً وترتيباً معيناً.
    ومن هذا نعرف أن ذاتاً أخرى قد أوجدت هذه التصورات بذلك النظام والحساب في أذهاننا، وتلك الذات هي ذات الباري تعالى) وشهوبنهاور (شوبنهاور هو العالم الألماني الشهير ولد سنة 1788 م في ألمانيا وتوفى سنة 1860 ويعتبر شوبنهاور زعيم المتشائمين في العالم، وهو يعّد الحياة كلها ألماً وعذاباً، وهو يعدّ الدنيا مكاناً للحزن والغم، وقد عاش منعزلاً وقضى عمره أعزب.
    ويقال أنه كان يعاني من الأوهام والمخاوف التي لا أساس لها، وتعتريه الوحشة من أقل الأشياء ، فمثلاً كان يقفز من نومه عندما يسمع أقل صوت ويندفع ليتناول سلاحه. ويقال أنه ورث روح التشاؤم من أبيه الذي كان تاجراً ملولاً ضيّق البال، وقد انتحر أخيراً.
    وصادف شوبنهاور في الحياة كثيراً من ألوان الحرمان والحوادث السيئة. ولم تلاق كتبه في زمانه أي رواج، ولم يُظهر الناس رغبة في قراءتها، فصمّم على القيام بتدريس الفلسفة في جامعة برلين، ولكن أحداً من الطلاب لم يسجّل اسمه في ذلك الموضوع الذي تقرر أن يدرسه شوبنهاور ما عدا ثلاثة أشخاص لا يتمتعون باستعداد فلسفي، وأخيراً قرّر أن يقوم بتلقين معلوماته وأفكاره لامرأة خياطة كانت تسكن إلى جواره، ولكن النقاش بينهما أدى إلى النزاع والضرب، فأقامت المرأة عليه دعوى في المحكمة وأصدرت المحكمة حكماً بالغرامة على شوبنهاور لضربه وجرحه تلك المرأة.
    ولا يعتقد شوبنهاور- على العكس من ديكارت وأتباعه - بالمعلومات والتصورات الناشئة من العقل، وهو يعدّ الحس منشأ لكل التصورات ومبدأ لكل العلوم، أما عمل العقل فهو التصرف فيما تظفر به الحواس فقط.
    ومن هنا فإن شوبنهاور يعّد من المثاليين لأنه يعتبر كل المعلومات لا حقيقية لها، ويقول أن العالم الذي ندركه بالحس والشعور والعقل وهو عالم المادة إنما هو ذهني واستعراضي محض، وعلى العكس من بركلي الذي كان يظن إن وجود الإدراك وقوة المدرك حقيقية فإن شوبنهاور كان ينكر هذين الأمرين، ويعترف فقط بشيء واحد على أنه حقيقة وذلك هو "الإرادة" ويقول أن حقيقة الكون هي الإرادة، ويستطيع الإنسان أن يدرك حقيقته التي هي الإرادة بدون وساطة الحس والعقل.
    ويقول إن الإرادة في ذاتها حقيقة مطلقة ومستقلة بالذات وخارجة عن حدود الزمان والمكان، وجميع حقائق العالم إنما هي درجات ومراتب من الإرادة.
    وعلى هذا فمهما أنكر شوبنهاور حقيقة المعلومات وعدّ مثالياً ولكنه معترف بعالم حقيقي واحد وراء المعلومات وهو لا يدرك بالحس والشعور والعقل، وذلك العالم هو عالم الإرادة، ولهذا فنحن نستطيع أن نعدّه من "الواقعيين".
    ولشوبنهاور عقائد خاصة تنبع من فلسفته في الحياة واللذّة والحب والمرأة والسعادة الحقيقية.
    ويقول إن الإرادة التي هي أصل العالم وحقيقته هي أساس الشر والفساد لأنها في الأصل واحدة ولكنها لما جاءت إلى عالم الكثرة وهي تريد استمرار الوجود تحولت في الإفراد إلى حب الذات وعبادتها، وأدى حب الذات في الأفراد إلى النزاع والصراع والشر والفساد.
    واللذة عند شوبنهاور أمر عدمي، أما الألم فهو شيء وجودي . والحب بين الرجل والمرأة سبب للتعاسة،وحقيقة هذا الحب أن الحياة تريد استمرار النسل، ولكي يتحمل الأفراد المصائب والمشاكل الناشئة من الناشئة من ذلك فإن الطبيعة تخدع الأفراد بهذه اللذات.
    ويتساءل لماذا يحاول العاشقان أن يخفيا حركاتهما عن أعين الآخرين؟ ولماذا تحاول آلاف العيون بألم وحذر أن تتطلع إليهما؟
    ثم يجيب:
    لأن الحياة كلها تعاسة، والعاشقان يحاولان استمرار هذه التعاسة بالأنسال فهم يرتكبون جناية فظيعة، ومن الواضح أنه لو لم يكن لدينا هذا العشق لوصلت الدنيا إلى نهايتها واختتمت هذه المصائب المؤلمة.
    وكان شوبنهاور معتقداً اعتقاداً راسخاً بفلسفة بوذا وهو يحصر السعادة الحقيقة في الرياضة النفسية وفي خنق إرادة الحياة ولا سيما اللقاء الجنسي مع النساء لكي ينقطع النسل ويرتاح النوع).

    [ 79 ]
    ولكننا إذا أخذنا أنفسنا بالصبر ودققنا في حياتهم واستعرضنا أوضاعهم فسنلاحظ أن كل واحد منهم لم تلده أمه سوفسطائياً ولم ينطلق لسانه أول ما انطلق بحديث السفسطة، ولم تفلت من يده فطرته الإنسانية"الإدراك والإرادة"، فهو مثلاً لم يبك مرة واحدة في المناسبة التي عليه فيها أن يضحك في المجال الذي عليه أن يبكي فيه، ولم يستعمل مرة واحدة حس البصر لكي يدرك المسموعات أو بالعكس، ولم يستعض بالنوم عن الأكل ولم يفعل العكس، ولم يغلق فمه لكي يتكلم، بل لم يتحدث حديثاً مبعثراً مشتتاً، وإنما هم يعيشون تماماً كما نعيش نحن (نحن الواقعيين) وبنفس ذلك النظام الخاص الموجود في الحياة الإنسانية، ويشاركوننا في الحياة النوعية والأفعال الإرادية . ومن هنا نفهم:
    إن هؤلاء هم شركاؤنا في الحقيقة المذكورة في بداية هذا الحديث وفي كل المعلومات التي تشكل الأسس الأزلي لهذه الحقيقة (إذا حللنا هذه الحقيقة (يوجد خارج ذهني عالم أستطيع حسب رغبتي أن أؤدي فيه أعمالي) التي ركّبها الذهن من مجموع المعلومات والإدراكات التي تعدّ أجزاءها أو عناصرها الأصلية فسوف نلاحظ عدداً من المعلومات الأولية التي ساهمت في إيجاد هذه الحقيقة.
    وتذكر هذه المعلومات الأولية في المنطق وتسمى تارة بالمبادئ التصورية والتصديقية (في مقالة التحليل والتركيب)، وتارة أخرى بالضروريات والبديهيات (في باب البرهان) ويتمتعون بالإدراكات ويقومون بالأفعال البسيطة الأولية كما هو موجود عندنا.

    [ 80 ]
    ثم بعدما نزلوا إلى ساحة الفكر والبحث ووصلوا إلى مستوى النضج اعتنقوا السفسطة والمثالية وأعلنوا بملء أفواههم أنه "لا يوجد إي واقع" ولكن بعضهم التفت إلى أن هذه الجملة تحتوي على تصديق كثير من الواقعيات فبادر إلى تغيير شكلها وقال: "نحن لا نعلم بالواقع"، ولاحظ بعضهم- بدقة أعظم- أن في هذه الجملة تصديقاً بحديث أنفسهم وبعلمهم (تفكيرهم)، لذلك لجأ إلى هذه العبارة:
    "نحن لا نملك أي واقع خارج أنفسنا (ذواتنا وأفكارنا) " أي لا علم لنا بأي واقع خارج ذواتنا وأفكارنا.
    وخطا بعضهم خطوات أوسع فأنكر كل شيء ما عدا ذاته وفكره فقال: "أنا لا أعلم بشيء إطلاقاً ما عدا نفسي وفكري".
    والأدهى من هؤلاء جميعاً أولئك الذين أنكروا الواقع مطلقاً وحتى واقعية أنفسهم ولم يظهروا إلا التردد والشك.
    ويتضح لنا من هذا الحديث أن حقيقة السفسطة هي إنكار العلم (الإدراك المطابق للواقع)، وكل الأدلة المنقولة عن هذه الفئة تدور حول هذا المحور وتؤكد هذا الأمر.
    ومن هنا فإن الفلسفة تؤكد كون السفسطة مبنية على أساس

    [ 81 ]
    "عدم التناقص" لأن كل المعلومات تعتمد على هذه القضية بالتحليل الدقيق، فإذا سلمنا بها فأننا لا يمكننا إنكار أية حقيقة، وإذا أنكرناها لم نستطع أن نثبت أية حقيقة (سوف نوضح في المقالات اللاحقة أنه بإنكار أصل عدم التناقض لا يمكن إثبات أية حقيقة، وسوف نبسط الحديث عن الأصل الذي يذكره علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية تحت عنوان "أصل وحدة الضدين" الذي يعتبرونه الهادم لأصل عدم التناقض.
    فالملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها هنا هي أن العالم الفرنسي المعروف ديكارت حاول أن يعيد النظر في كل معلوماته وأن يضع أساساً جديداً فشك في أفكاره من المحسوسات والمنقولات والمعقولات، وقال لنفسه لعلّ الحقيقة ليست هي كما أحس أو أفكر أو كما قيل لي، ولعلّ هذه جميعاً خيال محض تتراءى لي كما يظهر للنائم الحلم أثناء نومه. وما هو الدليل على أنه ليس الأمر كذلك؟
    إذن كل أفكاري (وحتى أصل عدم التناقض) باطلة، ولم يبق لي حتى أصل واحد يمكنني أن أعتمد عليه. وفي هذه اللحظة انتبه إلى أنه مهما شك وتردد في كل شيء ولكنه لا يمكن أن يشك في وجود الفكر، إذن أنا لا أتردد في وجود الفكر، وهذا يدل على وجود المفكر، فاطمأن بوجوده وقال" أنا أفكر إذن أنا موجود" (Cogito.ergo sum) ، وجعل هذا أساساً لسائر الأصول وتقدم نحو الأمام.
    ولا نريد أن نستعرض هنا الإشكالات التي أوردها العلماء على استدلال ديكارت هذا، ولكننا نكتفي بذكر إشكال واحد يناسب هذا المقام لم نجد أحداً قد التفت إليه، وهو أن الإنسان إذا تردد في هذا الأصل (أصل عدم التناقض) أيضاً فهو لا يستطيع أن يصل إلى نتيجة (أنا أفكر إذن أنا موجود) لأنه مع فرض عدم امتناع التناقض يمكن القول أنا أفكر وفي نفس الوقت أنا لا أفكر إطلاقاً، ويمكن القول أيضاً أنا موجود وفي نفس الوقت أنا لست موجوداً.
    إذن أصل امتناع التناقض في الحقيقة هو الأساس لجميع العلوم والإدراكات، وإذا صرفنا النظر عن الأصل فلن يستقّر لنا أي علم، ولهذا قال الفلاسفة منذ أقدم الأزمنة أن إنكار هذا الأصل لا يمكن معه إثبات أية حقيقة).
    ومما ذكرناه في هذه المقدمة يتبين لنا أن هناك طرقاً متعددة

    [ 82 ]
    لدحض مذهب الفئة (إن صح إطلاق لفظ المذهب على هذا الزعم)، فهم بحديثهم هذا ومحاولتهم الفهم والتفهيم يعترفون بكثير من المعلومات دون أن يشعروا، منها:(أنه يوجد لدينا متكلم، ومخاطب، وكلام، ودلالة، وإرادة و... وأخيراً فإنه يوجد تأثير، وتوجد عليه ومعلولية مطلقة).
    وكل واحد من هذه الأمور كاف ليردهم وليوضح الحق.
    وهذه بعض الشبهات من المثالية
    نحن مهما بسطنا أيدينا نحو الواقع فلن نظفر بشيء سوى الإدراك (الفكر)، إذن ليس لدينا شيء سوى أنفسنا وإدراكنا. وبعبارة أخرى نقول: كل واقع نظن أننا قد أثبتناه ليس هو في الحقيقة إلا فكرة جديدة قد نشأت فينا، إذن كيف يمكننا أن نقول (أن لدينا واقعاً خارجاً عنا وعن أفكارنا) بينما هذه الجملة بنفسها ليست شيئاً أكثر من فكرة وظن ( وبعبارة أخرى فإن الطرق التي تخيلها الإنسان للوصول إلى الواقع لن توصله إلى الواقع وإنما توصله إلى مجموعة من الأفكار فقط.
    مثلاً يريد الإنسان أن يطلع على السماوات عن طريق الحس والمشاهدة مباشرة، أو يكتشف قانوناً كلياً في الطبيعة عن طريق التجربة، أو يثبت حقيقة عن طريق العقل والتفكير، فبعد أن يطيل النظر من وراء التلسكوب وبعد أن ينجز عملياته في المختبر وبعد أن يضغط على عقله بالتفكير، أيكون قد ظفر بشيء غير مجموعة من الإدراكات والصور الذهنية التي جمعها في ذاكرته؟ إذن هذه الطرق التي يتخيل الإنسان أنها توصله إلى الواقع لم توصله إلى الواقع بل أوصلته إلى مجموعة من الأفكار الذهنية فقط.) ؟

    [ 83 ]
    الجواب
    في هذه الشبهة أثبت الواقع في الجملة وذلك هو "واقعنا وفكرنا" المعلوم لنا، وهذا الكلام صحيح. والذي ينبغي الالتفات إليه هو أن المستدل تصور إنه إذا كان في الخارج واقع حقيقي فلا بد في حالة تعلق العلم به أن نصبح واجدين لنفس ذلك الواقع، لا واجدين للعلم بالواقع، مع أن القضية بالعكس فالذي نظفر به هو العلم وليس المعلوم (الواقع).
    وهذا تصور ساذج لأنه صحيح أن العلم وحده الذي نظفر به وليس المعلوم ولكنه غاب عنهم أننا نظفر بالعلم مقروناً بخاصته وهي الكاشفية (إن الشبهات التي تذكرها المثالية لتستنتج منها أموراً تخالف البديهيات والحقائق المسلمة لا قيمة لها، وكل أحد يعلم أنها مغالطات، ويقتنع عادة في جوابها بوضوح وبداهة الموضوع، ولكن الجواب العلمي والفلسفي لهذه المغالطات يحتاج إلى دقة عظيمة ويتوقف على معرفة حقيقة العلم (الإدراك) وقيمة المعلومات، وهذان الموضوعات مشروحان بالتفصيل في المقالتين الثالثة والرابعة . وسوف يأتي في الملاحظة الثالثة من هذه المقالة أن الفلسفة المادية الديالكتيكية قد اتخذت لنفسها في بيان حقيقة العلم نظرية مثالية مائة بالمائة مع أن المادية الديالكتيكية تعتبر نفسها النقطة المقابلة للمثالية.
    وللجواب العلمي على هذه الشبهة الموجودة في المتن نكتفي بالجواب المذكور فيه أيضاً ويتلخص في أن للعلم خاصة الكاشفية عن الخارج، بل العلم هو عين الكشف عن الخارج وليس من الممكن أيضاً أن يوجد علم غير متصف بالكشف، وليس من الممكن أيضاً أن يوجد العلم والكشف ولا يوجد الواقع المكشوف، وإذا فرضنا أن الواقع المكشوف غير موجود، فالكاشفية إذن لا وجود لها، وإذا كانت الكاشفية غير موجودة فالعلم إذن غير موجود مع أن الخصم مقرّ بوجود العلم، وهذه الخاصة لا تنفك عنه، وإلا لم يبق علماً. ولا

    [ 84 ]
    يدعي أحد أننا عند العلم بالخارج سوف نضيف الواقع الخارجي إلى أنفسنا، وإنما الدعوى هي أننا نظفر بالعلم بالخارج فقط.
    الشبهة الثانية
    إن حواسنا التي هي أقوى الوسائل للعلم بالواقع الخارجي تخطئ كثيراً (فمثلاُ ترى العين الجسم البعيد أصغر والقريب جداً أكبر مما عليه في الخارج. وكذلك عندما ندير بأيدينا خيطاً في نهايته نار فإن العين ترى النار بشكل دائرة حينما ندير هذا الخيط. وهي ترى أيضاً قطرة المطر حينما تنزل من السحاب بشكل خط متصل، وكذلك بقية الحواس فمثلاً نحن ندرك الحرارة والبرودة بحس اللمس فلو فرضنا أن إحدى يدينا كانت حارة والأخرى باردة ثم غمسناهما معاً في ماء دافئ فسوف نشعر بإحدى يدينا أن الماء بارد وبالأخرى نحس به أنه حار.
    وتوجد أخطاء كثيرة للحواس وهي مذكورة في الكتب العلمية والفلسفية. ويعتقد بعض العلماء أن أنواع أخطاء الحواس تصل إلى ثمانمائة) وكذلك الوسائل والطرق الأخرى غير الحواس فهي

    [ 85 ]
    مبتلاة بالأخطاء الكثيرة أيضاً، وهكذا فإن العلماء الذين تسلحوا بمختلف الوسائل ليصونوا أنفسهم عن الأخطاء لم يستطيعوا أن يجنبوا أنفسهم الخطأ. إذن كيف نثق ونطمئن بوجود واقع حقيقي؟
    الجواب
    لا يمكن لأحد أن يدعي (إن وقوع الخطأ في بعض الموارد لا يدعو إلى سلب الاعتماد من كل المعلومات والفطريات والحقائق المسلمة، ولا يبرر إنكار جميع الواقعيات الخارجية التي توصلنا إليها عن طريق العلم، بل هذا الإدراك للخطأ بنفسه دليل على وجود سلسلة من الحقائق المسلمة التي جعلناها مقياساً وعرفنا الخطأ عن طريقها، وإلا لم يكن معنى لإدراكنا للخطأ، لأنه لا يمكن تصحيح الخطأ بخطأ آخر.
    وعلاوة على هذا فإن العالم المثالي- مع كل الأخطاء التي وجدها من الحس- لم يحدث له مرة أن أغلق عينيه وسار في الطريق، أو عندما يرى الطريق والبئر فإنه يساوي بينهما ويقول أن كلا منهما فكرة .
    وكذلك فمع كل الأخطاء التي لاحظها في العقل لم يحدث له أن أعرض عن الاستدلال العقلي، وإنما هو قد أوضح هذه الشبهات المثالية عن طريق الاستدلال العقلي، وإذا كان الاستدلال العقلي باطلاً فاستدلاله على المثالية أيضاً باطل) أننا لا نخطئ ولا نزل في معلوماتنا أو أن كل ما نفهمه فهو صحيح وصادق، والفلسفة أيضاً لا تدعي هذا الشيء لنفسها، وإنما تدعي الفلسفة أن لدينا- في الجملة- واقعاً خارجاً عن ذواتنا، ويمكن إثبات هذا الواقع عن طريق الفطرة، لأننا لو لم نثبته لم نرتب أثراً منظماً على الموضوعات فلم نفكر

    [ 86 ]
    في الأكل بعد الجوع مباشرة، ولم نهرب بعد الإحساس بالخطر مباشرة، ولم نرغب بعد الإحساس بالنفع... وهكذا ...
    (مع أن الفكر الفارغ تحت تصرفنا ومن آثارنا، ونحن نستطيع في كل وقت أن نصوغ أفكاراً كما يحلو لنا).
    الشبهة الثالثة
    لو كانت كاشفية العلم والفكر عن الخارج صفة واقعية ولم تكن ظناً وفكرة فحسب لما أمكن أن تتخلف عن موصوفها أبداً مع أننا نقطع بتورطنا في كثير من الأفكار المليئة بالتناقص ومن المعلومات المليئة بالأخطاء، لأنه ليس من الممكن أن يتصور وجود الخطأ والغلط في الواقع الخارجي، ولا يمكن أن يكون وجودنا وتفكيرنا مخطئاً.
    إذن لا نستطيع أن نثبت شيئاً ما عدا أنفسنا وأفكارنا.
    وأما كاشفية العلم عن الخارج فليست شيئاً سوى ظن من الظنون.
    الجواب
    إن هذه الشبهة لا تؤمّن للمثاليين غرضهم ولا يمكن أن نستنتج منها السفسطة، والشيء الوحيد الذي يمكن تؤديه هذه الشبهة هو أن تضع أمامنا هذا التساؤل:
    إذا كانت للعلم والإدراك خاصة الكشف ذاتاً فلا بد أن

    [ 87 ]
    لا يكون هناك خطأ ولا بد أن يكونا دائماً مرتبطين بالواقع الخارجي وحينئذ نتساءل : من أين جاءتنا إذن كل هذه الأخطاء؟
    والأخطاء أهي مطلقة أم نسبية؟
    وسوف نجيب على هذا في مقالة منفصلة (وهي المقالة الرابعة).

    نعود إلى بداية الحديث
    ........... كما قلنا في بدء الحديث أن كلام السوفسطائي قد نظم على أساس أنه ينكر الواقع، ولكنه في الحقيقة سيق من أجل إنكار وجود العلم (وهو الإدراك اليقيني المطابق للواقع). فإذا كان كلامه يتضمن إنكار الواقع مع التسليم بوجود العلم (نحن نعلم بعد وجود أي شيء) فإن نتيجة هذا هو إثبات العلم بعدم الواقع، وهذا بنفسه إثبات لواقع معين وهو (أنا-العلم-خاصة كاشفية العلم عن عدم الواقع).
    وإذا سلّمنا بخاصة الكشف في هذا العلم فلا يمكننا حينئذ أن نسلبها عن سائر أفراد العلم.
    وتستنتج من هذا الحديث عدة ملاحظات:
    الملاحظة الأولى
    لا ينبغي لنا أن نعد الأشخاص الذين يثبتون لوناً من ألوان

    [ 88 ]
    الواقع الخارجي ضمن المثاليين، ولا أن نطلق عليهم اسم السوفسطائيين من قبيل:
    أولاً: أولئك الأشخاص الذين نفوا كون خواص الأجسام - ما عدا الخواص الهندسية - جزءاً من الواقع، واعتبروا تلك الخواص من تأليف الذهن (كما يقول ديكارت بأن الخواص الهندسية للجسم موجودة أما الخواص غير الهندسية - وهي المسماة عند بالخواص الثانوية من قبيل اللون والرائحة والطعم والكيفيات الأخرى المتوهمة- فهي صنيعة الذهن).
    ثانيـاً: وبعض الفئات التي أنكرت وجود الجسم وخواصه واعتبرت العالم مجرداً من المادة.
    ثالثـاً: بعض الأفراد الذين اعتبروا المكان وهماً.
    رابعـاً: والبعض الذي اعتبر الزمان وهماً.
    خامساً: والبعض الآخر الذي اعتبر الزمان والمكان وهمين.
    وصحيح أن هذه الاعتقادات فارغة ولا أساس لها، وقد أزاحت الفلسفة الستار عنها وأوضحت بطلان كل منها وضوح الشمس، ولكن لأن أصحابها معتقدون بعالم واقعي فلا يمكن تسميتهم بالسوفسطائيين ولا إدراجهم ضمن أعداء العلم (ليرجع من شاء إلى التعليقة في الصفحة (72)).
    ولا ينبغي أن نعد من المثاليين أشخاصاً من غير الفلاسفة سلكوا سبيلاً غير الاستدلال، ولا ينبغي أن نقيمهم بهذا المقياس من قبيل:

    [ 89 ]
    1-فئة من العارفين المنكرين لأسلوب الاستدلال والقائلين بأن الطريق الوحيد للوصول إلى الحقائق هو الكشف الذوقي.
    2-وفئة من أصحاب الشرائع الذين حصروا المعلومات الصحيحة بتلك المأخوذة من طريق الوحي السماوي وأديان الرسل والأنبياء.
    وكذلك طائفة أخرى من الفلاسفة السائرين على أسلوب علمي والقائلين بأن العالم مؤلف من شيئين مختلفين هما المادي والمجرد والسالكين لسبيل عملي يدعو إلى التنزه من العالم المادي الفاني والارتقاء نحو العالم العقلي الباقي. وينقل هذا عن هرمس (يتعرض التاريخ القديم لمجموعة من الحكماء وعلماء النجوم المعروفين بـ "الهرامسة"، وهم سابقون للمرحلة اليونانية، وأشهر هؤلاء هو هرمس الهرامسة. وعندما يطلق اسم هرمس وحده فهو المقصود به. ولما كان هذا التاريخ موغلاً في القدم فإنه لم يبق منه شيء صحيح يمكن الاعتماد عليه .
    وكتب القفطي في تاريخ الحكماء:
    "ولد هرمس الهرامسة في مصر قبل الطوفان، وهو نفسه المعروف عند العبريين باسم "أخنوخ"، وعند اليونانيين باسم " أرميس"، وعند العرب باسم "ادريس"، وهو الذي أعطاه الله النعم الثلاث (الملك والحكمة والنبوة)".
    ويستنبط من أقوال المؤرخين القدماء أن هرمس هو النبي إدريس المذكور في الكتب السماوية.
    وينقل الأشكوري في محبوب القلوب عن تاريخ ابن الجوزي: أن هرمس هو أول شخص استخرج الحكمة وعلم النجوم بالإلهام الإلهي. وينقل عن أبي معشر البلخي أن الهرامسة كانوا كثيرين وكان أعلمهم ثلاثة أشخاص. وكان لهرمس دار في مصر وهو الذي بنى الأهرام) وبليناس (بليناس هذا هو من أقدم الحكماء وينسب إليه كتاب موجود بين أيدينا يسمى بعلل بليناس،ويقال إنه أحد الهرامسة.
    وقد ترجم علل بليناس على يد القسيس ساخنوس. وتوجد في أول هذا الكتاب قصة عجيبة تشتمل على لون من المكاشفة فهو ينقل عن لسان بليناس قوله:
    "كنت يتيماً ومن أهل طوانة ولم أكن أملك شيئاً وكان في بلدنا تمثال صخري نصب على عمود من الخشب وقد كتب عليه: أنا هرمس الذي خصّه الله بنعمته، وقد جعلت هذه علامة واضحة ولكني أخفيت رأسها لئلا يعرف ذلك الرأس إلا حكيم مثلي.
    وكتب على صدر ذلك التمثال: من أحب أن يعرف سر الخلقة وصنعة الطبيعة فلينظر إلى ما تحت قدمي.
    ولم يلتفت الناس إلى المقصود الحقيقي من هذه الجملة، حتى كبرت أنا وأصبح سنّي ملائماً وقرأت ما كتب على صدر التمثال واستوعبت مقصوده. وحينئذ حفرت قطعة من الخشب كانت تستقر تحت التمثال فوجدت ثقباً مظلماً لا يستطيع أحد أن يُدخل إليه نوراً لأنه كلما حاول إنسان أن يدخل شيئاً من النار للإضاءة به هبّت من ذلك الثقب ريح عاتية تطفئ تلك النار. فسيطر عليّ الهمَّ وغلبني النوم، ورأيت فيما يرى النائم صورة تشبه صورتي فنادتني: انهض يا بلينوس وأدخل هذه الحفرة التي هي تحت الأرض. فأجبت: إنها مظلمة ولا يمكن لأحد أن يقتحمها . فأمرتني الصورة أن أجعل النار بكيفية خاصة في جسم شفاف لئلا تنطفئ واستضيء بها في ذلك الظلام. فغمرني السرور وتأكدت بأني وجدت الطريق فسألت الصورة: من أنت أيتها التي مننت عليّ بكل هذا الفضل؟
    فأجابتني: أنا معك وسرّك الباطن. وعندئذ استيقظت من النوم فرحاً مسروراً وعملتُ ما أمرتْ، وبمجرد أن دخلت الحفرة شاهدت تمثالاً لرجل يحمل لوحاً في يده وأمامه كتاب، وقد كتب في اللوح: هنا صنعة الطبيعة، وكتب في الكتاب: هذا سرّ الخلقة. وقد تعلمت أنا علم علل الأشياء من هناك ومن ثم فقد اشتهرت بالحكمة") وفيثاغورس (ولد فيثاغورس ( Pithagore) في القرن السادس قبل الميلاد وهو من أشهر الحكماء السابقين. وعقيدته مشهورة في باب الأعداد وإن العدد هو أصل الوجود وإن الأشياء كلها تظهر بوساطة التركيب العددي.وكل هذا مذكور في الكتب الفلسفية. وينقل الشيخ الرئيس في الشفاء شرحاً مفصلاً لعقيدته ويجيب عليها.
    وكان فيثاغورس يعدّ الأرض كروية ومتحركة. ويقول أن الأرض وجميع السيارات ومن جملتها الشمس وكرة غير مرئية أخرى تدور حول مركز ناري غير مرئي. وقد ساح في شرق الأرض وأفاد من آراء علماء ذلك الشرق، وهاجر إلى إيطاليا بعد أن عاد من سفره إلى وطنه. ولما كان يتمتع بآراء سياسية واجتماعية ودينية خاصة بالإضافة إلى آرائه الفلسفية فقد شكل هناك جماعة من النساء والرجال وكان من ضمنهم زوجة له وثلاث بنات، ولكنه لم يحقق نجاحاً، وقتل في إحدى الثورات.
    وسافر أفلاطون إلى إيطاليا واكتسبت عقائده الاشتراكية في الثروة والمرأة من فيثاغورس. ونشرت فلسفة فيثاغورس لأول مرة في اليونان على يد أفلاطون) وأفلاطون (ولد أفلاطون ( Platon) في القرن الخامس قبل الميلاد سنة 427 وتوفى سنة 346 قبل الميلاد. وهو من سلالة ملوك اليونان القدماء وينتهي نسبه من ناحية الأم إلى صولون الحكيم والمقنّن اليوناني المعروف. وبعد أن نال أفلاطون قسطاً من مقدمات العلوم والرياضيات والفلسفة تتلمذ على يد سقراط وظل معه حتى آخر عمر سقراط وكان به مشغوفاً. ومدرسة أفلاطون الفلسفية من أشهر المدارس الفلسفية في العالم. وتشكل "المثل" المحور لعقائده الفلسفية.
    وبعد وفاة سقراط قرر أفلاطون أن يجوب العالم فسافر إلى مصر والقيروان ثم ذهب إلى إيطاليا وتعلّم فيها فلسفة فيثاغورس وكان أفلاطون ضليعاً في فن الكتابة، وكانت له آراء خاصة في السياسة وطريقة إجارة المجتمع وتكوين المدينة الفاضلة، ومن آرائه أن المجتمع لا بد أن يدار بوساطة الحكماء. ولكي يطبق هذه الفكرة سافر إلى جزيرة سيسل ولكنه لم يوفق وإنما ألقي القبض عليه وبيع عبداً حتى صادف أحد أصدقائه فحرّره، ولكنه لم يتراجع وسافر للمرة الثانية لنفس ذلك الهدف ولم يحقق شيئاً منه. وأخيراً فقد تراجع عن آرائه الاشتراكية وكتب كتباً آخر أبطل فيه نظرياته السابقة بأدلة مذكورة فيه. وكانت لأفلاطون حديقة خارج مدينة أثينا يعلم فيها الحكمة والعلم وتسمى بـ " الأكاديمية". ومن هنا فقد سمي أتباع أفلاطون بالأكاديميين) وأفلوطين (إن أفلوطين ( Plotin) هو رأس مجموعة من الفلاسفة المسماة بالأفلاطونيين المحدثين. ولد سنة 205 وتوفي سنة 270 ميلادي. وكان إنساناً عارفاً مروضاً. سافر إلى إيران والهند، ولعلّه كسب كثيراً من عقائده العرفانية من هذين البلدين. ويقال إن كتاب "الأثولوجيا" (معرفة الربوبية) المنسوب إلى أرسطو إنما هو من تأليف أفلوطين).

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [align=center][ 92 ][/align]
    إذن لنا عد هؤلاء من المنكرين للواقع واعتبارهم آباء للمثالية، لأنهم بحكم العلم والبصيرة أصدقاء للحقيقة وعشاق للواقع، ولم يكونوا طامحين إلى شيء إلا تكميل العلم والعمل

    [align=center][ 93 ][/align]
    والخدمة للإنسانية. وهم قد وضعوا الحجر الأساس لهذا القصر الشامخ. وليس من اللائق أصلاً أن يستغل الإنسان فمه ولسانه اللذين جاءه من دم والديه-بمجرد أن يقدر على الكلام- في لعن صلب أبيه ورحم أمه، بل شتم رجل ناقد وباحث هو بعينه يؤكد أن الشاتم من أدعياء المعرفة ويصدق كونه من الحريصين على بقاء الجهل.
    الملاحظة الثانية
    لا بد أن نعتبر من جملة المثاليين أولئك العلماء القائلين بأن الفكر مادي محض، وهم يفسرونه بتعابير مختلفة من قبيل:
    "إنه صنيعة المخ" أو هو "أثر الفعل والانفعال الحاصل بين جزء من المادة وجزء من المخ" أو هو "رد الفعل للتأثير الخارجي في الأعصاب والنخاع" أو هو "تبديل الكمية إلى كيفية" أو هو "صورة يلتقطها المخ للخارج" أو هو "ترشيحات المخ".
    وإجمالاً فهم يفسرونه على أساس كونه أثراً مادياً للمادة ( القول بالأشباح في موضوع الوجود الذهني من الفلسفة).
    وهذه العقيدة ليست جديدة وإنما هي مذكورة في الكتب الفلسفية القديمة، ومنقولة عن الماديين القدماء وعن غير الماديين أيضاً. ولكنها اكتسبت شهرة ضخمة في هذا العصر ونالت الموافقة العامة.
    ومن الواضح إن أسلوبهم العلمي يقتضي هذا الرأي (يحسن الرجوع إلى الملاحظة الثانية من المقالة الأولى).

    [align=center][ 94 ][/align]
    وقد اعتمد العلماء المحدثون على هذه الأصول الثلاثة:
    1-لا يوجد في الكون شيء غير المادة (المادة تساوي الوجود).
    2-إن المادة في تحول وتكامل ذاتي.
    3-كل أجزاء المادة يؤثر بعضها في بعض.
    وبناء على هذه الأصول اضطروا لأن يعتبروا الفكر وليد المادة وأن يضفوا على كل خواص الفكر وإثارة صفة المادية، وأن ينتزعوا من المفاهيم الذهنية كل هذه الصفات:
    1-الكلية.
    2-الدوام (الدوام: في المنطق القديم كانوا يقسمون القضية إلى أقسام متعددة من نواحٍ مختلفة، ومن جملتها تقسيم القضية بحسب "الجهة"، أي كيفية ارتباط المحمول بالموضوع، وللقضية من هذه الناحية أقسام مختلفة. وليس من مهمتنا هنا أن نتناول بالشرح كل هذه الأقسام، وإنما يؤدى ذلك في كتب المنطق. ولكننا هنا نلقي بعض الضوء على قضية واحدة منها وهي "الدائمة"، وهي تلك القضية التي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع دائماً وأبداً كما في الموارد التي يكون فيها المحمول من الخواص التي لا تنفك عن الموضوع ويضرب القدماء مثالاً لهذا بحركة الفلك. أما أتباع صدر المتألهين القائلون بالحركة الجوهرية فإن الجسم الفلكي-الذي هو موضوع الحركة الدائرية للفلك- مع كل الأجسام الأخرى متغير ومتحرك بالحركة الجوهرية الذاتية عندهم، ولهذا فهم يقولون أن موضوع الحركة الفلكية هو الجسم المطلق وليس الجسم الخاص. ويوجد تفصيل هذا في منظومة المنطق للسبزواري في باب بيان العرض اللازم والعرض المعارق.وتقول المادية الديالكتيكية:
    إن المنطق الجامد (المنطق القديم) الذي يعتقد بالضروري والدائمي يقود إلى نتائج خاطئة لأن كل مفهوم إنما هو جزء من الطبيعة وواقع تحت تأثير الأجزاء الأخرى منها، وأجزاء الطبيعة دائماً في تغير وتبدل، إذن تصبح المفاهيم دائماً في حالة تغير، ومن هنا نعرف أنه لا وجود لأي مفهوم جامد".
    وتقول أيضاً:
    "لما كانت القضايا التي تظهر في أذهاننا صوراً للارتباطات الموجودة بين أجزاء الطبيعة، ونحن نعلم أن ارتباطات الأجزاء فيما بينها هي في حالة تغيير، إذن لا توجد قضية دائمة. والاعتقاد بالضروري والدائمي في المنطق الجامد هو الذي قاد الإنسان إلى النتائج الخاطئة". (ليرجع القارئ إلى كتاب "المادية الديالكتيكية" للدكتور الآراني، ص 46،47،48)
    وكما تلاحظون فإن الماديين أنفسهم يعترفون- دون أن ينتبهوا- بكون بعض القضايا دائمة (المادة دائماً في حركة). والمنطق القديم أيضاً كذلك فهو يعترف بكون القضايا دائمة وليس كل القضايا.
    ويقول الدكتور الآراني في الصفحة (57) من المادية الديالكتيكية:
    "إن الجمود والثبات نسبيان ومحدودان، أما الحركة والتغيير فهما دائميان ولا حد لهما".
    إذن أقصى ما يقال هو أن القدماء يذكرون حركة الفلك مثالاً، أما الماديون فهم يذكرون حركة مطلق المادة مثالاً. فالاختلاف فقط في المثال.
    ولا بد لنا من سؤال هؤلاء الأشخاص:
    هذه القوانين التي تعرض من قبلهم بعنوان أصول للديالكتيك كأصل نفوذ الضدين وأصل تغيير الطبيعة أهي قضايا دائمة ولا تتغير أم هي قضايا مؤقتة؟
    إذا كانت دائمة فقد ثبت ما ادعيناه. وإن لم تكن دائمة - فعلى فرض صحتها -تكون صحتها مؤقتة وليس بإمكانها أن تفسر العالم وكل الطبيعة منذ الأزل وإلى الأبد.
    والملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها هي أن علماء المادية عندما يريدون نفي الحقائق الدائمة فهم يسلكون سبيلين (وهم يمزجون بين هاتين السبيلين)، إحداهما أنهم يقولون كل القضايا الذهنية تصور الارتباطات الموجودة في الطبيعة، ولما كانت تلك الارتباطات في تغير دائم، إذن لا توجد قضية دائمة. وقد أجبنا قبل قليل عن هذا الإشكال وقلنا إن الماديين أنفسهم يعترفون بوجود قضايا دائمة في الطبيعة (بغض النظر عما وراء الطبيعة).
    والثانية أنهم يقولون: "كل مفهوم إنما هو جزء من الطبيعة وواقع تحت تأثير كل الأجزاء الأخرى للطبيعة، وهو وسائر أجزاء الطبيعة دائماً في تحول وتغيّر، إذن لا يوجد لدينا مفهوم ثابت جامد".
    وعلى هذا فإن الصور التي في أذهاننا عن الارتباطات المتغيرة هي أيضاً متغيرة.
    ولا بد أن نقول نفس هذا الشيء في باب المفاهيم الذهنية على أساس كون الروح مادية ولها خواص المادة. ولكنه هنا يظهر أمامنا هذا الإشكال وهو: إذا كانت المفاهيم والصور المنطبعة في الذهن عن علاقات الطبيعة المتغيرة متغيرة هي أيضاً، إذن لا تبقى أية قضية في الذهن لحظتين. وعلى هذا فنحن لا نستطيع أن نستبقي في أذهاننا صورة للحظة خارجية واقعية بحيث تكون تلك الصورة الذهنية أو القضية صادقة في كل اللحظات بالنسبة إلى تلك اللحظة الخاصة. مثلاً إذا انطبعت في أذهاننا هذه الصورة وهي أن محمداً قد لقي علياً في اليوم الفلاني أو أن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون ، فلا بد أن تتخذ هذه الصورة شكلاً آخر في لحظة أخرى ولا بد أن تتغير في هذه اللحظة تلك الرابطة فتصبح مثلاً أن أرسطو لم يكن تلميذاً لأفلاطون. وبعبارة أخرى نقول:
    في الواقعيات الخارجية لا تبقى-على حالة واحدة - أية علاقة تربط بين جزأين في لحظتين.
    وهنا نتساءل : كيف تكون الصور المنطبعة في أذهاننا عن لحظة خاصة ؟ كما في قولنا أن أمس قد جاء بعد أمس الأول أو أن زيداً قد تحدث في يوم الجمعة أو أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون. أتكون هذه الصورة باقية على حالها أم متغيرة أيضاً؟
    من الواضح أنه لا يمكن الجواب بأنها باقية مع القول بكون الروح مادية. وإذا أجيب بأنها متغيرة فعلاوة على مخالفة ذلك لأمر بديهي فإننا حينئذ ل بد أن نسلب اطمئناننا من الصور المنطبعة في أذهاننا عن الحقائق الماضية، لأننا نعلم أن المفاهيم الذهنية متغيرة بذاتها ولها في كل لحظة حالة خاصة. وسوف نذكر في المقالة الرابعة إن هذا الموضوع هو من جملة المواضيع التي تدخل أصحاب المادية الديالكتيكية ضمن المشككين).

    [ 97 ]
    3-الإطلاق (لا بد من تقديم مقدمة حتى يتضح معنى الإطلاق في المفاهيم، هذا الذي يقول به المنطق القديم، ومعنى نسبية المفاهيم التي تدعيها المادية الديالكتيكية .
    توجد هنا مسألة مهمة التفت لها الفلاسفة منذ الأزمان الغابرة وهي قيمة المعلومات وكونها حقيقية . يعني ما هو المقدار الذي تستطيعه العلوم (الإدراكات) في كشف الواقعيات؟
    وما هو المقدار الذي تطابق فيه إدراكاتنا الوجود الخارجي؟
    قلنا فيما مضى أن السوفسطائيين والمثاليين ينكرون أية قيمة للمعلومات، لأنه حسب زعمهم لا يوجد واقع وراء أذهاننا حتى تطابقها إدراكاتنا أو لا تطابقها، وفي الواقع فإنه لا معني للحقيقة والخطأ إطلاقاً.
    أما المشككون فصحيح أنهم غير منكرين للواقع الخارجي ولكنهم ينكرون القيمة اليقينية للعلو والإدراكات ، ويدعون أنه من الممكن أن تكون للأشياء الخارجية كيفية خاصة ولكننا ندركها بشكل آخر يتلاءم مع قوانا المدركة ويتناسب مع الظروف الزمانية والمكانية، ونحن لا نعلم كون معلوماتنا حقيقية أم مخطئة، ولا نملك مقياساً أصلاً نستطيع به أن نميز الحقيقة من الخطأ.
    وقد أسس مذهب المشككين بيرون (Pirron) الذي ولد سنة 370 وتوفي سنة 280 قبل الميلاد. وذكر بيرون أنه توجد عشرة أسباب تقضي على القيمة القطعية للمعلومات.
    إذن لا توجد في عقيدة السوفسطائي حقيقة (إدراك مطابق للواقع)، ويعتقد المشكك بكونه لا يدري أن علومنا حقيقية أم لا.
    وقد ظهرت في القرون المتأخرة مذاهب أخرى تتفق في هذه المسألة مع مذهب المشككين (سيتيسيسم) مع اختلافات جزئية، منها مذهب النقد للفيلسوف الألماني كانتْ (Grticisme) ، وهكذا مذهب البراجماتزم (Pragmatism) "النفعية" للفيلسوف الأمريكي وليام جيمس. وسوف يأتي شرح هذه المذاهب، كل على حدة، في المقالة الرابعة المخصصة للبحث في قيمة المعلومات.
    وعندما نتجاوز هاتين الفئتين (السوفسطائيين والمشككين) نصادف أناساً يطلق عليهم " أصحاب الجزم واليقين" أي أنهم يقولون بالقيمة القطعية للمعلومات (أنا أعرف أن العلم والإدراكات مطابقة للواقع). وتعتقد هذه الفئة بأن الفكر إذا سار على أسلوب منطقي صحيح فهو يظفر بحقائق لا تقبل الترديد وهي مطابقة للواقع.

