تسلق نحو باب القيامة

قصة ، من : لطفي جميل محمد



- يوماً ما سألج داخله .....
لم يعرف على وجه التحديد صاحب هذه الجملة الجريئة ، بل متى قيلت ، بأية مناسبة فرح، حزن ، بأي مهرجان ، أو مناسبة طقسية . هل كان الجد الثامن عشر للقبيلة مسؤولاً عنها . أم أحد كهنة القرية ، أم عَرّافها ،أحد فرسانها ، أم رويت على لسان أحد سفهائها .. ؟ .

إذا لم يتجرأ أحد من قبل على شتمه ، أو محاولة التفكير بالولوج داخله ، فض أسراره ، قوانينه المحركة لحاضرهم ، مستقبلهم ، ماضيهم المليء ربما بالوقائع أو محض خرافات . فأية محاولة من هذا القبيل ، ستؤدي حتماً بالقرية إلى مصير اسود . كما لم يتجرأ أحد قط على وصفه - مجرد وصف- فقط ما حملته مدوناتهم ، إذ تشير : ( أن أحد رجالات القرية ما أن فكر في زمن ما ، بالولوج داخله ، حتى أحيلت القرية إلى مجرد أطلال . فقد كانت الأعاصير كمطارق فولاذ يصعب تحديد حجمها، تتهاوى من كل اتجاه من السماء على القرية . ناهيك عن الزلازل والصواعق . حتى كان فضاء القرية الرمادي تتأرجح في أعاليه جميع حيوانات القرية ، رؤوس الأطفال ، أفخاذ الرجال ، أحشاء النساء . فتبدو عندما ترتطم ببعضها كأنها تنتقم من نفسها . لذا لم يتجرأ أحد بعد على التفكير فيه ، أو مجرد وصفه ..! )

* * *

ربما صار عمره الان ، اكثر من ثلاثين عاماً . لكنه مذ خمسة وعشرين عاماً ، كان يجلس تحت ظل شجرة الصفصاف ، يفكر بطريقة لفض أسرار ذلك الكهف .

فعندما عرض الموضوع بشيء من الوجل على أصدقائه الأربعة ، تنبأوا بحدوث أمرٍ ما ، له أو للقرية .. في صباح اليوم التالي ، بعدما شاهدوه معافى ، تجرأ بشرح تفاصيل خطته .. حلمهُ الأسطوري لدخول الكهف . مما اجبر أحدهم للنزول هارباً إلى القرية خوفاً .. أما الثلاثة ، بالرغم من ارتعادِ أوصالهم ، حرصوا على سماع تفاصيل خطته المهلكة . إلا انهم لم يوافقوه بالمغامرة ، إلا بعد مرور سبعة أيام يترقبون خلالها حدوث أي أمر له أو للقرية .

بالرغم من انقضاء الأيام السبعة دون حدوث أمر مفاجئ .. حيث ظلت السماء صافية ، لا اثر لأي إعصار أو موتَ حقولِ الحنطةِ أو إجهاض حامل .. حتى كلابهم ، طيلة الليالي السبع كانت اكثر هدوءاً من قبل . كذلك الثلاثة ، لم تظهر على رؤوسهم أية قرون . أو يمتلئ جسدهم بالوبرِ ، وتنموا أظافرهم بشكل وحشي .. الديدان لم تظهر من مخارجهم ... !

جميع هذه التطورات ، لم تدفعهم برغم انقضاء شرطهم بالموافقة على مشروع فض إسرار ذلك الكهف .

( إن عـدم ظهور أي علامات لكوارث أو أنباء شؤم ، ربما عُدَ أمر مؤجل لكارثةٍ اكبر .. دمارٌ اكثر ) حسب اعتقادهم . لذا طلبوا أسبوعا آخر . فانقضى هو الآخر بلا حوادث . لكنهم طلبوا أسبوعا ثالثاً / رابعاً / خامساً / سادساً ... / جميعها انقضت من دون حدوث أمرٍ مفزع .. سوى عصافير السنونو ، قيل إنها جاءت في وقت مبكر .

تمادى أصحابه اكثـر عندمـا طلبوا شهراً إضافياً – إذا ما رغب برفقتهم – فانفجر غاضباً عندما اخبرهم : ( بأنه سيقوم بالمهمةِ لوحده . وان الأمر لا يتعدى التحضيرات الضرورية لرحلته . وهذا لا يتجاوز اليوم الواحد . وفجر غد ، سيشرع بمهمته – كما اخبرهم – بان شجاعتهُ ستجعل منه شخصاً أسطورياً .. جديراً بالاحترام على صعيد القرية والقرى المجاورة .. سيكون مهاباً من قبل الشيخ والصبي .. سيكون بمقدوره إن يتزوج كل الصبايا .. بل جميع نساء القرية.. سيبني له قصراً ، بل قصوراً عدة .. سيشتري كل خيول الأرض .. القرية سيجعلها جنةً خالصةً له وحده ، تشغلها العذارى .. أما العبيد ، فسيكونون بلا عدد يمكن أن يحصى . وأول من سينزل بهم القصاص سيكونون أصدقاءه .. سيحيلهم إلى ابشع هزأ . أما ذلك الذي فر ، سيجعله بلا عضو .. سيزوجه إناث الكلاب .. !! )

