المطران بولس مطر: نحن معشر المسيحيين نهتز بأعماقنا لموقف الحسين[line]-[/line]وإني لأصارحكم القول بأن في كلام السيد المسيح خير توضيح لبطولة الحسين وقداسته بتأكيده أن "ما من حب أعظم من بذل الإنسان نفسه فدية عن أحبائه[line]-[/line] تجلت معاني الفداء بالدعاء التي صعدته شقيقته زينب الصابرة والمكابرة على الجراح عندما ناجت ربها قائلة: "اللهم تقبل منا هذا القربان". إنه قربان أخيها الذي قدم نفسه لأمته كلها


(شبكة الفجر الثقافية) - (2010-12-16م)

ألقى رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر كلمة، استهلها بالقول: "السلام عليكم يا أبناء وطني الذين تقفون في هذه الأيام الكربلائية المجيدة وقفة المشاركة في مأساة الحسين ابن علي رضي الله عنه، وتقيمون ذكرى استشهاد ولي لم يكن استشهاده نهاية لحياته، بل كان بداية نورانية لرسالته المتوهجة والمستمرة على امتداد التاريخ.

وقال: ولئن كنا معكم في هذه الذكرى فليس لأن في الأمر واجبا علينا يقتضيه العيش المشترك القائم بيننا، بل لأننا معنيون أيضا بها، وهي التي حملت المعاني السامية ودخلت إلى كل القلوب، واتخذت أبعادا روحية وإنسانية ما زالت تحاكي الضمائر والعقول، منذ أن كانت، وسوف تحاكيها إلى انطواء الدهر ودق موعد الحشر".

اضاف: "لقد وقعت مأساة عاشوراء بين المسلمين ولأجل قضايا إسلامية. لكن قيم الإسلام التي دافع الحسين عنها، والمواجهة التي واجه بها وحيدا، صارت محط أنظار الناس من كل دين، وارتقت بهم إلى أعلى مراتب المحبة والتضحية والإباء. كان الإسلام في بداياته وفي نهايات عهد الراشدين. فطرح على المسلمين موضوع الخلافة، ولم يكونوا قد تسلموا من نبيهم الكريم إشارة إلى تخطي الشورى التي تعودوها والبيعة التي كانوا يبايعونها. فكيف تتحول الخلافة إلى إرث يتناقل من الآباء إلى الأبناء، وكأن الإسلام قد عاد بنظر الحسين إلى الجاهلية التي خرج منها، وإلى الروح القبلية التي أراد أن يخرج الأمة من سجنها، ليبدأ معها تاريخ جديد".

وتابع: "لم يكن الموضوع سياسيا بحتا ولو تعلق باختيار الخليفة، بل كان مبدئيا بامتياز. فوجب الوقوف حياله بحزم واتخاذ القرار الشجاع الذي يقوم الاعوجاج ويضمن للأمة حسن المصير. كان الإسلام مهيئا ليضم إلى صفوفه المؤمنين من العرب والعجم ومن أقطار الدنيا وأصقاع الشعوب.

وتابع: وكانت المساواة فيما بينهم جميعا أمرا جوهريا، لحفظ نقاوة الإسلام وللعمل بالقاعدة الذهبية التي تفرض عدم التفريق بالفضل بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. فتحتمت المواجهة بين الحسين الذي يتمسك بالحق ويدعو إلى إحقاقه رافضا الأخذ بالظروف التي تحلل الأهواء وتفسح في المجال أمام المنافع الذاتية على أنواعها، وبين من خاصموه حتى الموت غير آبهين بالمبادئ الهادية للاسلام والمسلمين.

مضيفاً: فقر قرار الحسين على الثورة ضد الوضع القائم وقرار خصومه على قمع هذه الثورة دون الأخذ بمستلزمات الحق والتوجه المستقبلي الصحيح".

وقال: "لقد كانت فعلا مواجهة حول مصير الإسلام ومسيرته الفضلى، راسمة الصراع بين موقفين متناقضين طالما عرف التاريخ البشري مثلهما في سياقه الطويل، بحيث يتمسك الأول منهما بالحق المطلق والمبادئ الراسخة، ويلجأ الثاني إلى المستنسبات ومن غير الأخذ بالقيم العليا، ولا بالمعروف يؤمر به أو بالمنكر ينهى عنه.