    وتنقسم هذه الفئة إلى قسمين:
    القسم الأول أتباع الفلسفة الأولى (الميتافيزيقية) ومن جملتهم أفلاطون وأرسطو وأتباعهما من اليونانيين القدماء، وجميع الفلاسفة المسلمين وديكارت ولينتس واسبينوزا وفلاسفة آخرون من الأوربيين المحدثين.
    وتعتقد هذه الفئة بالحقيقة المطلقة وبأن الواقعيات تنعكس (في الجملة) في أفكارنا كما هي عليه في الخارج دون أن تتصرف فيها أذهاننا ودون أن تضفي عليها لوناً منها. ونحن نعلم أن المنطق القديم الذي شيدت عليه الفلسفة الأولى وكذلك الأصول الفلسفية التي شادها ديكارت كلها قائمة على أساس استيعاب الحقائق المطلقة. ولكنه يوجد بعض الاختلاف بين آراء القدماء وآراء ديكارت وأتباعه، وقد فصلنا القول فيه في مقدمة المقالة الرابعة.
    القسم الثاني: وهم النسبيون، وهم القائلون بالحقائق النسبية وسوف يأتي في المقالة الرابعة شرح عقائد هذه الفئة.
    ويعتقد الماديون الديالكتيكيون بنسبية الحقائق وهي مأخوذة من النسبيين، ونحن نركز الحديث هنا حول أقوال هؤلاء فقط.
    إن هؤلاء يعتبرون أنفسهم اتباعاً لمنطق خاص قد بيّن أصوله الفيلسوف الألماني هيجل. وهم يقولون:
    "إن مقياس الإنسان لمعرفة الحقيقة هو العمل والتجربة فكل علم يصدقه العمل فهو صحيح وإلا فهو خاطئ. والدليل على صحة العلوم الطبيعية في عصرنا هو أننا نشاهد المصانع يومياً وهي تنتج لنا عملياً ضروريات الحياة. ومن ناحية أخرى يقولون أن منشأ العلم هو التأثيرات الحاصلة في الأعصاب نتيجة احتكاكها بالخارج بوساطة السمع والنظر وغيرهما، ولكن أعصابنا أيضاً تترك تأثيراً منها على ما اكتسبته الحواس، ولما كان الجهاز العصبي لكل حيوان مختلفاً مع الجهاز العصبي لحيوان آخر، والجهاز العصبي لكل فرد من الإنسان مختلفاً مع الفرد الآخر، إذن لا بد أن تختلف هذه التأثيرات فيما بينها.، وعلى هذا فإنه في الوقت الذي يكون فيه كل علم وإدراك حقيقياً فهو متعلق - بشكل خاص- بنوع الجهاز المادي لسلسلة الأعصاب في الشخص المدرك، ويتدخل فيه أيضاً التأثير الخاص لمخ المدرك. فالحقائق إذن نسبية، أي إنها واقعية ومع ذلك فهي مرتبطة بطريقة تكوين المخ في المدرِك وبالملابسات الزمانية والمكانية أيضاً.
    يقول الدكتور الآراني في الصفحة (34 ) من المادية الديالكتيكية:
    "من التافه جداً أن تتوقع المذاهب المخالفة لنا إدراك صورة للخارج دون أن يتصرف فيها فكرنا ويترك فيها أثراً منه. وفي الحقيقة فإن هذا التصرف هو المعرفة، وهؤلاء الباحثين وراء عين الحقيقة والحقيقة المطلقة ووراء المفاهيم الفارغة الأخرى مثلهم مثل من يحاول أن يتم عمل الهضم دون أن يدخل الغذاء إلى المعدة ودون أن تؤثر المعدة على هذه المواد الغذائية".
    وأنتم تلاحظون أن الماديين يعتقدون بكون المحسوسات بالنسبة إلى الفكر مثل المواد الغذائية بالنسبة للمعدة. والمعرفة إنما هي تأثير مادي خاص تتركه سلسلة الأعصاب على تلك الظواهر المادية المحسوسة مثل التأثير الخاص التي تتركه المعدة على المواد الغذائية، وكما أن المعدات تختلف فيما بينها في الهضم فكذلك الأعصاب مختلفة فيما بينها.
    ويقول أيضاَ في نفس الصفحة الماضية:
    "إن بناء السلسلة العصبية بشكل خاص يؤثر في المعرفة لأن هذا التأثير هو المعرفة. ونحن نعلم أن أعصاب الإنسان تعمل بشكل مختلف عن الحيوانات الأخرى فقد تنفر رائحة ما الإنسان ولكنها تجذب حيواناً آخر، وقد يثير لون ما حالة في حيوان وهو بنفسه يثير حالة أخرى في حيوان آخر، أو قد يلذّ لحيوان آخر سماع صوت ما بينما ينفر منه حيوان آخر. وقد تبدو درجة حرارية معينة باردة بالنسبة إلى حيوان وهي بنفسها تبدو ساخنة لحيوان آخر. وملخص الكلام أننا نعتقد بتأثير التكوين العصبي في المعرفة. ولكنه لا ينبغي أن نستنتج من هذا أننا لا نستطيع أن نعرف عين الحقيقة لأننا قد ذكرنا أن مفهوم كلمة " المعرفة" شامل لهذا التأثير الخاص أيضاَ".
    وبغض النظر عن الإشكالات الواردة على هذا الحديث والتي ستذكر في المقالة الرابعة بشكل مفصل فنحن بالتفات بسيط يتضح لنا أن موضوع الحقائق النسبية الذي يعتقد به الماديون يؤدي بهم في النتيجة إلى مذهب المشككين وهو ليس شيئاً جديداً وإنما هو نفس ما ذكره المشككون ونفوا فيه القيمة القطعية للمعلومات بسبب اختلاف إدراكات الموجودات التي تدرك. وأحد الأدلة التي يذكرها "بيرون" مؤسس مذهب المشككين ضمن الأدلة العشرة - لنفي القيمة اليقينية للمعلومات هو اختلاف الإدراكات في الأشخاص المختلفين.
    وما ذكرناه في بدء الحديث. من أن اتباع المادية الديالكتيكية هم من جملة أصحاب الجزم واليقين فذلك إنما هو حسب ادعائهم، وإلا فإنه لا يوجد في الحقيقة مذهب ثالث غير مذهب ثالث غير مذهب الشك (سيتي سيسم) والمذهب الميتافيزيقي بالنسبة إلى بيان قيمة المعلومات. فأما أن نكون تابعين للأصول الميتافيزيقية أو لأصول مذهب الشك.
    وسوف يأتي تفصيل أكبر لهذا الموضوع في المقالة الرابعة).
    وإن يخطوا بخط البطلان على المنطق القديم الذي روّج هذه

    [ 98 ]
    المفاهيم ومنحها صفة الشرعية، وأن يشيدوا مكانه منطقاً جديداً أسموه بالمنطق الديالكتيكي.
    ولا يمكن أن نتصور - حسب القواعد الديالكتيكية- مفهوماً لا كلياً

    [ 99 ]
    أو ثابتاً أو مطلقاً، ولا أن نصدق به. وكل تصور أو تصديق فلا بد أن يكون متغيراً جزئياً نسبياً، لأنه حسب قانون العلية والمعلولية

    [ 100 ]
    يكون الفكر (الإدراك) وليد المادة ونتيجة جبرية تحولية لما يظهر في مجموع والديه.

    [ 101 ]
    وهذه الظاهرة بنفسها لم تبق لحظة واحدة على حالها وإنما هي متحولة في كل آن ظواهر جديدة تأتي الواحدة منها بعد الأخرى. فالفكر - الذي هو الوليد المادي لظاهرتين ماديتين - إنما يشكل ظاهرة

    [ 102 ]
    ثالثة ليست متساوية للظاهرة الأولى (الجزء المادي الخارجي) ولا هي مساوية للظاهرة الثانية (جزء المخ).
    ويقتصر حديثنا على هذه الجملة الأخيرة ولا شأن لنا في بقية الكلام بل نؤخر الحديث فيه إلى مجال آخر.
    إن مضمون هذه الجملة هو:
    (إن الفكر وليد شيئين هما جزء من المادة وجزء من المخ ، وهو بنفسه غير هاتين الظاهرتين).
    وهنا نتساءل:
    ألا تتضمن هذه الجملة اعترافاً صريحاً بأن المعلوم (وهو جزء المادة) لا ينتقل بنفسه إلى أفكارنا وإن أفكارنا وإن الذي يحل في الفكر هو شيء غير الواقع الخارجي ( لكي يتضح المقصود من هذا لا بد من تقديم مقدمة وهي أن العلم في العرف الفلسفي على نوعين: علم حضوري وعلم حصولي.
    فالعلم الحضوري هو العلم الذي يحضر فيه عين الواقع المعلوم لدى العالم (النفس أو أي مدرك آخر) ويظفر العالم بشخصية المعلوم، كعلم النفس بذاتها وحالاتها الذهنية والوجدانية.
    أما العلم الحصولي فهو الذي لا يحضر فيه واقع المعلوم عند العالم وإنما يظفر العالم فيه بصورة للمعلوم، مثل علم النفس بالموجودات الخارجية من قبيل الأرض والسماء والشجر والناس الآخرين وأعضاء بدن المدرك نفسه.
    ففي العلم الحضوري وحسب التعريف السابق يكون العلم والمعلوم شيئاً واحداً، أي أن وجود العلم هو عين وجود المعلوم، ويكون فيه انكشاف المعلوم عن العالم بوساطة حضور المعلوم بنفسه عند العالم، ولهذا سمي بالعلم الحضوري. أما العلم الحصولي فهو على خلاف ذلك حيث أن واقع المعلوم فيه غير واقع العلم، ويكون فيه انكشاف المعلوم للعالم بوساطة مفهومه أو صورته عند العالم. وبعبارة أخرى بوساطة حصول صورة المعلوم عند العالم، ولهذا سمّي بالعلم الحصولي. وكل معلوماتنا عن العالم الخارج عن أذهاننا إنما هي من العلم الحصولي.
    وفي العلم الحصولي يظفر الذهن-أولاً وبالذات وبلا وساطة - بالمفاهيم والصورة الذهنية، ولكن توجد لهذه المفاهيم خاصة مهمة وهي كونها مرآة للخارج بحيث يتخيل الإنسان لأول وهلة أنه قد ظفر بالعالم الخارجي دون وساطة. ثم يقول في المرحلة الثانية أن هذه المفاهيم التي أتصورها عن الأرض والسماء لها وجود في الخارج. ويقول في المرحلة الثالثة أن منشأ ومبدأ ظهور التصورات الذهنية هو التأثيرات الخارجية.
    إذن صحيح أن الذهن يدرك في المراحل المتأخرة أن ظهور الصور الذهنية كان بسبب التأثيرات الخارجية ولكنه لا بد أن يلاحظ قبل ذلك ما هي العلاقة بين المفهوم الذهني والوجود الخارجي ؟
    فقبل أن تصل النوبة إلى المرحلة الثالثة فإنه في المرحلة الأولى يدرك أن المفاهيم تعكس العالم الخارجي، ثم يقول الإنسان لنفسه في المرحلة الثانية أن هذه الأشياء التي توجد صورها في ذهني من قبيل الأرض والسماء والشجر ألها واقع خارجي؟
    وأخيراً فما هي الخاصة المتوفرة في العلم والتي تدفع العالم ليلتفت إلى الواقع الخارجي؟
    وكل إنسان مثالياً كان أم واقعياً ولأي مذهب كان نابعاً فهو يعتقد -يحسب الفطرة - بأن للعلم خاصة الكشف التام عن الخارج ولا يشك في أن نفس ما في الذهن -لا شيء آخر- له واقع خارجي. فهناك إذن وحدة وعينية بين الذهن والخارج (سوف يشرح هذا الموضوع بالتفصيل في المقالة الرابعة)، ولكن تحليل هذا الموضوع الفلسفي يعدّ من أهم المسائل الفلسفية، وتنبع منه مسألة قيمة المعلومات التي أشرنا إليها في التعليقة السابقة.
    وقد أعفى المثاليون (السوفسطائيون) أنفسهم من تعقيدات هذا الموضوع وذلك بإنكارهم للواقع الخارجي (حسب الدعوى الفلسفية لا بحسب الفطرة) وليس حديثنا معهم في هذا المجال .
    أما اتباع المادية الديالكتيكية فقد اعتبروا أنفسهم في الجهة المقابلة للمثالية واختاروا في هذا المجال نظرية تؤيد مائة بالمائة ما ادعاه المثاليون.
    فالديالكتيكيون يقولون أن الفكر (الإدراك) جزء من الطبيعة ووليد سائر أجزاء الطبيعة. فكما أن سائر أجزاء الطبيعة توجد في أثر الفعل والانفعال الطبيعي فكذلك المفاهيم والتصورات فهي ظواهر مادية توجد في أثر الفعل والانفعال الحاصلين بين الخارج والمخ، والعلاقة بين هذه المفاهيم والواقع الخارجي هي علاقة الولادة والأمومة.
    ويظهر أمامنا هنا هذا السؤال:
    إذا كانت العلاقة بين العلم والمعلوم هي علاقة الولادة فحسب، فما هو معنى قولنا أن العلم يكشف عن الواقع؟
    هذا أولاً، وثانياً: إن كل مفهوم يظهر في الذهن (لاحظوا أن كل معلوماتنا عن الخارج إنما هي عن طريق هذه المفاهيم) من قبيل الإنسان والحيوان والنبات والجماد وغيرها لا نستطيع أن ندعي بأن له مصداقاً خارجياً وإنما نستطيع القول فقط بأن به منشأً خارجياً، وإذا لا حظنا أن كل معلوماتنا عن الخارج إنما هي عن طريق المفاهيم فلا بد أن نقول أن كل المفاهيم التي في أذهاننا ليس لها واقع خارجي. وهذا هو نفس ما يقوله المثاليون.
    وثالثاً: إذا لم يكن العلم بذاته كاشفاً عن الواقع فمن أين عرفنا أن الواقع الخارجي موجود وأنه منشأ ومولد هذه المفاهيم والصور؟
    وقد لاحظ القارئ الكريم في التعليقة السابقة أن الماديين الديالكتيكيين اختاروا لأنفسهم نظرية في موضوع قيمة المعلومات أدت بهم مذهب المشككين.وأما في هذه المسألة (وهي مسألة ماهية العلم) فانهم اختاروا نظرية تنتهي بهم إلى مذهب السوفسطائيين. وسوف يأتي في المقالة الرابعة والخامسة التحقيق في مسألة ماهية العلم بناء على أصول الفلسفة الأولى (الفلسفة الميتافيزيقية)؟

    [ 103 ]
    وحينئذ يظهر هذا السؤال:
    إذا كان الواقع الخارجي لا ينتقل بذاته إلى الفكر فمن أين عرفنا أن هناك واقعاً خارجاً وإن فكرنا وليد ذلك الواقع مع أننا كلما فرضنا شيئاً في الخارج فهو فكر غير الواقع الخارجي؟

    [ 104 ]
    إذن ينتج من هذا أننا لا طريق لنا الإطلاق إلى الخارج أي أننا لا علم لنا أصلاً بالخارج وهذا بعينه حديث المثاليين.
    ويجيبنا العلماء الديالكتيكيون
    بأنكم تفكرون بطريقة ميتافيزيقية وتأخذون المفاهيم بصورة

    [ 105 ]
    مطلقة فتورطكم في الخطأ، وتحاولون أن تحملونا مسؤولية نفي العلم بالخارج المطلق، ولكن هذا لا يلحق بنا أي ضرر لأن الخارج المطلق

    [ 106 ]
    ليس له وجود في حدود العلم، ونحن دائماً ليس لدينا بالنسبة إلى الخارج إلا علم نسبي.
    ونحن نقول في جوابهم
    إن في جوابكم الماضي اعترافاً بوجود الفكر التصوري والتصديقي المطلق لأنكم قد وافقتم على وجود وافقتم على وجدود هذا الفكر في عقولنا ولكنكم نفيتم صحته بعد ذلك (أي أن الصحة المطلقة قد نفيتموها نفياً مطلقاً، وإلا فإن الصحة المطلقة لا تتنافى مع النفي النسبي).
    ثانياً: إذا كان العالم الديالكتيكي فعلاً يتعقل الخارج تعقلاً نسبياً فلا بد أن يعترف بالواقع المطلق والتعقل المطلق لأن قوله التعقل نسبي يعني فيه وصف التعقل بالنسبية، ونحن نعلم أن الموصوف لا بد أن يغاير الصفة، إذن لابد أن يكون التعقل هنا بذاته غير نسبي ولهذا جاز وصفه بالنسبية.بل وكيف يمكننا أن نتصور أمراً نسبياً دون وجود أمر مطلق؟
    ثالثاُ: إن المثالية عندما تنفي العلم بالواقع الخارجي فمقصودها هو العلم المطلق بالخارج (لأننا كلما تصورنا الخارج فهو فكر غير الخارج)، وعلى هذا فما هو السبب الذي دفع العلماء الديالكتيكيين ليشنوا الحرب على مشاركيهم في العقيدة (وهم المثاليون) ويدحضوا آراءهم؟

    [ 107 ]
    ويجيب الديالكتيكيون مرة أخرى
    إن الواقع الخارجي في تحول دائم وليس ثابتاً، والتغيير هو عين ذاته، والصفة والموصوف هنا شيء واحد وإن اضطررنا أن نعبر عن هذا المصداق الواحد بمجموع مفهومين، وهذا هو الذي حمل الميتافيزيقي على الظن بأن هناك مفهومين مطلقين.
    ونجيب على هذا الأمر
    بأننا نعترف بوقوع التغيير والتحول في المادة الواقعية ولكننا ننكر أن تكون للفكر هذه الخاصة. وهذا الذي تقولونه من أن هذا المفهوم مطلق وثابت في ظنكم هو بنفسه دليلنا على مدعانا.
    الملاحظة الثالثة
    المثالي الحقيقي هو ذلك الشخص الذي ينكر مطلق الواقعيات وهو بمعنى النفي المطلق. وهؤلاء قليلون في هذا الزمان بل لعلهم لا وجود لهم إطلاقاً، ولكن التاريخ قد سجل أن بعض القدماء قد تمسكوا بهذا المذهب. وعلى أية حال فالمثالي (السوفسطائي) الحقيقي هو مثل هذا الشخص.
    ومع هذا فنحن لا نستطيع أن نصدق بوجود إنسان يتمتع بخلقة سوية ويؤدي الأعمال التي يؤديها سائر أفراد الإنسان ثم لا توجد لديه العلوم والإدراكات التي توجد في سائر أفراد نوعه.

    [ 108 ]
    وكل فرد منا لاحظ بالتجارب آلاف الأعمال من نفسه وهي تنبع من مختلف العلوم وبعنوان كونها نظرة واقعية (وليس بعنوان كونها فكرة).وكل فعل إرادي منه فهو يعتمد على الإرادة، والإرادة تعتمد على العلم، وكذلك فإن كل فرد منا قد لاحظ آلاف الأفراد الآخرين من نوعه وهم يؤدون آلاف الأعمال بإرادة وعلم، وهذه العلوم والأفكار تنبع من الخارج (من البديهي أن واقعية العلوم والأفكار ليست بنحو واحد كما سيصح ذلك في المقالات اللاحقة).
    ومن هنا يتبين أن المثالي الحقيقي هو أحد شخصين:
    1-ذلك الشخص الذي اختلطت عليه بعض العلوم والأفكار النظرية ولكنه في نفس الوقت الذي يحتفظ في ذهنه بالعلوم والأفكار العلمية والنظرية اللازمة للحياة اليومية وتكون منشأ الأثر عنده فهو يلتفت إلى الاختلافات والتناقضات الواقعة في أفكار وآراء العلماء أو إلى الأخطاء التي يلاحظها في الحواس عنده وحينئذ لا يحسب حساب المعلومات المحفوظة عنده ويغفل عن واقعيتها ويتعلق فقط بالتناقضات السابقة ثم يدعي أن العلوم والإدراكات لا تكشف عن الخارج أي أننا لا نعلم بشيء أبداً.
    2-ذلك الشخص الذي لم تصادقه آفة ذهنية وإنما هو يتمسك بهذا المذهب لتحقيق بعض الأهداف المنحرفة وللتحرر.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [ 109 ]

    المقَــــالة الثَـــالثة

    [ 110 ]

    العلم والإدراك
    يتعلق الحديث في هذه المقالة بالعلم (الإدراك) حيث ندقق في هويته ونفحص سنخ واقعيته(سوف نثبت في هذه المقالة أن الروح والخواص الروحية مجردة من المادة وندحض عقيدة الماديين القائلة أن الروح والإدراكات الروحية من الخواص المعينة للمادة، وذلك بإبطال الأدلة التي يذكرونها لمدعاهم.
    ولابد أن نتساءل هنا بأن العلم والإدراك المبحوث عن ماهيته وواقعيته أهو من سنخ المادة أم مجرد منها؟ وفي هذه المقالة يقصد به ما يشمل الإدراك الحسي والخيالي والعقلي. ولكي يحيط القارئ الكريم بأهداف هذه المقالة نذكر الفرق بين هذه الأمور الثلاثة.
    يقول القدماء والمتأخرون أيضاً أن الإدراكات الإنسانية للخارج لها ثلاث مراحل: مرحلة الحس- مرحلة الخيال- مرحلة التعقل.
    مرحلة الحس: وهي عبارة عن صور الأشياء التي تنعكس في الذهن في حالة المواجهة أو المقابلة أو الاتصال المباشر للذهن بالخارج وذلك باستعماله حاسة من الحواس الخمس (أو أكثر). فمثلاً عندما يفتح الإنسان عينيه ويتأمل في منظر أمامه فإن صورة من هذا المنظر تنعكس في ذهنه، وتلك الصورة هي بنفسها الحالة الخاصة التي يشاهدها الإنسان في ذاته حضوراً ووجداناً، وهذا هو ما نسميه بالمشاهدة. أو عندما يصافح إذنه صوت شخص يتكلم، فهذه الحالة في وقت صدورها نطلق عليها اسم السمع.
    مرحلة الخيال: عندما ينتهي الإدراك الحسي فإنه يخلف أثراً في الذهن،أو بتعبير القدماء أنه بعد ظهور الصورة الحسية في الحاسة تظهر صورة أخرى في قوة أخرى، وهي التي نسميها بالخيال أو الحافظة، وبعد أن تنمحي الصورة الحسية فإن الصورة الخيالية تبقى على حالها ويستطيع الإنسان أن يستحضرها في أي وقت يشاء، وبهذه الوسيلة فهو يتصور الشيء الخارجي. والصورة الخيالية تشبه الصورة المحسوسة مع هذه الفروق:
    أولاً: الصورة الخيالية في الغالب وفي الحالة العادية ليس لها وضوح الصورة الحسية.
    ثانياً: يُحَسّ دائماً بالصورة الحسية أنها بوضع خاص (بنسبة خاصة إلى أجزائها المجاورة) وفي جهة معينة (إلى اليسار أو إلى اليمين أو أمام الوجه أو وراء الظهر) وفي مكان محدد. فمثلاً كلما شاهد الإنسان شيئاً فهو يشاهده في مكان معين وجهة معينة وملابسات محددة. أما إذا أراد الإنسان أن يتخيل ذلك الشيء الذي رآه مراراً وبأوضاع وجهات مختلفة وأماكن متعددة فهو يستطيع أن يجسّمه أمام خياله دون أن يلتفت إلى وضعه وجهته ومكانه الخاص.
    ثالثاً: يوجد شرط في الإدراكات الحسية وهو اتصال قوي الحواس بالخارج وبمجرد زوال هذا الاتصال فإن الإدراك الحسي يزول معه أيضاً. أما الإدراكات الخيالية للذهن فهي ليست بحاجة إلى الخارج ولهذا تكون الإدراكات الحسية خارجة عن اختيار الشخص المدرك، فلا يستطيع الإنسان عادة أن ينظر إلى وجه إنسان غير حاضر أو يسمع صوته أو يشم عَرْف وردة ليست موجودة قربه، ولكنه يستطيع أن يتخيل هذه جميعاً ويتصورها في أي وقت يشاء.
    مرحلة التعقل: إن الإدراك الخيالي جزئي أي أنه لا يمكن أن ينطبق على أكثر من فرد واحد، ولكن ذهن الإنسان قادر بعد إدراك عدة صور جزئية على صياغة معنى كلي يمكن انطباقه على أفراد كثيرة، فهو بعد أن يدرك أفراد كثيرة يلاحظ في هذه الأفراد صفات مختصة بكل فرد من الأفراد ولكنه يلاحظ أيضاً صفات مشتركة بينها، أي أنه يلاحظ شيئاً في فرد ثم يلاحظه بنفسه في فرد آخر وثالث ورابع و .... ورؤية هذا الشيء في أفراد متعددين تهيئ الذهن ليكوّن من ذلك الشيء صورة كلية يمكن انطباقها على كثيرين . وهذا اللون من التصور يسمى بالتعقل أو التصور الكلي.
    هذه ألوان ثلاثة من الإدراك يتصف بها الإنسان، وكل إنسان يدرك هذا في نفسه بالعلم الحضوري.
    وقد كان الفلاسفة المسلمون- تبعاً للفلاسفة اليونانيين- يقولون أن القوة العاقلة فقط وهي التي تدرك الكليات هي المجردة من المادة. وكل براهينهم التي أقاموها على تجرد النفس تنصب على القوة العاقلة فحسب.
    أما صدر المتألهين فهو يعتقد بأن قوة الخيال وكل القوى الباطنة مجردة من المادة. وهو يثبت هذا طريق عدم تطابق خواص هذه مع الخواص العامة للمادة والمذكورة في هذه المقالة).

    [ 111 ]

    ولما كنا قد بحثنا في المقالة الثانية عقائد المثاليين وأصحاب السفسطة فإن من الواجب علينا أن نتناول بالبحث بعده مباشرة موضوع العلم (هوية العلم-مقدار كشفه عن الواقع- قيمة المعلومات - الخطأ في العلم- ظهور الكثرة في العلوم- الاختلافات الواقعة في الأسرة العلمية)، ولولا هذه المناسبة لأصبح مكان هذا

    [ 112 ]

    البحث في الفلسفة متأخراً عن كثير من المواضيع الأخرى لتوقف البرهان فيه عليها.
    ونضرب لذلك مثالاً
    لو تأملنا في صورة طولها (12) سم وعرضها (8) سم وهي تضم منظراً رائعاً تستريح فيه عائلة مكونة من عدد من الأفراد.

    [ 113 ]

    في هذا المنظر توجد بحيرة يتكسر فيها الضوء على الماء فيبدو كأنه فضة وتهتز فيها الأمواج فيطرب الإنسان لنغماتها وتمر النسمات الهادئة على وجهه فتنعش روحه.
    وإلى جانب هذه البحيرة توجد حديقة غناء بأرضها الخضراء وأشجارها الفتية تتمايل وتختال بقدها الجميل ويهز أغصانها نسيم عبق يملأ النفس حباً وهياماً.
    ويمتد أفق هذا المنظر إلى خمسة عشر كيلومتراً وينتهي بصف من الجبال كأسنان المشط. ويشبه هذا المنظر لوحة فنية تستقر في حضن طفل، وهي تضم قمماً شاهقة كأنها تتطلع وتنظر.
    وفي زاوية من هذه الحديقة الرائعة قد فُرش بساط جلس عليه رجل تدل تقاطيع وجهه على أنه يقارب الأربعين عاماً مع بعض الأطفال في جو من العطف والحب يشير إلى أنهم أطفاله وأمامهم طبق من التفاح.
    وفي هذه الحلقة ينشغل أحدهم بأكل تفاحة في يده، والآخر منصرف إلى شم تفاحته، والثالث مع أنه يمسك بتفاحته ولكنه لم يكتف بها وإنما ارتمى في حضن أبيه يطلب المزيد، والآخر مع أنه غير محروم ولكنه قد ألقي بنفسه على الطبق يريد أن يحرم منه الآخرين.
    إنه صراع ونزاع.

    [ 114 ]

    وهذه النظرة هي النظرة الأولى.
    أما إذا عدنا إلى الصورة مرة أخرى فسوف نلاحظ فقط قطعة من الورق الصقيل الأبيض تتناثر عليها نقاط سود بأشكال مختلفة بعضها كبير نسبياً وبعض صغير، وبعضها بعيد أو قريب من البعض الآخر أي أن الفواصل بينها كبيرة أو صغيرة.
    وهذه النظرة هي النظرة الثانية.
    والآن إذا سُئلت أهذا المنظر العريض بكل ميزانه التي وصفت (ومن الواضح أنه كلما ازددت تأملاً ازدادت المعلومات التي تفهمها من المنظر) قد كان في يدك واقعاً وكانت كل هذه المعلومات مخزونة في مساحة (12×8) سم‌‍‍2؟
    فما هو جوابك؟
    من البديهي أنك سوف تجيب: كلا.
    فليس من الممكن أن يخزن منظر بطول خمسة عشر كيلوا متراً بتلك المحتويات المتنوعة وذلك الطول والعرض والعمق والمسافات المختلفة والخواص الجسمية والروحية المتنوعة مما يظهر فيه- ليس من الممكن أن يخزن كل هذا في صفحة بمساحة (12×8)سم2، وأيضاً لا يمكن أن يقال ذلك.
    نعم أن هذه الصورة "تشير" إلى المنظر، وإلا فإن الصفحة الورقية لا تحتوي سوى النقاط السود والبيض التي التقطتها "الكاميرا".
    لاحظ الاختلاف العظيم بين النظرتين.

    [ 115 ]

    عودة إلى الموضوع الأصلي
    لقد أثبتت التجربة والمشاهدة (يثير الماديون لإثبات كون الروح والأمور الروحية مادية (أو لتشويش الموضوع وإلقاء الرعب في قلوب المعارضين) موضوعات متنوعة من مختلف العلوم، من قبيل الفيزياء والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) وعلم النفس وغيرها مما لا يرتبط بالمدعى ويخيلون للآخرين إن في هذه المواضيع دليلاً قاطعاً على كون الروح والمواضيع الروحية مادية، ولهذا رأينا من اللازم أن نقدم بعض المقدمات التي تهيئ القارئ الكريم لأصل الموضوع:
    أ- أن كل إنسان يعترف بالبداهة والحضور-بوجود مجموعة من الأمور الذهنية المسماة بالعلوم والإدراكات،وهي أوضح عنده من وجود العالم الخارجي، لأنه لو فرضنا وجود إنسان (من قبيل المثاليين) يتردد في وجود العالم الخارجي ويبطل الإدراكات أي لا يعتبرها مطابقة للواقع فإنه لا يستطيع أن يتردد في وجود الإدراكات أنفسها. إذن وجود هذه المجموعة من الأمور الذهنية - التي يعيها كل إنسان بالعلم الحضوري -بديهي وليس بحاجة إلى دليل علمي ولا فلسفي.
    ب-لقد أثبتت بحوث العلماء الأقدمين والمحدثين أن هناك مجموعة من العوامل المادية الخاصة الموجودة خارج الذهن بكيفية ووضع خاص وهي تؤثر ظهور الإدراكات الحسية، أما كيفية هذا التأثير فهي مشروحة في العلوم الطبيعية، ولكل واحد من العلماء بدوره نظرية في هذا المضمار.
    ويتناول علم الفيزياء الحديث مواضيع تدور حول الضوء والصوت وغيرهما، وما هي أمواج الأثير؟ وكيف تقتحم العين وتؤثر على أعصابها؟ وما هي الأمواج الصوتية؟ وفي أية ظروف تؤثر على أعصاب السمع؟
    وأثبتت تلك البحوث أن لمجموعة الأعصاب في الإنسان والحيوان وظيفة معينة مثل سائر أعضاء البدن، وهي تؤدي أعمالاً خاصة وتتأثر بالعوامل الخارجية وهي تبدي رد فعل أحياناً . وتشرح هذه النشاطات العصبية في علم الفسيولوجيا.
    وهذان الموضوعان (وهما حدوث مجموعة من العوامل الواقعية في الخارج وحدوث النشاطات العصبية) يعترف بهما كل العلماء "الواقعيين" المؤمنين بالعلم الخارجي، روحيين كانوا أم ماديين. ويختلف الروحيون عن الماديين في موضوع آخر سوف نذكره قريباً.
    وينبغي الالتفات إلى هذه الملاحظة وهي أن الإنسان لا يعي النشاطات العصبية في مخه بوساطة العلم الحضوري،وإنما يعلمها الإنسان عن طريق الاكتشافات العلمية التي ينجزها العلماء.
    ج-أن الأمور الروحية والنفسية - مثل كل أشياء الكون - تتبع أصولاً وقواعد وقوانين معينة،وتسيطر علاقة العلية والمعلولية على هذه الأمور فيما بينها أو بين كل واحد منها والمواد البدنية أو العوامل الخارجية.
    ويبين علم النفس الحديث هذه الأصول والقوانين حسب أسلوبه الخاص (وهو المشاهدة والتجربة).
    ولم يدعّ العلماء ولا الفلاسفة الروحيون أبداً أن الروح والأمور الروحية متحررة تماماً من كل قيد وقانون ولا تتبع أية قاعدة علمية وإنما أثبتوا فقط أن الروح والأمور الروحية ليس لها تلك الميزات المختصة بالمادة، ولا تسيطر عليها القوانين المادية.
    إذن ما ينسبه بعض الماديين - عن علم أو عن غير علم - إلى العلماء الروحيين ليس له أساس على الإطلاق.
    يقول الدكتور الآراني في كتاب "يسيكولوزي"،أي علم النفس، في الصفحة (6) بعد أن يبين التغييرات الحاصلة في أسلوب التحقيق العلمي في أوربا منذ القرن الثامن عشر فما بعد - يقول:
    "إن هذا الأصل الكلي أصبح سائداً منذ هذا الوقت في كل التحقيقات العلمية، وأصبح التحقيق العلمي يعني الفحص الدقيق والعميق. ولا يتم هذا الفحص الدقيق العميق إلا حينما يقترن العلم بالعمل، وترتبط التغييرات التي أثبتتها التجارب العلمية ببعضها بوساطة التفكير، وتفهم علاقات العلية والمعلولية التي تربط بينها".
    ويواصل المؤلف حديثه بعد عدة أسطر فيقول:
    "منذ القرن السابع عشر ظهر الفلاسفة العقليون ( Rationalist) من قبيل هوبز واسبينوزا وليبنتس،وأدخلوا تغييرات مهمة على العقائد العلمية في باب الروح وغيّروها تماماً. وأوضح هؤلاء الفلاسفة لأول مرة أن كل التغييرات الروحية تتبع سلسلة من القوانين الثابتة المعينة، وعلى العكس مما تدعيه مذاهب وأديان القرون الوسطى فإن الروح ليست متحررة، وهي لا تستطيع أن توجد أثراً بذاتها، وما نشاهده من علاقة العلة والمعلول في العلوم الأخرى ولا سيما العلوم الطبيعية فهو موجود بدقة وبصورة كاملة في علم الروح . واكتشف "هوبز" قانون الجبر في الروح وهو يشبه قانون نيوتن في الميكانيك، وهذا القانون يقول: إن أية قضية روحية لا تولد بدون سبب ولا تزول من غير علة"
    فهذا الموضوع وهو أن الأمور الروحية تتبع سلسلة من القوانين الثابتة والمعينة، وموضوع كون القضايا الروحية لا تولد بدون سبب ولا تزول من غير علة وموضوع العلاقات بين الأمور الروحية والأمور البدنية أو الأمور الخارجية -كل هذه المواضيع تعتبر من بدايات علم الروح، وقد أقام الفلاسفة أفكارهم على أساسها، ولم تذكر هذه الأمور لأول مرة في القرن السابع عشر، وإنما على العكس من هذا فمنذ القرن السابع عشر فما بعد ظهرت فئة من الفلاسفة في أوربا تناولت مسألة الجبر والاختيار وقالت باختيار الروح، واختيارها يستلزم تحررها من قانون العلة والمعلول، ولكن العلماء يعرفون أن هذه العقائد لم تكن لها قيمة علمية ولا فلسفية.
    والمذاهب والأديان أيضاً لم تنكر هذا الأصل، وقصارى ما يقوله الروحيون هو أن الأمور الروحية تفتقد الخواص العامة للمادة، ولا يقولون أنها تفتقد القانون والقاعدة ولا يقولون أنها لا علاقة لها أبداً بالمادة ولا يدعون أن بين الروح والمادة سدا كسد الصين.
    وإنما الروح -حسب آخر الدراسات التي قام بها الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين ووافق عليها الفلاسفة الذين جاءوا بعده - هو الثمرة العليا للمادة، أي أنه وليد سلسلة من الرقي والتكامل الذاتي للطبيعة. وحسب هذه النظرية فإنه لا يوجد إي سد بين عالم الطبيعة وما وراء الطبيعة، فمن المحتمل أن يتحول موجود مادي إلى موجود غير مادي في مراحل من الرقي والتكامل.
    وننتقل من هذه المقدمات إلى المسألة التي وقع الاختلاف فيها بين الروحيين والماديين وهي:
    ما هي حقيقة الروح والإدراكات الروحية؟
    أهي مجردة من المادة أم هي ظاهرة مادية؟
    وبعبارة أخرى نقول: أن الاختلاف في ماهية وكيفية واقع هذه الأمور وحسب ما مر علينا إثباته في المقالة الأولى فإنه لا يمكن إثبات وجود شيء أو كيفية وجوده (ماهيته) إلا بوساطة المعايير الفلسفية الخاصة فقط. ولا اختلاف بين الجميع فيما ذكر من هذه الأمور الأربعة وهي:
    1-وجود الإدراكات.
    2-حدوث سلسلة من العوامل الخارجية.
    3-حدوث النشاطات العصبية.
    4-وجود سلسلة من القوانين الروحية.
    ويثبت العلماء الروحيّون - عن طريق عدم انطباق خواص الأمور الروحية على الخواص العامة للمادة- إن الأمور الروحية (وهي تلك الأشياء التي نعيها بالعلم الحضوري) ليست مادية، وحينئذ لا يمكن أن تنطبق على النشاطات العصبية. إذن فالنشاطات العصبية مقدمة لظهور سلسلة من الأمور غير المادية وليست عين تلك.
    أما العلماء الماديون فهم لا يلتفتون إلى أصل الموضوع ولا يثبتون لنا أم ما ندركه هو عين هذه النشاطات العصبية وإنما يشذون عن الموضوع ويذكرون مواضيع مأخوذة من الكتب الفيزيائية أو الفسيولوجية أو من علم النفس (بأساليبها الخاصة وهي المشاهدة والتجربة مما يبعدنا عن ماهية الأمور الروحية وكيفيتها) وهي لا ترتبط إطلاقاً بما يقوله الفلاسفة.
    ويتصور هؤلاء أن القائلين بكون الروح والأمور الروحية مجردة لا يعلمون شيئاً مما يقول هؤلاء وإذا فرضنا أنهم قد أحاطوا بهذا علماً لما بقي أي داع لاعتقادهم بتجرد الروح. ي
    مثلاً يقول الدكتور الآراني في كتيب له بعنوان "البشر من وجهة النظر المادية":
    "تحدث في حال التفكير تغييرات مادية أكبر في قشرة المخ وتتجه كمية أكبر من الدم نحو المخ فيمتص غذاءً أكثر ويطرد مواد فسفورية أكثر بحيث تزيد كمية هذه المادة في إدرار الشخص المفكر، أما في حالة النوم حيث تقل أعمال المخ فإنه يمتص غذاءً أقل وهذا بنفسه دليل على كون الآثار الفكرية مادية".
    وسائر الأدلة التي يذكرها الماديون أيضاً من هذا القبيل، أي أنها جميعاً خارجة عن موضوع البحث، بل ادعى بعضهم أكثر من هذا فقال إنني قمت بتشريح البدن فلم أجد أثراً للروح، إذن لا وجود للروح.
    وينقل فيلسين شاله في القسم المسمى بـ "ما وراء الطبيعة" عن "بروسه" أحد علماء وظائف الأعضاء الماديين قوله:
    " إنني لن أؤمن بوجود الروح إلا إذا اكتشفتها تحت مشرط التشريح".
    والحقيقة إن قراءة كتب الماديين تثبت للإنسان إن هؤلاء لم يكن لهم اطلاع صحيح وسليم على عقائد الفلاسفة الإلهيين والروحيين ولا على آراء هؤلاء العلماء فيما يختص بالله والروح وسائر المواضيع، وتنحصر معلوماتهم في هذا المضمار بما هو شائع بين العامة فيما يتعلق بالروح والجن والملائكة، أو بما يقوله المثاليون وهو أحط وأتفه مما يقوله العامة) أننا عندما نستعمل حواسنا فإن

    [ 116 ]

    المادة الواقعية تترك أثراً في سلسلة الأعصاب والمخ وينتج عن هذا رد فعل مادي يظهر فينا بمجرد استعمال ويزول مباشرة بعد

    [ 117 ]

    صرف تلك الحاسة عن وظيفتها. ولكننا نظفر بشيء - نتيجة هذا العمل - نسميه بالإدراك.

    [ 118 ]

    ولا نستطيع أن نقبل كون هذا المنظر العريض للعالم- بكل خصوصياته المحيرة وكل خطوطه وسطوحه وأجسامه التي تتجلى لنا على أنها متصلة- قد خزن واستقر في مجموعة مادية صغيرة من الأعصاب والمخ مكونة من أجزاء منفصلة عن بعضها ومتراكمة وهي بمجموعها أصغر من جسمنا.

    [ 119 ]

    ومن جهة أخرى فنحن نلاحظ اختلافات في أثناء استعمال الحواس (أخطاء الحواس) في الأشياء المحسوسة، ولا يدعنا هذا أن نقول بأن واقع العالم المادي الخارج عنا قد أدركناه كما هو وحصلنا عليه بنفسه.

    [ 120 ]

    إذن هذه الصورة الإدراكية ليست حاله في مادتنا ولا في المادة الخارجة عنا.
    وخلاصة الحديث أنه لما كانت هذه الصورة الإدراكية تفتقد الخواص العامة للمادة (من قبيل الانقسام-عدم انطباق الكبير على الصغير) فهذه الصورة إذن غير مادية.

    [ 121 ]

    إشكـــال

    قد يعترض إنسان على ما ذكرنا فيقول: إن الإدراك هو تلك الحالة المادية الحاصلة في المخ والأعصاب. أما موضوع الكبر والصغر والبعد والقرب فقد حلت البحوث العلمية كل إشكال فيه. فالعلم الحديث يعتقد بأن جهاز الإدراك البصري ليس إلا " آلة تصوير" دقيقة فحسب، وتتجمع كل الأشعة الواردة في النقطة الصفراء للعين فيتحقق الإبصار (كانت هناك نظريتان شائعتان بين القدماء بشأن كيفية الإبصار وكيفية تحقق الرؤية:
    أ-نظرية الانطباع.
    ب-نظرية خروج الشعاع.
    ويعتقد أصحاب نظرية الانطباع بأن عدسة العين جسم شفاف وصقيل مثل المرآة ، ، ولهذا فكل جسم يقف أمامها فإن صورة منه تقع على سطحها فيتحقق الإبصار. وتنسب هذه النظرية إلى أرسطو وأتباعه وإلى محمد بن زكريا الرازي وابن سينا من العلماء المسلمين.
    أما أصحاب نظرية خروج الشعاع فهم يعتبرون عدسة العين جسماً ينبع منه نور تماماً مثل النار والشمس والنجوم، وهم يعتقدون بأن العين يخرج منها شعاع من النور فيصطدم بالجسم المقابل لها فيتحقق الإبصار.
    وانقسم أصحاب هذه النظرية إلى فئتين: أولاهما تعتقد أن ذلك الشعاع مخروطي الشكل يقع رأسه في العين وقاعدته على الجسم المرئي، والأخرى تعتقد بأنه اسطواني الشكل، وطرفه الواقع على الجسم المرئي يكون دائماً في حركة واضطراب. وتنسب هذه العقيدة إلى أفلاطون وجالينوس وأتباعهما. واعتنقها من العلماء المسلمين نصير الطوسي وعدة آخرون.
    وقد سرد اتباع كل من النظريتين أدلة لصالحهم وضد خصومهم، وهي مذكورة في كتب الفلسفة. ومن جملة الإشكالات التي وجهها أصحاب نظرية خروج الشعاع إلى أصحاب نظرية الانطباع هو إشكال عدم انطباق الكبير على الصغير المشار إليه في المتن. وأجاب عليه أصحاب نظرية الانطباع بنفس الجواب المذكور في المتن. وهذا الجواب مقبول اليوم يبن العلماء الطبيعيين.
    وللشيخ شهاب الدين المعروف بشيخ الإشراق عقيدة ثالثة ليست مهمة ولهذا أعرضنا عن ذكرها.
    وللفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين رأي خاص في باب حقيقة الإبصار فهو يقول: على فرض صحة أية واحدة من هاتين النظريتين فإن ذلك لا يفسر حقيقة الإبصار لأن كلتا النظريتين تتعلقان بالعمل الطبيعي (الفيزيائي) للعين، والإبصار هو ما وراء العمل الطبيعي. وبإثبات هذا العالم لنظريته في باب اتحاد العاقل والمعقول واتحاد الحاس والمحسوس فقد أثبت أن النظر هو لون من النشاط الإبداعي للنفس، ويعتبر العمل الطبيعي (الفيزيائي) مقدمة له، فبعد أن يتم العمل الطبيعي تقوم النفس - بقدرتها الفعالة - بإبداع وإنشاء صورة مماثلة للشيء المحسوس في جانب منها.
    يقول صدر المتألهين في الجزء الرابع من الأسفار ضمن رده لنظرية أصحاب الانطباع:
    "وهذا بعد تمامه إنما يدل على انطباع الشبح فيه لا كون الإبصار به".
    وفيما يتعلق بنظرية خروج الشعاع يقول:
    "نحن لا ننكر أيضاً تحقق الشعاع من البصر إلى المرئي صورته لكن نقول لا بد في الرؤية من حصول صورة المرئي للنفس".
    وحسب نظرية صدر المتألهين فإن كلتا النظريتين السابقتين تفسران فقط العمل الطبيعي (الفيزيائي) للعين، ولا تفسران حقيقة الرؤية والإبصار من الناحية الفلسفية.
    وطبق الدراسات الأخيرة للعلوم الطبيعية في موضوع الضوء من جهة وفي كيفية تركيب العين من جهة أخرى فقد أصبح من المسلم أن هاتين النظريتين خاطئتان حتى من ناحية تفسير العمل الطبيعي للعين، أي أنه ليس انطباعاً ولا خروجاً للشعاع. وتقول الدراسات العلمية الحديثة أن جهاز العين تماماً مثل آلة التصوير (الكامرا)، فالأشعة المباشرة أو المنعكسة من الجسم المرئي تقتحم العين وتمر خلال الغشاء الشفاف للقرنية والرطوبة المائية وتصل إلى إنسان العين ثم تمر من خلال عدسة العين وترسم صورة من نور في نقطة معينة حسب خواص العدسات وتسمى تلك النقطة الواقعة في الشبكية والتي ترتسم فيها الصورة باسم النقطة الصفراء.
    ويعلم القارئ الكريم أن هذه النظرية الحديثة في كيفية الإبصار ولو أنها تبطل النظريتين الماضيتين ولكنها لا تمس نظرية صدر المتألهين بأي ضرر. وجواب الإشكال المذكور في المتن مبني على نظرية صدر المتألهين،ويتلخص في أن هذه الأعمال الطبيعية (الفيزيائية) لا تستطيع تفسير حقيقة الإبصار) . ونحن لا نرى شيئاً سوى تلك النقطة.

    [ 122 ]

    وكل ما في الأمر أننا نقيس بقية الأجزاء من أصغر جزء نشاهده في هذه النقطة، ومن هذه النسب والفواصل بين الأجزاء نظفر بالكبر والصغر النسبيين.

    [ 123 ]

    وتؤثر في هذه الحال أيضاً الكيفيات الأخرى من قبيل الظلال وما يشبهها. وإلى هنا فإن الاختلافات النسبية تكون مؤثرة.
    ولما كنا قد قسنا في مشاهداتنا الأخرى حجم باصرتنا

    [ 124 ]

    بأجسامنا ، وأجسامنا بالأجسام المغايرة لنا فنحن نعلم إذن وبشكل نسبي إلى أي حد يجب علينا أن نكبر هذه الصورة لنقترب من الحقيقة.
    واختصار فإننا في حالة الرؤية نفيد من أفكارنا ونستوعب العالم الواسع ونتخيل أننا قد أدركنا هذا الكبر بوساطة أبصارنا.
    الجواب
    نحن لم ننكر في حديثنا الماضي أياً من هذه الحقائق العلمية وإنما كان حديثنا يرمي إلى شيء آخر وهو أن ما ندركه بإضافة العلاقات التصديقية وفكر المدرك فهو يشكل شيئاً واحداً ويوجد من هذا ما يطلق عليه صاحب الإشكال بالصورة الخيالية، وهذه الصورة الخيالية لا تنطبق عليها الخواص العامة للمادة في الوقت الذي تكون فيه هذه الظاهرة ذات خواص مادية حال وقوعها في النقطة الصفراء أو في المخ.
    وعلاوة على هذا فإن هذه العلاقات التصديقية (إن هذا هو ذاك - إن هذا بهذا الشكل) لا تقبل الانقسام، ولو كانت هذه ظاهرة مادية وحالة في المخ لانقسمت بانقسام المخ. ومن هنا فإننا لا نستطيع أن ننسبها إلى أشعة مجهولة ولا إلى أمواج غير مرئية، لأن هذه جميعاً أمور مادية ولها أحكام المادة.