بالتحديد لم تعرف بعد الأسباب أو الدوافع التي جعلت رفاقه يوافقون على فكرة الانتحار هذه . لكن البعض تعذر بعلل قد تكون مناسبة بعض الشيء ، عندما اجمعوا على تمتع صديقهم بقوى سحرية ، أثرت على تغيير قناعتهم . ورأى البعض الآخر ، إن الطمع وإغراءات النفس، قد أعمت بصيرتهم فلم يضعوا أي حسابات لمستقبل قريتهم الهادئة التي تغفو تحت ظل ذلك الكهف وحماية الأرواح التي تسكنه . ولم يفكروا بالعواقب التي تحدثت عنها الأجيال منذ مئات الأعوام .

بعد أن جمعوا ما يحتاجونه لرحلتهم ، انطلقوا فجر ذلك اليوم التاريخي ، الذي عدت به رحلتهم حدثاً لا يواز يه أي حدث آخر ، حتى الأحداث الكونية وصفت وقتها من الأحداث التي لم تعد تستحق الذكر أو التداول ، أمام هذه السابقة ، التي قدر لها أن تتفجر على أيدي أربعة مجانين ، لتكون درساً قاسياً لأجيال قادمة وعصور ربما ستمتد إلى ما لا نهاية ، حتى يولد مجنون آخر ، يحاول أن يغير ما هو مقدر ومكتوب بقرطاس قريتهم .

تسلقوا خلسة ، تلفهم ما تبقى من عباءة الليل ، عابرين مساحات لم يطأها قدم أحد من قبل ، حتى الحيوانات كانت توجد متيبسة عند حافته الدنيا . جرتهم أقدامهم كأنهم يخوضون بوحل او مستنقع ، لم يقدروا بأي خطو قادم ستغوص بهم الأرض .. أي خطو قادم ستنهار فتجرفهم صخور قمته الجرداء ، التي تبدو من الأسفل كأنها مصابة بالجدري .

كانت تستوقفهم خطاهم من دون قصد مسبق عند قطعهم أي مسافة ، ليرموا ببصرهم صوب قريتهم التي كلما صعدوا كانت تنكمش فتصغر وتتقزم فيها جميع الأشياء ، ليتطلعوا إلى كل شيء فيها، ثم يفتشوا السماء بحثاً عما هو مريب ، نيزكاً مثلاً ، إعصاراً يقلب عالي قريتهم سافلها . حتى وصلوا إلى رحبةٍ أمام الكهف المنشود / بلا قلوب / أوصالهم لم تتوقف لحظة عن الارتعاد .. تسمروا هناك ليفاجئ بعضهم البعض بأسئلة لم يقووا على نطقها أو العثور على إجابات محددة .. عن سبب وجودهم ؟ كيف انتهوا إلى هنا ؟ من دفعهم ؟ لكن نظرة واحدة لقريتهم التي تبدو أطلالاً صغيرة يحتضنها الوادي بوداعة ، تمنحهم فرصة لالتقاط أنفاسهم ، بل تشجع البعض ليرتشف جرعة ماء . أما قائدهم الذي لبسه الخوف منذ خمسة وعشرين عاماً ، لم يمنعه أن يدعك بأسنانه المرتجفة قطعة خبز - ليس لسد رمقه بل ليؤكد للجميع رباطة جأشه .

بقلب ربما يوشك على التوقف قال :

(( ليس الهدوء هذا ، بنذير شؤم . بل حقيقة منطقية لتسفيه جميع الخرافات عما قيل أو نسب لهذا الكهف البائس من أساطير . أما محاولتنا هذه لم تعد خرقاً لقوانين الطبيعة أو القرية ، ليس خرقاً لأي اعتقاد ، ليس غير مجرد عملية كشف . وان الأرواح ، قطعاً لا تسكن الأشياء الميتة ألبته ، بل تسكن الإنسان .. تسكننا .. بالأحرى نحن الذين نمنحها الفرصة بان تستوطن أنفسنا ، لنكون مهزومين من داخلنا دائماً .. ليس إلا برهة حتى أفض بكارة هذه الكهف . ساكون أول الداخلين ، وبإمكانكم اللحاق بي ، أو الانتظار . ))

تقدم بخطى وئيدة . عند مدخل الكهف الذي لا زال مظلماً برغم مواجهته لأشعة شمس الصباح . اصطك الثلاثة ، فصموا بأيديهم آذانهم . ولتتقرح اجفانهم جراء غلق عيونهم المتشنج ، فيجثيان راكعين على سطح تلك الرحبة ، مولولين كما لو كانوا يؤدون طقساً روحياً ما .. ولان الأرض لم تهتز تحتهم أو تقذف الرياح بصدورهم ، أو تجرح حبات الرمل المقذوف أي جزء من جلودهم . انتصبوا ليجدوا قائدهم داخل رحم الكهف يومئ لهم بالدخول .