مضيفاً: ذلك أن الكتب السماوية موجودة في متناول الأيدي وفيها كل الوضوح عما ترسم للناس وعما تزود به ضمائرهم من أنوار. لكن هذه الكتب قد يجانبها الناس كبارا وصغارا، ويتجاهلونها، حاكمين ومحكومين. فتتعرض معهم مسيرة التاريخ للشطط ولأخطار المهاوي، عندما يصير الإصلاح أمرا لا مناص منه لتقويم السيرة وللعودة إلى الأصل والأصول.

وأضاف: وغالبا ما يكون هذا العمل مكلفا، لأن جولة الباطل وإن كانت لساعة، إلا أنها حبلى بالشرور وسيئة العواقب. لأجل ذلك وقف الحسين مصلحا وتجلى بأبهى مراتب الصدق والأخلاق والاستعداد لبذل الذات في سبيل الأمة عندما كان لا مناص من بذل الذات في هذا السبيل.

مضيفاً: ألم يقل بهذا المعنى: "إني لم أخرج مفسدا ولا ظالما. وإني خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير سيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب؟".

مضيفاً: واعتبر ان النبل اشرق كله "وأشع على وجه الحسين لملازمته الحق ومحبته للأمة. وبدا واضحا كل الوضوح أنه لم يقصد بثورته شق الإسلام ولا التفريق في صفوف المسلمين، بل كان قاصدا حفظ كل الإسلام وإبقاء كل المسلمين على النهج القويم.

وتابع: غير أن المستحوذين على القوة المادية دون أنوار الحق هم الذين فرضوا النزال ووقعوا في شراكه. وقد يكونون هم أهل الشرك الحقيقيون، الذين يلبسون الباطل لباس الحق ويسعون في الدنيا ضالين ومضلين؟ لقد نازلوا الحسين بالغطرسة والزيف.

وتابع: وكانوا هم الكثرة ورجال الحسين القلة عدة وعددا. ومع ذلك لم يتراجع ولم يتنكر لقضية عادلة بيضاء ولم يأبه بحياته، بل قبل النزال ولو مني بالخسارة المادية، ولو حتى أهرق دمه، فهو يفتدي الأمة بثمن كريم، ولا بد لهذا الفداء من أن يؤتي ثماره بالإصلاح ولو بعد حين.

ويقول: وإني لأصارحكم القول، بأن في كلام السيد المسيح خير توضيح لبطولة الحسين هذه، لا بل لقداسته بتأكيده أن "ما من حب أعظم من هذا وهو أن يبذل الإنسان نفسه فدية عن أحبائه". كذلك أيضا تجلت معاني فداء الحسين بالدعاء التي صعدته شقيقته زينب الصابرة والمكابرة على الجراح عندما ناجت ربها قائلة: "اللهم تقبل منا هذا القربان". إنه قربان أخيها الذي قدم نفسه لأمته كلها وليس لجزء منها أو لبعض من رجالها أيا كان هؤلاء الرجال".

اضاف: "نحن معشر المسيحيين نهتز بأعماقنا لموقف الحسين المفتدي، ولسماعنا من زينب كلاما نرى فيه نفوسنا، فنشعر معكم بقربى روحية لا بد أن تتحول إلى لحمة ثمينة في سبيل الخير وفي تجسيد القيم التي بدونها لا حضارة ولا إنسانية.

كذلك ندرك أن أياديكم مثل أيادينا ممدودة للصفح والمصالحة، وأن قلوبنا وقلوبكم تخفق من أجل الوحدة، إيمانية عند أهل الإيمان، ووطنية عند أبناء الوطن وإنسانية عند جميع الذين هم نظراء في الخلق إن لم يكونوا أخوة في الدين الواحد".

ودعا الى الاتخاذ "من هذه الذكرى الكربلائية المجيدة، ما يجنح بالقلوب والأفكار إلى نصرة كل حق ورفع ألوية العدالة والسلام في بلادنا وفي منطقتنا وفي العالم أجمع. فنزداد يقينا بأن كتب الوحي هي الركن الأساس لكل تاريخ ناصع، وبأن الأولياء والأبطال والقديسين هم الذين ينشرون تعاليم السماء بقلوبهم وعقولهم ونهجهم الحياتي القويم.