    إشكال

    نحن لا نرى في الخط والسطح والجسم خواص المادة، وعدم

    [ 125 ]

    رؤية شيء لا يعني أنه غير موجود. ونحن نرى أحياناً الخط والسطح والجسم بشكل شيء واحد متصل، وهذا يعني أننا نشاهد أجزاء المادة ولا نشاهد الفواصل (الفراغات)، ولا يعني كوننا قد رأينا أنه لا توجد فواصل وعندئذ نتخيل وجود أشياء ليس لها خواص المادة.
    الجواب
    لا كلام لنا في صحة هذا الحديث، ولكنه على العكس مما ينتظر صاحب الإشكال فإنه يؤدي إلى نتيجة لصالحنا فنحن نرى الخط والسطح والجسم بلا فراغات،إذن هذه الأشياء موجودة في إدراكنا بلا فراغات (إن من جملة الإدراكات والتصورات الحاصلة للذهن إدراك الكميات المتصلة. ويقال عادة لها في تعريف الكم المتصل هو تلك الكمية المرتبطة أجزاؤها ببعضها كالخط والسطح. ومن الواضح كون هذا لا يعني للكم المتصل أجزاءً بالفعل وهي متصلة ببعضها، وإنما المقصود منه أنه يوجد بين كل جزأين مفروضين حدّ مشترك وليس بينهما انفصال. وهذا بخلاف الكميات المنفصلة التي لها أجزاء بالفعل وتكون تلك الأجزاء مستقلة عن بعضها ومنفصلة. إذن الكم المتصل هو الشيء الواحد الذي له امتداد واتصال كالخط المستقيم والمنحنى والدائرة والسطح.
    وتوجد في هذا اللون من الإدراكات ملاحظتان من الناحية الفلسفية لا بد من الالتفات إليهما:
    أ-ما هو منشأ هذه التصورات ومن أين نشأت هذه المفاهيم؟
    قالت مجموعة من الفلاسفة الأوربيين ممن يطلق عليهم اسم العقليين (وهم القائلون بأن بعض التصورات تنشأ من الفطرة ولا تنتهي إلى الحس) إن منشأ هذه التصورات هو العقل. وتقول هذه الفئة: لما كانت النقطة (ذلك الشيء هو بدون بعد) والخط (ذلك الشيء ذو البعد الواحد) والسطح (ذلك الشيء ذو البعدين) لا وجود لها في الخارج، والموجود في الخارج إنما هو تلك الأشياء ذات الأبعاد الثلاثة وهي الأجسام، إذن منشأ هذه التصورات لا يمكن أن يكون هو الإحساس لأن الإحساس فرع كون المحسوس موجوداً في الخارج، وعلى هذا تكون هذه التصورات ناشئة بصورة مباشرة من العقل.
    أما الفئة الأخرى فهم الحسيون (القائلون بأن جميع التصورات والإدراكات منتهية إلى الحس) الذين يعتقدون بأن منشأ التصورات الرياضية أيضاً هو الإدراكات الحسية الخارجية. ويزعمون أن تصور النقطة والخط والسطح والدائرة قد حصل للذهن نتيجة لرؤية الأشياء في الطبيعة، ولكن تلك الأمور التي نشأ منها ابتداءً تصور هذه المفاهيم ليست هي المصداق الواقعي الدقيق وإنما هي نماذج ناقصة للذهن، ثم بعد أن يحيط الذهن بها علماً فإنه يصوغ بقدرته الفعالة النماذج الكاملة لها. مثلاً عندما نرى سم الخياط (ثقب الإبرة) فإنه يصبح نموذجاً للعقل لكي يخترع تصور النقطة الحقيقية وعندما نشاهد خيطاً دقيقاً أو شيئاً مدوراً كالبدر في الليلة الرابعة عشرة فإن هذا يصبح نموذجاً للذهن ليبدع تصور الخط والدائرة بمعناهما الهندسي.
    وما يقوله العقليون من أن تصور المفاهيم الهندسية لا يستند إطلاقاً إلى الإحساس فهو غير صحيح، ودليلهم على ذلك غير تام.
    (وقد أثبت ذلك في الفلسفة في باب نسبة المقدار إلى الجسم)، ولكن هذا المقدار- وهو أن إدراك الكميات المتصلة لا يمكن بدون تدخل الذهن ونشاطه - فهو مورد اتفاق بين العلماء ولم يتردد فيه حتى العلماء الحسيون.
    ب-سواء أقلنا أن المنشأ الأصلي لتصور الخط والتسطح والدائرة هو العقل أو الحس (كما في النزاع الماضي) فلا شك بأن هذه الأمور -بكيفياتها وخواصها التي ندركها- لا وجود لها في الطبيعة المادية، لا من جهة "إن الخط مثلاً له بُعد واحد والسطح له بعدان أما الوجود في الطبيعة فهو الجسم ذو الأبعاد الثلاثة" كما يقول العقليون الأوربيون، وإنما من جهة كون الموجودات في الطبيعة (أعم من المادة المخية والمادة الخارجية) منقسمة ولها أجزاء ومفاصل، أما هذه الأمور في حيز الإدراك فهي متصلة، فنحن ندرك مثلاً الحد الفاصل بين سطحي المكعب بصورة خط ، والحد الفاصل بين جسم ما والفضاء الخارجي بصورة سطح، والرسم الناتج من حركة أحد طرفي الفرجار بصورة دائرة، مع إننا نعلم من القرائن العلمية القطعية إنه لا وجود للخط والسطح والدائرة بهذه الكيفيات في المجال المادي، بل لعله يقال أنه لا وجود للدائرة إطلاقاً في الطبيعة، إذن الأمور بهذه الخواص المعينة الموجودة في أذهاننا ليست مادية، والذهن هو الذي يصورها في مجاله الذهني أو الهندسي المتفاوت عن المجال المادي..
    ونحن نرسم في أذهاننا خطوطاً وأشكالاً للمواضيع الهندسية ثم نصدر عليها أحكاماً ثابتة قطعية. فنحن مثلاً نرسم في أذهاننا دائرة أو مثلثاً ثم تصدر عقولنا الأحكام الخاصة بالدوائر والمثلثات بشكل يقيني وقطعي (تعتبر الرياضيات من أكثر العلوم يقينية) مع أن هذه الأحكام لا موضوع لها في الطبيعة المادية.
    يقول فيلسين شاله في كتاب "معرفة المناهج"( methodologid) في فصل "أسلوب الرياضيات":
    "إن الذهن يرسم الأشكال الهندسية في فضاء موهوم شبيه بالمكان المحسوس ولكنه ليس هو بعينه. والمقصود من المكان المحسوس هو البيئة التي يجد فيها الإنسان الأشياء الخارجية، وهذه البيئة يدركها الإنسان البصير بوساطة عينية، أما الإنسان الأعمى فهو يدركها بوساطة اللمس وإعانة من السمع. والمكان المحسوس دائماً مليء بالأشياء، ولما كانت هذه الأشياء مختلفة من حيث المقاومة فالمكان المحسوس يصبح غير متجانس ومحدوداً أيضاً لأن المسافة التي يمكن منها سماع الصوت أو الرؤية محدودة، أما الفضاء الهندسي فهو - على خلاف المكان المحسوس - بيئة فارغة متجانسة قابلة للقسمة إلى غير نهاية".
    وخلاصة هذا الحديث هي أن إدراكاتنا للكميات المتصلة لا تتطابق مع الخواص المعينة للمادة، إذن لابد أن نعتبر هذه الإدراكات غير مادية). وبعبارة أخرى نقول: أن صاحب الإشكال يؤكد

    [ 126 ]

    على أننا نتخيل في مورد إدراك الخط والسطح والجسم وجود أمور ليس لها خواص المادة أي أنه في حدود التخيل قد وجدت أشياء ليس لها خواص المادة، وهذه الأشياء موجودة حقيقية، فالخطأ والصواب والخيال والحقيقة إنما هي مفاهيم نسبية وقياسية.

    [ 127 ]

    والصور الخيالية في أذهاننا عندما نقيسها إلى الخارج فإنها تعتبر خيالاً وإلا فأنها حقيقة من الحقائق إذا قصرنا النظر عليها بذاتها.
    وما قلناه بالنسبة إلى المحسوسات بالحواس الظاهرة يصدق أيضاً بالنسبة إلى الأمور الروحية من قبيل الإرادة والكره والحب والعلم والتصديق (وباصطلاح المنطق الوجدانيات)، فنحن نلاحظ هذه الظواهر بوضوح في أنفسنا وهي تفتقد الخواص العامة للمادة من قبيل الانقسام والتحول فهذه الظواهر النفسية إذن ليست مادية أيضاً.

    [ 128 ]

    ويمتد هذا الحديث ليشمل فئة أخرى ليشمل فئة أخرى من الإدراكات (وهي الإدراكات العقلية الكلية باصطلاح الفلسفة)، لأن هذه المعاني الكلية تقترن بسلسلة من الخواص التي يمتنع وقوعها في المادة، ولو أنها كانت تنطبق بنحو من الأنحاء على المادة (مثل المفهوم الكلي للإنسان الذي يصدق على كل إنسان خارجي مع أنه لا يوجد إنسان في عالم المادة ينطبق على انسان، وإنما كل إنسان موجود في الخارج فهو لا ينطبق على أكثر من واحد).
    إن هذه المعاني الكلية ثابتة ومطلقة وكلية، وليس هناك موجودات بهذه الصفات في عالم المادة، وكل ما عندنا في عالم المادة فهو شخصي ومتغير ومقيد. إذن هذه المجموعة من الإدراكات لابد من اعتبارها مجردة من المادة أيضاً.
    برهان آخر
    لو نظرنا إلى العلم بصورة دقيقة ووجدان صافٍ لوجدنا أن

    [ 129 ]

    الصورة العلمية لا تتلاءم مع التغير، وبتعبير فلسفي فإن حيثية العلم غير حيثية التغير والتحول، ولما كان الموجود المادي هو عين التغير والسيلان فلابد أن نحكم سنخ العلم غير سنخ المادة.
    وللتوضيح نذكر من حالات العلم والإدراك حالة المعرفة والتذكر فلو أدركنا شيئاً ما ثم عدنا لندركه مرة أخرى لعرفنا أن ما أدركناه في المرة الثانية هو بنفسه الذي أدركناه في المرة الأولى(إن موضوع قدرة الذهن على حفظ ما جاءه عن طريق الحواس (قوة الحافظة) ثم تذكر ذلك ثم تقييم هذا التذكر بأنه هو الذي قد أدركناه سابقاً أو ليس هو بعينه، ومعرفة أنه ليس إدراكاً جديداً-إن هذه المواضيع جميعاً تعتبر من أشد المسائل الروحية غموضاً ومن أكثر الأسرار خفاء.
    والدقة الفلسفية في هذا الموضوع تقود حتماً إلى الاعتقاد بأن الجهاز الروحي والإدراكي فينا هو وراء الأعصاب والنشاطات العصبية، وعلى العكس من فرضيات الماديين فنحن لا نستطيع أن نعتبر الإدراكات من الخواص المعينة للمادة. ولكي نهيئ أرضية صلبة للاستدلال نشرح أولاً كيفية هذا الاستعداد الذهني حسب ما يشعر به كل فرد منا حضوراً ووجداناً وحسب ما فصله علماء النفس، ثم نذكر النظريات العلمية والفلسفية العائدة إلى هذا الموضوع.
    لاشك في أن الإنسان إذا أحس بشيء بوساطة إحدى حواسه فإنه يستطيع في المستقبل أن يستحضر في ذهنه ذلك الشيء من غير حاجة إلى الإحساس به من جديد. فمثلاً لو لقي صديقه يوماً في مكان معين وأجرى معه حديثاً فإن خاطرة تترسب في ذهنه من هذا اللقاء والحديث وهو يستطيع- في كل وقت يحب- أن يستعيد ذلك اللقاء والحديث وأن يستحضر تلك الصور والكلمات في ذهنه مع التفاته إلى أن هذه الخواطر الفعلية ليست متوهمة ولا من اختراع ذهنه وليست إحساساً جديداً أيضاً، أي أن ذلك اللقاء والحديث لم يتجدد مرة أخرى، وإنما هذه الخواطر تتعلق بذلك اللقاء والحديث الذي تم في الماضي.
    أما علماء النفس فهم يقولون أن ذهن الإنسان يجتاز أربع مراحل منذ يقع ذهنه تحت تأثير العوامل الخارجية للإحساس وحتى استحضار ذلك الشيء في الزمان اللاحق دون تأثير العوامل الخارجية للإحساس مرة أخرى:
    أ-مرحلة الإحساس الابتدائي: أي أن الشيء لابد من الإحساس به أولاً حتى يستطيع الذهن أن يحتفظ به ويتذكره، ومن البديهي أن الشيء إذا لم ترد صورته إلى الذهن من الخارج فإن التذكر عندئذ لا معنى له.
    ب-مرحلة الحفظ: فالصورة الواردة إلى الذهن إذا لم تترك فيه أثراً (أو لم تبق فيه) فليس من الممكن أن تحضر في الذهن من جديد دون تأثير العوامل الخارجية.
    ج-مرحلة التذكر: أي الالتفات إلى تلك الخاطرة الماضية أو إحضار الماضي في صفحة الذهن.
    د-مرحلة التشخيص: أي تمييز هذا التذكر وإنه بنفسه ذلك الماضي وليس إحساساً جديداً ولا تخيلاً وهمياً.
    أما النظريات والفرضيات العلمية فهي تتعلق بالمرحلة الثانية من هذه المراحل الأربع وهي مرحلة الحفظ.
    وهي تشرح حال الصور المدركة في الفترة التي يغفل عنها الذهن وبأية صورة هي تُحفظ فبالنسبة إلى المثال الماضي نتساءل: ما هو حال صورة اللقاء والحديث بعد لقائهما وانتهاء الحديث في الفترة التي يكون فيها الذهن غافلاً عنها؟ وكيف تحفظ هذه بحيث نستطيع أن "نتذكرها" في المرحلة الثالثة وأن "نقيمها" في المرحلة الرابعة؟
    هذه بعض النظريات المهمة في هذا المضمار:
    كان بعض الحكماء اليونانيين القدماء أن صورة ترتسم في الذهن من الشيء المدرك وتبقى تلك الصورة في المخ وليس لهذه النظرة مؤيدون في عصرنا الحاضر. وهي مردودة من جهات عديدة.
    يقول ديكارت: إن التأثيرات الابتدائية توجد خطوطاً في المخ وكلما مرت الروح على هذه الخطوط فإنه يوجد تأثير يشبه التأثير الأول.
    وتكون الروح حسب هذه النظرية موجوداً مستقلاً بذاته عن البدن، والشيء الوحيد المتبقي من الإدراكات هو تلك الخطوط المخية.
    ويرفضون هذه النظرية الفلاسفة الروحيون والفلاسفة الماديون.
    وهناك نظريات أخرى ليست مهمة، ولهذا فنحن نهمل ذكرها ونقصر الحديث على ذكر نظريتين إحداهما تقول بكون الحافظة شيئاً مادياً وقد اختارها ماديو عصرنا الراهن وشرحها أتباع المادية الديالكتيكية، والأخرى تقول أن الحافظة ليست أمراً مادياً وذلك حسب الأسس الخاصة لمذهب صدر المتألهين الفلسفي، وسوف نتناول ضمن هذا الحديث الإشكالات التي ترد على النظرية القائلة بمادية الحافظة ونحن نبين هاتين النظريتين تحت عنوان "النظرية الروحية" وعنوان "النظرية المادية".
    النظرية الروحية:
    يعتبر أصحاب هذه النظرية الإدراكات من النشاطات المباشرة للنفس (وهي جوهر غير مادي) ويعتبرون الأعمال العصبية مقدمة لوجود هذه الإدراكات فقط. وحسب هذه النظرية تكون نسبة الإدراكات إلى النفس كنسبة الفعل إلى الفاعل، وبالاصطلاح الفلسفي فإن لهذه الإدراكات إلى قيام صدور وليس قيام حلول، وتبقى هذه الصور الإدراكية بنفسها في ناحية من النفس. والتذكر إنما هو الالتفات تلك الصورة الأولى.
    وحسب هذه النظرية فإن الصور الإدراكية الأولى تحفظ بنفسها ثم تُتذكر وتُقيم.
    النظرية المادية:
    إن أصحاب هذه النظرية (وإن كانوا لا يستطيعون إبداء الرأي بشكل قاطع) يقولون: على العكس من النظرية السابقة فإن الإدراكات الأولى لا تحفظ بعينها لأن الإدراك عبارة عن نشاط الأعصاب، ولا يمكن أن يكون للأعصاب نشاط مستمر بالنسبة إلى شيء واحد، أي إن نشاط الأعصاب يتجه في كل لحظة إلى شيء خاص، وما دام الشيء غير متوجه إليه فمن المؤكد كون السلسلة العصبية لا نشاط لها بالنسبة إلى ذلك الشيء، إذن في حالة عدم التوجه لا توجد الخاطرة المدركة بصورة إدراك ولا يمكن أن تكون كذلك. ويزعم هؤلاء العلماء أن الشيء إذا أدرك مرة واحدة فهو يترك أثراً في نقطة معينة من المخ، فمثلاً تظهر خلية أو أكثر، وكلما أثيرت تلك النقطة وهيجت بتأثير أحد العوامل الخاصة (كالإرادة وغيرها) فإن الأعصاب تبدأ نشاطها من جديد وتولد الإدراك الأول مرة أخرى. ففي المثال السابق ما دام الإنسان غير ملتفت إلى اللقاء والحديث مع الصديق فإن ذلك غير موجود في الذهن بشكل خاطرة إدراكية، وإنما يوجد منها أثر فقط في نقطة معينة من المخ، وفي أي وقت تهيج هذه النقطة فهي تبعث على توليد تلك الخاطرة مرة أخرى، ويتخيل هذا الشخص أن هذه الخاطرة قد بقيت محفوظة طيلة هذه الفترة.
    وعلى هذا يصبح التذكر- حسب هذه النظرية- توليداً جديداً، وهذا مخالف للنظرية الأولى التي لا تعتبر التذكر توليداً جديداً.
    ولإلقاء الضوء يشكل أكبر على نظرية الماديين في موضوع مادية الحافظة ننقل شيئاً من أقوالهم:
    يقول الدكتور الآراني في كتاب "يسيكولوجي" ص117:
    "لابد من الالتفات في عمل الحافظة إلى أنه: كيف يثبت التأثير أو الإحساس في الروح؟ وكيف يولد مرة أخرى؟ وكيف تجسم الروح قضية حدثت في الأزمنة الغابرة؟".

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    ويجيب على هذه الأسئلة في الصفحة (118) قائلاً:
    "يقال إن قنوات ارتباط توجد بين القضايا، وتبقى هذه القنوات في المخ... ووجود هذه القنوات هو الذي يبقى القضايا في الذاكرة، وتهييجها هو الذي يبعث على تذكر تلك القضايا مرة أخرى".
    ويقول في الصفحة (116) بامتعاض وتردد:
    " ليس من المعروف كيفية بقاء ارتباط الحافظة بالروح مدة طويلة، وكيف يستطاع توليد قضية معينة في الروح مرة أخرى. ولكنه يمكن معرفة أن الشخص في حال تذكر القضايا يُحْدِث تغييراً في مخه بصورة إرادية، ويشمل هذا التغيير حالة ضغط الدم ودرجة الحرارة والعوامل الفيزيائية الأخرى". وحسب النظرية المادية يصبح جهاز المخ مثل جهاز التسجيل الذي يحفظ الصوت على صفحة الشريط. فكما أن الشريط المغناطيسي له خاصة حفظ الكلمات التي تلقى أمام اللاقطة، أي أن الكلمات تترك أثراً في نقاط خاصة من الشريط فإذا هُيّجت تلك النقاط بعوامل فنية خاصة فإنها تولد صوتاً مماثلاً تماماً للصوت الذي صدر أمام اللاقطة. والصوت ليس باقياً بشكل مستمر وبحالته الصوتية في الشريط وإنما توجد حالته الصوتية فقط عند تهييج تلك النقاط الخاصة. والمخ أيضاً كذلك فإذا أثرت العوامل الخارجية على سلسلة الأعصاب فإنها تولد رد فعل، ورد الفعل هذا ليس إلا خاصة الإدراك، ثم يبقى من ذلك أثر في نقطة معينة من المخ ولسنا نعرف لحد الآن كيفية هذا الأثر، والذي نعرفه فقط هو أن الإدراك ليس موجوداً بشكل إدراك في حالة عدم الالتفات وعدم نشاط المخ بالنسبة إلى ما أدركه سابقاً.ولكنه في أي وقت تهيج فيه تلك النقطة المعينة فإن الإدراك الأول يولد مرة أخرى.
    وترد على هذه النظرية إشكالات مهمة نذكر منها:
    أ-حسب هذه النظرية فإنه لابد أن نخصص لكل مفهوم ذهني خلية واحدة أو أكثر، وهذا مرفوض لعدة أسباب:
    أولاً: من البديهي أننا عندما ندرك أو نتذكر أحد المفاهيم فإن الخلايا تعمل جميعاً وليس خلية واحدة أو عدة خلايا. فمثلاً عندما ننظر إلى شيء فإن خلايا البصر تعمل جميعاً، وإذا نظرنا إلى شيء آخر فإن تلك الخلايا بنفسها تعود لتعمل مرة أخرى، وهكذا الحال عند التذكر والسماع وغيرهما. ولورود مثل هذا الإشكال فقد تردد الماديون أنفسهم في صحة هذه النظرية، فقال الدكتورة الآراني في صفحة (100) من كتاب "يسيكولوجي":
    "إن الروح تستطيع في كل وقت أن تولد الصور المجسمة، فهي تستطيع مثلاً أن تجسم رجلاً أو كلباً بجميع أو أغلب صفاته. ولم يستطع العلم لحد الآن أن يبين كيفية توليد هذا الشكل المجسم في الروح. وتوجد في هذا الباب عقائد متباينة. مثلاً لو فرضنا أنه بعد رؤية كلب معين تستعد خلايا معينة من المخ لتوليد كلب مجسم فلابد في هذه الحال من تخصيص فئة معينة من الخلايا لكل شيء، وهذا الأمر مشكوك فيه لأن عدد الخلايا حينئذ سوف لن يكفي تلك الأشياء التي لا تعّد ولا تحصى".
    ثانياً: إذا فرضنا أن خلية واحدة أو عدة خلايا تتأثر عند رؤية أو سماع شيء ما، وخلية أو عدة خلايا تتأثر عند رؤية أو سماع شيء آخر فإذا تكرر سماعنا أو رؤيتنا لذلك الشيء الأول فلماذا لا تتأثر خلايا أخرى وإنما تتهيج تلك الخلايا التي تأثرت أولاً ويتحقق لتذكر؟
    ب-من خواص الحافظة -كما مر علينا- التقييم، وهو النظر إلى هذا التذكر على أساس أنه بنفسه ذلك لإدراك الأول وليس إدراكاً جديداً وليس وهماً ولا معنى له أيضاً. ولا ينسجم هذا مع كون الحافظة مادية، لأنه إذا فرضنا إن المخ بالنسبة إلى الإدراكات مثل جهاز التسجيل فلابد أن يتصف بهذه الصفة وهي أنه متى ما هيجت فيه تلك النقطة الخاصة فهو يولد إدراكاً يشبه الإدراك الأول من جميع الجهات كما يولد جهاز التسجيل صوتاً يشبه تماماً الصوت الأول وليس هو بعينه، بينما نحن نعلم-حضوراً ووجداناً- أن لذهننا خاصة التقييم أي أنه يحكم بأن هذا هو ذاك وليس توليداً جديداً ولا فعلاً جديداً .
    وملخص هذا الإشكال أننا لا نستطيع أن نقبل كون الحافظة مادية وذلك لأننا ندرك أن قوة الحافظة تتصف بالعينية أي أن ما نتذكره هو عين ما أدركناه سابقاً.
    ج-يتغير المخ بكل محتوياته وهو دائماً في معرض التحول والتبدل، والمادة المخية تتغير عدة مرات بكل محتوياتها خلال الفترة التي يعيشها الإنسان لمدة سبعين عاماً مثلاً وتحل محلها مادة أخرى، بينما تبقى الخواطر النفسية ثابتة وغير متبدلة سواء أكانت "تصورات" مثلما لو رأينا صديقاً في أيام طفولته أو تذكرنا معلماً فارقناه منذ أنهينا المرحلة الابتدائية، أو كانت "تصديقات" كما لو سمعنا في المرحلة الابتدائية بأن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون وقد أذعنا لذلك (وهذا هو التصديق بالمعنى المنطقي).
    وخلاصة القول فإن كل التصورات والتصديقات السابقة باقية على حالها ولو كانت هذه حالة في المادة لتغيرت بتغيرها قطعاً.
    وأما مثال الصورة المنعكسة في الماء الجاري الهادئ المذكور في المتن منسوباً للماديين فهو ليس إلا مثالاً شاعرياً،لأننا نرى تلك الصورة ثابتة بسبب كون الصورة ثابتة في الخيال، ولو فرضنا أنها غير ثابتة حتى في الخيال لما أمكننا أن نتخيلها ثابتة.
    وخلاصة هذه الأشكال إننا لا نستطيع أن نقبل كون الحافظة مادية وذلك لأن من خواص قوة الحافظة ثبات الإدراكات الذهنية.
    وأهم دليل يتمسك به الماديون لإثبات كون الذاكرة مادية هو أننا نشاهد عملياً كون الحافظة مرتبطة ببعض أقسام المخ. وصحيح أن كثيراً من الأعمال الروحية من قبيل الحافظة من قبيل الحافظة لم يعيّن مكانها بدقة فيه ولكنه من المقطوع به أن الذاكرة تنعدم باختلال بعض أقسام المخ.
    إذن يعرف من هذا أن الحافظة من خواص التكوين المادي للمخ.
    ويمكن أساساً دعم هذه النظرية بطريقتين:
    أولاً: عروض النسيان: لاشك أن كل إنسان بل وحتى الحيوان أيضاً مع التفاوت يعرض له النسيان، ولا يوجد إنسان يتذكر كل حوادث حياته، ولو كانت الذاكرة غير مادية لم يكن هناك معنى للنسيان لأن النسيان هو زوال الصور الإدراكية من صفحة الذهن، ولو كان للروح وجود مستقل عن البدن وكانت الصورة الإدراكية معلومة للروح وغير مادية لوجب أن تكون تلك الصور باقية دائماً لأن علتها وهي الروح المجرد باقية كما يعتقد الروحيون، وكل معلول يتبع علته في البقاء. أما علة النسيان حسب النظرية المادية فواضحة، وهي تلك التغييرات الحاصلة في المادة العصبية فيهم .
    يقول الدكتور الآراني:
    "قدرة الحافظة في كل شخص منوطة بقدرة مادته العصبية على حفظ التغييرات فكلما استطاعت أن تحفظ التغيير بصورة أفضل فإن قدرة الحافظة تزداد".
    ثانياً: عروض الأمراض للحافظة في أثر بعض الاختلافات الحاصلة في المخ. فكثيراً ما يقع أن يفقد الإنسان كل ذكرياته الماضية أو قسماً منها في أثر مرض يصاب به أو في أثر ضربة قوية توّجه إلى مخه.فبعض المصدومين في الحرب من الذين أصيبوا في رؤوسهم وجماجمهم لم يستطيعوا بعد تماثلهم للشفاء أن يتذكروا أسماء آبائهم وأمهاتهم ومدنهم وحتى أسماءهم. إذن نعرف من هذا أن الحافظة شيء مادي ولذلك فقد ذهبت في أثر وقوع الاختلال في المخ.
    وجوابنا على هذا الاستدلال بأننا نقصد بقولنا "الحافظة ليست مادية" أن الصور الإدراكية تحفظ فيما وراء المادة، أما التذكر الذي هو عبارة عن إحضار الصور الإدراكية في الصفحة الظاهرة للذهن فهو لون من ألوان "الفعل"، وقد أثبت في الفلسفة أن الروح في أفعالها تحتاج إلى المادة وتستخدمها بعنوان كونها "آلة للفعل". وعلى هذا فالنسيان الحاصل نتيجة لطول المدة في الحالات الاعتيادية أو الاعتيادية أو الحاصل بسبب الإختلالات المخية لا يعني أن الخواطر الذهنية قد انعدمت من أساسها وإنما يعني أن (تذكرها) لأن "آلة الفعل" قد انعدمت.
    يقول برجسون-حسب ما ينقل ذلك المرحوم فروغي-: "الفرق بين الحافظة والذاكرة أن الحافظة هي التي تحتفظ بصور الأشياء والمعاني وهي ليست أمراً مادياً ولا من خواص المخ، بل على العكس من ذلك فالمادة تحجب الحافظة وتسبب النسيان. أما الذاكرة فهي عمل المخ. فصور الأشياء والمعاني محفوظة دائماً في الحافظة . والذاكرة قوة تنبعث من المخ في أوقات محددة وبأسباب معينة فتكشف ذلك الستار ويتذكر الإنسان ما سُجّل في الحافظة. والذاكرة عمل والعمل من وظائف الجسم. والمخ الذي الذاكرة صورتها إنما هو جزء من الجسم، ولكن الحافظة مخزن للصور، والصور ليست ذوات وإنما هي معانٍ والمعاني لا تحل في مكان".
    والدليل على أن الصور الإدراكية لا تنعدم بسبب طول المدة أو الإختلالات المخية وإنما تفقد الروح قدرتها فقط على التذكر وإحضار تلك الصور لأنها تحتاج إلى المادة هو أن التجارب النفسية المتعددة قد أثبتت أنه في الحالات غير الطبيعية أو بالضغوط غير العادية التي تسلّط على الروح يتذكر الروح كل الحوادث الماضية التي كان قد نسيها.
    ويعتبر هذا الموضوع من المسلمات في علم النفس الحديث. ونكتفي هنا بنقل كلام الدكتور الآراني الذي يعدّ أحد الماديين القائلين بأن الروح خاصة من خواص المادة، يقول في الصفحة (117) من كتاب "يسيكولوجي":
    "ألم يعلم لحد الآن بصورة قطعية أن القضايا التي تحدث في الحياة بصورة متوالية أهي ثابتة وباقية في الروح أم لا؟
    فنحن نلاحظ من ناحية أن أغلب القضايا الجزئية في الحياة قد نسيناها تماماً بحيث أن بعضها لا نستطيع أن نولده في الروح مرة أخرى أي نحن لا نستطيع أن نولده في الروح مرة أخرى أي نحن لا نستطيع أن نتذكره، ولكنه من ناحية أخرى تشير التجارب المتعددة في الحالات غير الطبيعية- كما في التنويم المغناطيسي hypnose) ( - إلى أن الأشخاص المدمنين على المخدرات والأشخاص المشرفين على الموت بسبب الجوع وغيرهم عندما يزول ذلك العامل غير الطبيعي فإن هؤلاء الأشخاص يعلنون أنهم قد تذكروا قضايا بَعُدَ العهد بها وحدثت لهم في مراحل حياتهم الأولى".
    ويعلن جماعة من العلماء أيضاً أن الإنسان في حالة الاحتضار يتذكر كل الحوادث التي مرت عليه طيلة فترة حياته.
    وبهذا تكون الدراسات العلمية قد تركت الباب مفتوحاً لاحتمال استحضار الروح- بعد مفارقته للبدن- كل الحوادث الضخمة والتافهة وكل الأعمال الطبية والرديئة التي مرت عليه خلال الحياة. وهذا هو بنفسه ما كان يعلنه الفلاسفة الإلهيون منذ قرون متطاولة) . وهكذا


    [ 130 ]

    الشيء الذي أدركناه ثم نسيناه أو غفلنا عنه ثم تذكرناه بعد ذلك فإننا نلاحظ إن ما تذكرناه الآن هو بنفسه الذي أدركناه سابقاً، مع أن ما أدركناه في الحالتين لو لم يكن واحداً حقيقياً ولو لم يكن له


    [ 131 ]

    ثبات وبقاء مما يحافظ على العينية لما كان هناك لتحقق المعرفة والتذكر. ونحن نعلم أن لدينا معارف وتذكرات قد يناهز عمرها السبعين عاماً أو أكثر أو أقل وفي خلال هذه السبعين من الأعوام قد تغيرت -عدة مرات- أعصابنا ومخنا بكل ما تحتوي من مادة.

    إشكال

    ويجيب العلماء الماديون على هذا الدليل بأن التغير والتبدل

    [ 132 ]

    الحاصلين في المخ إنما هما دقيقان وقد حصلا بالتدريج ولا يستطيع الإدراك أن يستوعبهما، ومن ناحية أخرى فإن الجزء الجديد يحل محل الجزء القديم بمنتهى السرعة، ويتخذ الجزء الجديد لنفسه مثل الخواص التي كانت لذلك الجزء القديم بحيث لا يستطيع أن يتابع ذلك إدراكنا، ومن هنا فهو يتخيل إن الجزء الجديد هو بنفسه الجزء

    [ 133 ]

    القديم وهذا يشبه ما لو نظرنا إلى صورتنا منعكسة في ماء صاف يسير هادئاً فإننا نتخيل أن صورتنا في الماء ثابتة، بينما نحن نرى- في الواقع- في كل لحظة صورة جديدة ولكننا لا نلاحظ ذلك. ولا بد أن نتصور تبدل المدركات بهذا الشكل بعينه.

    [ 134 ]

    جوابه
    نحن- كما ذكرنا في جواب الإشكالات الماضية - لا نريد أن ننكر حدوث الأعمال الفيزيائية في المخ ولا نريد أن ننفي التحول ولا التغيير في الماديات، وإنما نركز الحديث حول مفهوم هذه الجملة (نحن نتخيل أن هذا الجديد هو بنفسه ذلك القديم) ونقول إن هذه الوحدة المتخيلة بين الجديد والقديم لا تتلاءم مع كون الإدراك

    [ 135 ]

    مادياً. ويحتمل أن يكون أن يكون هذا الإدراك خطأ إذا قسناه إلى الخارج ولكنه لا يمكن أن يكون خطأ إذا نظرنا إليه بحد ذاته أي بما أنه صورة خيالية.
    وبناء على قول هؤلاء العلماء الماديين فإنه لا يمكن أن يتحقق التصديق (المقابل للتصور) لأن الذهن بمجرد أن يفرض الموضوع ثم يذهب إلى المحمول ليحمله على الموضوع فإنه سيجد الموضوع قد ذهب وحل محله موضوع جديد آخر، وعندئذ يمتنع الحمل وتبطل كل قضية.
    وبالإضافة إلى هذا فإنه لا يرتبط أي جواب بأي سؤال، ولا يرتبط أي إبطال بأي إثبات، ولا أي ذيل بأي صدر.

    [ 136 ]

    والوجدان السليم لا يذعن أبداً لهذا اللون من التشكيك ولا يقر هذا النوع من السفسطة.

    إشكال

    قد يقال إن ذهننا وفكرنا له خاصة التحول والتغير وهكذا

    [ 137 ]

    مدركاتنا (الصور العلمية) لأن أصل الجميع هو المادة وهي في تغير وتحول دائمين، ولكن لما كانت المادة هي الأصل لهما معاً فالتغير الحاصل فيها من حيث السرعة والحركة حاصل فيهما أيضاً بنفس السرعة والحركة، ومن هنا فنحن نتخيل مدركاتنا (الصور العلمية)

    [ 138 ]

    ثابتة. وهذا يشبه ما لو تحرك جسمان بحركتين متشابهتين من حيث السرعة والجهة فإن هذين الجسمين سوف لن يتغير موقع أحدهما من الآخر ويظلان في حالة ثابتة.
    وجوابه
    إن حديثنا عن هذا الظن والتصور هو نفس حديثنا

    [ 139 ]

    السابق. وعلاوة على ذلك فإننا نضيف- بخصوص هاتين الحركتين المتشابهتين- إن هذا السكون النسبي إن لم يكن له واقع فهو على مستوى التخيل ثابت وإن قلنا إن له واقعاً إذن ثبت إن في العالم الخارجي موجوداً ثابتاً ليس له خاصة التغيير التي للمادة. وهذا إشكال على الماديين أنفسهم وليس موجهاً إلينا.
    ويعود الماديون ليقولوا
    لا يوجد في العالم الطبيعي تأثير من طرف واحد كما أثبتت ذلك التجارب العلمية، فكل مؤثر يحتاج إلى متأثر له دخل في وجود الأثر

    [ 140 ]

    فيكون هذا مؤثراً أيضاً من هذه الجهة، فالأثر إذن قد حصل بمشاركة طرفين. وهذا الوليد قد وجد من مجموع الأب والأم (المؤثر والمتأثر) الماديين. ومن هذا نعلم أن الإدراك الحسي أيضاً يحصل نتيجة للتأثير المتبادل بين المادة الخارجية وسلسلة الأعصاب أو المخ فيما نشاهده لدى الموجودات الحية ولا سيما الإنسان. ولما كان تأثير الأعصاب والمخ لا معنى له بدون وجود المادة الخارجية، وتأثير المادة الخارجية لا معنى له بدون تأثر الأعصاب والمخ، وكذلك التأثير والتأثر الحاصلان بين المادة الخارجية والأعصاب والمخ لا معنى لهما بدون ظهور أثر مادي في سلسلة الأعصاب والمخ (وكل منهما تركيب خاص من المادة)، والعكس صحيح أيضاً، إذن يصبح الإدراك الناتج من التأثير والتأثر خاصة من الخواص المادية التي تظهر في المخ.

    [ 141 ]

    ولما كان المخ يتمتع بميزة التوليد ويستطيع أن يتأثر بفكره (وليس الفكر إلا خاصة مادية جديدة، وهذا التأثير الثاني يحدث بشكل جبري نتيجة لـتأثير الطبيعة والبيئة) فهو إذن يستطيع أن يولد الأفكار الجديدة التي لا تستطيع الأعصاب أن تكتسبها من الخارج. وهو يستطيع أن يصل العلم بالعلم، وأن يوجد المعلومات الروحية والمعنوية والقوانين الكلية من قبيل اكتشافه لقانون العلة والمعلول، وأن يحول المعلومات الحسية من إحدى الحواس إلى الأخرى.
    هذه أقسام مختلفة من الأفكار والإدراكات التي تولد في المخ

    [ 142 ]

    متعاقبة وليس لها من هوية سوى تلك الخاصة المادية التي يتركب منها المخ.
    الجواب
    نحن لا نريد أن ننكر شيئاً مما ذكرتموه (وهو أن الإنسان في أثناء

    [ 143 ]

    الإدراك يقوم ببعض الأعمال الفيزيائية)، ولكننا نلفت النظر إلى المثال الذي أوردناه في مطلع هذه المقالة (وهو مثال الصورة التي تحكي نزهة عائلية) وإلى الرؤيتين اللتين يستطيع الإنسان أن ينظر بهما إلى تلك الصورة. فالرؤية الأولى تنقل الإنسان إلى ما خلف الصورة من واقع، والرؤية الثانية تحبس الإنسان على مشاهدة النقاط السود والبيض المتناثرة على صفحة الورقة ثم نتساءل:
    مع أية رؤية من هاتين ينسجم هذا الذي ذكرتموه أخيراً؟
    إنه ينسجم مع الرؤية الثانية، ولكن تلك الرؤية لا تنطبق على حقيقة الفكر والإدراك. أما الرؤية الأولى التي تنطبق على حقيقة الفكر والإدراك فهي لا تنسجم مع حديثكم .
    والغريب أن هؤلاء العلماء الماديين قد نسوا محل النزاع (وليس هذا النسيان بعيداً عن التناسي المقصود) وهم يجّرون الخصم إلى النزاع فيما هو مسلم بين الجميع.(ليرجع القارئ إلى التعليقة الموجودة في الصفحات (115-120)
    ولا يريد أحد أن يقول بأنه أثناء حصول الإدراك لا توجد في الإنسان تلك الخواص المادية المتعلقة به. ولا يقصد أحد أن الأحياء - ومن جملتها الإنسان - لا تستعمل المخ والأعصاب أثناء تفكيرها وإدراكها (والقائلون ببقاء النفس بعد مفارقة الجسم واستمرارها في إدراكها لا يريدون المساس - من قريب ولا من بعيد- بهذا الذي ذكر كما سوف يأتي إن شاء الله)، ولكن الحقيقة أنه لا يمكن التغافل أيضاً عن كون إدراكاتنا الواسعة وأفكارنا العميقة ليس لها شيء من الخواص الضرورية للمادة من قبيل: الأجزاء،

    [ 144 ]

    الانقسام، التحول، التشخص، وحينئذ كيف نستطيع اعتبارها مادية؟
    ألسنا نثبت كل حقيقة بوساطة خواصها الضرورية؟
    وبغض النظر عن هذا نقول: إذا كان فعلاً ما ندركه ليس إلا هذه النقاط السود والبيض في الصورة (حسب الرؤية الثانية) والمنعكسة في طبقات المخ وشعيرات الأعصاب فكيف استطعنا أن نجد الواقع الخارجي فيها؟
    وكيف استطعنا أن نحيط علماً بذلك الواقع الخارجي (قد مرّ علينا هذا الموضوع في نهاية المقالة الثانية ص102 -106. وعرفنا أن النظرية المادية تدعى أن العلم والمعلوم متباينان في الوجود والماهية. وفرضوا رابطة وحيدة بين العلم والمعلوم وهي رابطة التوليد. وذكرنا هناك أن هذه النظرية مثالية محضة لأن الكاشفية - التي هي صفة ذاتية للعلم- تسلب منه، وبسلب هذه الصفة عن العلم لا يبقى لنا أي سبيل لإثبات العالم الخارج عن الذهن. وأما تصور الماديين أنهم يستطيعون إثبات العالم الخارجي عن طريق اعتبار الإدراكات وليدة التأثيرات الخارجية فهو تصور مخطئ لأن إثبات الخارج فرع كوننا نستطيع تصوره واستحضاره في أذهاننا حتى نستطيع أن نحكم بأن هذا الشيء الذي تصورناه موجود في الخارج، وإذا بنينا على أن كل ما يظهر في الذهن فهو غير الواقع الخارجي من جميع الجهات فسيصبح من المستحيل أن ينعكس الواقع الخارجي في الذهن. وملخص الكلام فإن الفرضية الخاطئة للماديين في باب حقيقة العلم والإدراك تؤدي إلى أنه ليس هناك أحد على الإطلاق يستطيع أن يدرك الواقع الخارجي)؟
    فلو أن الإنسان لم يكن قد شاهد من قبل ما تحكيه تلك الصورة

    [ 145 ]

    في الواقع ثم نظر إلى هذه النقاط السود والبيض في الصورة فإن ذلك ليس كافياً لينقل الناظر للصورة إلى ما تحكيه من واقع.
    إشكال
    يقول هؤلاء العلماء نحن مضطرون للاعتراف بالمغايرة بين العلم والواقع الخارجي حسب القانون الآتي: هو (أ)، والجزء المتأثر من المخ بالمعلوم هو (ب)، فالأثر الذي هو الفكر والإدراك سيكون مساوياً لـ (أ+ب)، ولا يساوي (أ) وحده ولا (ب) وحدها.
    الجواب
    إذا فرضنا أن المعلوم هو (أ)، والجزء المتأثر هو (ب)، والأثر المادي المفروض هو (ك)، والصورة العلمية هي (ج)، فهذا القانون لا يكون صحيحاً إلا إذا أثبتنا أن (ج=ك)، وفي غير هذه الصورة لا تصبح له أية قيمة.
    ونستطيع أن نعبّر عن هذا باللغة الفلسفية فنقول أن الموجود الذهني والموجود الخارجي متحدان في الماهية مختلفان في الوجود، والشيء المستحيل هو اتحاد موجودين مستقلين في الوجود، وليس مستحيلاً اتحاد وجودين في الماهية مع اختلافهما في الوجود فأحدهما له وجود خارجي هو منشأ للآثار والآخر له وجود ذهني (غير خارجي) ليس منشأ للآثار.

    [ 146 ]

    إشكال

    صحيح أن الصورة العلمية أو الفكر والإدراك ليس لها بعض خواص المادة كالانقسام والتغير، ولكنها تتصف ببعض خواصها الأخرى، فأفكارنا وإدراكاتنا- مثلاً -زمانية، وهذه الصفة من خواص المادة.
    الجواب
    لقد تفوه بهذا الكلام أيضاً بعض علماء النفس، ولما كان هؤلاء غير متعمقين في دراسة الزمان فهم قد تورطوا في هذا الاشتباه (في الغالب يذكر علماء النفس أن الأمور الذهنية ليست مكانية أي أنها لا يمكن أن يفرض لها مكان معين في نقطة خاصة من المخ فيقال مثلاً أن القصة الكذائية التي أتخطرها أو القصيدة الفلانية التي أحفظها توجد في النقطة الفلانية من المخ. فهذه الأمور الذهنية إذن ليست مكانية ولكنها زمانية لأن ظهورها واختفاءها يتمان في زمان معين.
    ومن الواضح أن في هذا التعبير تسامحاً، والأدق منه نظرية صدر المتألهين الفلسفية حول الزمان وقد أُديّت بإسلوبه الفلسفي الخاص مدّعمة بالبراهين الفلسفية العميقة، وتشهد لصحتها النظريات العلمية المعتمدة في هذا العصر عند العلماء الغربيين وهي تتضمن كون الزمان والتغيير مترافقين، وإن هذين منتزعان من جوهر الأمور المادية الطبيعية، ولا يمكن تصور واقع مادي غير متغير أو غير زماني، ولا متغير غير زماني، ولا زماني غير متغير، وبالتالي فلا يمكن اعتبار التغيير (الحركة) والزمان خارجين عن حقيقة وواقع الأمور المادية الطبيعية، وبتعبير صدر المتألهين فإن أحد مشخصات كل موجود مادي هو الزمان، ذلك الزمان الذي وجد فيه وطرأت عليه التغييرات أثناءه.
    أما العلماء الغربيون المعاصرون فهم يعبرون عن ذلك بقولهم: كل شيء مادي فله أربع ميزات: الطول والعرض والعمق والزمان، وعلى هذا فإذا أثبتنا أن موجوداً ما ليس فيه تغيير فقد ثبا ضمناً أنه ليس مادياً ولا زمانياً. ولما كنا قد أثبتنا كون الإدراكات ثابتة ودائمة وليس فيها تغيير إذن فقد ثبت ضمناً أنها ليست زمانية).

    [ 147 ]

    فالزمان هو مقدار الحركة (كما سيتضح في المقالات الآتية).
    وبعبارة أخرى: فنحن نطلق الزمان على تلك الحركة المأخوذة بسرعة وبُطئ معينين وقد اتخذت مقياساً لسائر الحركات. فالزمان إذن لا يمكن أن يكون بدون حركة، والحركة لا يمكن أن تتحقق بدون مادة، والمادة لا توجد بدون خواصها الضرورية.
    ولو كان إدراكنا شيئاً مادياً للزم أن تكون له خواص المادة الأخرى. والذي يتصور أن الإدراك (الفكر) زماني فهو يخلط بين العمل الفيزيائي الذي يتم في المخ وحقيقة الإدراك "الفكر" (والعلماء الماديون أيضاً متورطون دائماً في هذا الخلط).
    فالصورة العلمية التي تكتسبونها في ساعة معينة من الزمان عن طريق الحواس يرافقها ظهور أثر مادي في سلسلة الأعصاب أو المخ، وهذا الأثر لا يمكن أن يوجد قبل ذلك الزمان المعين ولا بعده، ولكن حقيقة ذلك الإدراك ليست مقيدة بذلك الزمان المعين. ويشهد لذلك أننا نستطيع أن ندرك تلك الصورة بعينها في أزمنة مختلفة، مع أن الموجود الزماني لا يبقى على حال واحدة في زمانين مختلفتين.