تحركوا بتثاقل ، كأن أحد ما يدفعهم من الخلف ، لاختراق جدار ظلمته ، ليكونوا بجوار قائدهم دون ان يقووا على النبس ببنت شفه . سوى ارتعاد أجسادهم ، واصطكاك أسنانهم التي دفعت رفيقهم مقترحاً اخذ قسط من الراحة وتناول فطورهم داخل كهف الأسرار .

ربما كان يبغي أن يعيدوا النظر في ما حفظوه من مئات السنين عن الخرافة العظمى ، أقترح أن يوقدوا ناراً ، لتحضير فطورهم ، ولطرد بعض من ظلمة الكهف الذي بدأ ينهزم بأول جولة.

بعد جمع ما يساعدهم على إيقاد نارهم ، شكلوا دائرة حول كومة الحطب ، محاولين إشعاله. ما إن اتقد حتى تصاعد اللهب بهدوء ، كاشفاً مساحات اكثر لجدران تزحف إلى عمق بلا نهاية، تملؤها رسوم لم يتمكنوا من إدراك رموزها أو فك طلاسمها . حتى فزعت آلاف الخفافيش . زعقت لتخرج كسحابة سوداء ، سيل اسود لا ينقطع . صار بعضها يتساقط عليهم اثر ارتطامها ببعضها . وهم يقذفوها بصراخ يتردد بين جدران الكهف ، فينمو ليصبح كالدوي - يروى انه سمع بأماكن عدة من المعمورة - ربما كان السبب في تصدع صخور بوابة الكهف لتنهار فتغلق المدخل برمته . مخلفة سحابة غبار رمادية - يقال أنها منعت أشعة الشمس من التسلل إلى الأرض ، فأحالت نهارات القرية إلى ليل دام عدة أيام ـ .

أما الأصحاب الأربعة فقد هربوا متوغلين في عمق نفق الكهف ، منكمشين خلف إحدى زوايا صخوره ، ليسجلوا بذاكرتهم ما سمعوه من دون أن يروه .

أما قريتهم الوديعة ، التي كانت لتوها تودع بقايا ليلتها ، فقد أفزعها الانهيار ، من دون أن يمنح أحد فرصة الفرار . فتمكنت الصخور المتدحرجة بغضب ، طحن منازلها ، لتحيلها إلى دقيق حطام ، أو تسوي بعضها تماماً ووجه الأرض ، فتبدوا كمساحات خطها قلم صبي على ورق ابيض ملوث ، بغير قصد أو معنى محددين . ثم ما انفك الانهيار فحمل ما تبقى أو تناثر من بقايا القرية ،أجساد نسائها ، رجالها ، أطفالها، حيواناتها المقطعة ، إعصار لم تشهد مثله من قبل ليجرف ما على سطحها فيقذفه متطايراً إلى أعالي السماء ، كأوراق من قمامة تتصاعد بخفة إلى كبد السماء .

ما إن توقف الإعصار بعد عدة أيام لم يجر عدها لتزاوج الليل بالنهار ، حتى أمطرت السماء مطراً غريباً ، فأول ما نزل - في اليوم الأول - بقايا أجساد بشرية وحيوانية ، بقايا أثاث ، أحجار .

أما - اليوم الثاني - فقد أمطرت السماء دماً قانياً ، صبغ سطح القرية بالأحمر ، ثم ليشكل أخيراً جداول من علق .

فجاء - اليوم الثالث - لتمطر السماء ماء اسود ليجرف ما علق على وجهها الدامي ، فينسحب إلى أماكن غير معلومة مخلفاً أرضا فرشت ببساط اسود متقيح .

- اليوم الرابع - تنشق الأرض لتبلع وجهها تماماً .

بعد أن همد كل شيء ، تحرك جمع من القرى المجاورة ، يتقدمهم ذلك الذي فر خارج القرية - قبل تهور صحبه بمحاولتهم المدمرة - يحملون أشياء ربما تعني أو لا تعني شيئاً . قد تكون نوعاً من القرابين أو أيقونات ، اعتذاراً للأرواح الغاضبة ، التي حاول نفر ضال قض مضجعها . يتحركون ببطيء تسبقهم تراتيلهم المعتذرة . فيضعون كل ما حملوه عند حافة السفح . وقبل المساء انكفؤا عائدين ترافقهم تراتيلهم ودموعهم .

باستثناء ذلك الذي رفض رفقة أصدقائه المغامرين ، فقد فضل البقاء جاثياً على الأرض يتطلع إلى قمة الجبل الذي بدأت تغطيه سحب ضبابية ، متوسلاً رضاه ، مغالياً بفطنته .. !

* * *

أما الأربعة ، فيقال والعهدة على الراوي (( بأن أحدهم وجد منتفخاً عند سواحل بحر الجنوب / أم الاثنين الآخرين فقد وجدا في مكانٍ يجدان في إقامة الصلاة اعتذاراً لتلك الأرواح . أما ذلك الجريء فيعتقد بأنه مازال داخل الكهف رهينة لتلك الأرواح . ورأيّ آخر يدعي بأنه نزل ليبني من أشلاء قريته أكبر مقبرة على وجه الأرض )) .




ميسان ـ شباط 1999