وقال: إن الله صالح وحده، لكنه يعطي عباده أن يأتوا بالصالحات وأن يكونوا في بني قومهم من المصلحين. هؤلاء يسألون الله في سرهم أن ينزل كلامه على ألواح قلوبهم فتعكس في الدنيا نوره ودفء محبته. بهذا المعنى لن يكون ازدواج بين الكتب السماوية والأئمة، بل إن فيه تأكيدا بأن الكتب السماوية تبقى مصدر الخير للأئمة والصالحين ومنبع الصدق في أقوالهم والأعمال".

اضاف: "ولنأخذ من المناسبة عبرة ثانية بأن جولة الحق إلى قيام الساعة، فلا يأس من أية حال ولا استسلام أمام القوى الغاشمة أيا كانت فالله أكبر من الكل، وهو سبحانه إن صبر علينا فليمنحنا مجالا للتوبة وهو التواب الرحيم.

أضاف: أما ثورة الحسين فستبقى علامة فارقة في التاريخ بأنه لا بد من أن يصوب، وبأن لا بد من عودة الحق إلى نصابه والعدل إلى محرابه والخير إلى إسعاد الناس فينعموا من خلاله بالأمن والامان.

وقال: إنها فضيلة الرجاء الذي لا يخيب صاحبه والذي يمنع أي تفش للروح الانهزامية أمام تحديات المصير، فالله سبحانه لم يعطنا روح الخوف، بل روح القوة وروح الحرية التي تنزع حواجز المستحيل عن الدروب وعن السالكين فيها تحقيقا لمشيئة الخالق في خلقه".

وتابع: "وإن كان لنا أيضا من عبرة عاشورائية لوضعنا اللبناني في هذه الأيام العصيبة، فهي بأن الظلم مرتعه وخيم وبأن قوى الاستكبار مهما طغت وتجبرت، فهي لن تتمكن من محو حروف الحق من قاموس الوجود. لقد وقع على الحسين ظلم رهيب فما أراد إلا الحق وأن تكون أمته في مأمن من الخطأ والخطيئة. وصمد أمام الطغيان وأهرق دمه من أجل إصلاح الأمور بفعل شهادته القصوى.

وأضاف: وإنا على يقين من أن الحسين لم يحسب بني أمته أعداء بل إخوة مضللين. وهكذا في لبنان، فليس بيننا أعداء وأي موقف يكون لنا من الوطن والمواطنين يجب أن يتخذ أمام الله والتاريخ منحى الانقاذ للوحدة الوطنية والحفاظ على مصالح المواطنين الى أقصى الحدود.

وتابع: فكما انطلقت شهادة الحسين من أجل إصلاح الأمة وصون وحدتها وبقاء عزتها، هكذا ينطلق كل عمل وطني قويم نلجأ إليه فلا يسير إلا بهدي المبدأ القاضي بتعميم الخير على الجميع من دون استثناء. إن الوطن أكبر من أطيافه والحفاظ على كل منها يبقى مسؤولية يحملها المواطنون معا فلا يقعوا في غربة تفرق بين صفوفهم. ذلك أن الغربة من الشيطان وليست من أعمال الله ولا من أوامره البتة.

وقال: فحذار أن نرضى بالغربة فيما بيننا وهي ما تبغيه لنا لعبة الأمم إذ تقيم المسلم بوجه المسلم والمسيحي بوجه المسيحي كما تنفث بين المسحيين والمسلمين سموما لقتل المودة التي أنزلها الله في قلوبهم، فلا تقوم لها قائمة بعد. ولنرد عنا معا كل المظالم ولنكن يدا واحدة تمنع أيدي الاستكبار من أن تمتد علينا وتنال منا".

وختم المطران مطر: "إننا بوحدتنا وبهدي من السماء المنحنية علينا نبقى في هذا الشرق حملة النور إلى العالم، فيما الظالمون يحملون الجهل والإثم وليس فيهم خشية لله. لقد سأل الحسين إبان ثورته عن أهل العراق فقيل له "أن قلوبهم معك وسيوفهم عليك". أما هو فلقد أبى في أمته إلا أن تكون قلوب أبنائها وسيوفهم في موقع واحد. فاهدنا اللهم بطلبة أوليائك وأصفيائك سواء السبيل".