    [ 148 ]

    إكمال لأصل الموضوع
    ما قلناه بالنسبة الإدراكات المتعلقة بالحواس والمخ من أنها غير مادية يمتد ليشمل شيئاً آخر وهو العلم بالنفس (جرى البحث لحد الآن حول الأمور المسماة بالخواص الروحية من قبيل الإدراكات الحسية والخيالية والعقلية والإرادة والحب والكره والبغض والحكم والتصديق وغيرها، وثبت لدينا أن هذه الأمور تفتقد الخواص العامة للمادة ، ولهذا لا يمكن اعتبارها من خواص التركيبات المادية، ولم يجر البحث فيما مضى عن نفس شخصية الروح المستقلة التي تعتبر هذه الأمور من أعراضها وحالاتها أو من أفعالها وأعمالها. وهذا الموضوع الذي في المتن إنما هو إشارة إلى أحد البراهين المجملة التي أوردها الفلاسفة الإلهيون لإثبات الشخصية المستقلة للروح في مقابل التركيبات المادية الخاصة.
    والقارئ الكريم على علم بأن الماديين يعتبرون الروح ليس إلا اجتماعاً وارتباطاً خاصاً لأجزاء المادة، ويفسرون الخواص الروحية أيضاً بأنها خواص معينة للأجزاء المادية المترابطة.
    أما الروحيون فهم في نفس الوقت يعتبرون فيه الروح (الذي ظهر نتيجة حركة المادة وتكاملها الجوهري) مرتبطاً ومتعلقاً- بشكل ذاتي بالمادة فإنهم يقولون أنه يتمتع بشخصية مستقلة ومنفصلة.
    وأقام العلماء الروحيون في الشرق والغرب أدلة متضافرة لإثبات الشخصية المستقلة للروح وتجرده. ولا يخفى أن بعض هذه الأدلة ليس خالياً من الخلل. وليس هذا مجال سرد هذه الأدلة بكاملها ثم نقدها، بل نكتفي بذكر برهان واحد من البراهين الواضحة التي ذكرها الفلاسفة المسلمون (وأول من ذكر هذا البرهان مفصلاً هو السيخ الرئيس) وهو ليس بحاجة إلى مقدمات كثيرة، ويمكن أيضاً دعمه بأسس النفس الحديث، وقد أشير إليه في المتن ، وهو علم النفس بذاتها (الوعي بالذات).
    ولا بد من ذكر مقدمة تتضمن أن "الوعي بالذات" وهو معرفة كل إنسان بوجوده إنما هو بديهي لكل شخص، وكل واحد منا يعلم بنفسه بالعلم الحضوري. ولا ينكر الماديون وجود هذا الشعور ( الشعور بالذات) في الإنسان . إذن لا اختلاف ولا شك في أن كل أحد يتعقل ذاته ويعرف وجوده ويعتبر نفسه موجوداً مستقلاً وممتازاً من سائر الموجودات، فكل إنسان يدرك بالضرورة "إني موجود" ولكن الشيء الذي هو بحاجة إلى الاستدلال هو:
    ما هي حقيقة هذه "الأنا" التي كان وجودها بديهياً؟ وما هي خصوصياتها؟ أهي مادية أم لا؟ ألها وجود مستقل أم هي عين الجسم والخواص الجسمية؟
    إذن "أنا موجود" قضية بديهية حسب الحس الخاص في "الوعي بالذات" وليست بحاجة إلى الاستدلال، وقد صرف العلماء استدلالهم إلى حقيقية "الأنا" وليس إلى بيان أصل وجودها لأن وجود "الأنا" أمر بديهي.
    ومن هنا يعلم أن استدلال ديكارت لإثبات وجود "الأنا" عن طريق التفكير ليس سليماً، يقول ديكارت: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وليس هذا صحيحاً، لأن الوجود والتفكير بديهيان بالنسبة إلى كل إنسان، بل وجود الذات أكثر بديهية لأن الوعي بالتفكير متعلق بـ "الأنا" وهو فرع الوعي والشعور بـ "الأنا" ذاتها.
    ثم نرجع إلى أصل الموضوع ونتساءل:
    ما هي حقيقة "الأنا" التي كان وجودها أمراً بديهياً؟ وما هو هي الميزات التي تتمتع بها؟ أهي مادية أم لا؟
    توجد في هذا المضمار نظريتان هما:
    1-النظرية الحسية.
    2-النظرية الروحية.
    النظرية الحسية:-
    يدعي أصحاب هذه النظرية أن "الذات" أو "الأنا" هي عبارة عن مجموعة من الإدراكات المختلفة التي جاءتنا دائماً وعلى التعاقب من طريق الإحساس أو التخيل أو غيرهما، وهي لا تنقطع عن بعضها. وحسب هذه النظرية لا تصبح "الذات" موجوداً واحداً وإنما هي مجموعة من الإحساسات والتخيلات والأفكار التي تشكل سلسلة واحدة. فـ "الأنا" إذن مجموع ما أراه وما أسمعه وما أتذكره وما أفكر فيه طيلة حياتي.
    وقد أعلن هذه النظرية - في البداية- الفلاسفة الحسيون و التجربيون الذين ظهروا في أوربا منذ القرن السابع عشر فما اعتقدوا أن أساس المعرفة الصحيحة هو الإحساس والتجربة. ويقول هؤلاء العلماء: لما كان أساس المعرفة الصحيحة هو الحس والتجربة وهما لا يدركان سرى الأعراض والحالات، إذن نحن نرفض أي شيء سوى ما تثبته التجربة (ولكنهم مع ذلك لا ينكرونها). وقد كان من بين هؤلاء الأشخاص (من قبيل الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم) من لم يكتف بعدم الإيمان بوجود الجوهر النفساني المستقل، وإنما هو يفتقد الإيمان الراسخ أيضاً بوجود الجوهر المادي الخارجي الذي تعتبر الأعراض الطبيعية من حالاته، لأنهم يقولون أن الإحساس والتجربة تدلنا على وجود سلسلة من الأمور المسماة بالأعراض والحالات، وأما وجود الجوهر الجسمي الذي هو منشأ حالات الضمير والوجدان فلا تؤيده التجربة ولا يشهد له الحس.
    وتعرّف هذه الفئة النفس بقولها: "النفس مجموعة من التصورات المتعاقبة التي تظهر في الذهن".
    والماديون- أي القائلون بأصالة المادة بمعنى أنها الجوهر الوحيد الأصيل والقائلون بأن أساس المعرفة هو الإحساس والتجربة- يقتفون أثر الحسيين في بيان حقيقة "الأنا" ويزعمون أن "الأنا" أو النفس هي عبارة عن مجموعة الأفكار والخيالات و الإحساسات المتعاقبة التي توجد من تركيب مادي معين .
    يقول الدكتور الآراني في الصفحة (104) من كتاب يسيكولوجي":
    "إن تأثير العوامل المؤثرة لا ينمحي من الروح على الفور، وتوجد رابطة عامة بين كل المؤثرات التي تتعاقب على الروح وتؤثر فيه، وفقدان هذه الرابطة يبعث على غيبوبة الروح. وفي الحالة الطبيعية يكون الوعي الروحي موجوداً بفضل وجود الرابطة الكلية بين جميع العناصر والعوامل المؤثرة".
    ويقول في الصفحة نفسها:
    "إن مفهوم "الأنا" يظهر بهذه الصورة وهي أن تركيبة مادية تستقبل دائماً بعض التأثيرات الخارجية (مثل الصوت والضوء وغيرهما) وهذا الأمر يبعث الموجود الحي نحو الوعي بوجوده".
    ويقول في الصفحة (105):
    "لا بد لنا من التمييز بين ناحيتين من نواحي "الأنا" وهما :"الأنا المؤثرة" و "الأنا المتأثرة"، فالأنا المؤثرة عبارة عن الهيكل الذي اعتبره نفسي أما الأنا المتأثرة فهي تعني إنني أعرف ذاتي. والأنا المؤثرة هي نتيجة كل الظروف التي أوجدتها من قبيل الأجزاء المادية، والعوامل المؤثرة فيها (كالصوت والضوء وغيرهما) والإحساسات المرافقة لتأثير العوامل، والحركات (الإرادية وغير الإرادية). أما الأنا المتأثرة فهي التي تشهد وترى هذه النتيجة الكلية".
    ويقول في الصفحة (104):
    "في الموجود الحي السليم يوجد مفهوم "الأنا" بصفة مستمرة ومنتظمة في أزمنة متعاقبة، وهو لا ينقطع إلا في حالة النوم، ويمكن أن يوجد الاختلال في "الأنا" نتيجة لتناول المواد المخدرة والمسكرة".
    ويواصل حديثه في الصفحة (106):
    "إني في نفس الوقت الذي أكون فيه أنا نفسي فإني لست بنفسي، إني أنا ذلك الثابت ولكني في نفس الوقت متغير. وأفضل مثال يمكن ذكره لفهم هذه القضية هو التشبيه بالنهر، فالنهر جار باستمرار، وهو في كل لحظة يختلف عن اللحظة السابقة، وفي نفس الوقت النهر هو النهر".
    إذن خلاصة هذه النظرية هي أن مفهوم "الأنا" عبارة عن سلسلة من الإدراكات والإحساسات والأفكار المتعاقبة التي تشكل مجرى واحداً.
    النظرية الروحية:
    تقول هذه النظرية أن "الأنا" أو "الذات" التي يعلم بها الإنسان حضوراً ويؤمن بوجودها بداهة هي عبارة عن موجود واحد متشخص (وليس سلسلة الأمور المتعاقبة) ثابت باق خلال كل الحالات والأعراض، وهو لا يقبل التعدد ولا الكثرة ولا الفساد.
    والدليل على كون "الأنا" حقيقة واحدة وليست سلسلة من الإدراكات المتوالية هو:
    أولاً: إن حقيقة "الذات" تنسب كل تلك الإدراكات المتعاقبة إلى نفسها، وهي تعدّ المنسوب غير المنسوب إليه، فتقول (أنا أفكر) أو (أنا أنظر)، وكما أنها تعي ذاتها بالعلم الحضوري أيضاً ولا شك لها فيها ولا ترديد.
    ثانياً: كل واحد منا يدرك أنه واحد في الماضي والحاضر وليس أكثر من ذلك ولو كان مثل حلقات السلسلة يوجد منها في كل لحظة حلقة لما أمكن هذا التمييز.أيمكن أن نحكم على حلقة تقع في هذا الطرف من السلسلة بأنها نفس تلك الحلقة الواقعة في الطرف الآخر؟

    وعلاوة على هذا فإن النفس لا تحتاج إلى إحياء الخواطر الماضية لكي تميز أنها واحدة في الماضي والحاضر، ولو كانت كحلقات السلسلة لما أمكن أن تدرك ذاتها في الماضي بدون تذكر الخواطر الماضية.
    ثالثاً؛ ما قلناه بالنسبة إلى الحافظة من أنه لا يمكن التذكر حسب فرضية الماديين أي أنه لا يمكن تذكر ما مرّ في الماضي على أساس أنه ليس إدراكاً جديداً- ما قلناه هناك وأردهنا بطريق أولي، أي إذا كانت "الأنا" عبارة عن مجموعة متعاقبة من الإدراكات التي لا ترتبط ببعضها إلا برابطة التعاقب أو العلية والمعلولية فكيف يمكن عنئذ أن يميز الشخص بأنه هو نفسه ذلك الذي كان من قبل؟
    رابعاً: تصبح الإدراكات -حسب نظرية الماديين- عبارة عن نشاطات وخواص الخلايا التي تكون سلسلة الأعصاب، وهذه الخلايا هي دائماً في تغير وتبدل بجميع محتوياتها، فمجموعة منها تموت ومجموعة أخرى تحل محلها، مع أن كل واحد منا يلاحظ أنه هو ذلك الشخص الذي كان قبل ستين أو سبعين عاماً دون تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان (ذلك كله في ذاته وليس في حالاته).
    وخلاصة هذا الكلام الذي يعتمد على أساس وعي النفس بوجودها وكيفية وجودها هو أننا نثبت كون الإنسان يعرف ذاته على أساس أنها حقيقة واحدة ثابتة، وكل الحالات النفسية إنما هي مظاهر لها، وإنها حقيقة مجردة من المادة -نثبت ذلك بهذه الطرق:
    أولاً: عن طريق النسبة (أي إن الإنسان ينسب إلى ذاته كل الإدراكات، وهو لا يعتبرها عين ذاته).
    ثانياً: عن طريق الوحدة (أي أن كل إنسان يدرك أنه واحد في الماضي والحاضر وليس أكثر).
    ثالثاً: عن طريق العينية (أي أن كل إنسان يدرك أنه هو بنفسه ذلك الذي كان وليس غيره).
    رابعاً:عن طريق الثبات (أي أن كل واحد منا يدرك أنه لم يحصل له أي تغيير في ذاته).
    وحاول الدكتور الآراني أن يفرّ من أشكال الثبات وعدم التغيير- الذي هو من خواص الروح ولا ينسجم مع الخواص العامة للمادة- وكذلك بقية الإشكالات ولكنه تورط في تناقض صارخ، فهو يقول في الصفحة (106) من كتاب يسيكولوجي":
    "ولا بد أن ننظر الآن لنرى "الأنا" و "الذات" أهي ثابتة أم متغيرة؟ فالموجود الحي يتبدل دائماً حيث تموت مجموعة من الخلايا لتحل محلها خلايا أخرى، وتتحلل مواد البدن باستمرار ثم تتكون مرة أخرى بفضل تدفق المواد الغذائية. إذن مادة الجسم في كل موجود حي تتغير دائماً. ومن ناحية أخرى فإن حالة الشعور والوعي ومعرفة الذات تتغير دائماً أيضاً، فـ "الأنا" الاجتماعية قبل عدة سنوات تختلف عنها هذا اليوم. وأنا أستطيع كذلك أن أقسم ذاتي- في لحطة واحدة- إلى عدة ذوات، فمثلاً أنا أسير في طريق معلوم أعرفه وأفهمه وفي نفس الوقت أقوم بحل مسألة رياضية أو مشكلة سياسية، فهذان القسمان في ذاتي يختلفان عن ذواتي الأخرى التي تتحقق في أزمنة متعاقبة. وملخص الحديث أنه ليس فقط مادة جسمي هي في تغير دائم وإنما كيفية الارتباط الزماني والمكاني لأجزاء تلك المادة (أي حالات الشعور) أيضاً في تغيير مستمر، ولكنه من ناحية أخرى فأنا نفس ذلك الإنسان المسؤول عن كل قراراتي الماضية والمنفذ لكل أعمالي السابقة التي تنبعث منها ذاتي الحالية وذاتي في المستقبل المتوقع. ونستطيع أن نحل هذا التضاد بوساطة التفكير الديالكتيكي فأنا في نفس الوقت الذي أكون فيه نفسي فأنا لست بنفسي، وأنا بذاتي ثابت ولكني متغير أيضاً. وأفضل مثال يمكن ذكره لتوضيح هذا الموضوع هو النهر، فالنهر جار وفي كل لحظة يختلف عن اللحظة السابقة وفي نفس الوقت فالنهر هو النهر وهو موجود في نفس المكان لسنين متطاولة. فالنظرة الديالكتيكية تتجه إلى القضايا وهي في حال الجريان، أي أن الديالكتيك ينكر وجود "الأنا" المرتبطة بمجموعو كبيرة من القضايا الخارجية. إذن توجد "الأنا" الثابتة المرتبطة بالقضايا الخارجية المتغيرة".
    فالكاتب يحاول هنا أن يفسر "الأنا" و "الذات" حسب الأسس الديالكتيكية فهو يعترها متغيرة متكثرة وفي نفس الوقت يعدّها واحدة ثابتة باقية حسب العلم الحضوري للنفس بذاتها. ولإثبات القسم الأول -وهو تكثر "الذات" وتغيرها- يذكر دليلاً يتعلق بكثرة حالات "الأنا" وبينما نحن نعرف بأقل تأمل أن هذه تتعلق بتغير وكثرة حالات "الأنا" وليس ذات "الأنا" أما في القسم الثاني فهو يدعي أن هذا الثبات لا يتنافى مع التغيير، وهذه الوحدة لا تتناقض مع الكثرة.
    ولسنا نعرف لماذا انحرف الكاتب في هذا المجال حتى على أسس الديالكتيك؟ أليس أصل التغيير واحد من أسس المنطق الديالكتيكي؟ وحسب هذا الأصل ألا يصبح أصل الثبات والجمود والبقاء على حالة واحدة منفياً تماماً؟ ويتخيل المنطق الديالكتيكي أنه يحل كل تضاد بأصل التغيير هذا فيزعم أنه لما كان كل شيء في حالة حركة فهو إذن نفسه وهو أيضاً ضد نفسه.
    وعندئذ نسأل هؤلاء: بأي أصل نحن نستطيع حلّ التضاد الواقع بين أصل التغيير وأصل الثبات؟ وماذا يعني التشبيه بالنهر؟
    أنه ليس أكثر من تشبيه شاعري لأن ماء النهر مكون من وحدات تسمى بالجزيئات وكل جزئ فهو مكون من ذرات وكل ذرة تتكون من أجزاء أصغر، وكل هذه في حالة حركة مستمرة بحيث لا يوجد جزء ثابت، وهذه الصورة الواحدة لا توجد إلا في أذهاننا حيث جعلت أذهاننا لمجموع هذه مفهوماً واحداً (هو النهر) واعتبرته لها.
    ولسنا ندري لماذا يتناسى الماديون هنا الجملة الشهيرة للفيلسوف اليوناني "هراقليطوس" مع أنها تذكر في كتبهم شاهداً وقد ذكرها الدكتور الآراني في كتيب "المادية الديالكتيكية" شاهداً على هذا الاتجاه، يقول "هراقليطوس": "لا يمكن أن نرد نهراً واحداً مرتين". وتشير هذه الجملة بوضوح إلى أن النهر ليس هو ذلك النهر في لحظتين متعاقبتين.
    ومن الواضح جداً أن هناك تفاوتاً هائلاً بين الوحدة والثبات اللذين يشعر بهما الإنسان بالعلم الحضوري بالنسبة إلى ذاته، والوحدة والثبات اللذين يفرضان للنهر حال جريانه أو الفوج العسكري حال تفقده، لأن الأول منهما (أي الذات) واحد حقيقي واقعي وثابت، أما الثاني فهو فرضي واعتباري، وليس صحيحاً أن يعتبر هذان بصورة واحدة)

    [ 149 ]

    فكل واحد منا شعور بـ "الأنا"، وتشير التجارب والقرائن إلى أن بعض الموجودات الحية لها نفس هذه الحال.

    [ 150 ]

    وكل فرد منا يشاهد -عيناً- وجود شيء لا ينطبق على أي عضو ولا ينسجم مع الخواص العضوية، لأنه لا يختلف بزيادة أو نقيضة

    [ 151 ]

    تلك الأعضاء، ولا يتغير باختلاف سنّي العمر ولا بتحلل القوى، بل هو يزداد وضوحاً وكمالاً، وقد يغفل الإنسان أحياناً عن أحد أعضائه أو عن مجموعة منها ولكنه لا يغفل أبداً عن ذاته.

    [ 152 ]

    وهو يشاهد ذاتاً ثابتة غير متحولة ولا يجد أي تغيير قد طرأ على

    [ 153 ]

    "الأنا" منذ أقدم الأيام التي يستطيع أن يتذكرها ويستحضرها في ذهنه (لابد من الالتفات إلى أن هذا التذكر يقترن غالباً بتذكر

    [ 154 ]

    مجموعة من الأعمال أو الحوادث التي هي زمانية، وأما "الأنا" التي تدرك فهي لا تنطبق على الزمان وحتى بحسب التصور).

    [ 155 ]

    وهو يشاهد شيئاً واحداً ليس فيه كثرة ولا انقسام.
    ويشاهد أيضاً (وهذا هو الأهم من الجميع) أن هناك شيئاً

    [ 156 ]

    محضاً خالصاً ليس قيه خليط ولا تحديد نهائي، وليس فيه غيبة عن ذاته، ولا يحول بينه وبين ذاته أي حائل.
    النتيجة
    نستنتج من هذا الكلام أن العلم بالنفس ليس مادياً، والأهم

    [ 157 ]

    من هذا أنه يستنتج منه كون النفس بذاتها تعلم بذاتها، أي أن واقع العلم وواقع المعلوم في مورد النفس واحد، ولهذا تقول الفلسفة أن هذا اللون من الإدراك (العلم الحضوري) يباين الإدراكات الأخرى، وهي تقسم مطلق العلم إلى قسمين:
    1-العلم الحصولي.
    2-العلم الحضوري.
    وحسب التعبير الفلسفي فالعلم الحصولي هو حضور ماهية المعلوم عند العالم، أما العلم الحضوري فهو وجود المعلوم عند العالم (ليرجع من يحب إلى التعليقة المثبتة في الصفحة (102)، وأيضاً إلى المقالتين الرابعة والخامسة ففيهما تفصيل أكبر بالنسبة إلى هذا الموضوع) .
    ومن هنا فنحن نستغرب حديث العلماء الماديين الذي مرّ ويثير فينا قانونهم السابق العجب والحيرة.

    [ 158 ]

    إشكال

    يقول العلماء الماديون أن التأثيرات المختلفة التي ترد بسرعة عظيمة من الأعصاب إلى المخ تكوّن- عن طريق تبديل الكمية إلى كيفية- شيئاً واحداً نسميه بالخاصة الروحية، ويشهد لهذا أن انعدام هذه الحواس أو الغيبوبة أو الموت- كل هذه تذهب أيضاً بهذه الخاصة الروحية.
    الجواب
    جواب هذا الكلام واضح مما مرّ علينا من قبل، لأننا لسنا منكرين لوجود مثل هذه الخواص للمخ. وهذه هي عين النفس التي يفرضها علماء النفس في بحوثهم لحاجتهم الفنية لذلك.
    وكلامنا ينصب على أن ما نشاهده في مورد "الأنا" لا ينطبق على خواص المخ، لأن كل ظاهرة مادية لا بد أن يكون لها-في كل الأحوال- الخواص الضرورية للمادة. وما يقال من أن الروح أو الشعور الروحي يفنى أحياناً ليس إلا ادعاءاً لا يسنده دليل، بل قد يلتفت الإنسان إلى ذاته في حالة الإغماء، وأحياناً قد لا يتذكر شيئاً بعد انتهاء الإغماء لا أنه يلتفت إلى أنه لم يلتفت إلى ذاته في تلك الحال، وبين هاتين الجملتين فرق هائل.
    إذن ثبت في هذه المقالة أمران:
    1-أن العلم والإدراك ليسا ماديين إطلاقاً.
    2-العلم على قسمين:
    حصولي وحضوري.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي


    [ 159 ]

    المقَــــالة الرابعَـــة

    [ 160 ]

    قيمة المعلومات
    مقدمة صاحب التعليقة
    من الأفضل أن نسمي قيمة المعلومات باسم قيمة العلوم والإدراكات، ويهدف هذا الموضوع إلى توضيح عدة أمور:
    منها: إلى أي حد تكون إدراكاتنا حقيقية (أي مطابقة للواقع)؟
    ومنها: أيمكن الاطمئنان بأن ما ندركه عن طريق الحس والعقل موجود في الواقع ونفس الأمر بهذا الشكل؟ أم يحتمل أن لا يكون هناك واقع إطلاقاً، وكل المعلومات إنما هي عبث في عبث؟ أم يحتمل أن يكون هناك واقع ولكننا ندركه بشكل آخر حسب البيئة الزمانية والمكانية التي تحيط بعقولنا؟
    وقد مرّ علينا في المقالة الأولى أن الفلسفة تطلق على بعض الإدراكات اسم الحقائق (وهي المطابقة للواقع)، وهي تسعى لكي تميز الحقائق من الاعتباريات والأوهام. ومن البديهي أن هذا السعي لا يكون مثمراً ما لم يكن ذهن الإنسان مستعداً لإدراك الواقع كما هو موجود، ولو كان الذهن يدرك الأشياء-دائماً-بكيفيات مخلوقة من عنده لأضحت الفلسفة بلا موضوع ولأمسى سعيها عبثاً.
    فمن ناحية يمكن اعتبار مسألة قيمة المعلومات أساس المسائل الأخرى لأن المذاهب المختلفة تفرق فيها. فعند هذه المسألة تفترق

    [ 161 ]

    " الواقعية"(Realism) عن "المثالية"(Idealism) وعن "السوفسطائية"(Sophism)، ومنها تنفصل سبيل الفلسفة اليقينية "الدكماتية"(Dogmatism) التي جاء بها أفلاطون وأرسطو وأتباعهما من قدماء اليونان وجميع الحكماء في المرحلة الإسلامية، وديكارت(Descartes) وليبنتس (Leibniz)ومجموعة أخرى من الفلاسفة المحدثين في أوربا عن سبيل فلسفة الشك "السيتسية"(Scepticism) التي أسسها بيرون( Pyron) زهاء القرن الرابع قبل الميلاد في اليونان وكان لها اتباع في اليونان ثم في الإسكندرية وأخيراً في أوربا.
    وصحيح أن هذه المقالة قد اقتصرت على موضوع كيفية وقوع الخطأ الذي راح يتعلل به المثاليون، ولكن قيمة المعلومات قد أُثبتت إجمالاً في المقالة الثانية أثناء أجوبتنا على شبهات المثاليين، ونقدنا في الملاحظة الثانية من تلك المقالة (ص93-107) عقائد المادية الديالكتيكية في هذه المسألة ونأمل أن يتمكن القارئ نتيجة لقراءة هذه المقالة "قيمة المعلومات" والمقالة الثانية التي سبق ذكرها والمقالة الخامسة التي سوف تجئ بعنوان "ظهور الكثرة في العلم" مع التعليقات التي كتبت لها- نتيجة لقراءة هذه جميعاً نأمل أن يجد حلاً لهذه المسائل الفلسفية المهمة:

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي


    [ 162 ]


    [align=right]1-قيمة المعلومات.
    2-طريق الحصول على العلم.
    3-تعيين حدود العلم
    [/align].
    ويتضح لنا وجوب إمعان النظر في هذه المسائل إذا لاحظنا أن الفلاسفة الأوربيين خلال القرون الأربعة الأخيرة قد قصروا جهودهم على دراسة العلم والمسائل لمتعلقة به، وكانت هذه المواضيع الثلاثة السابقة الذكر محور مسائل الفلسفة الأوربية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مسائل العلم في الفلسفة الإسلامية هي من أكثر المسائل تعقيداُ وأشدّها غموضاً.
    ولأهمية مسألة "قيمة المعلومات"، التي هي موضوع هذه المقالة، ولكون العلماء الماديين معتقدين بعقائد خاصة فيما يتعلق بها وهم يذكرونها عند تناولهم موضوع "قيمة المعلومات"، فنحن نقدم بمقدمة مفصلة لهذه المقالة ليزول كل غموض يكتنف هذه المواضيع. ونسعى في هذه المقدمة إلى ذكر خلاصة لاتجاه الأفكار ومسير العقائد منذ العصور التاريخية الغارقة في القدم وحتى العصر الحاضر فيما يتعلق بهذه المسألة. ونترك تفصيل المسألتين الأخريين إلى المقالة الخامسة.
    والقراء الذين يحرصون على معرفة الأسلوب الواقعي-الذي تنهض هذه المقالات بعبء توضيحه- سوف يطلعون خلال بحثنا لموضوع "الحقيقة" في هذه المقدمة على مواقف كثير من المذاهب الفلسفية التي تزعم أنها تلتزم بالأسلوب الواقعي، ولكنها سلكت سبيلاً في "قيمة المعلومات" يبعدها كثيراً عن الواقعية ويلقي بها في مزالق المثالية. ونخصّ بالذكر المادية الديالكتيكية التي تعدّ نفسها

    [ 163 ]

    واقعية مائة بالمائة ولكنها انحرفت في مسألة "قيمة المعلومات" وبيان الحقيقة إلى حدّ أنها وقعت في لجج "السفسطة" ومذهب الشك وهي لا تعلم بذلك.
    قيمة المعلومات:
    أيكون الواقع ونفس الأمر مطابقاً لما نحسّه ونتعقّله أم لا؟ وبعبارة أخري فإن بحثنا يدور حول كون إدراكاتنا حقيقية ومطابقة للواقع أم لا.
    وقبل أن نلج في صميم الموضوع لابد من البحث عن تعريف للحقيقة بأسلوب فلسفي.
    ماذا تعني الحقيقة؟
    يطلق العرف كلمة الحقيقة على معانٍ غير مقصودة هنا، والمقصود منها هنا هو المفهوم الفلسفي لهذه الكلمة. ومن السهل أن نفهم تعريف الحقيقة بالأسلوب الفلسفي، فالفلسفة تستعمل "الحقيقة" مرادفة-عادة-لكلمة "الصدق" أو "الصحة"، وتطلق على القضية الذهنية المطابقة للواقع اسم "الحقيقة". أما "الخطأ" و "الكذب" و "الغلط" فهو يطلق على القضية الذهنية التي لا تطابق الواقع فالاعتقاد مثلاً بأن "الأربعة تساوي ضرب اثنين في اثنين" وأن "الأرض تدور حول الشمس" هو اعتقاد حقيقي وصادق وصحيح، أما الاعتقاد بأن "الثلاثة تساوي ضرب اثنين في اثنين" وإن "الشمس تدور حول الأرض" فهو اعتقاد مخطئ وكاذب.
    إذن كلمة "الحقيقة" هي وصف للإدراكات من حيث مطابقتها للواقع ونفس الأمر.

    [ 164 ]

    ويجري عادة في الإصلاح الحديث إطلاق اسم "الواقع" على الواقع الخارجي ونفس الأمر، ولا يطلق عليه اسم "الحقيقية"، ونحن مقتفون أثر هذا الاستعمال، ففي أي مكان نذكر الواقع فنحن نقصد به ذات الواقع ونفس الأمر، وكلما ذكرنا الحقيقة فنحن نقصد ذلك الإدراك المطابق للواقع.
    ويفسر الفلاسفة-منذ أقدم العصور- الصدق والصحة بهذا المعنى الذي ذكرناه، فكلما قالوا أن الموضوع الكذائي حقيقي أو صادق أو صحيح فهم يقصدون أنه مطابق للواقع، وإذا قالوا أنه مخطئ أو كاذب أو غلط فهم يعنون أنه لا يطابق الواقع.
    ويذكر المنطقيون والفلاسفة الأقدمون مبحثاً بعنوان "المناط في صدق القضايا وكذبها" يجري البحث فيه على هذا الأساس أيضاً.
    ولكن بعض العلماء المحدثين قد أورد إشكالات على هذا التعريف (سوف يأتي بيان هذه الإشكالات ضمن كلمات هؤلاء) واعتقد أنها لا يمكن حلّها ولهذا فهو قد اعتبر أشياء أخرى مقياساً لصدق القضايا وحقيقتها "(ولم يعتبر المطابقة للواقع مقياساً)، وعرفوا الحقيقة بإشكال أخرى تنقذهم-كما يتخيلون- من تلك المحاذير.
    وهذه هي بعض التعاريف والتفسيرات التي قدمها بعض العلماء يقول المفكر الفرنسي الشهير "أوجست كونت" (August comte) مؤسس "الفلسفة الوضعية"(Positivism):

    [ 165 ]

    "إن الحقيقة هي عبارة عن تلك الفكرة التي تتفق عيها الأذهان في زمان واحد".
    فهذا الكاتب لا يعتبر اتفاق الأذهان جميعاً في زمان ما علامة على الحقيقة وإنما هو يقول أن الحقيقة وإنما هو يقول أن الحقيقة لا تعني شيئاً غير هذا.
    أما فيلسين شاله (F.Chaluis) الذي اختار عقيدة أوجست كنت في باب "الحقيقة" فهو يقول في كتاب الفلسفة العلمية- فصل قيمة العلم وحدوده:
    "يقال عادة في تعريف الحقيقة (أو الصدق) أنها مطابقة الفكر لموضوعه أو مطابقة الفكر للواقع. ولكن هذا التعريف لا ينطبق على الحقائق الرياضية التي ليس لموضوعها وجود خارجي، وهو لا ينسجم أيضاً مع الحقائق النفسية التي كل وجودها ذهني، وهو لا يتلاءم مع الحقائق التاريخية التي يكون موضوعها قد ذهب حسب التعريف. ولا يخلو هذا التعريف من الأشكال إذا اخترناه بالنسبة إلى الحقائق التجريبية لأنه بالقياس إلى الذهن لا يكون الموضوع الخارجي سوى مجموعة من الإحساسات والصور فقط وليس شيئاً آخر". إلى أن يقول: "وحسب القول العميق لأوجست كنت فإن الحقيقة تعني انسجام كل الأفكار في ذهن الفرد واتفاق عقول كل أفراد المجتمع الإنساني في مرحلة تاريخية معينة بحيث تتحقق الوحدة المعنوية".
    أما ويليام جيمس (William james) الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي الشهير المؤسس للفلسفة "النفعية" (البراجماتية) (Pragmatism)فهو يعرف بشكل آخر فيقول:

    [ 166 ]

    "الحقيقة هي عبارة عن تلك الفكرة التي تؤثر في العمل تأثيراً مفيداً".
    فهذا العالم يجعل جملة " أنه مفيد" مرادفة لجملة "أنه حقيقي".
    ولا يعتبر هذا العالم كون الشيء مفيداً في العمل علامة على أنه حقيقي وإنما هو يقول أن "الحقيقة" لا تعني شيئاً غير هذا.
    وينقل المرحوم فروغي عن ويليام جيمس قوله:
    "يقولون أن الحق هو صورة طبق الأصل من الأمر الواقع، يعني أن القول المطابق للواقع هو الحق. حسن، ولكن ما هو هذا الواقع الذي إذا وافقه القول أصبح حقاً؟ أهو أمر ثابت ولا يتغير؟ كلا، لأن العالم يتغير باستمرار ولا يوجد فيه شيء ثابت. إذن من الأفضل أن نقول: الحق هو ذلك الشيء الذي له تأثير نافع على ما هو موجود فعلاً، فالقول الذي له نتيجة صحيحة هو حق. وليس صحيحاً أن نقول: لما كان هذا حقاً فنتيجته لابد أن تكون صحيحة.
    وتدعى فئة أن: "الحقيقة هي ذلك الفكر الذي أثبتته التجربة". ولا تعتبر هذه الفئة انطباق الفكر على التجربة ولا كونها عملية علامة على الحقيقة وإنما هي تقول أن معنى الحقيقة ليس شيئاً غير هذا.
    وتزعم فئة أخرى: "أن الحقيقة تعني ذلك الفكر الذي يظهر نتيجة للتأثير المتبادل والمواجهة المتحققة بين الحواس والمادة الخارجية، فلو فرضنا أن إنسانين قد واجها واقعاً واحداً ولكنهما أدركاه بإدراكين مختلفين أي أن أعصاب كل منهما قد تأثرت بشكل مختلف، فكلا الإدراكين حقيقي، فلو رأى إنسان مثلاً أحد الألوان أخضر ورآه

    [ 167 ]

    الآخر أحمر فكلتا الرؤيتين حقيقية، لأن كلتيهما قد حدثتا نتيجة للاتصال الحاصل بين الحواس والخارج".
    أما البعض الآخر فيزعم: "أن الحقيقة هي ذلك الشيء الذي هو أسهل بالنسبة إلى الذهن، فعندما نقول أن وجود العالم الخارجي حقيقة فهو يعني أن قبول ذلك أسهل للذهن، وليس له معنى آخر غير ذلك".
    وفسّر بعضهم الحقيقة بشكل آخر فقال مثلاً:
    "إن الحقيقة تعني ذلك الفكر الذي اهتدى إليه العقل بأسلوب علمي".
    وواضح جداً إن هذه التعاريف ولتفسيرات ليست إلا "استسلاماً" لإشكالات المثاليين والسوفسطائيين والإشكالات الأخرى التي ذكرت ضمن كلام فيلسين شاله وويليام جيمس.
    ونزاع الفلسفة والسفسطة، أو الواقعية والمثالية ليس نزاعاً لفظياً اصطلاحياً حتى نستطيع بتغيير الاصطلاح أن نفّر من محاذير وانحرافات المثالية.
    أيوجد للسوفسطائيين حديث آخر غير إنكارهم خاصية الإدراكات في كونها مطابقة للواقع؟
    أيمكن جعل "اتفاق كل العقول في زمان ما وعدم اتفاقهما" مقياساً لتمييز الأفكار العلمية والفلسفية من الأوهام السوفسطائية؟
    أو أن المقياس هو كونها مفيدة وغير مفيدة؟ أهو مواجهة الحس للخارج وعدم مواجهته له؟
    ألا يلزم من تفسير الحقيقة بهذا النحو نفي قيمة المعلومات ثم الانغماس في لجج المثالية ومذهب الشك؟

    [ 168 ]

    والمطلعون على المنطق والفلسفة الإسلامية يعلمون أن الإشكالات التي أوردها أمثال فيلسين شاله وويليام جيمس على التعريف القائل بأن الحقيقة هي مطابقة الأفكار للواقع قد وجدت حلولها في هذه الفلسفة وذلك المنطق وهي لا تشكل خطراً جديّاً.
    وعلى هذا فالفيلسوف الواقعي الذي ينفر من الأصول المثالية ويبحث عن أسلوب ورؤية واقعية لا يجد بدّاً من تفسير الحقيقة كما فسّرها القدماء، واعتبار ما اعتبره القدماء "مقياساً للصدق".
    ولا تفسّر هذه المقالات-التي تهدف إلى بيان الأسلوب الواقعي-الحقيقة ولا مقياس الصدق بأي معنى من هذه المعاني التي تودي في النهاية إلى المثالية والسفسطة، وإنما هي تفسرها بالمعنى الذي جرى عليه العلماء الماضون وأغلب العلماء المحدثين.
    وقد تناولت الفلسفة القديمة مواضيع متعددة ومتنوعة فيما يتعلق بالحقيقة بهذا المعنى لا مذكور، وليس بإمكاننا أن نلّم بكل هذه البحوث، وإنما نقصد في هذا المجال أن نذكر بشكل مختصر بعض هذه الدراسات. ولهذا فنحن نتناول هنا بالبحث هذه المواضيع:
    1-أللحقيقة وجود في الجملة أم كل إدراكات البشر وهمية وباطلة وعابثة؟
    2-ما هو المقياس لتمييز الحقيقة من الخطأ؟
    3-أيمكن أن يكون شيء واحد حقيقة وخطأ؟
    4-أتكون الحقيقة مؤقتة أم دائمة؟
    5-أتكون الحقيقة قابلة للتحول والتكامل؟
    6-لماذا تكون الحقيقة الناتجة من التجربة غير يقينية؟
    7-أتكون الحقيقة مطلقة أم نسبية؟
    1-أللحقيقة وجود في الجملة؟
    إن كون إدراكات الإنسان (في الجملة) حقيقية ومطابقة للواقع أمر بديهي.
    وهذا يعني أن القضية القائلة: "إن المعلومات البشرية ليست وهميّة مائة بالمائة على العكس على العكس مما يدعيه المثاليون" واضحة جداً وهي ليست بحاجة إلى استدلال، بل الاستدلال على هذا الموضوع مستحيل وغير ممكن.
    وهناك مجموعة من الحقائق المسلمة التي أطلقنا عليها اسم البديهيات في المقالة الثانية، وهي موجودة في عقل كل إنسان وحتى في عقول السوفسطائيين أنفسهم، فهم يعترفون بها في أعماق أنفسهم، ولا نجد في واقع الحياة سوفسطائياً واقعياً، أي بمعنى ذلك الشخص المتردد في كل شيء المنكر لكل حقيقة.
    وعندما يحاول السوفسطائيون والمثاليون إثبات وقوع الأخطاء فهم يذكرون لذلك أدلة من الحس والعقل. وقد قلنا في جوابنا للشبهة الثانية من المقالة الثانية أن إدراك الخطأ نفسه دليل على وجود مجموعة من الحقائق المسلّمة لدينا وقد اتخذناها مقياساً ومعياراً ثم أدركنا الخطأ على أساسها، وإلا فلا يكون معنى للخطأ حينئذ، لأن الخطأ لا يمكن تصحيحه بخطأ آخر.
    والغرض من هذا الحديث هو تنبيه كل إنسان إلى إدراكاته الفطرية، وليس الغرض منه الاستدلال وإقامة البرهان على المدّعى، فالشخص المنكر لكل الحقائق المسلمة (من الواضح أنه ينكرها باللسان فقط) يصبح الاستدلال بالنسبة إليه عبثاً ولغواً، لأن كل

    [ 170 ]

    استدلال لابد أن يعتمد على مقدمات، وهذه المقدمات إما أن تكون مستغنية عن الاستدلال وإما أن تكون معتمدة على أسس مستغنية عن الاستدلال، وإذا كان الطرف المقابل غير مذعن لأيّ أصل وهو يطلب لكل مقدمة دليلاً فإن ذلك يتسلسل إلى غير نهاية وعندئذ لا يمكن الحصول على أية نتيجة.
    وقد تمسّك أحد الماديين في مقام ردّ سفسطة المثاليين وإثبات وجود العالم الخارجي بفرضية لابلاس في أن الأرض قد انفصلت عن الشمس وبقيت فترة طويلة في حالة التهاب وبعد ملايين السنين ظهرت الموجودات الحيّة ومن جملتها الإنسان ومن جملتها الشخص المثالي الذي يعتبر كل الأشياء ذهنية. وتخيّل هذا المادي أنه قد ردّ سفسطة المثاليين بدليل قاطع، ولكنّه من الواضح أن هذه الأدلة لا تفيد شيئاً في ردّ من يعدّ الشمس والأرض والإنسان وكل العالم صوراً ذهنية لا واقع لها، ويعدّ العلم والفلسفة هراءً لا معنى له.
    وليس المقصود مما ذكر في المتن فيما يتعلق بكيفية وقوع الخطأ هو إقامة الدليل على ردّ ما يدعيه السوفسطائيون، وإنما المقصود منه الجواب على الشبهة (الشبهة الثانية من المقالة الثانية) التي ذكرت في باب كاشفية العلم وكيفية وقوع الخطأ في القوى الإدراكية.
    وقد ذكر في متن هذه المقالة أنه لا يوجد علم بلا مكشوف وإن القوى المدركة لا تخطئ في عملها أبداً، وإن منشأ وقوع الأخطاء والإشتباهات أشياء أخرى ذكرت في محلها.
    2-ما هو المقياس لتمييز الحقيقة من الخطأ؟
    ننتقل من الحقائق المسلمة للعقل-التي نراها بالبداهة أوضح ما تكون- إلى المسائل الأخرى التي هي ليست واضحة لدينا وعلينا أن

    [ 171 ]

    نكتشفها عن طريق الاستدلال وإجهاد الفكر، وكما أن وجود مجموعة من الحقائق البديهية مسلّم لدينا فكذلك هذا الموضوع من المسلّمات عندنا أيضاً وهو أن الإنسان قد يخطئ ويتورط في اشتباه في بعض محاولاته العلمية وفي بعض استدلالاته، فلابد إذن من البحث والتساؤل بأنه:
    أتوجد وسيلة لتمييز السليم من السقيم والحقيقة من الخطأ أم لا؟
    وإذا كانت موجودة فما هي هذه الوسيلة؟
    نعم هناك وسيله لهذا التمييز تسمى بالمنطق، ولعل أشهر وأقدم الأساليب المنطقية هو المنطق الذي وفّق أرسطو لجمعه وتدوينه.
    وقد أصبح منطق أرسطو مورداً للاعتراض والانتقاد الشديدين من قبل العلماء الأوربيين خلال التحولات الحديثة في أوربا، فادعى بعض العلماء مثل ديكارت وهيجل ( Hegel) تأسيس منطق جديد. وقد قصرنا مقالة من هذه المجموعة من المقالات على هذا الموضوع، وبحثنا فيها الأساليب المنطقية الحديثة ولا سيما أسلوب المنطق الديالكتيكي، ونقدناها جميعاً؛ ولهذا فنحن لا نعترض هنا لهذا الموضوع.
    3-أيمكن أن يكون شيء واحد حقيقة وخطأ؟
    يضع الناس الحقيقة-عادة-في مقابل الخطأ، والصحيح في مقابل الغلط، والصدق في مقابل الكذب، فيقولون إذا كانت فكرة ما صحيحة وصادقة وحقيقية فليس من الممكن إذن أن تكون مخطئة ومغلوطة وكاذبة. والعكس صحيح أيضاً فإذا كانت مخطئة فليس من الممكن أن تكون حقيقية. مثلاً إما أن تكون هذه الفكرة:

    [ 172 ]

    "الأرض تدور حول الشمس " صادقة أو كاذبة، ولا يمكن أن يكون هناك احتمال ثالث. وكذلك الحال في كل المواضيع الأخرى سواء أكانت من المسائل المتعلقة بالحياة اليومية كقولنا "كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون" أم كانت من القضايا الكلية العلمية الرياضية كقولنا "إن ضرب الرقم خمسة في خمسة يساوي خمسة وعشرين" أم كانت من المسائل الكلية في الطبيعة مثل قولنا "إن الأجسام تتمدد نتيجة للحرارة" أم كانت من الحقائق الفلسفية كقولنا "أن الدور والتسلسل باطلان".
    ولكنه شاع أخيراً بين العلماء المحدثين أن الحقائق العلمية في نفس الوقت الذي تكون فيه حقيقة فمن المحتمل أن تكون مخطئة. واستغل هذه الفرصة علماء المادية الديالكتيكية القائلة بوحدة الضدين وإن جميع الأضداد والنقائض قابلة للاجتماع والتصالح فزعموا أن الحقيقة والخطأ أو الصحيح أو الغلط أو الصدق والكذب ليسا مختلفين اختلافاً كبيراً وإنما من المحتمل أن يكون شيء واحد حقيقياً ومخطئاً، صحيحاً وغلطاً، صادقاً وكاذباً في نفس الوقت.
    ولكنه من المستحيل أن تكون فكرة ما من حيثية وجهة واحدة حقيقية وصحيحة وفي نفس الوقت تكون أيضاً مخطئة ومغلوطة، وليس هذا خافياً حتى على طفل لم يجتز المرحلة الابتدائية.
    وهؤلاء العلماء الماديون أنفسهم أهم مستعدون لقبول أن تكون فلسفتهم وكذلك منطقهم صحيحاً وخطأ في نفس الوقت؟
    أهم يقبلون أن نقول أن هذه القاعدة التي ذكرناها عنهم وهي:
    "من الممكن أن يكون شيء واحد حقيقياً ومخطئاً في نفس الوقت " حقيقية ومخطئة في نفس الوقت، صادقة وكاذبة معاً؟
    وما ادعاه هؤلاء العلماء بالنسبة إلى اجتماع الحقيقة والخطأ يسحبونه إلى النظريات والفرضيات العلمية الكبيرة، ويعنون به في هذا الباب أن النظرية أو الفرضية العلمية تشتمل على عدة مواضيع وتضم كثيراً من الأفكار، ولهذا فمن المحتمل أن يكون أحدها-أو أكثر- مخطئاً وهذا أمر مقبول من قبلنا ولا علاقة له أصلاً بـ"وحدة الضدين".
    وسوف نتناول هذا الموضوع بالبحث والتدقيق خلال هذه المقالة ونستعرض فيها نظريات المادية الديالكتيكية ولا سيّما ما يخص "قيمة المعلومات" متبوعة بنقدنا وتقييمنا لها.
    4-أتكون الحقيقة دائمة أم مؤقتة؟
    هذا الموضوع يستحقّ الدّقة، والدقة فيه تحول دون الوقوع في كثير من الأخطاء.
    والمحققون القدماء من المنطقيين والفلاسفة عندما يذكرون خواص المفاهيم والأفكار الحقيقية فإنهم يعدّون من ضمنها صفة الدوام ويقولون إن الحقائق دائمة. وقد أشبعها بحثاً الشيخ الرئيس ابن سينا في منطق الشفاء.
    واختلط هذا الموضوع على بعض العلماء المحدثين ولا سيّما الماديين فظنوا كون المقصود منه هو أنّ موضوع الفكر الحقيقي ومطابقته للواقع إنما هو أمر ثابت وخالد، ولهذا هاجموا هذه الفكرة بشدّة مدّعين أن هذه العقيدة قد حصلت للقدماء بسبب عدم التفاتهم إلى أصل التغيير الشامل للطبيعة، وأما من يلتفت إلى أصل التغيير فهو مضطر إلى القول بكون الحقائق مؤقتة وليست دائمة.

    [ 174 ]

    ويعدّ الماديون الاعتقاد بكون الحقائق دائمة من نتائج جمود المنطق القديم ومن خواص التفكير الميتافيزيقي.
    إذن من الواجب علينا أن نلقي مزيداً من الضوء على هذا الموضوع.
    وقبل أن نقتحم صميم موضوع كون الحقيقة دائمة أو مؤقتة، ولكي لا يقع الخلط بيم موضوعين وليتمّ الفصل بينهما، لابد أن ننظر إلى الواقع ونفس الأمر الذي تحكيه المفاهيم والأفكار أهو مؤقت أم دائم؟
    ليس من شك في أن الواقع ونفس الأمر الذي تحكي عنه القضية الذهنية قد يكون مؤقتاً وقد يتصف بالدوام. فالواقع المادي مثلاً في الخارج موقت لأن المادة والعلاقات التي تربط بين أجزائها في تغيير مستمر، فالشيء الواحد في الطبيعة لا يبقى على حالة واحدة خلال لحظتين، وكل واقع يظهر على الساحة الطبيعية لمدة محدودة ثم يزول. إذن هذا اللون من الواقع موقت وزائل.
    ولكن هناك نوعاً من الواقعيات المستمرة والأبدية موجوداً في الطبيعة "(بغض النظر عما وراء الطبيعة) مثل واقع الحركة فإذا قلنا أن المادة متحركة فقد تحدثنا عن أمر مستمر ودائم. وعندما يتحدث المنطق القديم في باب القضايا عن الدوام والضرورة وغيرهما فالمقصود به ذلك النوع من الدوام الذي هو من خواص بعض الواقعيات، وهذا اللون من الدوام لا علاقة له بموضوعنا هذا.
    إذن من المحتمل أن تكون الواقعيات الخارجة عن الذهن مؤقتة ومن المحتمل أيضاً أن تكون دائمة.
    والآن نتساءل عن الحقائق أهي دائمة أم مؤقتة؟

    [ 175 ]

    يعني أتكون مطابقة المفاهيم والمحتويات الذهنية للواقع ونفس الأمر (سواء أكان مؤقتاً أم دائماً) مؤقتة أم دائمة؟
    من الواضح أن هذه المطابقة لا يمكن أن تكون مؤقتة، لأنه صحيح أن هذه المفاهيم تبين واقعاً متغيراً وذلك في لحظة خاصة من الزمن، ولكن مطابقة ذلك المفهوم لواقعه أبدي، وهي لا تختص بلحظة معينة من الزمن.
    وبعبارة أوضح فإن المفيد والمحدود من الزمن هو الواقع الخارجي وليس مطابقة المفهوم الذهني لذلك الواقع الخارجي. فمثلاً عندما نقول:
    "كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد" فقد تحدثنا عن العلاقات المتغيرة لأجزاء الطبيعة لأن دراسة أرسطو عند أفلاطون تتعلق ببرهة زمنية معينة (هي القرن الرابع قبل الميلاد).
    ولكن هذه الحقيقة التي اقتحمت أفكارنا صادقة دائماً ومطابقة لواقعها أبداً، أي أن كون أرسطو قد تتلمذ علي يد أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد صادق دائماً في كل الأزمان.
    وهذا المثال هو من الحقائق التاريخية المتعلقة بواقع مادي متغير. ويسري هذا الحكم على جميع الحقائق الرياضية والطبيعية والفلسفية سواء أكانت متعلقة بواقع متغير أم دائم.
    وعندما يجري الحديث عن الدوام والضرورة في المنطق القديم في باب البرهان فالمقصود منه هذا اللون من الدوام الذي هو من خواص الحقائق ومتعلق بموضوعنا هذا وهذا هو ما يقصده علماؤنا السابقون عندما يقولون أن الحقائق دائمة.

    [ 176 ]

    وعلى هذا فأي مفهوم ذهني إما أن يكون من أساسه كاذباً ومخطئاً وغير حقيقي، وإما أن يكون حقيقياً ويحكي الواقع ونفس الأمر وعندئذ لابد أن يكون مطابقاً لواقعه دائماً.
    ولا نجد مفرّاً من ذكر بعض الملاحظات:
    أ-ما ذكرناه يتعلق فقط بالعلوم الحقيقية، ولا يسري إلى الاعتباريات ولا المسائل المتعلقة بالعلوم الاعتبارية. فمثلاً في المواضيع الأخلاقية والقوانين الاجتماعية التي ليس لها مصداق عيني خارجي وإنما هي تابعة للمقنّين وغيرهم فإنه من الممكن أن يعدّ شيء ما حقيقة أخلاقية أو اجتماعية لفترة محددة ثم تلغى عندما تتغير ظروف البيئة (من الواضح أن هذه الأمور لا يمكن عدّها حقائق من وجهة النظر الفلسفية).
    وبهذا نعرف عدم صحة مجموعة من الأدلة التي يذكرها العلماء الماديون والتي تتخذ كون المسائل الأخلاقية مؤقتة دليلاً على أن الحقائق أيضاً مؤقتة.
    ب-إن بحث الدوام والتوقيت يتعلق بالحقائق اليقينية ولا يرتبط بالحقائق الاحتمالية. وسوف يأتي أن العلماء لا يعتبرون التجربة منتجة لليقين وهم يطلقون على القوانين التجربية اسم "الحقائق الاحتمالية" تارة و"الحقائق ذات اليقين النسبي" تارة أخرى.
    ومن الواضح أن الحقيقة الاحتمالية يمكن أن تكون مؤقتة. وإذا لاحظنا فرضية ما تنطبق على مجموعة من التجارب فلا مانع من اعتبارها قانوناً علمياً ما دمنا لا نقطع بخلافها، وفي كل وقت تظهر فيه فرضيات أخرى بحيث تؤيدها التجارب بصورة أعظم فإن هذه الفرضية الثانية سوف نعتبرها هي الحقيقة العلمية وهكذا...

    [ 177 ]

    (لا يمكن اعتبار القضايا الاحتمالية ضمن الحقائق من وجهة النظر الفلسفية، ولكننا عبّرنا عنها بالحقائق مسايرة لتعبير العلماء المحدثين).
    ج-إن العلماء الذين فسروا الحقيقة بمعنى آخر غير هذا المعنى المعروف يستطيعون أن يعتبروا الحقيقة مؤقتة. فالحقيقة مثلاً كما فسرها أوجست كونت (بأنها تلك الفكرة التي تتفق عليها العقول في عصرٍ ما) يمكن اعتبارها مؤقتة لأنه لا مانع من أن تتفق العقول في كمل عصر على فكرة نظرية معينة.
    أما فيلسين شاله الذي قبل تفسير أوجست كونت للحقيقة والذي نقلنا فيما سبق كلامه في تفسير الحقيقة فهو يواصل حديثه قائلاً:
    "من الواضح أن هذا الاتفاق -وبالنتيجة هذه الحقيقة- يصبح مؤقتاً لأن الحقيقة- كما قلنا- ثمرة للعلوم والعلوم دائماً تترقى وتواصل سيرها التكاملي، وعلى العكس مما كان متصوراً في السابق فإن الحقيقة ليست تأملاً في أمر ثابت وخالد وإنما هي مثل العدالة الاجتماعية التي هي نتيجة للجهود الحثيثة والمعاناة المضنية للبشرية".
    وخلاصة ما مر في نقلنا لأقوال العلماء الماضين حول كون الحقيقة دائمة هي ما يأتي:
    أولاً: إن هذا مختص بالمسائل المتعلقة بالعلوم الحقيقية ولا ربط له بالعلوم الاعتبارية.
    ثانياً: أنه مقتصر على الأمور اليقينية ولا يشمل الأمور الاحتمالية.

    [ 178 [

    ثالثاً: أن المقصود من كونها حقيقية هو أنها مطابقة للواقع وليس شيئاً من قبيل اتفاق في عصر ما أو غيره.
    5-أتكون الحقيقة قابلة للتحول والتكامل؟
    من حديثنا الماضي يتضح الجواب على هذا السؤال. وقد قلنا فيما مضى أن أي مفهوم ذهني إذا كان منطبقاً على واقع ما فهو دائماً منطبق عليه، وإذا لم يكن منطبقاً فهو غير منطبق عليه دائماً. وبعبارة أخرى: إذا كان صادقاً فهو صادق دائماً وإذا كان كاذباً فهو كاذب أبداً. ومن المستحيل أن يكون مفهوم ذهني- وهو يحكي عن واقع خاص- صادقاً في زمان آخر بالنسبة إلى نفس ذلك الواقع.
    والآن نريد أن نعرف إذا كان مفهوم ما أو قضية ما- بالاصطلاح المنطقي- صادقة وصحيحة وحقيقية، أمن الممكن أن تصبح أكثر حقيقية أو ترتفع درجة حقيقتها أم لا؟
    إن جواب هذا السؤال سهل جداً إذا أخذنا بعين الاعتبار المفهوم الفلسفي لـ "التغيير التكاملي" وصرفنا النظر عن كلام العلماء المتسامح فيه حيث عبروا بـ "تكامل الحقيقة" وهم يقصدون تكامل العلوم (والمفهوم الفلسفي لا يقصد هذا) .
    وأدّت هذه التعبيرات المتسامح فيها من قبل العلماء إلى وقوع اشتباهات كثيرة ووفّرت فرصة ذهبية للماديين لكي يمرّروا مغالطاتهم وتحريفاتهم.
    وإذا أخذنا أية حقيقة من الحقائق بعين الاعتبار، سواء أكانت جزئية أم كلية وسواء أكانت متعلقة بالأمور المادية أم بالأمور غير المادية، فسوف نلاحظ أنها صادقة في كل الأزمان وبنحو واحد، ولا معني إطلاقاً لكونها تصبح بالتدريج أكثر صدقاً.

    [ 179 ]

    مثلاً لنأخذ هذه الحقيقة التاريخية القائلة: "كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد"، أو هذه الحقيقة الطبيعية القائلة: "تتمدد الفلزات بسبب الحرارة"، أو هذه الحقيقة الرياضية القائلة: " مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين" أو هذه الحقيقة الفلسفية القائلة: "إن الدور والتسلسل باطلان"، ثم نتساءل: أمن الممكن أن تصبح هذه الحقائق -نتيجة لتكامل العلوم أو أي شيء آخر-أكثر صحة وصدقاً أو أن ترتفع درجة حقيقيتها؟
    من الواضح جداً أن الجواب سيكون بالنفي.
    نعم من الممكن أن يتحقق شيء آخر وهو أن تزداد معلوماتنا وتتسع بالنسبة إلى كل واحد من المواضيع المذكورة. فمثلاً لا تكون معلوماتنا في البدء بالنسبة إلى العلاقات التي تربط أرسطو وأفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكن معلوماتنا تتسع نتيجة للتحقيقات التاريخية فنكتشف روابط أخرى ونعلم مثلاً "أن أرسطو قد حضر درس أفلاطون وهو في سن الثامنة عشرة، واستمر حضور درسه زهاء عشرين عاماً، وقد جرى هذا كله في مدينة أثينا، وكان أرسطو يحضر درس أفلاطون في حديقة تعرف بـ " الأكاديمية" (Academia) وهي تبعد عن البلد بحوالي كيلومتر واحد. وكان أفلاطون يلقب أرسطو بـ "عقل المدرسة".
    أي أنه علاوة على الحقيقة الأولى فإن سلسلة من الحقائق الأخرى قد احتلت أذهاننا ومن الخطأ أن نتصور كون الحقيقة الأولى قد تكاملت أو ارتفعت درجة حقيقيتها.
    وكذلك من المحتمل أن يؤدي التقدم في علم الفيزياء إلى اكتشاف خواص للفلزات حال تسخينها، ومن المحتمل أن نظفر

    [ 180 ]

    بأحكام أخرى للمثلثات بتقدم علم الرياضيات، وأن نعرف أنواع وأقسام الدور والتسلسل بتقدم الفلسفة، ولكن أي واحد من هذه لا علاقة له إطلاقاً بتكامل الحقيقة بالمعنى الفلسفي، يعني أن هذه الأمور الجديدة ليست هي بعينها تلك الأمور القديمة مضافاً إليها أنها قد تكاملت وأصبحت-تدريجياً- أكثر حقيقة وأعظم صحة وأشدّ صدقاً وأن درجة حقيقيتها قد ارتفعت، وإنما الواقع أن مجموعة من الحقائق الأخرى قد حصلت في أذهاننا نتيجة للدراسات العلمية.
    والآن نريد أن نعرف ما هو مقصود العلماء من تكامل العلوم أو من تكامل الحقيقة.
    فالعلماء عندما يتحدثون عن تكامل الحقيقة فهم لا يقصدون المفهوم الفلسفي منه وإنما يقصدون أحد معنيين:
    أولاً: هذا المعنى الذي مرّ ذكره الآن (وهو التوسع التدريجي في المعلومات) فليس هناك أحد يشك في كون العلوم سائرة نحو النمو والاتساع ويضيف العلماء بتحقيقاتهم كل به فصلاً جديداً إلى كل علم من العلوم المتنوعة أو يفتحون باباً علمياً جديداً لم يكن من قبل. والعلوم التي بين أيدينا اليوم والبحوث الفلسفية لم تكن في البدء على ما هي عليه اليوم وإنما هي نمت واتسعت- تدريجياً- كلما تقدمت المدينة وتعمقت محاولات العلماء، وسوف لن تظل على ما هي عليه الآن.
    ولسنا نظن أن هناك عالماً واحداً ينكر هذه الحقائق.
    وينبغي تسمية هذا اللون من التكامل باسم "التوسع التدريجي أو التكامل العرضي" وهو يشمل العلوم والفلسفة، ولا علاقة له أبداً بتكامل الحقيقة- بالمعنى الفلسفي- الذي يتذرّع به الماديون.

    [ 181 ]

    ثانياً: للعلوم التجريبية لون من التحول والتكامل الخاص بها ويمكن تسميته بـ "التكامل الطولي"، بمعنى أن هذه العلوم تسير حسب فرضية ونظرية معينة، وحسب طبيعة موضوعاتها فهي لا يمكن أن تكون معتمدة -كالفلسفة- على أسس برهانية يقينية، ولما كان الدليل على صحة الفرضيات ليس إلا الانطباق على التجارب وإعطاء النتائج العلمية، وهذا الانطباق على التجارب وإعطاء النتائج العملية ليس دليلاً على كونها حقيقية وعينية ولا يقضي على احتمال المخالف، ومن ناحية أخرى فإنه لا توجد سبيل أخرى للتأكد من صحة الفرضيات، لهذا أصبح من اللازم إذا تلاءمت فرضية مع بعض التجارب-التي في متناول الإنسان- أن يعدّ العلماء هذا الأمر الاحتمالي حقيقة علمية وأن يعتبروه قانوناً علمياً وأن يدرجوه في كتبهم العلمية والدراسية بشكل قانون علمي، ولكنه في أي وقت تظهر في فرضية أخرى وهي تدخل إصلاحات على الفرضية الأولى أو تباينها من الأساس وتتلاءم مع التجارب بشكل أدق وأكبر وأدق فإن الفرضية الأولى ستطرد من ساحة العلم لتحل محلها هذه الفرضية الثانية، وهكذا ....
    فالعالم الطبيعي يصوغ في عقله وبقوة الحدس فرضية لتفسير الحوادث الطبيعية ثم يختبر بعد ذلك صحتها بوساطة التجربة والنشاطات العملية، فإذا كانت تلك الفرضية منسجمة مع التجارب المتوفرة وقد استطاعت عملياً أن تفسر الظواهر الطبيعية فإنه يصوغها بشكل قانون علمي، وتبقى هذه الفرضية على قيمتها العلمية حتى تظهر فرضية أخرى أكمل منها وأجمع بحيث تنطبق على التجارب بشكل أكبر وأدق وتستطيع أن تفسر الظواهر الطبيعية بشكل أفضل، حينئذ تخلى الفرضية الأولى مكانها للفرضية الثانية، وعلى هذا فكل

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [ 182 ]

    ناقص يخلي المكان ليحل محله ما هو أكمل منه، وبهذا الشكل تطوي العلوم الطبيعية طريقها التكاملي.
    إذن فالعلوم التجربية علاوة على أن لها تكاملاً عرضياً كالفلسفة مما أسميناه بـ "التوسع التدريجي" فإن لها تكاملاً طولياً أيضاً بهذا الشكل الذي مرّ تفصيله.
    ولكن القارئ الكريم يعلم جيداً أن هذا اللون من التكامل أيضاً لا علاقة له إطلاقاً بتكامل الحقيقة -بالمعنى الفلسفي - أي أنه لم يحدث في هذا أن حقيقة مسلمة قد أصبحت بالتدريج أكثر صحة وأكبر دقة، أو حسب تعبير الماديين فإن درجة حقيقيتها قد ارتفعت، وإنما الفرضية الجديدة والتجارب الحديثة تكون قد أثبتت أن الفرضية الأولى لا يمكن اعتبارها حقيقية وإنما لابد من إلقائها بكاملها جانباً أو حذف جزء منها، وبمرور الزمن وبالتدريج يصبح الفرضيات أدق وأجمع، وتكون الفرضية السابقة دخيلة في تكوين الفرضية التي تأتي بعدها، أي أنه صحيح أن العالم الطبيعي يصوغ الفرضية بقوة حدسه ولكنه صحيح أيضاً أن الرواسب الذهنية عنده دخيلة في تكوين الحدس، وعلى أية حال فإن هذا الموضوع لا علاقة له أصلاً بتكامل الحقيقة بالمفهوم الفلسفي.
    وهذا اللون من التكامل ناشئ من ناحية كون مسائل العلوم الطبيعية احتمالية وغير يقينية.
    6-لماذا لا تكون العلوم التجربية يقينية؟
    إن السبب في كون العلوم المعتمدة تماماً على التجربة غير يقينية هو أن الفرضيات التي تصاغ فيها ليس لها من دليل سوى انسجامها مع التجربة وإعطائها نتائج عملية. وإعطاء النتائج العملية لا يكون

    [ 183 ]

    دليلاً على صحة تلك الفرضية ولا على مطابقتها للواقع لأنه من المحتمل أن تكون الفرضية مخطئة مائة بالمائة ولكنها في الوقت نفسه تؤخذ منها نتائج عملية. ومثال ذلك هيئة بطليموس التي كانت تعد الأرض مركزاً للعالم، والأفلاك والشمس وجميع النجوم تدور حولها. فهذه نظرية مخطئة ولكن السابقين المعتقدين بها قد استخرجوا منها نتائج عملية صحيحة فيما يتعلق بالخسوف والكسوف وغيرهما. وكذلك الطب القديم القائم على أساس الطبائع الأربع (الحرارة- البرودة - الرطوبة- اليبوسة) فقد كان طباً خرافياً ولكنه في الوقت نفسه عالج مئات الآلاف من المرضى ومنح كثيراً منهم الشفاء.
    ولعلّ بعض الناس يتساءل:
    كيف يمكن أن يؤدي الخطأ والوهم إلى نتائج موجودة وصحيحة؟
    وجوابنا لهم يتلخص في أنه أحياناً قد يكون لشيئين أو أكثر خاصة واحدة وهي تؤدي إلى نتيجة واحدة، فلو كان في أحد الموارد قد وجد أحد هذين الشيئين ولكننا فرضنا الآخر غير الموجود وأجرينا عليه حساباتنا فإن من المؤكد أننا سوف نصل إلى النتيجة الصحيحة لأن كلا الفرضين يؤدي إلى هذه النتيجة. مثلاً سواء أكانت الشمس هي التي تدور حول الأرض أم الأرض هي التي تدور حول الشمس فإنه يلزم على كلتا الحالتين أن يحول القمر بينهما في اليوم الفلاني ويتحقق الكسوف. ونحن سواء أجرينا حساباتنا على أساس حركة الشمس حول الأرض أو على أساس حركة الأرض حول الشمس فإننا سنصل إلى هذه النتيجة القائلة بأن الكسوف سيتحقق في اليوم الفلاني وفي الساعة والدقيقة الكذائية.
    ويوجد سبب آخر لعدم يقينية العلوم التجربية وهو أن هذه العلوم تنتهي أخيراً إلى المحسوسات والحس يخطئ أيضاً.

    [ 184 ]

    يقول فيلسين شاله في كتاب "ميثوءلوجي" (معرفة المناهج العلمية) في فصل "قطعية العلوم الفيزيائية والكيميائية":
    " إن العلوم الفيزيائية والكميائية ليست كالعلوم الرياضية في يقينها وقطعيتها المطلقة، لأن أساس تلك العلوم الأولى هو المحسوسات والحس يخطئ في عمله".
    ويواصل حديثه فيقول:
    " صحيح أن اليقين في العلوم الفيزيائية والكيميائية نسبي وإضافي ولكن النسبية لا تخفض من قيمة تلك العلوم لأنها ترضى عقولنا الباحثة عن النظام والانسجام من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنها تحقق لنا فوائد عملية لا يمكن التقليل من أهميتها".
    ويقول في باب قطعية الرياضيات وفائدتها:
    "لما كانت الرياضيات مؤسسة على أصل مسلم وهي تمتد وتتسع بوساطة القياسات الضرورية فإنها تصبح علماً يقينياً خالصاً. فمثلاً (2+2=4) إنه حكم محقق ومؤكد، ويعتقد بعض العلماء أن اليقين المطلق غير موجود إلا في هذا الباب".
    وسوف نتناول هذا الدليل ( أخطاء الحس) بالبحث في المستقبل بعون الله.
    ولعلّ القارئ الكريم يستغرب لأول وهلة عندما يسمع أن العلوم الطبيعية الموجودة اليوم بكل تقدمها وتوسعها الهائل وباكتشافاتها ومنتجاتها العظيمة وبمخترعاتها المذهلة إنما هي فاقدة للقيمة اليقينية وليس لها إلا قيمة عملية.
    ولكن هذا الاستغراب يزول إذا عاد إلى ما ذكرناه من أن

    [ 185 ]

    القوانين العلمية الطبيعية ليست لها من دليل على صحتها سوى أنها تؤدي إلى نتائج عملية، وإعطاء النتائج العملية لا يكون دليلاً على صحتها ولا على مطابقتها للواقع، وأضاف إلى ذلك أيضاً ما سوف نذكره من آراء وعقائد العلماء ضمن إستعراضنا لمسير العقائد والآراء.
    ولا توجد في العلوم الطبيعية الحديثة فرضية خالدة، وإنما كل فرضية فهي تلمع في سماء العلم بشكل مؤقت وتتخذ لنفسها صفة القانون العلمي وبعد فترة من الزمن تخلي مكانها لفرضية أخرى. ولا يدعي العلم في المسائل الطبيعية وجود قانون علمي ثابت لا يتغير وليس فيه أي لون من الخطأ والوهم. ويعتبر العلم الاعتقاد بقانون كهذا لوناً من الغرور الذي كانت تتصف به المرحلة "الأسكولاستيكية" (المدرسية)، ومن مميزات القرون الوسطى. ويعتقد العلماء المحدثون بأن اعتبار قانون علمي ما يقينياً وقطعياً- كما كان يتصور القدماء- إنما هو لون من ألوان الرجعية.
    ولعله لا يوجد بين العلماء- منذ القرن التاسع عشر فما بعد-من يدعي اليقين والجزم في الطبيعيات كما كان يفعل القدماء (ولو أن القدماء أيضاً لم يعدوا الطبيعيات والفلكيات يقينية وإنما كانوا يسمونها بالحدسيات).
    وإذا أعلن العلماء المحدثون فرضية ما فإنهم يقولون بحقها أن التجارب المتوفرة حالياً تؤيدها، وهم لا يدّعون لها اليقين المطلق ولا يسمونها بالحقيقة المسلمة.
    فمثلاً إنشتين (Einstein) العالم المعاصر المعروف والباني للنظرية النسبية في مقابل نظرية الجذب لنيوتن (Newton) في علم الفيزياء- هذا العالم لا يقول بحق نظريته أكثر من:

    [ 186 ]

    "إن التجارب الفعلية قد أيدتها".
    أجل أن الماديين هم وحدهم الذين يعلنون القطع واليقين في هذه المواضيع ويعتبرونها حقائق مطلقة ويعترضون على العلماء البانين لهذه النظريات بأنهم كيف يترددون في كونها حقيقية.
    وسوف نوضح خلال هذه المقالة وفي التعليقة-التي قصرناها على مناقشة آراء الماديين فيما يتعلق بقيمة المعلومات - التي قصرناها على مناقشة آراء الماديين فيما يتعلق بقيمة المعلومات- إن الماديين قد اضطروا -لتحقيق أغراضهم الخاصة -أن يخالفوا جميع العلماء الطبيعيين وأن يعتبروا المواضيع التجربية يقينية، وإلا فإن فلسفتهم الوهمية ستنهار، وهم يرون من ناحية أخرى أن الفرضيات الطبيعية تتغير ويحصل فيها النسخ فلهذا اخترعوا أمراً وهمياً آخراً سموه بـ "تكامل الحقيقة" وأحدثوا فيه ضجيجاً هائلاً، وهم يحاولون بهذا أن يحتفظوا للعلوم الطبيعية بالقيمة اليقينية من ناحية، وأن يفسروا التغيير والتبدل الحاصلين في الفرضيات من ناحية أخرى.
    وأظن أن ما ذكرناه في هذه المقدمة قد أوضح تماماً أن ما يذكره الماديون بعنوان تكامل الحقيقة بمعنى "التغيير التكاملي" ليس إلا وهماً محضاً وسوف نناقش هذا الموضوع بتفصيل أكبر فيما بعد.
    ونرى من اللازم من هنا أن نذكر ملاحظة مهمة وهي أن المواضيع التجربية على نحوين:
    أولاً: تلك المواضيع التي تعتمد على فرضيات ونظريات غير مشهودة، بل ليس لها من دليل على صحتها سوى أنها تنسجم مع مجموعة من التجارب والنتائج العملية.وهذه المواضيع هي التي قد سلبنا صفة اليقين.
    ثانياً: تلك المواضيع التي استخلصت من مجموعة من

    [ 187 ]

    المشهودات، ومن السائغ أن نعتبرها بنفسها مشهودة أيضاً، مثل تعيين خواص الأجسام وكيفية تركيبها الكيميائي وكون هذه لمواضيع يقينية أو غير يقينية يتوقف على القيمة التي نضفيها على المحسوسات وسوف نشرح في باب مسير العقائد والآراء عقائد العلماء المحدثين فيما يتعلق بقيمة المحسوسات المبشرية؟
    لماذا تكون الفلسفة والرياضيات يقينية؟
    لأننا قد ذكرنا السبب في عدم كون العلوم التجربية يقينية أصبح من المناسب ذكر السبب في كون الفلسفة والرياضيات يقينية وشرح عقائد العلماء في هذا المضمار . ولما كان هذا الموضوع معتمداً- حسب أسسنا الفلسفية- على مسألتين أخريين أُشير إليهما في صدر هذه المقالة وهما "سبيل الحصول على العلم-وتعيين حدود العلم" وقد استوفى البحث فيهما في المقالة الخامسة التي هي بعنوان "ظهور الكثرة في العلم" لذلك نترك تفصيل هذا الموضوع إلى المقالة الخامسة بإذن الله.
    7-أتكون الحقيقة مطلقة أم نسبية؟
    تنكر مجموعة من العلماء المحدثين الحقائق المطلقة وتقول بالحقيقة النسبية، ويطلق على هذه الجماعة اسم "النسبيين" (Relativiste)، وعلى مذهبهم اسم "النسبية" (Relativism).
    وتتلخص عقيدة هؤلاء في أن ماهية الأشياء التي يتعلق بها العلم لا يمكن أن تكتشفها- بشكل مطلق وبدون تغيير-القوى المدركة للإنسان، وإنما كل ماهية تنكشف للإنسان فإن الجهاز الإدراكي له يؤثر فيها من جهة، ومن جهة أخرى فإن البيئة المكانية

    [ 188 ]

    والزمانية تؤثر في كيفية ظهور هذا المدرك للشخص المدرك. ومن هنا فإن كل فرد يدرك أي شيء بشكل مختلف، بل أن الشخص الواحد قد يدرك الشيء الواحد بنحوين مختلفين في حالتين من أحواله.
    إذن فأية فكرة صحيحة وحقيقية فهي صحيحة بالنسبة إلى الشخص المدرك فقط وفي بيئة زمانية ومكانية معينة، أما بالنسبة إلى شخص آخر أو لنفس ذلك الشخص ولكن في ظروف أخرى فإن الحقيقة ستكون شيئاً آخر. فمثلاً أنا أدرك الأجسام في لحظة معينة من الزمان وفي مكان وبيئة خاصة بحجم معين وشكل ولون خاصين، فهذا الإدراك صحيح وحقيقي، ولكنه صحيح بالنسبة إلي فقط وليس بالسبة إلى الآخرين لأنه من المحتمل أن يدرك إنسان أو حيوان آخر- حيث يختلف بناء قواه الإدراكية معي-هذا الشيء بعينه وفي نفس اللحظة والظروف ولكن بحجم آخر وبشكل ولون مختلفين عما أدركت أنا، ومن الواضح أنه بالنسبة إلى ذلك المدرك فإن الحقيقة ستكون نفس ذلك الشيء الذي أدركه. ومن المحتمل أن أدرك-أنا بنفسي- في لحظة أخرى أو في بيئة مختلفة ذلك الجسم ولكن بحجم آخر وبشكل ولون مختلفين، وستكون الحقيقة بالنسبة إلي في تلك اللحظة والبيئة شيئاً آخر هو نفس ذلك الذي أدركته فيها.
    ويستشهد هؤلاء العلماء لما يدّعون بالدراسات العلمية الحديثة، لأن العلوم المعاصرة قد أثبتت أن أعصاب الإنسان تختلف عن أعصاب الحيوان، بل أعصاب أفراد الإنسان تختلف فيما بينهم أيضاً في كيفية العمل. فمثلاً لقد ثبت أن الإنسان يرى الألوان السبعة الأساسية وكذلك الألوان الفرعية الأخرى، أما بعض الحيوانات فإنه يرى كل الألوان بشكل رمادي، ويوجد بعض الأفراد من الإنسان

    [ 189 ]


    وهم مصابون بعمى الألوان، بل نحن نلاحظ في حياتنا العادية أن أعصاب الفرد الواحد قد تعمل بشكلين مختلفين في الحالات المختلفة، فمثلاً يكون لأحد المأكولات طعم معين في حالة الصحة ويكون له طعم آخر في حالة المرض، وقد تكون رائحة معينة مقبولة ومحبوبة أحياناً، ومنفرة وداعية إلى الاشمئزاز أحياناً أخرى.
    إذن لابد من القول:
    " إن كل شيء ينكشف لنا فكيفية ظهوره تتوقف على نوعية عمل أعصابنا وعلى سلسلة من العوامل الخارجية، وعلى هذا فإن ماهية الأشياء المعلومة لا تحلّ في إدراكنا بشكل مطلق ودون أن يمسّها تغيير. إذن فالحقائق في نفس الوقت الذي تكون فيه حقيقية وصحيحة فإنها نسبية وإضافية".
    وصحيح أن هذا المذهب مدعّم بأدلة منتزعة من الدراسات العلمية الحديثة ولكنه من حيث النتيجة والمدلول هو نفس مذهب المشككين.
    فبيرون مثلاٌ - وهو المشكّك اليوناني المعروف- ذكر أدلة عديدة لمدعاة ومن جملتها هذا الدليل- وهو اختلاف كيفية إدراك الإنسان عن الحيوان واختلاف كيفية إدراك أفراد الإنسان فيما بينهم واختلاف كيفية إدراك الإنسان الواحد في الحالات المتباينة - ولكن بيرون يختلف عن النسبيين المحدثين في النتيجة فبيرون يستنتج من ذلك الدليل هذه النتيجة.
    "إذن لا ينبغي لنا أن نعتقد بكون إدراكاتنا حقيقية، وإنما لابد من مواجهة كل إدراكاتنا بالتردد والشك".
    أما النسبيون المحدثون فهم يستنتجون من نفس ذلك الدليل هذه النتيجة:

    [ 190 ]

    "إن ما ندركه يتصف بالحقيقة ولكنها حقيقة نسبية، أي أن الحقيقة مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص المختلفين".
    ومن يمعن النظر في هذه الأحاديث يتضح له خطأ النتائج التي توصل إليها النسبيون، ويتبين له أنه لا معنى إطلاقاً للحقيقة النسبية، ففي المثال السابق- وهو رؤية شخصين لجسم واحد بكيفيتين مختلفتين-إما أن يكون هذا الجسم في الواقع متصفاً بإحدى الكيفيتين وإما أن يكون خالياً منهما معاً ومتصفاً بكيفية ثالثة، وليس من الممكن أبداً أن يكون متصفاً بالكيفيتين معاً في آن واحد. ففي الصورة الأولى يكون إدراك أحد هذين الشخصين خطأ مطلقاً وإدراك الشخص الآخر حقاً مطلقاً، أما في الصورة الثانية فكلاهما مخطئ، وعلى أية حال فإن الحقيقة النسبية غير معقولة.
    وهناك بعض العلماء من قبيل بركلي يتخذ الاختلاف في الإدراك دليلاً على أن المدركات غير موجودة في الخارج، أما البعض الآخر- من قبيل ديكارت وجون لوك (John Loke) وأتباعهما - فإنه يقصر الاختلاف في الإدراك على الخواص الثانوية للأجسام ويعتبرها أموراً ذهنية وغير خارجية.
    ولكن النسبيين- الذين يعترفون بالوجود الخارجي للمدركات- يذكرون تلك الأدلة لمدعاهم وهي تثبت ما يدعيه المشككون حيث يقولون: "لسنا ندري إن كانت إدراكاتنا حقيقية أم لا" ولا تثبت ما يدعونه هم من " أنها حقيقية ولكنها نسبية"، بل قولنا أن الحقيقة نسبية لا معنى له إطلاقاً كما قلنا ذلك من قبل. إذن فالنسبيون المحدثون لم يأتوا بشيء جديد في باب "قيمة المعلومات" أكثر مما ذكره المشككون السابقون.

    [ 191 ]

    أما المادية الديالكتيكية فهي تتبنى ما يدعيه النسبيون في موضوع الحقيقة، ولكنها ترفض- في نفس الوقت- موقف الشك.
    وسوف نبحث في هذه المقالة هذا الموضوع وسنثبت هناك أن المادية الديالكتيكية مع أنها تفرّ من مذهب الشك ولكنها في الواقع قد ابتعدت بأسلوبها عن مذهب اليقين وسقطت في حبائل الشك.
    وإذا اعترفنا بتدخل الأعصاب أو الذهن- وبالتالي بتدخل الجهاز الإدراكي للإنسان- في جميع المعلومات المحسوسة والمعقولة فلابد أن نعترف أيضاً بما يدعيه المشككون من أنه "لا يمكن الاطمئنان بأن ما نفهمه من الكون مطابق للواقع ونفس الأمر"، ولا بد حينئذ من مواجهة المسائل الطبيعية والرياضية والفلسفية بالتردد والشك.
    وذكرنا في المقالة الثانية- وسوف يأتي تفصيل ذلك في المقالة الخامسة- أن الذهن يملك قدرة الظفر- في الجملة- بماهية الأشياء بشكل مطلق ودون تغيير، وتوجد مجموعة من المواضيع التي يستطيع العقل أن يصدر فيها حكمه بكل تأكيد وجزم ويقين واطمئنان.
    ونرى من الواجب هنا أن ننبه على بعض الملاحظات:
    أولاً: أن كل العلماء الذين ينفون الإطلاق بالنسبة إلى الإدراكات التي لها مصداق خارجي ويقولون بتأثير وتدخل الأعصاب والمخ وبالتالي بتدخل الجهاز الإدراكي في كيفية ظهور وانكشاف جميع الأشياء فإنهم- شاءوا أم أبوا- يدخلون ضمن المشككين وإن كانوا هم أنفسهم ينفرون من مذهب الشك، فالفيلسوف الألماني كانت لا يرضى أن يدرج ضمن المشككين والسوفسطائيين ويعدّ نفسه "ناقد العقل وفهم الإنسان" ولكنه بعد إيراد النقد الطويل يذكر أدلة جديدة (في خصوص الطبيعيات) تعتبر أدلة مؤيدة لمذهب الشك، وليس الأسلوب الذي اتبعه والمسمى بـ "كريتي سيسم" (مذهب

    [ 192 ]

    النقد) إلا شكلاً جديداً من الأشكال المتنوعة لمذهب الشك "سيتي سيسم"، وكذلك المادية الديالكتيكية فإنها-باعترافها بنسبية الحقيقة في جميع المسائل- تعدّ شكلاً آخر من أشكال مذهب الشك من حيث قيمة المعلومات.
    ثانياً: اصطلح بعض العلماء على الحقيقة الناتجة من التجارب باسم "الحقيقة النسبية" لأن لها جانباً احتمالياً وهي لا توجب اليقين وهذا في مقابل الحقيقة الرياضية التي توجب القطع واليقين التي اصطلحوا عليها باسم "الحقيقة المطلقة".
    وقد سبق لنا القول أن الحقيقة النسبية بهذا المعنى- أي بمعنى وجود الحقيقة الاحتمالية في بعض العلوم- هي مورد قبولنا وموافقتنا.
    ثالثاً: أن النظرية النسبية التي مر ذكرها تتعلق بنسبية الحقائق الذهنية وهي مما يناقش في الفلسفة. ولكن هناك بعض العلماء الفيزيائيين والرياضيين يعتبرون الوقائع والظواهر الفيزيائية نسبية، ومن الواضح أن هذه النسبية الفيزيائية لا علاقة لها بالنسبية الفلسفية السابقة.
    ومن المناسب هنا أن نذكر حديثاً مختصراً يدور حول مسير العقائد والآراء منذ المرحلة اليونانية القديمة وحتى العصر الراهن فيما يتعلق بهذا الموضوع وسوف لن نتعرض لعقائد الفلاسفة الهنود ولا الصينيين الذين عاصروا المرحلة اليونانية القديمة لأن لهم أفكاراً تشبه أفكارهم.
    ظهور مذهب السفسطة في اليونان:
    كانت اليونان- حوالي القرن الخامس قبل الميلاد- تتمتع بمدينة

    [ 193 ]

    رفيعة، وقد ظهر في هذه البلاد فلاسفة وعلماء عظام ونشأت مدارس فلسفية مختلفة، وتصارعت العقائد والآراء المتباينة في المسائل الفلسفية، وصيغت نظريات متنوعة في تفسير الكون. واشتملت الحيرة على بعض العلماء فراحوا يعدّون كل الإدراكات والآراء البشرية - وحتى البديهيات الأولية-شيئاً باطلاً وخيالاً محضاً وينكرون كل قيمة لأي فكر وإدراك ويعتبرون المعلومات كلها عبثاً، ومن هنا نشأ مذهب السفسطة.
    ووقف في وجه هؤلاء السقراطيون ولا سيما أرسطو، ففضحوا مغالطاتهم وأثبتوا قيمة المعلومات وأنها ليست عبثاً، وإن الإنسان يملك قوة يستطيع أن يدرك بفضلها الأشياء كما هي موجودة في الواقع، وإن الإنسان إذا وجّه فكرة في السبيل الصحيحة فإنه يستطيع أن يصل إلى إدراك الواقع كما هو.
    ودوّن أرسطو المنطق لهذا الغرض وهو أن يكون ميزاناً ومقياساً للتفكير السليم، واعتبر البرهان في المنطق مؤدياً إلى نتيجة "يقينية"، أي أنه إدراك مطابق للواقع، واعتبر المحسوسات والمعقولات معاً ذات قيمة في تحصيل اليقين بوساطة البرهان، أي أنه يصرح بالقيمة اليقينية للإدراك الحسي والإدراك العقلي معاً، وبهذا يكون قد وضع الحجر الأساسي للفلسفة اليقينية "الدجماتية".
    مذهب المشككين:
    في تلك الفترة ذاتها نشأ مذهب آخر هو مذهب المشككين "السيتسية". ويظن أتباع هذا المذهب أنهم سلكوا سبيلاً وسطى فلا هم قائلون بما يقول به السوفسطائيون من إنكار أي واقع وراء ذهن الإنسان، ولا هم قائلون بما تقول به الفلسفة اليقينية من أنه يمكن الظفر بإدراك الأشياء كما هي في الواقع ونفس الأمر.

    [ 194 ]

    ويدعى أتباع هذا المذهب أن إدراك الإنسان لأمور العالم متوقف تماماً على الوضع الخاص لذهن الشخص المدرك، وإن ما يفهمه كل إنسان من أمور العالم فهو كما يقتضيه وضعه الذهني وليس كما هو في الواقع، فلعل لهذه الأشياء التي ندركها كيفية خاصة في الواقع ونحن ندركها بكيفية أخرى حسب ما يقتضيه وضعنا العقلي.
    ويذكر بيرون- مؤسس هذا المذهب- عشرة أدلة لنفي القيمة اليقينية لإدراكاتنا، ومن جملتها "تأثير البيئة الزمانية والمكانية، وكيفية تركيب القوى المدركة في الشخص المدرك، فيما ندركه" ويثبت بهذا إن إدراكنا للأشياء يتوقف على سلسلة من العوامل الخارجية وعلى مجموعة من العوامل الداخلية، وبتغيير هذه العوامل تتغير تلك الإدراكات أيضاً. إذن لابد لنا أن لا ندعي أننا ندرك الأشياء كما هي عليه في الواقع وإنما لابد من القول أننا ندركها حسب ما يقتضيه تركيب القوى الإدراكية فينا، متأثرين في ذلك بالبيئة الخاصة التي تكتنفنا. أما هي الحقيقة؟ فالجواب لا نعلم.
    وتزعم هذه الجماعة أن الطريق الصحيح الذي يجب على الإنسان أن يسلكه في جميع المسائل هو الامتناع عن إبداء أي رأي يقيني، ولا بد من مواجهة جميع المسائل الفلسفية والعلمية وحتى الرياضية بالاحتمال والتردد. وبهذا فقد وضعت أسس فلسفة المشككين في مقابل الفلسفة اليقينية.
    وبهذا فقد انقسم الفلاسفة المؤمنون بواقعية الكون والعالم (وهم في مقابل السوفسطائيين الذين لا يعدّون ضمن الفلاسفة) منذ أقدم العصور التاريخية إلى فئتين متميزتين:
    1-فئة اليقينيين: وهم الذين يقولون بإمكانية تحصيل العلم المطابق للواقع، أي أنهم يعتبرون ذهن الإنسان متمتعاً بخاصية

    [ 195 ]

    تجعله قادراً على إدراك الأشياء كما هي عليه في الواقع، وهم يقولون بسلسلة من القواعد المنطقية التي تصون مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر.
    2-فئة المشككين: وهم المنكرون لهذه الخاصية وفي الحقيقة فهم مترددون في المعلومات البشرية.
    ولكن أصحاب الفلسفة اليقينية اعتبروا- فيما بعد- شبهات المشككين نوعاً من السفسطة واعتبروا المشككين ضمن السوفسطائيين ولم يفرقوا بين "السوفسطائي" و "المشكك"، وراحوا يطلقون اسم الفيلسوف فقط على من يتصف بما يأتي:
    أولاً: أن لا يعد العالم عبثاً في عبث وخيالاً باطلاً.
    ثانياً: أن يعتبر الظفر بحقائق الكون ممكناً وميسراً.
    عقيدة القدماء:
    وهاتان الناحيتان واضحتان تماماً في التعريف الذي وضعه القدماء للفلسفة (بمعناها العام) فهم يقولون:
    "الفلسفة عبارة عن العلم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية".
    ويحسن الالتفات إلى أن هذا القيد "بقدر الطاقة البشرية" إنما هو للإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن الإنسان مهما استطاع أن بوجه فكرة نحو كشف الحقائق، ولكنه من ناحية أخرى تبقى حقائق العالم غير متناهية مع أن الاستعداد الإنساني محدود، ولهذا فإن الإنسان لا يوفق إلا لاكتشاف قسم من حقائق العالم فقط ولن يتمكن من الإحاطة بالكل أبداً.

    [ 196 ]

    ولما كان القدماء سائرين حسب الأسلوب اليقيني، أي أنهم يفسرون الإدراك بأنه انكشاف العالم الخارجي للذهن المدرك، فلهذا يعرفون الفلسفة من حيث الغاية التي يقصد إليها الفيلسوف بقولهم:
    "الفلسفة هي صيرورة الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني".
    يقول الشاعر:
    "كل إنسان كسب من المعرفة زاداً
    فهو عالم بذاته قابع في إحدى الزوايا"
    وبعد انقراض مذهب المشككين- الذي استمر طيلة ثلاثة أو أربعة قرون بعد الميلاد- فإن جميع الفلاسفة- الأوربيين والمسلمين- يسيرون حسب المنهج اليقيني، ولم يتردد أحد منهم في قيمة الإدراكات، واستمر هذا حتى دخلت أوربا في القرن السادس عشر فما بعد ووقعت فيها حوادث وتحولات في مختلف المجالات العلمية وسلط الضوء من جديد على مسألة قيمة المعلومات.
    وفي هذا التحول الجديد في أوربا أعيد النظر غي علوم الفلك القديمة وفي الأقسام المختلفة من الطبيعيات ثم خطّوا بخط البطلان على مواضيع كانت تقع موقع القبول والتسليم من جميع العلماء لآلاف السنين ولم يكن يخطر على بال أحد خلافها قبل ذلك، وأصبح من المسلم في هذا العصر أنها لم تكن سوى أخطاء بشرية، وأدى هذا الأمر إلى أن تفقد العلوم اعتبارها السابق واتضح بهذا بعض العجز البشري للوصول إلى الواقع.
    والوضع الذي كان في اليونان القديمة- في القرن الخامس قبل الميلاد- والذي أدى إلى أن يسلب علماء تلك البلاد اعتمادهم من

    [ 197 ]

    العلم وأن يتمسكوا بالسفسطة قد عاد بنفسه تقريباً في أوربا خلال هذه القرون الحديثة، وظهر في أوربا- كما نعلم- المثاليون من قبيل بركلي وشوبنهاور(Schopanhauer) وهم يظهرون آراءً تشبه آراء بروتاغوراس (Protagoras) وجور جياس (Gorgias) من السوفسطائيين في اليونان القديمة، وظهرت مذاهب ومسالك في باب قيمة المعلومات تنتهي في نتائجها إلى مذهب المشككين التابعين لبيرون من قبيل مذهب النسبيين المحدثين- الذي مر علينا شرحه- ومذهب النقد "كريتي سيسم" ومذهب المادية الديالكتيكية في باب قيمة المعلومات كما أشرنا إليه من قبل وسوف نوضحه أكثر فيما بعد.
    وأدى هذا الأمر إلى أن تتخذ الفلسفة الأوربية- في القرون الأخيرة- العلم محوراً لها ونهض العلماء بدراسات متنوعة في هذا الحقل، ويمكن القول أنه- في هذه المرحلة الجديدة- قد نسخ الاعتقاد بالقيمة المطلقة للمعلومات كما كانت عليه في الماضي.
    وهذا استعراض مختصر لنظريات العلماء المحدثين:
    نظرية ديكارت:
    اختار ديكارت (Descartes) "1596 - 1650 م" وأتباعه سبيل اليقين إقتداءً بأرسطو، مع بعض الاختلاف، وهو أن أرسطو وأتباعه يعتبرون المحسوسات والمعقولات معاً محصّلات لليقين، ويجيز المنطق الأرسطي استعمال المحسوسات والمعقولات في باب "البرهان"، أما ديكارت فهو يعتبر المعقولات وحدها محصّلة لليقين وأما المحسوسات والتجربيات فليس لها إلا قيمة عملية.
    وضع ديكارت منطقاً في مقابل منطق أرسطو يعتمد فيه على المعقولات فقط ولا يذكر التجربيات فيه أبداً.

    [ 198 ]

    ومع أن ديكارت يولي التجربة أهمية وقد كان هو بنفسه أحد أصحاب التجربة إلى حدّ ما ولكنه كان يعدها وسيلة فحسب لارتباط الإنسان بالخارج للإفادة منها في الحياة وليس لها أي دور في كشف الحقيقة.
    وهو يقول- حسب ما ينقل المرحوم فروغي-:
    "إن المفاهيم التي ترد الذهن من الخارج بوساطة الحواس الخمس لا نستطيع أن نطمئن إلى أن لها مصدقاً حقيقياً في الخارج، وإذا كان لها مصداق فليس من المؤكد أن الصورة الموجودة في أذهاننا مطابقة للشيء الخارجي".
    ويقول أيضاً:
    " إني أدرك أن الحرارة تنبعث من بعض الأجسام وأظن أن الحرارة التي فيها تشبه الحرارة التي هي موجودة لدي، والحال أنني لا أستطيع إلا أن أعتقد بأن في ذات النار شيئاً يوجد الإحساس بالحرارة فيّ ولكنه لا ينبغي لي أن أتخذ من هذا الإحساس عقيدة فيما يتعلق بـ "حقيقة الأشياء" وذلك لأن الإدراكات الحسية في الإنسان ليست إلا لتمييز المفيد من المضر ولتعيين المصالح وليست هي وسيلة للظفر بالحقائق".
    ويزعم ديكارت أن الشكل والبعد والحركة فقط هي الحقيقية من أحوال الجسم لأنها- حسب رأيه- وحدها المعقولة والفطرية التي لم تأت عن طريق الحس، أما سائر حالات الجسم التي يسميها بالخواص الثانوية فهو يعتبرها سلسلة من الصور الذهنية التي جاءت نتيجة لسلسة من الحركات المادية الخارجية ونتيجة لارتباط الإنسان بالخارج من قبيل اللون والطعم والرائحة وغيرها. وهو يقول:

    [ 199 ]

    "وفروا لي البعد والحركة وأنا أصنع لكم العالم".
    ويقول المرحوم فروغي:
    "لقد بيّن ديكارت- بطريق علمية- أن محسوسات الإنسان لا تطابق الواقع وإنما هي وسيلة فقط لارتباط الجسم بالعلم المادي وهي تقدم لنا صوراً من العالم لا حقيقة لها، والحقيقة شيء آخر، فمثلاً تسمع الإذن غناء اً ولكن الصوت لا حقيقة له، ولو كانت الإذن تدرك الواقع لاستطاعت أن تدرك فقط الحركات التي في الهواء أو في الأجسام الأخرى".
    ويقول أيضاً:
    "إن ديكارت يعتبر المفاهيم الفطرية فقط أساساً للعلم الواقعي".
    ويقول ديكارت:
    "إن الصور التي في أذهاننا على ثلاثة أقسام:
    القسم الأول: الفطريات وهي تلك الصور المرافقة للفكر وللتحولات الفكرية أو هي القاعدة للتفكير.
    القسم الثاني: المجهولات وهي الصور التي تخلقها قوة التخيل في الذهن.
    القسم الثالث: الخارجيات وهي تلك الصور التي ترد إلى الذهن بوساطة الحواس الخمس.
    فالصور التي تخلقها المخيلة لا اعتبار لها، أما المفاهيم التي ترد إلى أذهاننا من الخارج فلا نستطيع أن نطمئن إلى أن لها مصداقاً حقيقياً في الخارج، وإذا كان لها ذلك المصداق فليس من المؤكد أن

    [ 200 ]

    الصور التي في أذهاننا تطابق ذلك الأمر الخارجي، كما نلاحظ ذلك في صورة الشمس في أذهاننا فمن المقطوع به أنها غير مطابقة للواقع لأننا حسب المعلومات الفلكية المتوفرة نعلم أن الشمس تساوي آلاف المرات أرضنا التي نعيش عليها مع أن صورتها في أذهاننا لا تساوي حتى مساحة الكف الواحدة".
    ويقول في شرح معنى الفطريات:
    "أما الفطريات فهي التي تدركها عقولنا بالبداهة وهي صحيحة يقيناً ولا يتطرق الخطأ فيها إلى أذهاننا أبداً من قبيل الشكل والحركة والأبعاد (من الأمور المادية الصرفة) والعلم والجهل واليقين والشك (من الأمور العقلية المحضة) والوجود والمدة والوحدة (من الأمور المشتركة بين المادة والعقل).
    ويتحدث أيضاً عن الفطريات فيقول:
    "إن كل إنسان يحكم بوجود نفسه بالبداهة والوجدان وكذلك بالنسبة إلى إدراكه أن للمثلث ثلاث زوايا وأن الكرة ليس لها إلا سطح واحد وأن الشيئين إذا ساوى كل منهما شيئاً ثالثاُ فإنهما متساويان".
    ويبني ديكارت أساسه في الإلهيات والطبيعيات على الفطريات والمعقولات الصرفة فقط ويسير حسب أسلوب منطقي خاص به وله آراء ونظريات خاصة في النفس والجسم وذات الله سبحانه وإثبات أن العالم غير متناه وغيرها من الأمور.
    وقد اقتفى أثر ديكارت جماعة من الفلاسفة الذين جاءوا بعده من قبيل ليبتنس( Leibniz) ومالبرانش (Malabranche) واسبينوزا (Spinoza) وذلك في باب المحسوسات وفي عدم كون المحسوسات

    [ 201 ]

    من جملة الحقائق، وكذلك في رأيه في المعقولات والفطريات وفي كونها يقينية مع بعض الاختلافات اليسيرة.
    ويطلق على هذه الجماعة اسم "العقليين" لأنهم يقولون بالمعقولات غير المعتمدة على الحس.
    وتتلخص عقيدة هؤلاء العلماء في أن للمعلومات قيمة يقينية وعلمية، أما المحسوسات فليس لها سوى قيمة عملية.
    نظرية الحسيين:
    والحسيون يقفون في مقابل العقليين وصحيح أنهم يخالفون أولئك في الأمور الفطرية، وهذا الخلاف هو الذي يميزهم منهم وهو الذي أوقع الجدال بينهم ودعا إلى تأليف الكتب من الطرفين ليثبت كل منهم نظريته ويدحض النظرية المخالفة، ولكنهم يوافقون العقليين في نفي قيمة المحسوسات تلك العقيدة التي أعلنها ديكارت.
    ويعتبر جون لوك (1622-1704 م) الإنجليزي زعيم الحسيين وهو أكبر علماء أوربا وله نظريات مهمة في علم النفس، وهو يتحدث عن المحسوسات فيقول:
    "ليس من المعقول إنكار الموجودات المحسوسة، ومن الواضح أن اليقين فيها ليس كاليقين بالنسبة إلى المعلومات الوجدانية (وهي الأشياء التي يصدق الذهن بها بغير وساطة النسبة بين الموضوع والمحمول كعلم النفس بوجود ذاتها وأن الثلاثة تساوي اثنين بإضافة واحد وأن المثلث غير المربع) ولا كاليقين الحاصل في الأمور العقلية (وهي الأشياء التي يحتاج الذهن- لكي يدرك النسبة بين الموضوع والمحمول- إلى تصور معان أخرى، وهي من قبيل أن مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين أو أن للعالم مبدعاً). ويمكن

    [ 202 ]

    عدها من وجهة النظر العلمية والفلسفية في زمرة الظنون، ولكننا في أمور حياتنا الدنيوية لابد من اليقين بحقيقة المحسوسات.
    ويرى لوك رأي ديكارت في باب تقسيم خواص الجسم، وهو يقول:
    "الخواص على قسمين: فبعضها ذاتي للجسم ولا ينفك منه ونسميها بالخواص الأولية كالجرم والبعد والشكل والحركة أو السكون، وبعضها خواص في الذهن بوساطة الخواص الأولية كاللون والرائحة ونسميها بالخواص الثانوية".
    وهنا يرد إشكال يتلخص في أننا إذا اعتبرنا كل معلوماتنا عن العالم الخارجي (حسب وجهة نظر جون لوك) متوقفة على الحس، والمفروض أن الحس ليس له قيمة يقينية، إذن من أي طريق نحن نستطيع أن نصدر حكمنا بأن بعض خواص الأجسام ذاتية لها وبعضها عرضية؟ وبعبارة أخرى بعضها حقيقية ولها واقع في الخارج وبعضها الآخر ذهني محض بينما قد أدركناها جميعاً بوساطة الحس؟ ولأي سبب لا تكون الخواص الأولية ذهنية خالصة مثل الخواص الثانوية؟
    وحاول بعض العلماء- من قبيل جورج بركلي وهو ممن وافق جون لوك في عقيدته في باب "أصالة الحس"- بهذا الإشكال أن يحمل لوك على اعتبار جميع المحسوسات من الأمور الذهنية. وعلاوة على هذا نقول: أنه بناءً على أصالة الحس التي يعلنها لوك فمن أي طريق نحن نستطيع أن نضفي القيمة اليقينية على سلسلة من المعلومات التي يسميها بالوجدانيات أو البديهيات، وكذلك المعلومات

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [ 203 ]

    الأخرى التي يطلق عليها الأمور العقلية والاستدلالية؟ (مما مرت الإشارة إليها عند نقل كلامه)
    أيمكن بناء على أصالة الحس- مع الاعتقاد بأن الحس يخطئ في عمله- أن نضفي القيمة اليقينية على غير المعلومات الحضورية (وهي علم النفس بذاتها وفكرها وأفعالها وقواها)؟
    وعلى أية حال فإن عقيدة الحسيين في باب المحسوسات تشبه عقيدة العقليين، وهم جميعاً ينكرون أن تكون لها قيمة علمية ونظرية. ولا يوجد بين الفلاسفة المحدثين- ولا سيما منذ القرن التاسع عشر فما بعد- فيلسوف واحد يتبنى نظرية القدماء فيما يعود إلى المحسوسات.
    وشاعت في أوربا- في القرن التاسع عشر "النظرية الذرية" (Atomism) التي وضعت أسسها في القرن الخامس قبل الميلاد على يد ديمقراطيس في اليونان، وأصبح واضحاً أن الجسم- على خلاف ما كان يعتقد القدماء- ليس واحداً متصلاً كما يبدو لأول وهلة وإنما هو مركب من ذرات متناهية في الصغر وهي التي تكون الجسم الواقعي. وتختلف الأجسام وتتنوع باختلاف شكل ومقدار ووضع ذراتها، وتلك الذرات دائماً هي في حالة حركة. ولا يوجد منشأ للسمع والبصر وسائر الإحساسات سوى تلك الذرات. أما ما ندركه من لون أو طعم أو رائحة أو صوت عن طريق الحواس فليس لها واقع خارجي وإنما هي مجموعة من الحالات الذهنية التي تمثل التأثيرات المختلفة للذرات.
    وحسب قول بعض العلماء:
    "فإن الطبيعة لا لون لها ولا رائحة ولا صوت وإنما نحن الذين

    [ 204 ]

    صنعنا لها أشعة الشمس الذهبية ونكهة الورد العطرة وغناء البلبل الشادي".
    وديمقراطس نفسه يصرح بأن الصور التي تنقلها حواسنا عن الأشياء لا يصح أن تؤخذ دليلاً على واقعية الأشياء الخارجية وإنما هي تمثل التأثيرات المختلفة للذرات التي تخرج من الأجسام وتدخل إلى حواسنا.
    وينقل عن ديمقراطيس قوله:
    "إن الشيء ذا الطعم الحلو قد أصبح حلواً بالاعتبار والاتفاق وكذلك المر والحار والبذارد واللون فإنها جميعاً قد أصبحت بهذا الشكل لاعتبار الناس لها واتفاقهم عليها، وأما إذا أردنا الحقيقة فإن هذه ليست إلا ذرات وفراغات ".
    ومن جملة العلماء الحسيين الذين ينكرون نظرية ديكارت وأتباعه فيما يتعلق بالمعقولات المحضة ويقولون بأصالة الحس ويعتبرون المعلومات كلها معتمدة على الحس تبعاً لجون لوك- من جملة هؤلاء جورج بركلي (George Barkeley) "1685-1753م" ودافيد هيوم (David Hume) "1711-1776م".
    وقد اندفع هذان العالمان في نفي قيمة المحسوسات التي يظنان أنها أساس العلم أكثر من ديكارت وجون لوك، فمثلاً كان ديكارت يقول أن البعد والشكل والحركة في الجسم (وهي الخواص الأولية) حقيقية لأنها كما يعتقد متعلقة وليست محسوسة، والشيء الذي هو غير حقيقي إنما هو الخواص الثانوية من قبيل الصوت والطعم واللون والرائحة التي هي محسوسة، ولكن هذين الشخصين قد أفرطا فزعما أن الخواص الأولية مثل الخواص الثانوية ليست حقيقية، ومع أنهما

    [ 205 ]

    يعتبران الحس أساس العلم ولكنهما لا يضفيان على الإدراكات الحسية أية قيمة، بل هما ينكران حتى الوجود الخارجي للمحسوسات.
    نظرية كانت:
    إن الفيلسوف الألماني الشهير كانت (Kant) "1724-1804م" نظريات مهمة فيما يخص قيمة المعلومات وسائر مسائل العلم. ويعدّ كانت من الطراز الأول من فلاسفة أوربا ويثق الأوربيون ثقة عظيمة بفلسفته، فيقول مثلاً أحد العلماء الأوربيين منوهاً بفلسفته:
    "تحسب أنها جبل قد شيد من الفلسفة".
    ولما كانت فلسفة كانتْ تنقد العقل وفهم الإنسان وتعيّن لكل من العقل والحس حدودهما وتوضح الأمور القابلة للمعرفة، لذلك فهي تسمى بفلسفة النقد (كريتي سيسم) يقول المرحوم فروغي:
    "بدأ فرنسيس بيكون (Fr Bacon) بنقد العلم والفلسفة- في النصف الثاني من القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر- وواصل جون لوك نفس المسيرة واقتحم الميدان بركلي بأسلوب آخر، وعمق أسس هذا الأسلوب وأوضحها دافيد هيوم، وكان هؤلاء جميعاً من الإنجليز، ثم ورد الساحة كانت الألماني بإشارة من هيوم وفتح صفحة جديدة من المعرفة وذلك بإصلاح الأخطاء وإكمال النقائص".
    والقسم الأعظم من دراساته مقصور على مسألتين أخريين (هما سبيل الحصول على العلم- وحدود العلم ) من مسائل ثلاث ذكرناها في أول هذه المقدمة وسوف نعود إلى تفصيلها في المقالة الخامسة إن شاء الله.

    [ 206 ]

    ويعترض العلماء على نظرية كانت من ناحيتيها، وحسب تفسير كانت هذا لا يمكن إثبات كون الرياضيات يقينية كما سوف يأتي في المقالة الخامسة وإنما لابد من البحث عن سبيل أخرى.
    ثالثاً: الطبيعيات: وشرحه لها مفصل مبسوط، وملخصه أن ذهن الإنسان قادر فقط في الأمور الطبيعية على إدراك الأعراض والظواهر "الفنومونات" (Phenomen) التي تأتي عن طريق الحس، والعقل عاجز عن إدراك الذوات "النِمونات" (Noumen) التي هي موضوع الأعراض والظواهر. وفي مورد الظواهر أيضاً فإن العقل الإنساني- بتركيبه الخاص- يضفي أشكالاً وصوراً خاصة على الأشياء، ولا يمكن الاطمئنان إلى أن الواقع ونفس الأمر هو بهذا الشكل وهذه الصورة الظاهرة لعقولنا أم لا!
    ويقول كانت أن الحواس تعطي العقل مواد الوجدانيات والمعلومات ثم يمنحها العقل التنظيم والانسجام من نفسه ويعطيها الصورة ويجعلها مؤهلة للإدراك. ويواصل حديثه قائلاً: أن كل ما يتصوره الإنسان فهو يتصوره خلال الزمان والمكان، وليس من الممكن أن يدرك شيئاً من أمور العالم منفصلاً عن هذين الظرفين. ولكن الزمان والمكان ليس لهما وجود خارجي وإنما هما كيفيتان لذات العقل وصور يمنحها العقل لمحسوساته، إذا لم يضف العقل هذا النظام من نفسه لم ترد الذهن إلا مجموعة من التأثيرات المبعثرة المتفرقة غير المترابطة، وبالتالي فإن العقل لا يستطيع أن يتصور شيئاً محدداً. فمثلاً نحن نملك صورة واضحة عن الشمس مع أن الذي يرد إلى أذهاننا بوساطة التأثيرات الحسية إنما هو الحرارة والضوء واللون كل على حدة، ولو لم يقم الذهن- بما يتمتع به من خواص- بتعيين ظرف مكاني وزماني لهذه الأمور، ولو لم يربط بينها لم يظفر بتصور

    [ 208 ]

    واضح للشمس. ويقول في مقام التشبيه: "نحن نشبه المعلوم بالغذاء الذي لابد أن يدخل البدن ويحل محل ما يتحلل منه، ولهذا الهدف لابد من إدخال الطعام إلى المعدة من الخارج وعندئذ لابد للمعدة وسائر أعضاء الجهاز الهضمي من أن تضيف إلى الطعام العصارات من نفسها لكي تهضم ذلك الطعام، إذن فالطعام بمنزلة الاحساسات، والعصارات بمنزلة الزمان والمكان".
    هذا الحديث مختص بالوجدانيات أو التصورات الأولية التي لدينا عن الأشياء (الأعراض والظواهر). أما إذا أردنا أن نتخذ الأشياء موضوعاً للأحكام وأن نصوغ لها قوانين علمية وكلية فلابد حينئذ من تدخل مجموعة من المعقولات الأخرى التي هي صنيعة الذهن تماماً ولم تأتنا من طريق الحس، وهي تضفي عليها صورة القانون العلمي الكلي. وهذه القوانين التي تدخل تحتها كل المعلومات إنما هي مخلوقة الذهن، ولعل هناك قوانين أخرى هي التي تحكم الأشياء في الواقع ونفس الأمر.
    وهذا كلام واضح ومفصل. ومن جملة هذه القوانين- حسب رأي كانت- قانون العلة والمعلول. يقول كانت بحق هذا القانون.
    "إن علاقة العلة والمعلول قد صنعها العقل، وليس المعلوم أن ترتب المعلول على العلة واجب في عالم الواقع".
    والخلاصة فما عدا مجموعة من الآثار المتغيرة الجزئية المبعثرة التي ترد إلى أذهاننا من طريق الحواس فإن إدراكنا للعالم الخارجي يكون بوساطة مجموعة من المعلومات والمفاهيم والقوانين التي تصوغها عقولنا وتجبرنا على أن ندرك العالم بهذه الأشكال والصور وفي ظل هذه القواعد والقوانين. ولكانت بحوث مستفيضة في هذه المفاهيم والقوانين وفي كيفيتها ومنشئها وترتبها.

    [ 209 ]

    يقول المرحوم فروغي:
    "يقول كانت في تحقيق هذه المسألة: إنني قد غيّرت الأسلوب الذي سار عليه الفلاسفة الآخرون، وفعلت ما فعل كوبرنيك (Copernic) في موضوع هيئة العالم حيث رأى أننا بهذا الفرض- وهو أننا مركز العالم، والشمس والسيارات الأخرى كلها تدور حولنا- نخلق لأنفسنا مشكلات ومصاعب، ولهذا فهو قد عكس الفرض وقال أن الشمس هي المركز ونحن ندور حولها، وبهذا وجد تلك المشكلات قد حلّت.
    أما أنا فقد لاحظت أن الإنسانية تعتقد لحد الآن أن الأشياء هي الأصل وأن عقولنا تجعل إدراكاتنا تابعة لواقع تلك الأشياء، أي أنها تجعلها مطابقة لها، ومن هنا ينشأ الإشكال وهو كيف يمكن أن نكوّن أحكاماً تركيبية من الأشياء الخارجة عن الذهن مع المعلومات القبلية (الفطرية)؟ (معنى الأحكام التركيبية هو تلك الأحكام التي يكون موضوعها ومحمولها مفهومين مختلفين). ولهذا فقد فرضت أنا أن أذهاننا تجعل الأشياء مطابقة لإدراكها، أي نحن لا يعنينا أن تكون إدراكاتنا الفعلية مطابقة لواقع الأشياء أو لا تكون، لأننا لا نستطيع أن نحيط علماً بذلك، وإنما الذي نعلمه هو أننا ندرك الأشياء كما يقتضيه وضع عقولنا، وبهذا فقد حلّ الإشكال".
    ومن الواضح أن هناك فلاقاً هائلاً بين فرضية كوبرنيك في هيئة العالم وفرضية كانت في باب قيمة المعلومات لأن فرضية كوبر نيك قد حلت المشكلات المستعصية في وجه علماء الفلك، وأما فرضية كانت فعلاوة على أنها تتضمن إشكالات تستعصي على الحل فإن جميع الإشكالات التي يهرب منها الفلاسفة-ومن جملتهم كانت- قد أصبحت أشد وآكد، وذلك أنّ كانت لا يرضى أن تنسب إليه

    [ 210 ]

    السفسطة ومذهب الشك، بينما هذه الفرضية التي جاء بها تؤدي -على أقل تقدير- إلى مذهب الشك. وعلاوة على هذا فإنه ليس فرضاً جديداً لأن بروتو غوراس- السوفسطائي المعروف في القرن الخامس قبل الميلاد- قد بيّنه قبل كانت بألفين وثلاثمائة عام بقوله:
    " الإنسان هو مقياس كل الأشياء".
    ومن ناحية فإن كانت كان يتردد في ترتب المعلول على العلة في العالم والواقعي ولكنه من ناحية أخرى يقول:
    "صحيح أننا ندرك بحواسنا الأعراض والظواهر، ولكننا نحن نعلم أنه لابد لها من مُظهر. إذن قطعاً توجد ذوات تكون هذه الأعراض مظاهر لها".
    وهنا يرد الإشكال المعروف لشوبنهاور فهو يقول:
    "بعد أن بيّنت في نقدك أن العلية والمعلولية صنيعة الذهن فبأي دليل تحكم بوجود ذوات في الخارج تكون عللاً لهذه المظاهر؟"
    وهذا صحيح لأنه إذا اعتقد شخص بأن العلية والمعلولية صنيعة الذهن وإنه ليس من الواجب أن يترتب المعلول على العلة في العالم الواقعي فلا وجه للاعتقاد حينئذ بلزوم وجود العالم الخارجي ليكون منشأ للتأثيرات الحسية.
    والعجيب أن المرحوم فروغي يقول:
    "كان حكماؤنا يقولون أن الحكمة هي العلم بالحقائق في حدود الطاقة البشرية، وكانت كان يحاول-في الواقع- أن يعيّن حدود الطاقة البشرية".
    وقد اتضح بما قلناه لحد الآن أن رأي القدماء في باب قيمة المعلومات يقع في النقطة المقابلة لرأي كانْتْ، فمذهب القدماء كان

    [ 211 ]

    مذهب الجزم واليقين، أما كانْتْ فقد سلك سبيل الشك. ويصرّ القدماء في موضوع الوجود الذهني على أن ماهية الأشياء توجد في الذهن كما هي موجودة في الخارج، ولكن كانْتْ يقول أن كل ما ندركه فهو كما يقتضيه وضعنا العقلي، إما أن الواقع هو بهذا النحو أم لا؟ فالجواب: لسنا ندري.
    ويصل كانت في نقده إلى الحد الذي يتردد فيه بالنسبة إلى وجود قانون العلة والمعلول في العالم الخارجي، ولكن القدماء يصرّحون مرات عديدة بالتردد أو إنكار هذا القانون في العالم الخارجي يستلزم نفي الفلسفة وبطلان كل العلوم والسقوط في حبائل السفسطة.
    والمقصود من جملة القدماء السابقة الذكر: "إلى الحد الذي يستطيعه الإنسان" الواردة في تعريف الفلسفة هو الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن حقائق العالم لا نهاية لها، أما الاستعداد البشري فهو محدود، وعلى هذا فلا يستطيع الإنسان الإلمام إلا بجانب من حقائق الكون فقط.
    والعلم بالكل لن يكون من نصيب أحد. أما كانت فهو يقول أن اليد البشرية لتقصر عن الوصول إلى حقائق الكون. وبعبارة أخرى فإن القدماء يقرّون بالعجز البشري من حيث الكم، ويتّهم كانت البشرية بالعجز من حيث الكيف، وبين هذين فرق هائل جداً.
    وجاء بعد كانت علماء كثيرون وأبدوا آراءهم وعقائدهم في باب قيمة المعلومات ولكنهم لم يضيفوا شيئاً جديداً إلى ما نقلناه ضمن استعراضنا لعقائد الأشخاص السابق ذكرهم، وكل واحد منهم قد سلك طريقاً خاصاً في تناول البحث ولكنه توصل في النهاية إلى واحدة من تلك النتائج التي تقدم ذكرها.

    [ 212 ]

    نظرية هنري برجسون:
    لا يمكن النظر من بُعد إلى نظرية العالم العارف الفرنسي هنري برجسون ( Henri Bergson) "1859-1941م" فهو يعتقد بفلسفة يقينية مشربة بالعرفان. ولبرجسون رأي في العقل يشبه رأي ديكارت في الحس حيث قال: أن الحواس ليست وسيلة لكشف الحقائق وإنما هي وسيلة لإيجاد الارتباط العملي بالعالم الخارجي. ويقول برجسون: أن الحس والعقل ليسا وسيلة لكشف الحقائق، بل توجد وسيلة أخرى لاكتشاف الحقيقة وتلك هي "الاستبطان" أو "الشهود الباطني"، وهو يعتبرها أعلى مراتب العقل. ويواصل برجسون حديثه قائلاً: إن الإنسان يستطيع بتفكيره في "ذاته" وبمشاهدته الداخلية "لنفسه" أن يجد طريقه إلى الحقيقة المطلقة ويستطيع أن يصل إلى الفلسفة الأولى التي تأخذ على عاتقها شرح الحقائق المطلقة عن هذا الطريق فقط.
    وفي الختام يحسن بنا التنبيه إلى هذه الملاحظة وهي أننا نستطيع أن نتناول موضوع قيمة المعلومات من زاويتين إحداهما من الناحية النظرية والأخرى من الناحية العملية.
    أما تناول قيمة المعلومات من الزاوية النظرية فهو يعني التحقيق في مدركاتنا ومعلوماتنا المنطبعة في أذهاننا أهي عين الواقع ونفس الأمر أم هي غيرها؟
    والفلاسفة ينظرون إلى هذه الناحية في بحثهم لقيمة المعلومات، وهي الناحية التي ينفيها العلماء المحدثون منذ ديكارت ومن جاء بعده عن المحسوسات بقولهم إن الحس ليس وسيلة لكشف الحقيقة.
    وأما تناول قيمة المعلومات من الزاوية العملية فهو يعني التحقيق

    [ 213 ]

    في أن المعلومات وإن كانت لا تكشف لنا الحقيقة ولكنها تهدينا في العمل، أي نحن نعلم أن هناك علاقة مباشرة بين إدراكاتنا والأشياء الخارجية، فمثلاً هناك في الخارج كيفية معينة توجد فينا صورة اللون، وكيفية أخرى توجد في أذهاننا الصوت، ولهذا فنحن نستطيع أن نتصل بالخارج بوساطة هذه المعلومات وإن نفيد منها عملياً، وبعبارة أخرى فإن معلوماتنا إذا لم تستطع أن توقفنا على ماهية الأشياء الخارجية فهي على الأقل تتمكن من أن توقفنا إجمالاً على وجودها.
    وهذا اللون من القيمة لا ينكره إلا السوفسطائيون، وقد مرّ علينا أن ديكارت والعلماء المحدثين الآخرين وإن كانوا ينكرون القيمة النظرية للمحسوسات ولكنهم لا ينكرون القيمة العملية لها. وقد صرح ديكارت وكانت بأنه من غير الممكن إنكار القيمة العملية للمحسوسات.
    وبهذا يتضح أن جانباً كبيراً من ظنون الماديين لا يتمتع بأساس رصين.
    يقول الدكتور الآراني في كتب "المادية الديالكتيكية" فصل قيمة المعلومات:
    "إن كانت - الذي هو زعيم مذهب اللاادريين ( Agnosticism) - يقول: أننا لا نستطيع أن نصل إلى الحقيقة المطلقة، فهو إذن يقبل بوجود "الشيء بنفسه" ولكنه يقول أنني افتقد القدرة على الاتصال به، وقد أجيب في الكتاب المسمى بـ "لودفيج فيورباخ" ( Leudwig Feuerbach) بجواب متين على هذه الدعوى بقوله: ما دامت المواد الآلية تصنع داخل بدن الحيوانات والنباتات فقط فنحن نستطيع أن نسميها بـ"الشيء بنفسه"، ولكنه عندما صارت تصنع الواحدة

    [ 214 ]

    منها بعد الأخرى بفضل علم الكيمياء فلابد أن نطلق منذ الآن "الشيء لنا" وذلك لأن عملنا الفكري قد اتصل بذلك الشيء بنفسه".
    أنه لابد من الإذعان بأن الماديين يجهلون ما يجدّ في عالم الفلسفة والعلم، وهم يتخيلون إنّ كانت وأمثاله يعتقد بعدم إمكان الاستفادة عملياً من الحواس ولابد من إلغاء الحواس جميعاً. وهم لا يعلمون أن كانت وغيره يفرقون بين الشيء بنفسه والشيء لنا من الناحية النظرية فقط ولا يمتد هذا ليشمل الناحية العملية. والفلاسفة الذين اقتحموا موضوع القيمة العملية جميعاً لا ينظرون إلا إلى الناحية النظرية وهم ليسوا قاصدين الناحية العملية.
    وما ذكرناه في هذه المقدمة من آراء العلماء حول القيمة النظرية للمعلومات يمكن تلخيصه بهذا الشكل:
    هذا هو قول السوفسـطائيين
    إن جميع الإدراكات البشريـة لا القدماء من قبيل بروتوغراسي
    حقيقة لها وكل المعلومات عبث وجورجياس والمثاليين المحدثين
    وهراء. من قبيل بركلي وشوبنهاور.
    ـــــــ
    نحن لا نعلم أتكون الإدراكات
    عـين الحقيقــة أم لا، لأن
    كـل الإدراكات البشرية (وحتى هذا هو قول المشكيين القدماء
    البديهيات الأولية والفلسفة والنسبيين المحدثين واتباع المادية
    والعلم والرياضة) تتوقف على الديالكتيكية.
    كيفية تركيب الجهاز الإدراكي
    للإنســان، وهي مختلفة في
    الأشخاص.

    [ 215 ]

    إن المحسوسات والمعقولات هذا هو قول أرسطو وأتباعه من
    الأولية وما يكتسب بمراعاة اليونانيين القدماء وجميع الحكماء
    الأصول المنطقية فهي حقيقية. المسلمين.
    ـــــــ
    إن كــل فطريات العقل
    والمعقولات المكتسبة بمراعاة
    الأصول المنطقية فهي عيـن
    الحقيقة، وأما المحسـوسات هذا هو قول ديكارت ولينبتس
    فلسنا ندري أهي حقيقية أم وعدة آخرين من فلاسفة أوربا.
    لا ؟. والحواس ليسـت إلا
    وسيلة للارتباط العمــلي
    بالخارج وهي ليست وسيلة
    لكشف الحقيقة.
    ـــــ
    إن المعلومات الرياضية-التي
    هي صنيعة الذهن-حقيقية، هذا هو قول كانت الألماني
    وأما المعلومات المتعلقة بالعالم وأتباعه.
    الخارجي فلسنا ندري أهي
    حقيقية أم لا؟.
    ـــــ
    إن الوجدانيات وما نظفر به
    عن طريق التفكير السليم فهو هذا هو قول جون لوك
    حقيقي، أما المحسوسات فلسنا الإنجليزي.
    ندري أهي حقيقية أم لا؟.
    ________
    إن للحس والعقل قيمة عملية
    فقط وهما وسيلة للارتبـاط هذا هو قول هنري برجسون.
    العملي بالخارج، أما وسيلة
    وسيلة كشف الحقيقة فهي
    "الاستبطان".

    [ 216 ]

    كان هذا شرحاً مختصراً لمسير العقائد واتجاه الآراء فيما يتعلق بقيمة المعلومات منذ المرحلة اليونانية القديمة وحتى العصر الحاضر.
    العلم والمعلوم - قيمة المعلومات
    لابدّ من إدراج مسألة العلم والمعلوم ضمن المسائل الفلسفية التي هي من الدرجة الأولى من حيث الأهمية لأننا مادمنا موجودين فإن اعتمادنا سيكون على العلم.
    وينبغي لنا أن نلاحظ- في هذا المجال- دليل السوفسطائيين، فهم يقولون أننا نبحث دائماً عن العلم ثم نظفر بالعلم، أما نحن فنقول أننا نبحث دائماً عن المعلوم ثم نظفر بالعلم، والفرق كبير بين هذين الكلامين.
    وكما قلنا في المقالات الماضية فإن العلم مع معلومه واحد من حيث الماهية (لو سألنا أي فيلسوف- حتى إذا كان مادياً- وزعماء الفلسفة المادية الديالكتيكية عن تعريف العلم والمعلوم لأجابونا بأن المعلوم هو ذلك الشيء الذي يكون منشأ للآثار أهو الذي تترتب عليه الآثار، أما العلم أو الصورة العلمية فهو نفس ذلك الشيء لكنه مع اختلاف واحد وهو أنه ليس منشأ للآثار)، وبهذا يصبح تطابق العلم والمعلوم- في الجملة- من الخواص الضرورية للعلم.
    وبعبارة أوضح نقول: أن واقع العلم هو الإرادة والكشف عن الخارج:
    ومن هنا نعرف أنه من المستحيل فرض علم يتصف بصفة الكشف عن الخارج ولكنه ليس له مكشوف خارج عنه.

    [ 217 ]

    وهنا يظهر هذا السؤال:
    إذا كان للعلم واقع فكيف يمكن فرض الخطأ بحقه ( إن أخطاء الحواس هي أعظم ما يتوسل به السوفسطائيون لإثبات أن العالم الخارجي لا واقع له ولنفي قيمة المعلومات مطلقاً، فهم يقولون: أن كل معلومات الإنسان قد حصل عليها عن طريق الإحساس، والإحساس ليس دليلاً على كون المحسوس واقعياً لأن كل أحد يعرف أن الحواس قد تصوّر لنا الأشياء-أحياناً- بشكل مختلف (مثل الماء البارد والحار المذكورين في المتن)، ومن الواضح أنه من المستحيل أن يوجد الشيء الواقعي بشكل مختلف، وقد تصور لنا- أحياناً- الشيء بنحو منقطع نكذبه (مثل قطرة وحلقة النار وغيرهما ما ذكر في المتن).
    إذن يعلم من هذا إن الإحساس ليس دليلاً على الوجود الواقعي للمحسوس. ولما كانت جميع معلومتنا ومعارفنا عن الدنيا لها منشأ حسي وقد جاءتنا عن طريق الحس، إذن كل تلك المعلومات والإدراكات والعلوم ليس لها قيمة واقعية.
    ولا قيمة لهذه المغالطة التي سيقت لإنكار أمر بديهي (وهو وجود العالم الخارجي) لأن عقل كل إنسان- حتى عقول أصحاب المغالطة- يذعن له، ولو فرضنا أن هناك من لا يستطيع ردّ هذه المغالطة بالاستدلال العلمي ولكنه لا يشك في أن هذا الكلام مخالف لأمر بديهي فهو-لا محالة- مغالطة.
    ومع هذا لم يترك العلماء هذه المغالطة تمرّ دون جواب، وسوف نشير إلى جانب من أحاديث العلماء التي ساقوها للجواب على هذا الإشكال أو للبحث-بصورة مستقلة- في موضوع أخطاء الحواس، وذلك لتنوير أذهان القراء:
    أولاً: لو فرضنا أن الحواس تخطئ في توضيح كيفية أو ماهية المحسوسات، ولكنها لا تخطئ في الدلالة على الوجود الخارجي لمحسوسات. فهذه الأخطاء التي نسبت إلى الحواس لو فرضنا أنها أخطاء حقيقية فإن ذلك يقتصر على بيان كيفية وماهية المحسوس، ولا يتعدى إلى الدلالة على وجود ذلك المحسوس في الجملة.
    ونحن لا نلاحظ في أي مورد (وحتى في مورد السراب والماء) إن المحسوس ليس له وجود إطلاقاً ثم نحن نحس بوجود شيء ما. إذن لم يثبت بهذا ما يدعيه السوفسطائيون (وهو أن العالم الخارجي غير موجود).
    ثانياً: إن الحس بذاته لا يخطئ. ففي الموارد التي يقال أن الحس قد أخطأ فيها لم يكن الخطأ- في الواقع- في الحس نفسه (الإحساس المجرد)، وإنما كان الخطأ في الحكم، أي أن الخطأ يقع حينما يحكم الذهن بأن هذا هو ذاك، وإلا فالحس الذي هو منشأ كل المعلومات لا يخطئ أبداً.
    ثالثاً: إن الخطأ في هذه الموارد المذكورة ليس واقعاً في الحس ولا في الحكم، أي أن كل قوة من القوى الإدراكية لا تخطئ فيما يتعلق بعملها.
    وإذا دققنا في كل خطأ من هذه الأخطاء فسوف يتضح لنا أنه ليس خطأ حقيقياً وإنما هو نسبة عمل متعلق بقوة ما إلى قوة أخرى. فالخطأ إذن واقع هنا بالعرض لا بالذات، وهذا هو الجواب المفصل في المتن.
    رابعاً: لا يوجد خطأ على الإطلاق في هذه الموارد المذكورة، لا في الحس ولا في الحكم، لا بالعرض ولا بالذات، وإنما هو حقيقة، لأن الحقيقة نسبية دائماً، وكل الموارد المختلفة التي سميّت بأخطاء الحواس ليست إلا اعتبرت بعض الإدراكات الحسيّة من الأخطاء. أما إذا لاحظنا أن الحقيقة نسبية دائماً وفي كل مكان فإن هذا الاشتباه سيرتفع بذاته.
    هذا الجواب صياغة النسبيون المحدثون واتباع المادية الديالكتيكية وسوف يأتي قريباً تفصيله ونقده..)؟
    وكيف يمكن أن يختلف عن معلومه الخارج عنه؟ مع أننا نلاحظ كثيراً-في الواقع- أن العلم قد تخلّف واختلف؟

    [ 218 ]

    ولتوضيح هذا الموضوع نرى من اللازم أن نتناوله بتفصيل أكبر:
    ينقسم العلم- أولاً-إلى العلم التصوري والتصديقي.
    فالعلم التصوري هو العلم الذي لا يشتمل على حكم مثل الصورة الإدراكية لـ "الإنسان" مجرداً، ألـ "الفرس" وحده، أو لـ "الشجر" وحده.
    أما العلم التصديقي فهو العلم المشتمل على حكم، مثل الصورة الإدراكية للجملة القائلة: "الأربعة أكبر من الثلاثة" "اليوم يأتي بعد أمس" "الإنسان موجود" "الشجر موجود".

    [ 219 ]

    ومن الواضح أن العلم التصديقي لا يتحقق بدون العلم التصوري (وإن كان بعض علماء النفس يتردد في كون هذه القضية كلية ولكن هؤلاء لم يحسبوا حساب التصور الإجمالي).
    وينقسم العلم- ثانيا- إلى الجزئي والكلي.
    فالجزئي هو الذي يرفض الانطباق على أكثر من واحد، من قبيل هذه الحرارة التي أحس بها وهذا الإنسان الذي أراه.
    أما الكلي فهو الذي يقبل الانطباق على أكثر من واحد مثل مفهوم الإنسان ومفهوم الشجر الذي يقبل الانطباق على كل إنسان مفروض وكل شجرة مفروضة.
    والعلم الكلي لا يمكن أن يتحقق بدون العلم بالجزئيات، أي نحن لا نستطيع أن نتصور الإنسان الكلي-مثلاً- ما لم نر من قبل أفراداً للإنسان ونتصورهم وذلك لأننا لو كنا نستطيع أن نتصور

    [ 220 ]

    الكلي من دون أي علاقة مع جزئياته لأصبحت نسبة الكلي المفروض إلى جزئياته وإلى غيرها متساوية، أي أنه إما أن ينطبق على كل شيء وإما أن لا ينطبق على شيء، مع أننا نلاحظ أن مفهوم الإنسان-مثلاً- ينطبق دائماً على جزئياته فقط ولا نراه قابلاً للانطباق على غير جزئياته. إذن هناك لون من العلاقة بين تصور الإنسان الكلي وتصور جزيئات الإنسان الموجودة. والنسبة بينهما ثابتة ترفض أي تغيير.
    ويمكن تسرية هذا الكلام إلى العلاقة بين الصورة الخيالية والصورة المحسوسة (مرّ علينا توضيح الفرق بين الصورة المحسوسة والصورة المتخيلة والصورة المعقولة (المفهوم الكلي) في التعليقة المثبتة في ص 110- 113)، فلو لم تكن علاقة ووحدة بين الصورة الخيالية-التي نتصورها بدون وساطة الحواس-والصورة المحسوسة لتلك الصورة الخيالية لأصبح من اللازم أن تنطبق كل صورة خيالية على أية صورة حسية (مهما كانت)، أو أن لا تنطبق إطلاقاً على أية صورة حسية، مع أننا نلاحظ أن الصورة الخيالية التي نتصورها لفرد ما لا تنطبق على أي شيء غيره.
    إذن هناك رابطة حقيقية بين "الصورة المحسوسة والصورة المتخيلة" وبين "الصورة المتخيلة والمفهوم الكلي" وبين "الصورة المحسوسة والمفهوم الكلي".
    ولو كنا نستطيع أن نصوغ المفهوم الكلي دون الالتفات إلى الصورة فإما أن نلاحظ منشأ الآثار عند صياغة ذلك المفهوم أولاً، أي في تصور الإنسان الكلي إما أن نلاحظ الفرد

    [ 221 ]

    الخارجي- الذي هو منشأ الآثار- ثم نصوغ المفهوم الكلي خالياً من تلك الآثار أو لا، وفي الصورة الأولى (أي في حالة ملاحظة الفرد الخارجي الذي هو منشأ الآثار) لابد أن نكون قد عرفنا من قبل حقيقة منشأ الآثار وهو بعينه الصورة المحسوسة، وفي الصورة الثانية (أي في حالة عدم ملاحظة الفرد الخارجي) نكون قد صنعنا لأنفسنا واقعاً خارجياً وليس مفهوماً ذهنياً، لأن وجوده ليس مقيساً وهو بنفسه منشأ للآثار فهو ليس بمفهوم.
    أجل أن هذا المفهوم المفروض بالنظر إلى ذاته الذي هو معلول لنا سيكون معلوماً بالعلم الحضوري لا بالعلم الحصولي، وكلامنا في العلم الحصولي (مرحلة المفهوم الذهني) وليس في العلم الحضوري (مرحلة الوجود الخارجي)، ويجري هذا الكلام في الصورة الخيالية أيضاً كما جارياً في المفهوم الكلي.
    إذن فالعلم الكلي مسبوق بالصورة الخيالية والصورة الخيالية مسبوقة بالصورة الحسية.
    وبغض النظر عما سبق فالتجربة قد أثبتت أن الأشخاص الذين فقدوا بعض الحواس-كالبصر أو السمع- عاجزون عن التصور الخيالي الذي يأتي عن طريق ذلك الحس المفقود، ونستنتج من هذا ما يأتي:
    1-هناك نسبة ثابتة بين الصورة المحسوسة والصورة المتخيلة والصورة المعقولة (المفهوم الكلي) لأي شيء.
    2-إن وجود المفهوم الكلي متوقف على تحقق التصور الخيالي، وتحقق التصور الخيالي، وتحقق التصور الخيالي متوقف على تحقق الصورة الحسية. وكل واحد من هذه الثلاثة يأتي مرتباً بعد الآخر.
    3-كل المعلومات والمفاهيم التصورية تنتهي إلى الحواس بهذا

    [ 222 ]

    المعنى وهو أن كل مفهوم تصوري نفرضه فهو أما أن يكون محسوساً بصورة مباشرة وإما أن يكون محسوساً قد مسّته يد التغيير فاكتسب خاصية وجودية جديدة. مثل حرارة الشخص المحسوس فإنها صورة محسوسة تتصف بالتشخص والتغير، والصورة الخيالية لها تتمتع بماهية الحرارة والتشخص ولكنها ثابتة من جهة كونها متخيلة، أما مفهومها الكلي فليس له إلا ماهية الحرارة وليس فيه تشخص ولا تغير.
    4-لو ضممنا هذه النتيجة الثالثة إلى المقدمة التي أثبتناها في المقالة الثانية (وهي أننا نستطيع الإلمام- في الجملة بالواقع الخارج عن ذواتنا) لكانت النتيجة هي أننا نستطيع الوصول إلى ماهية المحسوسات والواقعية في الجملة (بمقدار ما تكون هذه القضية بسيطة ومبتذلة وسهلة التناول فهي دقيقة وصعبة الفهم، والفلسفة تأخذ على عاتقها إثبات معناها الدقيق لا معناها الساذج المبتذل، وسوف يشرح ذلك في المكان المناسب).
    وهنا يبرز أمامنا ذلك السؤال الذي مر ذكره، وهو أننا إذا كنا نظفر بماهيات الأشياء الواقعية عن طريق حواسنا فمن أين يأتي هذا التخلف والاختلاف في الحس؟
    فلحسّ البصر- مثلاً - أخطاء لا حدّ لها في الإبصار المباشر والمنعكس، فنحن نشاهد الجسم من بُعد وهو أصغر من حجمه الطبيعي ونشاهده من كثب أكبر من حجمه الواقعي. ولو وقفنا في قاعة طويلة فكلما كان السطح الذي نقف عليه أبعد فإنه يرى أعلى مما هو عليه وكلما كان السقف الذي فوق رؤوسنا أبعد فإنه يرى اخفض مما هو عليه. ولو وقفنا في وسط خطين متوازيين لشاهدناهما متمايلين، وأحياناً نشاهد الخطين المتمايلين متوازيين. ونحن نلاحظ أن الأجسام المتحركة إذا كنا متحركين معها بنفس الحركة من حيث

    [ 223 ]

    الجهة والسرعة فإن تلك الأجسام تبدو ساكنة، وعندما تتغاير الحركتان نلاحظ حركات غير واقعية. وعندما تنزل قطرة مطر من السماء فإنها تبدو بشكل خط ممتد، وتبدو الجمرة التي نحركها بصورة دورانية بشكل دائرة. والأجسام المختلفة مثل الكرة والإسطوانية والمكعب والمخروط والمنشور تبدو كأنها سطوح غير منطبقة.
    ونلاحظ بعض الأشياء الكاذبة مثل الصورة في بطن المرآة والماء في السراب. وتتغير لدينا ألوان الأجسام بسبب الاختلاف في البعد والقرب والضوء والظلمة.
    ولحسّ اللامسة أخطاء لا تقل عن أخطاء البصر، واختلاف الكيفيات في العضو اللامس يؤثر تأثيراً حاسماً في بيان الحرارة والبرودة والخشونة والنعومة. ونذكر لهذا المثال المشهور وهو إننا إذا أدخلنا إحدى يدينا في ماء حار واكتسبت منه الحرارة وأدخلنا اليد الأخرى في ماء مثلج فاكتسبت منه البرودة ثم أخرجناهما من هذين الماءين وغمسناهما معاً في ماء دافئ فانهما ينبئان بخبرين متناقضين تماماً ولا يمكن أن ينسجم هذا مع الواقع فإحداهما تقول أن الماء بارد والأخرى تقول أنه حار.
    ولأعضاء الحس الأخرى- كالذائقة وغيرها- أخطاء بدورها. إذن فالحواس تخطئ كثيراً وتتناقص، ولهذا أمثله لا حصر لها.
    ولسنا بحاجة إلى البحث عن الأخطاء في الخيال وفي التفكير الكلي، وهذه الأخطاء وإن لم تكن آنية- بصورة مباشرة-من الحس، ولكن لما كانت الإدراكات تنتهي بالتالي إلى الحس إذن يمكن إلقاء مسؤولية هذه الأخطاء على عاتق الحس

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [ 224 ]

    الجواب
    من الواضح أن هذا الإشكال موجه إلى الميتافيزيقيين بشكل أقوى وأكثر إحكاماً من كونه موجهاً إلى الماديين الديالكتيكيين، لأننا قد التزمنا- فيما مرّ من حديث- بإمكانية الوصول إلى الواقع الخارجي في الجملة، ولكن هؤلاء لم يلتزموا بذلك، ولهذا فهم يستطيعون- بمحاولات أخف وطأة- أن يتخلصوا من هذا الإشكال وإن كانوا متورطين في عقبات أخرى لا يجدون فيها أمامهم سوى أبواب موصودة.
    ويستطيع العلماء الماديون أن يقولوا(صحيح إننا قد بينّا في متن المقالة الثانية ص104 - 108 نظرية الحقيقة النسبية - في الجملة وذكرنا النقد الموجه إليها، وبينّا أيضاً في مقدمة هذه المقالة نظرية الحقيقة النسبية حسب ما يقوله النسبيون وذكرنا ما وجّه إليها من نقد، ولكن أصحاب المادية الديالكتيكية يشرحون الحقيقة النسبية بشكل آخر ينسجم مع أسس المنطق المادي الديالكتيكي، ويدّعون أن هناك فرقاً بينهم وبين سائر النسبيين، وهذا الفرق هو الذي يدخلهم ضمن أصحاب الجزم واليقين ويدخل من عداهم من النسبيين ضمن المشككين. وعلاوة على هذا فقد وعدنا القراء الكرام أن نستعرض آراء ونظريات المادية الديالكتيكية فيما يتعلق بقيمة المعلومات، فلهذا نحن نتعرض لنظرياتهم في قيمة المعلومات ضمن شرحنا لنظريتهم في مقام "تفسير أخطاء الحواس" وبيان الحقائق النسبية التي تعرض لها المتن بشكل مضغوط، لنعرف أن هذه النظريات أهي مما يمكن قبوله حسب أسس الفلسفة الواقعية أم لا؟ ولنعرف أهناك فرق واقعي-كما يدّعون- بينهم وبين سائر النسبيين الذين يعترف الديالكتيكيون بأنهم مشككون أم لا؟
    وسوف نفصل هذه المواضيع تحت عدة عناوين:
    1-أن الحقيقة نسبية حسب ما يقول الماديون.
    2-أيكون أصحاب المادية الديالكتيكية ضمن أهل الشك أم أهل اليقين؟
    3-أهناك فرق بين نظرية كانت ونظرية الماديين الديالكتيكيين فيما يعود إلى قيمة المعلومات؟ أم لا؟
    4-أهناك فرق بين "الرولاتيفية" (النسبية) والمادية الديالكتيكية من حيث قيمة المعلومات أم لا؟
    5-ما هي الطرق التي يسلكها أتباع المادية الديالكتيكية لإثبات تكامل الحقيقة؟ وما هو الرد عليها؟
    6-اجتماع الصحيح والغلط، الحقيقة والخطأ.
    7-الطريق المسدود، أو ملاحظة مهمة ومفيدة .
    8-سوء الحظ الذي لحق المادية بيد المنطق الديالكتيكي.
    الحقيقة النسبية حسب ما حرّره أتباع المادية الديالكتيكية:
    إن الإحساس أثر متولد عقب تأثير مسلط من شيء خارجي على السلسلة العصبية، أي أن السلسلة العصبية للإنسان والحيوان- في أثر سلسلة من التكامل التدريجي -تكتسب هذه الخاصية وهي أنها تبدي رد فعل مادياً بعد أن يقع عليها تأثير من الخارج. ورد الفعل هذا هو الذي نسميه بالإحساس.
    وحسب الأسس الديالكتيكية فإنه لا يوجد شيء في الطبيعة ذو تأثير جامد (متشابه)، وإنما كل شيء له تأثير خاص حسب وضعه وموقعه المعين، ولما كانت الأشياء دائماً تغيّر من وضعها وموقعها، إذن لابدّ أن تكون لها تأثيرات مختلفة.
    وهذا التغيير في الوضع والموقع سائد في الأشياء الخارجية وفي المجموعة العصبية والمخ. أي أن تغيير الوضع والموقع شامل للشيء الخارجي (المحسوس) الذي هو يؤثر في الأعصاب أولاً، وشامل للمجموعة العصبية والمخ (الحواس) التي تضيف من نفسها تأثيراً آخر وينتج الإحساس، ويتغير وضعها وموقعها فيتغير بالتالي أثرها أيضاً.
    إذن فـ "الحساس" و "المحسوس" لهما تأثير مختلف حسب الوضع والوقع الذي يحتله كل منهما.
    ولما كانت الحقيقة عبارة عن ذلك التأثير الذي تولده الحاسة (المجموعة العصبية) بعد تأثرها بالمحسوس، إذن لا تكون احساساتنا مخطئة أبداً في تلك الموارد
    التي يُدعى أن الحس قد أخطأ فيها، وذلك لأنه لا يمكن أن يوجد في تلك الموارد غير تلك الخاصة المعينة للشيء الخارجي التي أثرت على الأعصاب، ولا يمكن أن يوجد غير تلك الخاصة المعينة للمجموعة العصبية التي وجدت بعد التأثير.
    ومن هنا يتضح السبب في اختلاف الأشخاص في إدراكاتهم ، لأنه من المحتمل أن يختلف الأشخاص فيما يخص التركيب العصبي وفي النتيجة فهم يدركون بشكل مختلف، وكذا من المحتمل أن تتعرض أعصاب شخص ما لوضع خاص ليس حاصلاً لشخص آخر، وحسب التعريف الذي ذكر للحقيقة وهو أنها عبارة عن الأثر الحاصل نتيجة للمواجهة مع الخارج، فإن كل حالة لأي شخص وكل إحساس فهو حقيقي بالنسبة إلى الشخص وفي تلك الحالة. إذن فالحقيقة نسبية ولا معنى إطلاقاً لأخطاء الحواس.
    يقول الدكتور الآراني في الكتيب المعنون بـ "المادية" ص 28:
    "يقول ماخ ( (E Mach نحن نرى القلم مستقيماً في الهواء ويبدو لنا منكسراً في الماء، وليس هذا عيب العلم وإنما هو نقص في التجربة . ومن الواضح أن الحديث هنا عن القصور والتقصير ليس في محله لأن للقلم تأثيراً معيناً في ظل ظروف خاصة وله تأثير آخر في ظل شروط أخرى، والتجربة لا تقودنا إلى اعتبار إحدى الحالات حقيقية والأخرى مخطئة (كما يقول ماخ) ، وإنما نحن نستطيع - - بوساطة التجربة - أن نثبت أن كلتا الحالتين حقيقيتان وأن نوضح السبب في اختلافهما".
    هذا هو حديث الماديين المحدثين عن الحقيقة النسبية وعن تفسيرهم لأخطاء الحواس.
    ومن الجلي أن هذا البيان لا يستطيع تفسير أخطاء الحواس ولا يمكن القول بأنه لا توجد أخطاء وإن كل ما يحس به الإنسان وعلى أي نحو فهو حقيقي، وذلك لأن العلماء الماديين إذا كانوا يقصدون من هذا تغيير الاصطلاح فقط وتعريف الحقيقة بشكل آخر (وهو أن الحقيقة هي ذلك الشيء الناتج من أثر المواجهة والمقابلة بين الحس والخارج) غير ما هو مشهور بين العلماء (من أن الحقيقة هي الإدراك المطابق للواقع)، فلا كلام لنا في ذلك، ولكن الإشكال ( وهو عدم مطابقة الصور الحسية للواقع) باق على حاله. وإن كان مقصودهم من قولهم كل الاحساسات تظهر نتيجة للمواجهة بين الحس والخارج أن هناك لوناً من المطابقة مع الواقع فمن الواضح كون هذا كذباً محضاً، ففي المثال الذي ذكره الدكتور الآراني عن ماخ في مورد القلم وإن كانت خاصة القلم تختلف من حيث التأثير الذي تتركه على العين وكيفية أمواج الضوء التي ترسلها إلى العين في الهواء وفي الماء، وصحيح أيضاً بأننا نستطيع أن نلمّ بعلة هذا الاختلاف عن طريق التجارب العلمية، وما يقوله ماخ من أن التجارب ناقصة مخطئ، ولكن النتيجة التي يستنبطها الدكتور الآراني مخطئة أيضاً وهي: "إن كلتا الصورتين المختلفتين للقلم اللتين قد انطبعتا في حواسنا حقيقية"، وذلك لأن القلم - في الواقع وبشكل يقيني- إما أن يكون مستقيماً وإما أن يكون منكسراً، وفي كلتا الحالتين لم تغير بيئة الهواء ولا بيئة الماء من شكل القلم، إذن أحد الإحساسين مخطئ لا محالة من حيث كشفه عن الواقع وبيان الشكل الواقعي للقلم. وإذا أردنا أن نستنتج نتيجة صحيحة من الناحية الفلسفية لوجب أن نقول: "نحن نستطيع بوساطة التجربة والقرائن العلمية أن نعرف السبب في هذا الاختلاف والسبب في خطأ الباصرة في إحدى الحالتين".
    وعلى هذا يتبين لنا تفسير المادة الديالكتيكية لأخطاء الحواس لا يمكن قبوله.
    أتدخل المادة الديالكتيكية ضمن فلسفة الشك أم فلسفة اليقين:
    يزعم الماديون أن مذهبهم هو مذهب الجزم واليقين ويغضبون من نسبة الشك والسفسطة إليهم. وحتى تلك القوانين العلمية التي تضمّها العلوم الطبيعية المعتمدة على الفرضيات-والتي ليس لها من شاهد على صحتها سوى التجارب المحدودة والعلماء جميعاً (وحتى أصحاب الفرضيات أنفسهم) يتلقونها بالاحتمال واليقين الإضافي لا بالجزم واليقين الحقيقي- فإن العلماء الماديين المحدثين يدعون اليقين الحقيقي بشأنها، ويفسرون التغيير الطارئ على تلك الفرضيات- الذي يعتبر شاهداً على عدم حقيقتها- بأن هذا هو تغيير وتكامل للحقيقة.
    ولكنه يحسن أن لا نغفل عن هذه الملاحظة وهي أن المعيار لكون شخص ما أو فئة ما من السوفسطائيين أو من المشككين أو من اليقينيين ليس هو ادعاه وإنما المعيار هو النظريات التي يطرحها في باب قيمة المعلومات، وإلا فإن أغلب السوفسطائيين والمشككين لا يرضون أن يقال عنهم بأنهم مشككون أو سوفسطائيون. فمثلاً جورج بركلي مع أن نظرياته مبنية على نفي وجود العالم الخارجي وعلى إنكار البديهيات ولكنه يستوحش من أن يقال له أنه سوفسطائي. وكذا كانتْ وأمثاله فمع أنهم مشككون واقعاً، والعلماء الماديون يدرجونهم ضمن المشككين، ولكنهم- هم- لا يرغبون في أن يطلق عليهم اسم "المشككين".
    ومن جهة أخرى فإن مذهب الشك ليس له شكل خاص ولا صورة معينة، وإنما الفلسفة قد تجلّت بأشكال متنوعة على مر التاريخ، وكل واحد منهم قد وقع في حبائل الشك من طريق معين. ونحن نعرف أن الطريق الذي سلكه كانتْ يختلف عن طريق النسبيين "الرولاثيقيين" (Relativistes) ويختلف هذان عن طريق المشككين القدماء من أتباع بيرون، ولكن هؤلاء يجمعهم عنوان واحد وهو أنهم مشككون جميعاً.
    وهكذا المادية الديالكتيكية فهي بقولها أن الفكر والإدراك ماديان وبادعائها أن الحقائق نسبية - وأشياء أخرى ستذكر في محلها- فقد وقعت في لجج الشك وهي متورطة في معمّياته.
    ويعتقد الماديون أن الفكر ظاهرة مادية، وإن المعرفة والإدراك ليس شيئاً فوق العمل العصبي، وإن معرفة أي شيء تتوقف على نوعية تركيب الأعصاب والمخ للشخص المدرك. وهم يقولون لما كان الأشخاص متفاوتين في تركيب أعصابهم إذن معارفهم الحقيقية سوف تختلف أيضاً.
    يقول الدكتور الآراني في كتيب "المادية الديالكتيكية" ص24:
    "إن كيفية تركيب العصبية تؤثر بشكل خاص في عملية المعرفة. وهذا التأثير هو بنفسه "المعرفة"، ونحن نعلم أن الإنسان والحيوان يعملان بشكل مختلف، فمثلاً تنفر الإنسان رائحة ما ولكنها تجذب إليها حيواناً آخر. أو قد يدرك حيوان لوناً ما بشكل معين وهو في نظر حيوان آخر له حاله أخرى. أو قد يلذ لشخص ما سماع صوت خاص ولكن شخصاً آخر يراه ناشزاً. أو هناك درجة حرارية معينة تبدو أحياناً ساخنة وأحياناً أخرى باردة. وعلى أية حال فنحن نعرف تأثير التركيب العصبي في المعرفة ولكن لا ينبغي لنا أن نستنتج من هذا أنه لما كان التركيب العصبي مؤثراً في المعرفة إذن لا يمكن معرفة عين الحقيقة لأننا قد ذكرنا أن مفهوم كلمة المعرفة شامل أيضاً لهذا التأثير الخاص".
    ويعتبر الدكتور الآراني معرفة الحقيقة والحقيقة المطلقة (وهي تلك الحقيقة التي لا تضفي عليها الأعصاب شكلاً خاصاً) أمراً لا معنى له، ويقول في تلك الصفحة:
    "ما أعظم حماقة تلك المذاهب المخالفة لنا إذا كانت تتوقع أن تتبادل الأشياء والفكر التأثير فيما بينها- أي أن تكتسب المعرفة صورة خارجية - دون أن يكون لأحد الأطراف تأثير ما، أي أن الفكر لا يتصرف في التأثير الذي جاءه من الأشياء. وبالتالي فإن ذلك التصرف هو المعرفة بنفسها، وإذا لم يوجد أحدهما لم يوجد الآخر، والذين يلهثون وراء عين الحقيقة والحقيقة المطلقة والمفاهيم الفارغة الأخرى مثلهم في موضوع المعرفة مثل من يطلب أن تتم عملية الهضم دون أن تدخل في المعدة مادة غذائية ودون أن تؤثر المعدة على تلك المواد الغذائية".
    ويقول أيضاً في صفحة (29):
    "إن للمخ خاصية منذ ولادته وتلك هي التفكير، ولكن هذه الخاصية لا يمكن أن تعمل إلا عندما تصلها المادة الكافية مثل المعدة التي لها خاصية الهضم فهي لا تهضم إلا عندما تدخلها المادة الغذائية، وكذا الفكر فإنه لا يعمل إلا عندما تأثر الحواس- من بصر وسمع وغيرهما- بمؤثر ما".
    خلاصة لنظرية الماديين المحدثين:
    يستنبط من مجموع أقوال الماديين أن الفكر والإدراك - إجمالاً- هما من الخواص الثابتة للتركيب المادي في الأعصاب والمخ، وهذه الخاصية لا تظهر إلا عندما يرد تأثير على الأعصاب من الخارج كتأثير أمواج الضوء عليها من طريق العين وتأثير أمواج الصوت عن طريق الإذن.
    وبعد أن تتكاثر على المخ التأثيرات عن طريق الحواس وتترك آثاراً مادية متعددة تظهر في المخ القدرة على التفكير فهو يقيم الدليل ويحل القضايا الرياضية ويكتشف القوانين الطبيعية ويتوصل إلى الأسس العامة الفلسفية والمنطقية، ولابد أن نعتبر القدرة على التفكير عملاً خارقاً للعادة في الطبيعة، وذلك لأن العملية الفكرية ليست شيئاً سوى سلسلة من التغييرات الكيميائية التي تحصل في المخ.
    ولعلّ نوع التركيب العصبي للأشخاص مختلف، وإذا كان متفاوتاً فلا بد أن تختلف احساساتهم وطرق تفكيرهم. وعلاوة على هذا لما كان كل جزء من أجزاء الطبيعة تتغير خواصه حسب وضعه وموقعه والعوامل المحيطة به إذن من الممكن أن تختلف احساسات وطرز تفكير الشخص الواحد أيضاً في البيئات المختلفة، ولهذا فلابد أن لا ننتظر من إنسان ينشأ في كرة المريخ وينفق عمره هناك أن يفكر كما نفكر نحن الذين نعيش على الكرة الأرضية، وذلك لأنه من المحتمل أن تكون أفكاره وإدراكاته بشكل آخر يتفق مع تلك البيئة، فمثلاً يحل ذلك الإنسان قضاياه الرياضية بشكل مخالف لأفكارنا فهو يستنتج من (2×2) أنها تساوي (3). وقد يكتشف القوانين الطبيعية بنحو مختلف عن اكتشافاتنا. وقد يصوغ لنفسه فلسفة أخرى ومنطقاً آخر. وهكذا ...
    هذه خلاصة حديث الماديين عن الحقيقة النسبية.
    وبغض النظر عن الإشكالات المتعددة الواردة على كون الفكر والإدراك ماديين- التي تعرضنا لجانب منها في المقالة الثالثة وسوف نذكر جانباً آخر منها في المقالة الخامسة- فإن بين أفكارنا مجموعة من الأفكار المطلقة التي ترفض التغيير، وكما أشير إليه في المتن فإن الماديين أنفسهم (وبدون أن يشعروا) يعدّون مجموعة من أفكارهم مطلقة وغير نسبية ولا متغيرة.
    وهنا يقفز أمامنا هذا السؤال وهو: ألا ينبغي لنا القول أن ما ندركه من الكون بوساطة الحس أو التفكير (العقل) يتناسب مع التركيب العصبي فينا ويتلاءم مع ما يقتضيه وضعنا وموقفنا، وإما أنه كيف يكون واقع الأمر فلسنا ندري؟
    ألا يلزم من هذه المقدمات أن لا نعتمد- حسب النظرة الواقعية- على أي فكر وأن نتلقى كل فلسفة (وحتى المادية الديالكتيكية) وجميع العلوم الطبيعية والرياضية بالشك والترديد؟
    والمشككون -السابقون منهم والمحدثون- (بقطع النظر عن طرق الاستدلال) أكان لهم مقصود غير هذا؟
    أهناك فرق بين نظرية كانتْ ونظرية المادية الديالكتيكية من حيث قيمة المعلومات أم لا؟
    يعدّ الماديون الفيلسوف الألماني كانتْ ضمن المشككين متعللين بأنه يجعل فرقاً بين "الشيء في نفسه" (وهو واقع الشيء الخارجي) و "الشيء بالنسبة إلينا" (وهي صورة ذلك الشيء الموجود في أذهاننا)، وذلك لأن كانتْ كان يعتقد أن الذهن يملك بعض المعاني (من قبيل الزمان والمكان) بحسب الفطرة وهي غير موجودة في الخارج، وكل ما يدركه الإنسان فهو مؤطر بإطار تلك المعاني ومصبوب في قالبها، ويستنتج من ذلك أن هناك اختلافاً -دائماً- بين الشيء في نفسه والشيء بالنسبة إلينا.
    ويلاحظ القارئ الكريم أن الماديين أنفسهم أيضاً يجعلون فرقاً بين الشيء في نفسه والشيء بالنسبة إلينا، مع اختلاف بينهما وهو أن كانتْ قد سلك سبيلاً تؤدي إلى أن هناك اختلافاً بين الشيء في نفسه والشيء بالنسبة إلينا دون أن يختلف الشيء بالنسبة إلينا نحن الأشخاص كل فرد على حدة، أما الماديون فهم قد سلكوا طريقاً تؤدي بهم إلى جعل الفرق بين الشيء في نفسه والشيء بالنسبة إلينا كل فرد على حدة.
    والمرحوم فروغي ينقل عن كانتْ قوله:
    "إن أفراد الإنسان يشاهدون الكون من وراء منظار معين وهم لا يستطيعون أن يبعدوا هذا المنظار عن أعينهم". أما الماديون فيقولون:"إن كل فرد فهو ينظر إلى العالم من خلف منظار مختص به وهو لا يستطيع أن يبعد عنه ذلك المنظار".
    ويوجد بينهما فرق آخر وهو أنّ كانتْ يجعل هذا المنظار أمام عين الإنسان ليشاهد به أعراض الطبيعة، أما الماديون فإنهم يجعلونه ليدرك به أي شيء وحتى الفلسفة والرياضيات.
    وينقل المرحوم فروغي عن كانتْ قوله أيضاً:
    "نحن نشبه المعلوم بالمواد الغذائية التي لابد من إيصالها إلى البدن لتحل محلّ ما يتحلل منه، ولتحقيق هذا الهدف لابد من جلب الطعام من الخارج وإدخاله إلى المعدة، عندئذ فقط يجب على المعدة وأعضاء الجهاز الهضمي الأخرى أن تصب عصاراتها الهاضمة من نفسها ليتحول الطعام إلى غذاء. إذن فالطعام بمنزلة الاحساسات، والعصارات بمنزلة الزمان والمكان (يعتقد كانت أن هذين مفهومان موجودان في الذهن من قبل وليسا شيئين عينيين).
    وكما ذكرنا سابقاً قول الدكتور الآراني فإن الماديين أعادوا نفس هذا التشبيه، والاختلاف الوحيد بينهما هو في نوعية هذه العصارات التي يضيفها الذهن من عنده، فهي المفاهيم القبلية للذهن حسب عقيدة كانتْ، وهي التأثير الخاص للمجموعة العصبية حسب قول الماديين.
    وعلى هذا فما هو الفرق الذي يحملنا على أن نعتبر كانتْ مشككاً ومن المثاليين ونعتبر الماديين سائرين على طريق الفلسفة الواقعية؟
    أهناك فرق من حيث قيمة المعلومات بين النسبية والمادية الديالكتيكية؟
    لقد أشرنا من قبل إلى أن أتباع المادية الديالكتيكية يجعلون فرقاً بين نظريتهم في باب قيمة المعلومات ونظرية النسبيين، على أساس أنهم يعتبرون الحقائق النسبية ذات خاصية للتحول والتكامل، وأما سائر النسبيين (حسب ما يدعي الديالكتيكيون) فليس لهم هذه العقيدة، ولهذا السبب فهم يسمون مذهبهم بـ "مذهب اليقين" ومذهب أولئك بـ "مذهب الشك".
    ونريد أن نتحقق هنا من أن هذا الفرق أهو كاف ليجعلهم فئتين بالنظر إلى قيمة المعلومات فيكون النسبيون مشككين والماديون من أصحاب الجزم واليقين؟ أم لا؟
    يقول الدكتور الآراني في الكراسة المسماة بالمادية الديالكتيكية ص 49:
    "لابد من التنبيه على أحد الأخطاء وهو من الممكن أن يتصور البعض- نتيجة لاستعمالنا مفهوم النسبية الذي تتصف به الحقيقة- إننا ندخل ضمن فئة "اللا إداريين" Agnosticistes) ) ولكن الواقع أنه لا بد من الفصل بين هذين الموضوعين تماماً. وحسب عقيدتنا فإن درجة أية حقيقة من كل "عقيدة علمية" مشروطة بالزمان، والأمر الذي بلا شرط هو أن أي تاريخ لأية "عقيدة علمية" فهو يناظر واقعاً ما (أي طبيعة مطلقة). فمن ناحية تكون هذه الحقيقة النسبية التي نتبناها غير مشخصة وبفضل عدم التشخص هذا لا يبقى العلم البشري جامداً وإنما يتكامل، ولكنه في نفس الوقت ومن ناحية أخرى فإنها مشخصة إلى حد ما بحيث يتخلص الفكر المنطقي من إنكار وجود الحقيقة والواقع ومن الارتماء في أحضان المثالية واللا إدرية التي تورط فيها أمثال كانتْ وهيوم (D.Hume ) ) ، ولا بد من الالتفات إلى هذا الفرق بين "المادية الديالكتيكية" و "النسبية الفلسفية"، وكما قال هيجل ( ( Hegel) فإن الديالكتيك يشمل شيئاً من العقائد النسبية والنفي والشك ولكنه ليس منحصراً فيها. أي أنه يوافق على أن الحقيقة نسبية ولكنه يبين ضمناً أن هذه النسبية تاريخية وتتأثر بمرور الزمان، فكلما تقدم الزمن فإن أجزاءاً أكثر من الروابط الواقعية الخارجية تصبح ضمن الحقائق النسبية، بينما ليس للنسبيين ولا المشككين مثل هذه العقيدة".
    ونحن قد بينا سابقاً مسألة تكامل الحقيقية وذكرنا هناك أن تكامل الحقيقية بالمعني الذي يقصده الماديون ( وهو أن الحقيقة متغيرة وغير مشخصة) ليس إلا وهماً محضاً، وأما المعنى الصحيح لتكامل الحقيقة (وهو التوسع التدريجي للمعلومات- وتبدل الفرضيات في العلوم الطبيعية) فلا ربط له أبداً بما يدعيه الماديون.
    ونضيف هنا أنه لو اعتبرنا الحقائق متغيرة متكاملة لبقى إشكال كوننا من المشككين على حاله، وذلك لأن هذه الحقيقة المتحولة المتكاملة- حسب عقيدة الماديين-نسبية في كل مراحلها وليست مطلقة، وتستمر هذه -باعترافهم- إلى ما لانهاية، إذن كل حقيقة نأخذها بعين الاعتبار وفي أية مرحلة فهي تبدو لنا كما يقتضيه التركيب الخاص لأذهاننا وليست كما هي في الواقع. وهذا يعني أنه لا توجد حقيقة ولا واقع. وهذا هو عين ما يقوله النسبيون وسائر المشككين.
    والحقيقة أن اتباع المادية الديالكتيكية يبينون مسألة تكامل الحقيقة أو تغير المفاهيم وتكاملها التي يجعلونها أساس المنطق الديالكتيكي وأهم حصن للهجوم على المنطق القديم - يبينونها بطرق متنوعة تختلف عن بعضها ، وهم أنفسهم لا يفصلون بين هذه الطرق (ولعلهم يتعمدون أن تكون لكلامهم عدة معان واحتمالات وذلك بقصد التضليل). وما أكثر المقالات التي يقرؤها لهم وهي توقعه في الحيرة منذ الوهلة الأولى.
    ولكي يطلع القارئ الكريم على القيمة الواقعية للفلسفة المادية والمنطق الديالكتيكي فإننا قد فصلنا بين تلك الطرق المختلفة التي سلكوها لإثبات تكامل المفاهيم وأجبنا كل واحد منها على حدة:
    الطرق التي سلكها أتباع المادية الديالكتيكية لإثبات تكامل الحقيقة:
    لا يكتفي أتباع المادية الديالكتيكية باعتبار نظرية "تكامل الحقيقة" نظرية صحيحة وإنما هم يزعمون أن أسلوب المنطق الديالكتيكي هو الأسلوب الصحيح الوحيد للتفكير وإن أهم أساس للمنطق الديالكتيكي هو أصل تكامل الحقيقة (أي التغيير التكاملي للمفاهيم).
    ويقول: الماديون الديالكتيكيون أن طراز تفكير الماديين الذين جاءوا قبل ماركس وانجلز إنما هو طراز ميتافيزيقي (أي أنه خطأ واقعاً) لأنه لم يكن مبنياً على هذا الأساس.
    ويسلك هؤلاء العلماء طرقاً متعددة لإثبات تكامل الحقيقة. وهذا شرح لتلك السبل:
    الطريق الأول: إن الفكر ليس إلا خاصة من خواص مادة المخ، وعلى هذا فهو جزء من الطبيعة، ونحن نعلم أن أجزاء الطبيعة كلها تتغير دائماً تحت تأثير عوامل مختلفة، ولا يمكن أن تكون ساكنة ولا لحظة واحدة. إذن فالمخ بكل محتوياته (الأفكار والإدراكات) في تغير دائم ولا يمكن أن يبقى ساكناً وعلى حالة واحدة.


  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    والطبيعة تتّجه دائماً في تغيرها نحو التكامل، إذن فالمفاهيم الذهنية أيضاً في تكامل مستمر لأنها حالّة في مادة المخ.
    الجواب:لقد أوضحنا في المقالة الثالثة أن الإدراكات ليس لها الخواص العامة للمادة ومن جملتها خاصة التغيير، ومع أن المخ يتغير بجميع محتوياته عدة مرات في عمر الفرد الواحد ولكنه من المحتمل أن تبقى أفكاره ثابتة طيلة هذه المدة، وهذا بنفسه دليل على أن الأفكار ليست حالّة في المادة.
    ونضيف هنا أنه على فرض كون الأفكار حالّة في مادة المخ وهي تقطع طريق التكامل كسائر أجزاء الطبيعة فهذا اللون من تكامل الأفكار لا يمكن اعتباره جزءاً من القوانين المنطقية أو الأساليب الفكرية، لأنه من البديهي كون التغيير والتبديل قانوناً جبرياً وضرورة طبيعية، وإذا كان التفكير أحد خواص المخ جزءاً من الطبيعة فإنه لابدّ أن يتغير حينئذ، وسوف تتساوى في هذه الخاصة أفكار وإدراكات كل أفراد الإنسان بل وحتى الحيوانات أيضاً، وستصبح المفاهيم الذهنية لكل الناس- المادية منها والإلهية- ذات خاصة التغيير التكاملي. ولن يتمكن الماديون من قصر هذا الطراز من التفكير على أنفسهم واعتبار هذا الأسلوب من ميزات منطقهم، لأننا نعلم أن القواعد والقوانين المنطقية إنما هي قواعد توجيهية وهي تختلف عن القوانين الفلسفية والقوانين العلمية.فالقاعدة الفلسفية والقانون العلمي يحكي عن واقع عيني خارجي، أما القانون المنطقي فهو يمنحنا أسلوباً للتفكير وطريقة للتعقل توصلنا إلى نتيجة، وبهذا فهو يشبه القانون الأخلاقي الذي لا يحكي واقعاً خارجياً وإنما هو يوجهنا نحو عمل الخير.
    فعلم الأخلاق يطينا السبيل الصحيحة للعمل، والمنطق يعطينا الأسلوب الصحيح للتفكير، ولما كان هذان العلمان توجيهيين فتطبيقهما منوط بإرادة الأشخاص، فالأفراد يستطيعون أن يسيروا حسب تلك الأوامر وهم يستطيعون أن يخالفوها، ومن هنا يتفاوت الأشخاص فيما بينهم.
    أما القانون الفلسفي "مثل قانون الحركة" أو القانون الفيزيائي "مثل قانون الثقل" فهو مسيطر على الأفراد جميعاً وبنحو واحد.
    وعلى هذا فإذا كان الروح والخواص الروحية- ومن جملتها التفكير- من الأمور المادية المتغيرة فلا بد أن تكون المفاهيم الذهنية لكل الأفراد متغيرة متحركة على الرغم منهم، ولما كان التفكير الديالكتيكي- حسب تعريف الماديين له- يعني التفكير الذي تكون فيه المفاهيم متحركة غير جامدة، إذن كل الناس سيكونون من ذوي التفكير الديالكتيكي سواء أكانوا ملتفتين إلى ذلك أم غافلين عنه، ومن المستحيل أن يوجد إنسان محزوم من التفكير الديالكتيكي، ولا يمتاز الماديون إلا في كونهم يعرفون أن كل تفكيرهم ديالكتيكي بينما لا يعلم الآخرون ذلك، وهذه المعرفة وعدمها لا يغير من طراز التفكير العام الذي سيكون حتماً تفكيراً ديالكتيكياً.
    وخلاصة هذا الموضوع:
    أولاً: لما كانت الحقائق غير مادية فهي لا تتغير.
    ثانياً: إذا فرضنا أنها تتغير فسيصبح كل الأفراد متساوين في ذلك، ولا يمكن اعتبار هذا الطراز من التفكير أو هذا الأسلوب المنطقي خاصاً بفئة من الناس.
    الطريق الثاني: إن الأشياء الخارجية (وهي أجزاء الطبيعة) التي يكون الفكر على اتصال بها يجري فيها التغيير والحركة التكاملية (أصل التغيير)، وهذه الأشياء المتغيرة المتحولة مرتبطة ببعضها ومؤثرة في بعضها (أصل التأثير المتبادل).
    ونحن نستطيع أن نلاحظ الأشياء بنحوين: أحدهما وهي في حالة السكون والانفصال، والأخرى وهي في حالة التغيير والارتباط، إذن فالمفاهيم التي تنطبع في أذهاننا عن الأشياء الخارجية أيضاً يمكن أن تكون على نحوين.
    وأسلم طراز للتفكير وأصحّه هو أسلوب التفكير الديالكتيكي، وهو يعني دراسة الشيء وهو حالة "الحركة التكاملية" (وليس في حالة الجمود والسكون) وفي حالة "الارتباط" بسائر أجزاء الطبيعة (وليس مستقلاً ولا منفصلاً عنها).
    ومن ناحية أخرى فإن المفهوم لا يكون حقيقياً إلا عندما يناظر الواقع الخارجي، ولما كان الواقع الخارجي في حالة تكامل مستمر وكل أجزائه مرتبطة ببعضها ومؤثرة في بعضها فالمفاهيم الذهنية أيضاً- إذا أردنا أن تكون حقيقية- لابد أن تكون متحركة متغيرة مؤثرة في بعضها وإلا لم تكن حقيقية بل أصبحت خطأ وغلطاً.
    وقد كان المنطق القديم جامداً استاتيكياً ( statique) أما المنطق الديالكتيكي فهو متحرك ديناميكي ( Dynamique) ، والعيب الأساسي في المنطق القديم- الذي هو أساس الميتافيزيقية- شيئان:
    أحدهما أنه يتناول الأشياء وهي في حالة السكون والجمود (أصل السكون) ولهذا كانت مفاهيمه المنتزعة من الأشياء ساكة غير متحركة.
    والآخر أنه يدرس الأشياء مستقلة عن بعضها (أصل الانفصال) وهو يقيم بين أي شيء وسائر الأشياء جداراً أو حائلاً، ولهذا يصبح كل مفهوم عنده مستقلاً عن سائر المفاهيم ومنفصلاً عنها، والمفاهيم فيه لا تكون مؤثرة في بعضها.
    أما الذي يفكر بمنطق ديالكتيكي فمفاهيمه دائماً متحركة ومؤثرة في بعضها.
    ونتيجة هذا الكلام أن المفاهيم في المنطق الجامد جامدة دائماً لا حركة فيها وهي مستقلة ومنفصلة عن بعضها فهي إذن غير حقيقية لأنها لا تناظر الواقع الخارجي، أما المفاهيم في المنطق الديالكتيكي فهي دائماً متحركة ومؤثرة في بعضها، إذن فهي حقيقية لأنها تناظر الواقع الخارجي وتطابقه.
    فالحقيقة الحاصلة من أسلوب التفكير الديالكتيكي دائماً متحولة ومتكاملة.
    يقول الدكتور الآراني في الصفحة (56) من كراس "المادية الديالكتيكية":
    "الأصل الثاني للديالكتيك هو أصل تكامل الضدين أو قانون تحول الطبيعة. فلما كان الواقع (المادة والزمان والمكان) ملازماً للزمان فهو متغير يقيناً،وهذا التغيير والصيرورة والتكامل واقعي، وكذا تحول الطبيعة فهو واقعي أيضاً. وينعكس هذا التحول الواقعي في عقولنا فيظهر بشكل قانون تحول الطبيعة". إلى أن يقول: "إن هذا القانون يرجع إلى حركة (أو تغيير) الأشياء الواقعية، وإلى حركة الحقائق (صور الواقع) في الفكر".
    ويقول في الصفحة (48): "دقّقوا في هذين المفهومين ولا يختلط عليكم أمرهما فإذا كان الحديث عن الديالكتيك في الطبيعة فالمقصود هو واقع الديالكتيك وهو التأثير المتبادل بين أجزاء الطبيعة وتحولها دون أن يكون لذلك علاقة بكيفية التفكير البشري، وإذا كان الحديث عن الأسلوب الديالكتيكي فالمقصود هو صورة من واقع الديالكتيك في مخنا والمشابه للواقع، وهذه هي طريقة استدلالنا".
    الجواب:- أن كلام العلماء الماديين هذا يشمل قسمين:
    القسم الأول: وهو يتضمن كون الطبيعة الخارجية في تغير وتحول وتكامل وأن السكون والثبات لا وجود لهما في الطبيعة الخارجية، وإن أجزاء هذه الطبيعة المتغيرة المتكاملة مرتبطة ببعضها وتتبادل التأثير.
    وهذا القسم صحيح يؤيده الفلاسفة الإلهيون. وليس هذا الأصل أمراً جديداً، وباعتراف الماديين أنفسهم فإن أصل الحركة والتغيير قد أعلن لأول مرة على يد هرقليطوس في القرن السادس قبل الميلاد. أما أصل التأثير والارتباط بين أجزاء الطبيعة فقد أعلن لأول مرة على يد أفلاطون وأرسطو.
    وقد أحدث الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين - منذ ما يقرب من ثلاثة قرون ونصف- تحولاً عظيماً في الفلسفة وبيّن أصل التكامل في الطبيعة بشكل رائع لم يسبق له مثيل، وأثبت -حسب المعايير الفلسفية- أن كل أجزاء الطبيعة إنما هي أشكال وألوان خاصة من الحركة، أما السكون والثبات فهو مخالف للمقتضى ذات الطبيعة، ولهذا فالماهيات متحركة دائماً ولا يمكن أن نفرض شيئاً واحداً ثابتاً فل لحظتين.
    وقد توصّل علماء أوربا في القرون الحديثة- ولا سيما في القرن التاسع عشر- إلى القوانين الخاصة للتكامل في النباتات والموجودات الحية الأخرى وذلك عن طريق المحاولات التجربية والتجسس العلمي، وبيّن "لامارك" و "دارون" فرضية التكامل التدريجي في الموجودات الحية وصاغاها في قوانين محددة.
    وعلى الإجمال فإن الدراسات الفلسفية من ناحية والمحاولات العلمية من ناحية أخرى في موضوع الحركة قد منحت الإنسان هذه النتيجة في كيفية دراسة الأشياء وكشف حقيقتها. وتتلخص هذه النتيجة في أنه لا ينبغي دراسة الأشياء وهي ساكنة جامدة. أي إذا كانت لدينا صورة لحادثة طبيعية في حالة خاصة فلا ينبغي لنا أن نتصور ذلك كافياً بالنسبة إلى تلك الحادثة دائماً، لأن ذلك الشيء أو تلك الحادثة الطبيعية تتغير وتتكامل على امتداد الزمن، وتصورنا السابق صحيح ولكنه بالنسبة إلى تلك الحادثة الطبيعية وفي تلك الحال فقط؛ وأما بالنسبة إلى الحالات الأخرى فنحن بحاجة إلى تصورات منفصلة، ومن هذه الجهة فإن المصداق لكل تصور من تصوراتنا الذهنية المتعددة إنما هو إحدى الحالات المتعاقبة لتلك الحادثة. وفي مقام التشبيه نستطيع أن نشبّه جهاز الإدراك بجهاز التصوير الذي يلتقط صور متعددة لطفل يتكامل تدريجياً، فمن الواضح أن كل صورة منطبعة على صفحة الورق تحكي الطفل في لحظة معينة من الزمن وفي مرحلة محددة من مراحل التكامل، وهي- بالنسبة إلى تلك الحال- صادقة دائماً ومنطبقة عليها، ولكنها ليست منطبقة على حالات الطفل الأخرى التي تغيرت، وإذا أردنا أن نبين حالات الطفل الأخرى فنحن بحاجة إلى صور متعددة أخرى.
    وكما قلنا سابقاً فإن هذا القسم من التكامل- المتعلق بتكامل الواقع- هو مورد تأييد الفلاسفة الإلهيين- السابقين منهم واللاحقين- ونتيجته دراسة الطبيعة بنحو خاص شرحناه قبل قليل.
    القسم الثاني: وليس هذا القسم إلا نتيجة خاصة قد استنبطها أتباع المادية الديالكتيكية - وفق سليقتهم- من القسم الأول المتعلق بكيفية دراسة الطبيعة. ويتضمن هذا القسم إن المفاهيم التي يملكها الإنسان عن الطبيعة لا تكون حقيقية ولا منطبقة على الواقع إلا عندما تناظر الطبيعة الواقعية، ولما كانت الواقعيات الطبيعية في تغير وتكامل مستمرين- حسب أصل التغيير- وهي تتبادل التأثير -حسب أصل التأثير المتبادل- فإنه إذا أردنا أن تكون التصورات الذهنية حقيقية ومطابقة للواقع فلابد أن تكون لها نفس تلك الخواص، أي لابد أن تكون متحولة متكاملة ومؤثرة في بعضها.
    وينسب أصحاب المادية الديالكتيكية هذا القسم أيضاً إلى العالم اليوناني القديم هراقليطوس.
    وبعد أن ينقل الدكتور الآراني في الصفحة (49) من الكراسة المذكورة سابقاً الجملة المعروفة عن هرقليطوس: "لا يمكن الدخول في نهر واحد مرتين" يقول الآراني: "لقد التفت هرقليطوس إلى تأثير مفهوم الجريان في مفهوم النهر".
    ولكن الحقيقة أن الحكماء اليونانيين القدامى وحكماء المرحلة الإسلامية وحكماء أوربا الحديثة لا يوافقون الماديين الديالكتيكيين في هذا الموضوع. ومن بين علماء أوربا الحديثة يذكر هيجل فقط باعتباره معتقداً بهذا الأمر (عاش هيجل في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر)، ومن بين علماء المرحلة الإسلامية يذكر المحقق جلال الدين الدواني ( في القرن العاشر الهجري) الذي كانت له عقيدة خاصة في باب العلم وهي تؤدي إلى هذه النتيجة.
    وفي هذه النقطة يكمن الخطأ الأساسي للمادية الديالكتيكية.
    ويظن هؤلاء السادة أن المفهوم لا يكون حقيقياً ولا مطابقاً للواقع إلا إذا كانت له خاصة مصداقه، ولما كانت المصاديق الخارجية متصفة بخاصة التكامل والتأثير المتبادل، إذن لا بد أن تتصف المفاهيم الذهنية بهاتين الخاصتين أيضاً، وإلا لم تكن مطابقة للواقع، وفاتهم أننا إذا اشترطنا أن يتصف المفهوم بخواص مصداقه فلا بد أن يتصف بكل خواصه، وحينئذ لا يصبح هذا مفهوم للشيء الخارجي وإنما يكون بنفسه واقعاً منفصلاً وفي عرض ذلك الشيء الخارجي وسائر واقعيات الطبيعة.
    ومن له إلمام بالفلسفة والمنطق القديمين- اللذين يتهمهما هؤلاء بالجمود والتحجر- يعلم أن هناك شبهة معروفة تذكر في "موضوع الوجود الذهني" الذي هو من أكثر المسائل تعقيداً وغموضاً، والأساس واحد في تلك الشبهة وفي هذا الخطأ الذي تورّط فيه الماديون الديالكتيكيون في موضوع الحقيقة. وتتلخص هذه الشبهة فيما يأتي: إذا وجدت ماهية المعلوم بعينها في الذهن. أي إذا كان المفهوم الذهني حقيقياً ومطابقاً للواقع فلابد عندئذ أن تصبح التصورات الذهنية مصداقاً لماهية المعلوم، ولابد عندئذ أن تكون للتصورات خواص وآثار سائر المصاديق. مثلاً إذا تصورنا جوهراً من الجواهر أو كمّاً من الكميات أو كيفاً من الكيفيات الجسمانية فلابد أن يكون تصورنا بذاته مصداقاً "للجوهر" أو "للكم" أو "للكيف" الجسماني، وحينئذ لابد أن تكون لتصورنا-هذا- خواص وآثار هذه المصاديق، والحال أننا نعلم أن تصوراتنا ذات كيفيات نفسانية وهي مصاديق لمقولة الكيف وهي تتمتع بآثار الكيف النفساني.
    وأجاب الفلاسفة عن هذه الشبهة بأجوبة متعددة، وأفضل جواب هو ما أجاب به صدر المتألهين وقد أصبح مورد قبول الفلاسفة المتأخرين عنه.
    ونحن نشير إلى أصل نظرية هذا الفيلسوف الكبير ونحذف مقدماتها وأدلتها، لأن تفصيل ذلك يحتاج إلى مقدمات وشرح اصطلاحات، وهو تطويل لا يناسب هذه المقالة. ونحن نهدف إلى الإشارة إلى أحد أخطاء المادية الديالكتيكية فنقول:
    إن المفاهيم هي عين ماهية المعلوم (وذلك بالحمل الأولي الذاتي) من ناحية، ولكنها من ناحية أخرى ليست عينها، أي أنها ليست مصداق ماهية المعلوم (بالحمل الشايع الصناعي)، ولهذا لا تكون لها خواص وآثار المعلوم، ومن هذه الجهة فإذا تصورنا شيئاً ذا كمية أو ذا كيفية أو ذا حركة ففي نفس الوقت الذي يطابق فيه تصورنا الخارج فإنه ليس له آثار وخواص ذلك الشيء الخارجي، أي أن تصورنا أو مفهومنا لن يكون ذا كمية ولا كيفية ولا حركة.
    وبهذه الإشارة المختصرة عرف قراؤنا المطلعون على الفلسفة جذور هذا الخطأ وعرفوا لحمة وسدى هذا المنطق "الديناميكي!!" الذي طالما هاجم المنطق القديم الجامد "الإستاتيكي"، وتبين لهم أن جذور هذا المنطق المتحرك ليس إلا خطأ كبيراً نسجوه طيلة قرون عديدة.
    الطريق الثالث:
    إن السبيل الوحيدة لمعرفة الشيء معرفة حقيقية هي عبارة عن فضح علاقات ذلك الشيء بسائر الأشياء. وقد وقع المنطق القديم في الخطأ عندما تخيل أن طريقة المعرفة هي في تعيين "الحدّ والرسم" وفي بيان "الجنس والفصل". أما في المنطق الديالكتيكي فطريقة المعرفة الحقيقية لأي شيء تنحصر في "تعيين علاقات ذلك الشيء بسائر الأشياء" (أعم من كونها أشياء ماضية أو معاصرة)، وهذا يعني أننا نكتشف تاريخه الماضي ووضعه الحاضر في الوقت الذي هو واقع تحت تأثير الأجزاء المجاورة له (المزامنة له)، ولما كانت للشيء علاقات لا نهاية لها بسائر الأمور، إذن فالمعرفة الحقيقية تطوي مراحل تدريجية وهي تخطو نحو الأكمل كلما اكتشفت علاقات أكثر. وكل واحدة من هذه المراحل تعتبر حقيقية بالنسبة إلى المرحلة السابقة عليها، ولكنها مخطئة بالنسبة إلى المرحلة التي تأتي بعدها.
    فالحقيقة إذن ليس لها معنى إلا بمعنى الشيء "كثير المطابقة"، والخطأ بمعنى الشيء "كثير المغايرة". إذن فالحقيقة- التي تعني المعرفة الحقيقية- دائماً متحولة ومتكاملة.
    الجواب:سوف نبين في المقالة الخامسة طريقة المعرفة الحقيقية، ونستعرض خلال ذلك أقوال الماديين في هذا الشأن. ولا نتعرض في هذا المجال إلا لما يخص موضوعنا فنقول: لنفرض أن طريقة المعرفة الحقيقية تعني تحديد علاقات أي شيء بسائر الأشياء، ولنفرض أيضاً أن علاقات أي شيء بسائر الأشياء لا نهاية لها فإن ذلك لا يثبت لنا ما يدعيه الماديون الديالكتيكيون، لأن ما يدعيه الماديون الديالكتيكيون يتلخص في أن الحقيقة تبقى دائماً غير معيّنة وهي تتصف بالتغيير التكاملي. والحال أن الكلام الماضي ينتج أن المعرفة الحقيقية عبارة عن اكتشاف مجموعة العلاقات اللانهائية لشيء ما بسائر الأشياء. ومن الواضح أن كل اكتشاف لعلاقة ما هو بنفسه حقيقة تستقرّ في أذهاننا، واكتشاف علاقة أخرى هو حقيقة أخرى، لا أنّ الاكتشاف الأول قد تغيّر وتكامل. وبعبارة أوضح فإن المعرفة تعني الاطلاع على الحالات المتعددة للشيء الواحد، ومن الواضح أنه من الممكن أن يكون اطلاع شخص على شيء ما محدوداً ثم تضاف إليه معارف أخرى فتتسع معلوماته حول ذلك الشيء.
    ونحن قد بينا سابقاً أن التوسع التدريجي في المعلومات لا علاقة له أبداً بموضوع تكامل الحقيقة وتغيرها.
    الطريق الرابع:-
    إن نظرة إجمالية إلى تاريخ العلوم ستثبت لنا أن العلوم في حالة تحول وتكامل، ولا يوجد علم واحد باقياً على حالة واحدة وإنما هو يتكامل تدريجياً. ونحن نعلم أن القوانين العلمية التي تعتمد عليها الإنسانية اليوم تختلف عن القوانين العلمية التي كانت موجودة قبل ألف عام والمنطق الشائع هذا اليوم غير ذلك المنطق الذي كان قبل ألف عام. وفلسفة هذا اليوم تختلف عن فلسفة ما قبل ألف عام.
    ألم تكن فلسفة ومنطق وعلوم ما قبل ألف عام حقيقية؟
    بلى ولكن منطق وفلسفة وعلوم هذا اليوم قد ارتفعت درجة حقيقيتها فأصبحت أكثر تكاملاً. إذن فالعلوم التي لا شك في كونها حقيقية إنما هي متكاملة ومتحولة.
    وقد أجبنا على هذه المغالطة في مقدمة هذه المقالة وقلنا أن للفلسفة والمنطق وسائر العلوم لونين من التكامل، وكلاهما لا علاقة له أصلاً بتكامل الحقيقة وتغيرها الذي يدعيه الماديون. ولسنا بحاجة هنا إلى تكرار ما قلناه.
    ويحدث الماديون ضجيجاً في مسألة تكامل المفاهيم الحقيقية التي أدرك القارئ مدى سخفها فيقولون أن تكامل المفاهيم هو عامل الرقي والتوسع في العلوم، ولكنه قد اتضح لحد الآن- وحسب ما قالوه- أنه لا علاقة إطلاقاً لرقي العلوم وتكاملها بالفرض الموهوم للماديين في باب تكامل الحقيقة، بل أساس الرقي والتكامل في العلوم إنما هو شيء آخر تعرّضنا له في مقدمة هذه المقالة.
    اجتماع الصحيح والغلط، الحقيقة والخطأ:
    لقد نبّهنا أكثر من مرة على أن المثاليين والسفسطائيين ينكرون قيمة المعلومات كلّية، ويزعمون أن كل الإدراكات والعلوم البشرية هباء من حيث كشفها عن الواقع، وهي مخطئة في هذا المجال، وهم يذكرون بعض الأخطاء الواقعة في بعض الموارد المسلمة (نظير الأمثلة المذكورة في متن المقالة) دليلاً على أن الإدراكات غير حقيقية في سائر الموارد، وبعبارة أخرى فهم ينكرون حصول العلم الحقيقي (المطابق للواقع).
    أما الفلاسفة فهم يقبلون مجموعة من الإدراكات على أساس أنها حقائق مسلمة (بديهيات) ويقولون أنه يمكن كسب العلم الحقيقي (المطابق للواقع) إذا استطعنا أن نجعل الفكر يسير بشكل صحيح، وبهذا أيضاً يمكن إبعاد الفكر عن الخطأ (في الجملة ). ووقوع الخطأ في الجملة لا يصلح لأن يكون دليلاً على أن جميع المعلومات مخطئة.
    ولكن المادية الديالكتيكية بدأت أخيراً بنغمة جديدة تدّعي فيها أنه لا اختلاف أبداً بين الصحيح والغلط ، ولا بين الحقيقة والخطأ وإنما يمكن لهذين أن يجتمعا ويتحدا. فمن الممكن أن يكون شيء واحد صحيحاً وغلطاً في نفس الوقت، وحقيقة وخطأ في الوقت نفسه، وصدقاً وكذباً أيضاً كذلك.
    وبطلان هذه الدعوى إذا لم يكن أوضح من بطلان دعوى السفسطائيين فهو ليس أخفى منه، وذلك لأن هذا الادعاء مبني بصورة مباشرة على إنكار أصل "عدم التناقض"، وهذا الأصل (بمفهومه الفلسفي) من أكثر البديهيات ضرورة، وهو أكثر بديهية من "وجود العالم الخارجي" الذي ينكره المثاليون، وسوف نتعرض فيما بعد لكل الشبهات الطفولية التي أوردها الماديون على هذا الأصل. ومن الواضَح- حتى لطفلٍ لم يجتز المرحلة الابتدائية- إن كل حكم أو قضية أو جملة فهي إما أن تكون صادقة أو كاذبة، صحيحة أو غلطاً، ولا يوجد فرض ثالث. وحتى أصحاب هذا المسلك الذين يدعون أن الشيء الواحد صحيح وخطأ في نفس الوقت يضطرون أحياناً ليخرجوا على ادعائهم هذا ويقولوا أن الفرضية الفلانية فيها جزء آخر مخطئ.
    وننقل هنا في البدء كلام الماديين في هذا المجال وهو حديث لا يترك القارئ دون ابتسامة، ونشير بعد ذلك إلى السبب في ظهور هذه النظرية عندهم:
    يقول جورج بوليستر في كتابه "الأسس الأولية للفلسفة" ضمن بيانه للقانون الثالث من الديالكتيك (وهو قانون التضاد):
    "إن الصحيح صحيح والغلط غلط من وجهة النظر الميتافيزيقية، والحال أنه ما أكثر ما حدث أن نقول: "المطر ينزل" ولما ينته كلامنا والمطر يتوقف عن النزول فجملتنا تلك كانت صحيحة في بدء الكلام وبعد ذلك وقبل أن ننتهي من الكلام تبدلت إلى الخطأ، وتوضح لنا العلوم نماذج عديدة من هذا القبيل، فالقوانين التي كانت تعرف بعنوان أنها حقيقية لأعوام مديدة قد تحولت إلى خطأ في وقت واحد بفضل التقدم العلمي".
    ويقول الدكتور الآراني في الصفحة (52) في تذييله لموضوع "أصل نفوذ الضدين":
    "إن الفكر غير المتمرس لا يستطيع أن يدرك بسهولة كيف تتحد الحركة والسكون، الوجود والعدم، الجسمي والروحي، الغلط والصحيح، وغيرها، ولكن شيئاً من التمرين والالتفات إلى الأشخاص الذين يميلون إلى أتباع الديالكتيك كاف ليرفع هذا الإشكال. فمثلاً أنتم تعلمون أن السكون هو عبارة عن حركة مقدار سرعتها صفر، أي أنه حالة خاصة من الحركة. وكل شيء هو في حالة الصيرورة ولما كان في حالة الصيرورة فهو إذن ذلك الشيء، ولما لم يصر بعد فهو ليس بذلك الشيء، أي أنه بفضل الدقة في "تحول وتكامل وصيرورة" الأشياء يمكن الجمع بين الوجود والعدم في مكان واحد. وكذا نستطيع القضاء على التضاد بين الروحي والجسمي بهذا النحو وهو أن تقول: إن الخواص الروحية هي فئة معينة من خواص المادة. وقد بيّنا في موضوع الحقيقة النسبية كيفية الجمع بين الصحيح والغلط وقلنا: مثلاً أن ميكانيك نيوتن هي صحيحة وغلط في نفس الوقت، صحيحة لأننا قد حصلنا منها نتائج عملية صحيحة ليست صحتها موضع شك، وغلط لأن سرعة الجهاز لم تؤخذ بعين الاعتبار في القوانين".
    ويقول في الصفحة (27) في موضوع الحقيقة النسبية:
    "في الحياة العادية يفرض الصحيح والغلط متضادين تماماً ويجعل أحدهما في مقابل الآخر فيقال أن الشيء الواحد إما أن يكون صحيحاً أو غلطاً وليس لهما شق ثالث، والحال أن المذهب الديالكتيكي يقول أنه في كل مرحلة من مراحل المعرفة يكون أحد الأجزاء صحيحاً والآخر غلطاً".
    ويقول في الصفحة (28):
    "كنا نقول في القرن الماضي أن الذرة هي الجزء الذي لا يتجزأ، وهي آخر حد لتجزئة المادة. وهذا الادعاء صحيح وغلط، صحيح لأنه قد بنيت على أساسه أعمدة الصناعة الكيميائية العظيمة فكيف يمكن القول بأن هذا الفرض غلط، ولكنه في نفس الوقت الذي يكون فيه حقيقة فهو غلط أيضاً لأنه توجد في ذلك الشيء المسمى بالذرة أجزاء أخرى هي الإلكترون والبوزيترون والنيوترون وغيرها".
    وهذه الأقوال فاقدة للقيمة والاعتبار إلى الحد الذي لا يحسن الالتفات إليها، وحقاً أنه لمن المخجل. بعد مرور آلاف السنين من العذاب وبعد تلك الجهود الضخمة التي أنفقتها البشرية في سبيل العلم والفلسفة فحققت انتصارات رائعة في هذا المضمار بحيث أوصلتنا إلى هذا الأفق الرفيع ثم تظهر جماعة باسم العلم والفلسفة تخلط بين الرطب واليابس بهذا النحو وتقول- بمنتهى الوقاحة- عن خيالاتها الفجّة هذه بأنها أرفع الأفكار الفلسفية.
    وهذه الأقوال لا أساس لها إلى الحد الذي نلاحظهم -هم أنفسهم-أحياناً يقولون أن جزءاً من هذه الفرضيات صحيح والجزء الآخر غلط، كما لو أنهم قد تخيلوا أن الناس ينكرون إمكانية أن يكون أحد الأجزاء صحيحاً وجزء آخر غلطاً- لا يتلاءم مع الأمثلة التي يذكرونها. ففي المثال الذي ذكره جورج بوليستر (المطر ينزل)، أي جزء منه صحيح وأي جزء غلط؟ وفي مثال الذرة الذي كان شائعاً في القرن التاسع عشر وهو أن الذرة غير قابلة للتجزئة، أيّ جزء منه صحيح وأي جزء غلط؟
    الطريق المسدود أو ملاحظة مهمة مفيدة:
    لعل القارئ الكريم يسأل نفسه: ما هو الشيء الذي حمل أتباع المادية الديالكتيكية على إعلان نظريات في باب الحقيقة والخطأ من قبيل نظرية تغيّر وتكامل المفاهيم ونظرية اجتماع الصحيح والغلط وأمثالهما، والحال أن بطلان هذه النظريات واضح بأدنى تأمل.
    ولكنه ينبغي لنا أن نعلم أن المادية الديالكتيكية قد أصبحت في وضع- بالنظر إلى أسسها الأولية- بحيث إذا لم تقبل هاتين النظريتين (وهما أن المفاهيم متغيرة وأن الصحيح والغلط يمكن أن يجتمعا) فإنها ستواجه طريقاً مسدوداً لا يمكن الخروج منه، وذلك لأن الأساس الأول لهذه الفلسفة هو أصالة المادة على الإطلاق (المادية) ونفي ما وراء الطبيعة تماماً.
    والأصل الثاني لهذه الفلسفة هو اليقين (الدجماتية) فلكي تستنتج هذه الفلسفة من بحوثها نتيجة يقينية قطعية لنفي ما وراء الطبيعة فقد قامت - في مورد هذا الأصل- باقتفاء أثر الفلسفة النظرية العقلية، وهذا مخالف لنظام الفلسفة الحسيّة التي تتوقف عن إظهار الجزم واليقين المطلق، فرفعت الديالكتيكية شعار الجزم واليقين.
    أما الأصل الثالث لهذه الفلسفة فهو أصالة الحس والتجربة (الأميرية). فالمادية الديالكتيكية تنكر المنطق العقلي الذي يعتمد عليه الفلاسفة العقليون، وهي لا تستطيع أن تقبل عقائد الفلاسفة العقليين في باب الروح وكيفية ظهور العلم والإدراكات (البديهيات العقلية الأولية) التي يقول عنها الفلاسفة العقليون أن لها قيمة يقينية ثابتة وأنه لا يمكن أن تكون هناك مواضيع يقينية إلا إذا كانت معتمدة على البديهيات العقلية الأولية، وتزعم الديالكتيكية أن المنطق الوحيد القابل للاعتماد عليه هو المنطق التجربي.
    وتقتفي المادية الديالكتيكية في هذا الأصل (على عكس مما فعلت في الأصل الثاني) أثر الفلاسفة الحسيين مع تفاوت بينهما يتلخص في أن الفلاسفة الحسيين يتخذون الجانب الإيجابي من الحس والتجربة فقط دليلاً، وليس الجانب السلبي، ولهذا فهم يعتبرون مسائل ما وراء الطبيعة - التي هي وراء الحس والتجربة- أمراً خارجاً عن موضوع دراساتهم، أما المادية الديالكتيكية فهي تعتمد على الحس من حيث الجانب الإيجابي والجانب السلبي وتقول كل ما هو محسوس فهو صادق وكل ما هو غير محسوس فهو كاذب، ولهذا فإن معيارها ومقياسها لنفي وإثبات أي شيء (وحتى ما وراء الطبيعة) هو العلوم الطبيعية الحديثة المعتمدة على الحس والتجربة.
    وتعتبر هذه الأسس الثلاثة (أصالة المادة- أصالة اليقين - أصالة الحس) هي الأصول الأولية للمادة الديالكتيكية.
    ومجرد اعتراف المادية الديالكتيكية بهذه الأصول الثلاثة "مجتمعة" فإنها تقع في حيرة عظيمة وتلاقي طريقاً مسدوداً، لأنه:
    إذا قبلت "البديهيات العقلية" كالفلسفة العقلية واتخذت لنفسها طابعاً ميتافيزيقياً فإنه علاوة على أن هذا يتنافى مع نظرياتها الخاصة في باب الروح والخواص الروحية، فهو يفقدها الأصل الثالث من أصولها (وهو أصالة الحس)، وفي النتيجة فإنها لا تستطيع حينئذ أن تنكر أدلة الإلهيين الفلسفية والنظرية بعذر أنه " لا يوجد في العلوم الحسية ما يؤيد هذه الأقوال".
    وإذا اعتمدت على مساءل العلوم الحسية مثل المذاهب الحسية وقالت بنفس القيمة التي ينسبها كل العلماء - ومن جملتهم الحسيون - إلى العلوم الحسية (وهي القيمة الاحتمالية والظنية) فإنها تكون قد فقدت الأصل الثاني (وهو أصل الجزم واليقين)، وتصبح النتيجة أنها لا تستطيع أن تبدي رأياً قاطعاً يقينياً في المسائل الفلسفية، فهي مثلاً لا تستطيع أن تفتي - يقيناً - أنه لا يوجد شيء غير المادة وخواصها (المادة = الوجود ).
    وإذا أرادت أن تنسب القيمة التي يضيفها الفلاسفة العقليون والميتافيزيقيون على البديهيات العقلية (وهي القيمة اليقينية التي ترفض
    التخلف) -إذا أرادت أن تنسب هذه القيمة إلى الفرضيات ومسائل العلوم الحسية فماذا تصنع حينئذ بتجديد النظر واكتشاف الخلاف في هذه المجالات؟
    وخُيّل إليها أنه يمكن التخلص من هذا الطريق المسدود وذلك بأن تضفي القيمة اليقينية على المواضيع التجربية وفرضيات العلوم الطبيعية، وأن تفسر تجديد النظر واكتشاف الأخطاء عن طريق "تغير الحقيقة" و "إمكان اجتماع الصحيح والغلط" وذلك بأن تقول لا منافاة بين الحقيقة والخطأ، بين الصحيح والغلط، بين الصدق والكذب. فالقانون العلمي الذي أفرزه القرن الماضي صحيح، والقانون العلمي لهذا القرن - المخالف للقانون الأول - صحيح أيضاً، لأن الحقيقة تتغير كل يوم، ولهذا يكون قولهم في القرن الماضي أن الذرة بسيطة لا تقبل التجزئة صحيحاً، ويكون قولنا اليوم أن الذرة ليست بسيطة وإنما هي مركبة من أجزاء كثيرة صحيحاً أيضاً، وكل واحد من هذين حقيقة قد تغيرت وتكاملت.
    والآن اسألوا أنفسكم فلو كنتم مكان أصحاب المادية الديالكتيكية أكان الحظ يسعفكم بطريق آخر للفرار من هذا الإشكال؟
    وأيضاً هناك طريقة لعلماء المادية للخلاص غير هذه السفسطة (عفواً غير هذا التحقيق العميق)؟
    ومن المؤكد أن هناك مجموعة من الأخطاء الفلسفية الأخرى قد توّرط فيها هؤلاء السادة وأدّت بهم إلى صياغة فرضية تكامل الحقيقة وفرضية إمكان اجتماع الحقيقة والخطأ، ولكننا لا نشك في أن الورطة في هذا الطريق المسدود والبحث عن سبيل للفرار منه لهما دخل كبير في هذا المضمار.
    وكما يظهر من كلمات الماديين دائماً فإنهم يأخذون إعطاء النتيجة العملية دليلاً على صحة وقيمة النظرية أو الفرضية، وحينئذ يقولون إذا وجد لدينا قانونان علميان يخالف أحدهما الآخر وقد أنتجنا عملياً نتائج إيجابية فإن كلا منهما حقيقة.
    وقد أوضحنا في مقدمة هذه المقالة أن إعطاء النتيجة العملية لا يصلح ليكون دليلاً على صحة وقيمة أية نظرية أو فرضية، وبيّنا- ضمناً- أنه لا يوجد عالم واحد يعتبر النتيجة العملية دليلاً على القيمة النظرية ولا نرى أنفسنا هنا بحاجة إلى تكرار ذلك.
    سوء الحظ لحق المادية بيد الديالكتيك:
    لقد وجّه هذا الإشكال إلى المادية الديالكتيكية لأنها تفتقد في مسيرها الطريق المعين، ففي مكان ما تعلن أنها لا تعتمد إلا على ما يقتضيه الحس وتثبته التجربة فقط، ومن هذه الناحية فهي تقتفي أثر الفلسفة الحسية. وفي مكان آخر تتجاوز قيم الفلسفة الحسية وتقتحم عالم الفلسفة الأولى "الميتافيزيقية" الخارجة عن منطقة نفوذ الحس والداخلة في الجوانب العقلية والنظرية، وتتخذ لنفسها مظهراً "ميتافيزيقياً" وتثبت وتنفي أموراً عقلية ونظرية صرفة.
    وفي المجالات لتي تريد فيها نتيجة يقينية فهي تعلن شعار اليقين وتدعي لنفسها الأسلوب اليقيني "الدجماتية"، وفي مجال آخر حيث تحاول تعيين قيمة المعلومات فإنها تقول بالحقيقة النسبية وتصبح مذهباً مشككاً.
    وينتج من هذا التذبذب الفلسفي أنها عندما تتورط بالطريق المسدود في مقام تفسير تجديد النظر واكتشاف الأخطاء في المسائل العلمية فإنها تخترع نظرية "تغير الحقيقة" و "إمكان اجتماع الحقيقة والخطأ" وتصبح عندئذ من السوفسطائيين.
    والقارئ الكريم يعلم أنه قد كان للمادية مسير معين قبل أن تقع في يد كارل ماركس وانجلز فيصوغا منها المنطق الديالكتيكي، وكان من الممكن أن تتصف بأي شيء إلا الشك والسفسطة، والمنطق الديالكتيكي هو الذي جرّ هذا الحظ الشيء على المادية "المسكينة"، وحسب المثل المعروف فإنه أراد أن يصلح حاجبها ولكنه جرّ على عينها العمى.
    لما كانت إدراكاتنا الحسية من الخواص التي توجدها المادة

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    [ 225 ]

    الخارجية، ونحن نعلم أن المادة الخارجية متحولة ومتكاملة وأجزاؤها جميعاً تتبادل فيما بينها ويولد نتيجة للتفاعل المتبادل بين الطرفين أثر نطلق عليه اسم التركيب "سنتز"، إذن لا يوجد لدينا واقع

    [ 226 ]

    مطلق، ولو فرضنا وجوده لما أمكن أن يرد الحواس بشكله الواقعي دون أن يمسه تغيير، وعلى هذا فلا يكون لدينا صواب مطلق كما أنه ليس عندنا خطأ مطلق، بل يوجد لدينا صواب وخطأ نسبيان، إذن كل حاسة فهي تدرك وتقوم بعملها مقيدة بالبيئة المحيطة بها من

    [ 227 ]

    زمانية ومكانية، يكون إدراكها صحيحاً في تلك الحدود، أي أن المحسوس يوجد في حواسنا بتلك الصورة التي هو عليها، وإن أمكن أن يكون ذلك الإدراك خطأ عند فرض تغيير تلك البيئة الزمانية والمكانية، وفي ظل هذا القرض الجديد سوف يصبح فكر وإدراك

    [ 228 ]

    آخر هو الصحيح. وكذلك كلما كانت مواجهة الحاسة لأجزاء المادة المحسوسة أكثر وكانت الظروف الزمانية والمكانية أوفق فإن إدراكنا سيكون أكثر صحة وصواباً,

    [ 229 ]

    فالصواب إذن يعني كثير المطابقة والخطأ يعني كثير المغايرة فمثلاُ نحن نرى الجسم أصغر مما هو عليه إذا نظرنا إليه من بعد، وهو- في الحقيقة- صغير أيضاً، أي أن المادة مقترنة بالظروف الزمانية

    [ 230 ]

    والمكانية قد أوجدت في حواسنا هذه الصورة الصغيرة، أما إذا اقترب هذا الجسم نحونا فإنه يرى أكبر لتغيّر تلك الظروف، وإن كان هذا الجسم يتمتع- في الحقيقة- بحجم واقعي متحول ولكن لن

    [ 231 ]

    يحيط به إدراكنا بذلك الحجم الواقعي لأن كل الأجزاء والظروف غير المحدودة والمتحولة المادية دخيلة فيه، إذن لا يمكن أن يحلّ كل العالم- بالإضافة إلى العين- في عيوننا.

    [ 232 ]

    ومن هنا نستطيع أن نحتمل كون حواس سائر الأحياء مخالفة لحواسنا كما تشير إليه بعض التجارب التي أجريت على قسم منها.
    وكذا نحتمل أننا لو كنا نعيش على أرض غير هذه الأرض

    [ 233 ]

    لكانت مختلفة عن هذه البديهيات، فمثلاً تكون نتيجة (2×2) هي (3) بينما هي تساوي عندنا (4). وأحياناً تبدو لأعيينا الأربعة وكأنها تساوي (1)، كما لو شاهدنا أمامنا أربعة أشياء وهي

    [ 234 ]

    واقفة على خط مستقيم وهي مرتبة بحيث يكون كل واحد منها خلف الآخر.
    وما قلناه في مورد الحس يمكن تسريته إلى الفكر. وبهذا فقد اتضحت هذه النتائج:
    1-إن الحقيقة غير الواقع.

    [ 235 ]

    2-ليس لدينا صحيح مطلق ولا خطأ مطلق، وإنما الصحيح هو المنسجم بشكل أكبر مع أجزاء المادة، والخطأ هو الذي بعكس ذلك.

    [ 236 ]

    3-كل ما فرضناه حقيقة فهو فرضية قابلة للتغيير ويحكمها التحول والتكامل العام، وسوف تخلي هذه الفرضية مكانها يوماً لفرضية أخرى أكمل منها. ولهذا فنحن لابد أن نعتذر من البديهيات

    [ 237 ]

    الست التي جاء بها المنطق القديم وإن نعتنق المنطق الديالكتيكي الذي شيدت أسسه على التحول والتكامل العام لواقع المادة.
    إشكال
    هذه خلاصة لرأي علماء المادية التحولية. وقد أوردنا عليه في

    [ 238 ]

    المقالة الماضية إشكالين (هما: 1-يلزم منه المثالية 2-عدم انطباق خواص المادة على الإدراك)، وهنا إشكال ثالث وهو أن النتيجة التي تستخلص من هذا الكلام لا تنسجم مع الكلام نفسه، وذلك لأن

    [ 239 ]

    النتيجة الثانية (وهي أننا لا نملك شيئاً صحيحاً بصفة مطلقة وليس لدينا خطأ بشكل مطلق) قد أخذت على أنها صحيحة بشكل مطلق، وإذا أخذناها على أساس أنها صحيحة بشكل نسبي لثبت بذلك وجود الصحيح المطلق.

    [ 240 ]

    وكذا النتيجة الثالثة (وهي أننا لا نملك فكراً بديهياً-أو أننا ليس لدينا علم ثابت غير متغير) فإنها قد أخذت بعنوان أنها فكر ثابت وغير متغير، وإلا لو أخذناها على أساس أنها متغيرة للزم منها وجود

    [ 241 ]

    العلم ثابت غير المتغير، لأنه في هذه الحال تتغير هذه القضية (ليس لدينا فكر ثابت) إلى قضية ثابتة غير متغيرة.
    جواب هذا الإشكال حسب أسس الفلسفة الميتافيزيقية
    نحن نلاحظ في الأمور الخارجية نسبة أو حالة نسميها بالمطابقة أو عدم المطابقة، من قبيل أن المتر الواحد من الطول مطابق للمتر

    [ 242 ]

    الواحد من الطول، ولكن هذه الحالة غير موجودة بين المتر من الطول والنقطة الهندسية التي ليس لها امتداد. ونلاحظ أن مثل هذه الحالة موجود في الأفكار والإدراكات، مثل القضية القائلة: "الأربعة

    [ 243 ]

    أكبر من الثلاثة" فإنها تنسجم مع الخارج المادي، أما القضية القائلة: "الثلاثة أكبر من الأربعة" فهي لا تنسجم معه، ونحن نطلق على الفكر والإدراك بملاحظة هاتين الصفتين اسم الصواب والخطأ (أو ما يراد فهماً من ألفاظ).

    [ 244 ]

    وبهذا يتضح أن لتحقق الصواب والخطأ شروطاً أساسية ثلاثة:
    1-النسبة والقياس.
    2-الوحدة بين المقيس والمقيس عليه.
    3-الحكم الذي يتضمن "أن هذا هو بنفسه ذاك".

    [ 245 ]

    فبالنسبة إلى الشرط الأول إذا كانت هناك صورة إدراكية قد لوحظت منفردة ولم تقس إلى أي شيء ولم يكن لدينا حكم، من قبيل الصورة التي يتصورها فرد من أفراد الإنسان ففي هذه الحال لن يتحقق الصواب ولا الخطأ.

    [ 246 ]

    أما بالنسبة إلى الشرط الثاني فإذا قسنا شيئاً إلى شيء لا يجانسه ولا يتحد معه كما لو قسنا القضية القائلة: "الأربعة أكبر من الثلاثة" إلى كيفية قطع الألماس للزجاج فإن الصواب والخطأ لن يتحققا أيضاً.

    [ 247 ]

    أما بالنسبة إلى الشرط الثالث فإذا أخذنا شيئين قابلين للمطابقة ولكننا لم نحكم بالمطابقة فإن الخطأ والصواب لن يتحققا أيضاً.
    ويتبين من هذا الحديث أنه لا يوجد الخطأ في مرحلة الحس (ظهور الأثر الطبيعي في الحاسة)، وذلك لأنها لا تجمع تلك الشروط السابقة الذكر.
    فالحاسة في الموجود الحي تتأثر نتيجة الاتصال الخاص بالجسم

    [ 248 ]

    الخارجي ثم يرد شيء من الخواص الواقعية لذلك الجسم إلى هذه الحاسة، وبعد أن يقوم العضو الحساس بالتصرف حسب خواصه الطبيعية يظهر أثر هو بمنزلة مجموعة (وليس هو نفس المجموعة) مركبة من الواقع الخاص للجسم (وهو عين قولنا أن الحواس تظفر

    [ 249 ]

    بماهية الخواص) والواقع الخاص للحاسة، وفي هذه الظاهرة لا يوجد أي حكم، ولهذا فإنه لا وجود للخطأ ولا الصواب، فمثلاً إذا صادفت العين-بصورة معينة- جسماً خارجياً فإن أشعة خاصة ترد إلى العين وتختلط بالخواص الهندسية والفيزيائية للعين وتستقر في النقطة الصفراء، ومن الواضح أنه لا يوجد في هذه المرحلة صواب ولا خطأ.

    [ 250 ]

    وبعد ذلك- في المرحلة الثانية- فإن قوة أخرى ستدرك هذه الظاهرة المادية، وهي تدركها بنفس النحو الذي استقرت به وبنفس الخواص الهندسية والفيزيائية، وهي تصدر أحكاماً بعدد النسب التي تربط بين أجزائها، وتتعلق هذه الأحكام بالكبر والصغر، بالحركة والسكون، ففي المثال السابق تكون الأشعة المستقرة في النقطة

    [ 251 ]

    الصفراء ذات أجزاء، وكل جزء له لون خاص وشكل هندسي معين ونسب محددة من قبيل الكبر والصغر والقرب والبعد والجهة والحركة، فتدرك هذه وتصدر أحكاماً بعدد التركيبات التي تم إدراكها، فيقال:" هذا الجزء أكبر من ذلك الجزء" و "هذه الجهة من الوجه أشد بياضاً" و "وتلك الحمرة بعيدة" و "وهذه المجموعة متحركة".........

    [ 252 ]

    وصحيح أن الحكم موجود في هذه المرحلة ولكنه لما لم فيها مقارنة ولا تطبيق فالصواب والخطأ أيضاً ليسا موجودين.
    أما المرحلة الثالثة فلما كانت القوة الحاكمة فيها تدخل الميدان وتصدر الحكم فإنها تشاهد بين مدركاتها اختلافاً، وذلك لأن بعضها

    [ 253 ]

    قد تصورتها حسب ما يحلو لها، أما البعض الآخر فقد ظهر حسب نظام خاص حيث يكون التصرف فيه خارجاً عن قدرتها، فمثلاً قد تشاهدون أحياناً ناراً وبعد هذا الإدراك تتصورون صفة الحرارة والإحراق دون أن يمكن التفكيك بينهما (وبهذا النحو يتم الإدراك فيما لو اشتركت عدة حواس ظاهرة في عملية الإدراك)، وأحياناً يدرك الإنسان نفس تلك النار ولكنه يستطيع بسهولة أن يفكّك بين تلك النار والحرارة والإحراق (وهذا يحصل في حالة التخيل المحض).

    [ 254 ]

    وهنا تجد القوة الحاكمة نفسها مضطرة لإصدار حكمها بأن هناك واقعاً خارجاً عن ذاتها (عن ذات المدرك)، وهذه المدركات قد حصلت نتيجة لتأثيرات ذلك الواقع، بل هي معرّفة له. ومن هنا يوجد جهاز تطبيق العلم على المعلوم والذهن على الخارج.

    [ 255 ]

    ونستنتج من هذا الحديث:
    أولاً: لا يوجد خطأ في مرحلة النشاط الطبيعي لأعضاء الحس.
    ثانياً: لا يوجد خطأ في مرحلة تحقق الإدراك الحسي.
    ثالثاً: لا يوجد خطأ في مرحلة الحكم في نفس الإدراك الحسي قبل تطبيقه على الخارج.
    وبهذا يتأكد لنا أن الخطأ واقع في مرحلة أدنى من تلك المراحل السابقة.

    [ 256 ]

    (وهي مرحلة الإدراك والحكم التي تتم فيها المقارنة والتطبيق على الخارج).
    والآن كيف نستطيع أن نتحقق من هذه الأخطاء؟
    نرى من اللازم هنا أن نقدم بمقدمة:

    [ 257 ]

    أولاً:صحيح أن الحكم واحد من مدركاتنا ولكنه لم يأتنا من الخارج بشكل صورة وانطباع (أو انتزاع)،وبالتعبير الفلسفي فهو فعل خارجي سنخه سنخ العلم لأنه حاضر لدينا بوجوده التام، وهذا يعني أنه معلوم حضوري وليس معلوماً حصولياً لعدة أسباب:

    [ 258 ]

    1-لأننا أحياناً نتصور الحكم بشكل مفهومي ونضيفه إلى مجموع القضية وهو لا يؤمّن لنا كون القضية تامة (يحسن السكوت عليها)، وبالتعبير المنطقي فإنه يمكن جعل أية قضية حملية مقدّماً لقضية شرطية، وهذا العمل يفقد القضية الحملية تماميتها مع أن أصل القضية محفوظ.

    [ 259 ]

    2-لأننا أحياناً نتصور الحكم والتصديق بشكل مستقل (أي بالمعنى الاسمي) ثم نجعله موضوعاً أو محمولاً لقضية أخرى كما لو قلنا "الحكم الكذائي صادق" وسيفقد الحكم تماميته في هذه الحال أيضاً.

    [ 260 ]

    3-وقد نشاهد ما ينطبق عليه الحكم في الخارج (أي أننا نلتقط صورة) دون أن يكون معها تصديق ثم نضيف إليه الحكم من أنفسنا. إذن لابد من القول أن الحكم فعل خارجي تقوم به القوة الحاكمة وهو ينصب بواقعه على القضية، وحيث أن الحكم معلوم أيضاً، إذن لابد من القول بأنه معلوم بالعلم الحضوري.
    ثانياً: لما كان كل مورد غير مستثنى من حكم النقيضين فلابد من القول أن أي خطأ لا يمكن أن يتحقق بدون صواب، أي إذا لم تنطبق قضية ما على أحد الموارد فإن قضية أخرى (وهي الطرف المقابل) ستكون منطبقة على ذلك المورد. إذن فكل خطأ له صواب.
    وحينئذ نقول: كل قضية تشتمل على خطأ فإن أجزاءها هي الموضوع والمحمول والحكم (وإذا وجدت قضية بغير هذه الصورة فمرجعها

    [ 261 ]

    إلى هذه) ولكن الحكم لا يمكن أن يكون خطأ لأنه فعل خارجي والفعل الخارجي لا يتصف بالخطأ كما قدمنا إذن لابد أن يكون الخطأ عائداً إلى أحد طرفي القضية (الموضوع - المحمول)، وطرف القضية أيضاً لا يمكن أن يعرضه الخطأ بما هو مفرد غير متصف بالحكم، إذن لابد أن ينحل هذا المفرد بالتجزئة إلى قضية أخرى لا يكون فيها الحكم موافقاً للحكم الموجود في القضية المفروضة ولا ينطبق عليه وإلا فإنه لم يكن في القضية الأصلية سوى الموضوع والمحمول والحكم وكما أوضحنا من قبل فإن كل واحد من هذه الثلاثة لا يمكن أن يكون خطأ، وكلما فرضنا أننا نتقدم في التحليل فإننا سنجد أمامنا موضوعاً ومحمولاً وحكماً وهي لا يمكن أن تخطئ.
    فمثلاً إذا قلنا "اللص دخل الدار" وفرضنا أن هذا الكلام مخطئ، فهذا الخطأ يعود إلى واحد من طرفي القضية (أو إليهما معاً) وليس هو عائداً إلى الحكم، فأما أن يكون هناك شخص قد جاء ولكنه كان أخاً لنا ولم يكن لصاً ونحن قد أخطأنا وجعلنا اللص مكان الأخ، وأما أن يكون لصاً فعلاً ولكنه لم يدخل البيت وإنما مر على الباب ونحن تخيلنا أنه دخل البيت فجعلنا "دخل" مكان "مرّ على الباب"، (وأما أن نكون مخطئين في الاثنين)، وعلى أية حال فأما أن نكون قد جعلنا غير الموضوع مكان الموضوع أو غير المحمول مكان المحمول أو قمنا بفعلهما معاً.
    ففي صورة ما لو جعلنا غير الموضوع مكان الموضوع لابد أن نكون قد شاهدنا لوناً من العلاقة والوحدة بين غير الموضوع والموضوع المفروض ثم حكمنا بوحدتهما وتخيلنا أن هذا هو ذاك، مثلاً نحن عرفنا في المثال السابق اللص بقامة طويلة وشعر رأس كثيف وملابس سوداء وعرفنا الأخ أيضاً بهذه الأوصاف مضافاً إليها المشخصات الأخرى، وعندما قلنا "اللص دخل البيت" لم نشاهد من الشخص
    الذي ورد الدار سوى الصفات المشتركة، علاوة على أن الوقت كان مظلماً وقد فتح باب الدار دون صوت، وهاتان صفتان أيضاً من صفات اللص وحينئذ حكمنا بأن "اللص دخل البيت"، وفي الحقيقة فنحن شاهدنا شخصاً طويل القامة كثيف شعر الرأس ذا ملابس سوداء قد دخل البيت (وهذا الحكم صواب) وحكمنا بأن هذه الأوصاف متحدة مع أوصاف اللص، أي أن اللص والأخ متحدان في هذه الصفات، وهذا الحكم صواب أيضاً، ثم قلنا بوساطة تلك القوة التي وحّدت بين اللص والأخ في القضية التي شاهدنا فيها شخصاً طويل القامة كثيف شعر الرأس ملابسه سوداء يدخل البيت- قلنا:"اللص داخل البيت"، وهذا الحكم في حدود هذه القوة صواب أيضاً، ولكننا إذا قسناه إلى المشاهدة الحسية فسيكون خطأ.
    وكذا في مورد جعل غير المحمول مكان المحمول، مثلاً لو كان الشخص في المثال السابق لصاً واقعاً ولكنه جاء من الطريق المؤدي إلى البيت ثم مرّ على الباب واجتاز البيت ونحن قد اختلط علينا الأمر وقلنا دخل البيت، ونحن في الحقيقة شاهدنا الحركة في الطريق والوصول إلى قرب الباب حيث يكون "الدخول" و "المرور" فيها مشتركاً، وهذا الحكم صواب، ثم قلنا أن الوصول إلى قرب الباب مرور وهو متحد مع الدخول، وهذا الحكم صواب أيضاً، وبعد أن وحدنا الدخول والمرور جعلنا الدخول مكان المرور، وهذا الحكم صواب أيضاً ولكنه صواب في حدود نشاط هذه القوة (المخيّلة) التي جعلت الاثنين واحداً وليس صواباً حسب ما يحكم به الحس.
    ويوجد مثال آخر:
    يقول الماديون: "أن الله ليس موجوداً" وهذا الكلام خطأ،

    [ 263 ]

    ولكن المعنى التحليلي لهذا الحديث- الموجود في أعماق قلب المتحدث- صواب، لأن قائل هذا الكلام إما أن يكون قد فسر "الله" بمعنى غير حقيقي (من قبيل أنه الموجود الذي يملأ مكان العلل المادية المجهولة وما أشبه هذا)، وإما أن يكون قد أخذ "الموجود" بمعنى لا ينسجم مع حقيقية الله كما إذا قال: "المادة= الموجود" أو "الموجود= المادة بالإضافة إلى الزمان والمكان"، وبعد التحليل نعرف أن قائلي هذا الكلام قد أخطأوا في تطبيق المعنى الخيالي الصواب على الواقع الخارجي الذي يقول به الإلهيون.
    إذن في كل مورد يوجد إدراك غير صائب أو فكر فاسد فلابد أن تتجه أصابع الاتهام-حسب الترتيب السابق- نحو النقطة الحقيقية التي تطلق عليها الفلسفة: "انتقال ما بالعرض مكان ما بالذات"، أي تطبيق حكم صواب لقوة ما على مورد حكم صواب لقوة أخرى، ولا بد أن نعرف أيضاً أن أي إدراك لا يمكن أن يكون خطأ مطلقاً.
    وفي الحقيقة فإنه لا يوجد في الكون خطأ، بل كل فكر أصلي وإدراك حقيقي إنما هو صواب قد طبق على مورد خطأ. يقول الشاعر:
    "لا تعترض على كلام أي إنسان
    فقلم الصنع لم يخطّ شيئاً خطأ"
    ويستنتج من الحديث الماضي ما يأتي:
    1-أن وجود الخطأ في الخارج لا يكون إلا بالعرض، أي أننا في المكان الذي نخطئ فيه لا تكون أية قوة مدركة وحاكمة فينا مخطئة في عملها الخاص بها، وإنما يكون الخطأ في مورد يوجد فيه حكمان

    [ 264 ]

    مختلفان لقوتين، ثم نطبق حكم هذه القوة على مورد القوة الأخرى (فمثلاً نطبق حكم الخيال على مورد حكم الحس أو على مورد حكم العقل،)، وهذا هو مضمون كلام الفلاسفة عندما يقولون أن الخطأ في الأحكام العقلية يحدث بتدخل قوة الخيال.
    ومن هنا يمكن الاستنتاج بأننا إذا تعمقنا في علومنا وظفرنا بالتمييز بين الإدراكات الحقيقية والمجازية (بالذات وبالعرض ) وعرفنا خواصها العامة فإننا نستطيع أن نقف على كل أخطائنا وأحكامنا الصائبة، وحسب اصطلاح المنطق فإننا نستطيع حينئذ التمييز بين القضايا المصيبة والقضايا المخطئة.
    2-في كل مورد يوجد خطأ فإنه يوجد فيه صواب أيضاً.
    قائمة بالنظريات التي تثبت صحتها في هذه المقالة:
    1-كل تصديق فهو مسبوق بتصور.
    2-توجد نسبة ثابتة بين المدرك الحسي وصورته الخيالية وصورته العقلية.
    3-إن الصورة العقلية للموجود الخارجي مسبوقة بصورته الخيالية، وصورته الخيالية مسبوقة بإدراكه حسياً.
    4-إن كل المعلومات التصورية التي يمكن أن تنطبق على الخارج بنحو ما فهي تنتهي إلى الحس (هذا الحكم بحاجة إلى توضيح أكبر سيأتي في المقالة اللاحقة).
    5-نحن ملمون في الجملة بماهيات الأشياء.
    6-لا يوجد خطأ في مرحلة الوجود الحسي (الأثر الموجود في العضو الحساس).

    [ 265 ]

    7-لا يوجد خطأ في مرحلة الإدراك الحسي المنفرد.
    8-لا يوجد خطأ في الحكم الموجود في المرحلة الحسية.
    9-كل مجال يتحقق فيه الخطأ فهو في مرحلة الإدراك والحكم والمقايسة بالخارج.
    10-إن وجود الخطأ يكون بالعرض.
    11-في كل مورد يوجد فيه إدراك مخطئ يوجد فيه أيضاً إدراك مصيب كما نلاحظ في الواقع أن لكل كذب صدقاً أيضاً.
    12-إن العلم الحضوري ليس قابلاً للخطأ.

    محتويات الكتاب
    مقدمة العلامة مرتضى المطهري........................................... .................... 9
    المقالة الأولى .................................................. ..................................... 43
    ما هي الفلسفة؟ .................................................. ............................... 44
    المقالة الثانية .................................................. ..................................... 65
    الفلسفة والسفسطة (أو الواقعية والمثالية) ................................................ 66
    المقالة الثالثة .................................................. ..................................... 109
    العلم والإدراك .................................................. .................................. 110
    المقالة الرابعة .................................................. ..................................... 159
    قيمة المعلومات (مقدمة العلامة المطهري) ................................................ 160
    العلم والمعلوم-قيمة المعلومات .................................................. ............. 216


    تم نقل الكتاب بعون الله و نرجو الفائدة للجميع مع خالص تحياتي

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني