النتائج 1 إلى 13 من 13
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي د. جمال حسين: البصرة كما كانت كما هي الآن

    البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن - 1
    الأنواء البصرية الأولى في تشطيب المعالم الممحوة والمندثرة
    البصرة ـ د. جمال حسين:
    تطلب الأمر نحو سنتين لكي نقرّ بأن البصرة التي تعرفونها، قد تغيرت جدا، إلى لدرجة لا يمكن اللحاق بحقائق اندثار معالمها وتحطيم إنائها وتلاشي غنائها وطمر جمالها وعتمة وهجها.
    سنتان، نمني النفس بعدم تصديق العين والتلاعب بالشعور بأن هذا المحجر ليس هو المدينة الفرحة للغاية، وإن شقوقها ليست سوى ندوب شيخوخة طبيعية.

    سنتان نؤجل الحديث عنها والاقتراب منها، فالبصرة ليست فضولاً ولا مشروعاً للكتابة، بل النافذة والشجرة وندى الطفولة ولحاء الصبا والشباب المصقول بالمدينة التي كانت كلها، بمن فيها: صح!

    ونظن ان الحين قد أزف لفتح ملفات وجعها وجفافها ومائها الخابط وبساتينها المجدبة ونفطها المهرب وحلمها المسروق، جنائنها المتصحرة وأطيافها المسحوقة بعلب الصفيح وفتياتها المترعرعات تحت أكواخ القصب وجامعات الملح وقطارها الساكن وموانئها العتيقة وجزرها الحصباء.

    سنروي لكم على حلقات ما حل بكل ذلك، وعن الزبير وأبي الخصيب والتنومة ومهبط آدم والفاو والسيبة والعشار والكورنيش وشط العرب وأسواقها الشعبية وسينماتها ومسارحها المنقرضة ونواديها المقفلة وشوارعها المتغيرة المنعطفات والأسماء وعن «الصبور» الشحيح والتمر المنفرد والحنـّة المنشقة من أرضها، مكتباتها المتئدة وساعاتها المزالة وساحاتها، مقابرها ومساجدها، تاريخها المجيد وحاضرها المجروح وناقلاتها المصادرة، قواربها وسفن البحارة اللاطمة شواطئها المستباحة، وأنهارها الرخوة بالغرين والمسدودة بالطين والعجلات القديمة ورايات الأحزاب، أبوابها ومزاليجها، مساميرها وأفاريزها وفقاعات مدينة كانت قبل ربع قرن تسمى فينيسيا الشرق، مطلية بالزينة الفطرية ومزوقة بانغماس الحب في مشاعر الجميع.

    سنبحث فيما حلّ بها وما أمرها ومن ناهيها، بمنظار عينين تعبتا كثيرا من الغوص في أعماقها وتشطيب معالمها الممحوة بلا فطنة، محجوزة مسبقا لتقديمها الى تلك البصرة التي نعرفها، إبصار قسري لإخراجها للنور ولنمو جوانحها المرهفة.



    معالم البصرة ليست أمكنة، بل مداخلها ورشاقتها وخلدها وغرّها وغرورها، تدبير المدينة وطبائعها ومسلك أقوامها، ما هو شائع ونادر في زمانها وإمتاعها.

    فليس لمعالمها شبيه لا في العراق ولا في مثيلاتها الخليجيات، فمشهدها جار وتأويلها سحر وتقلبات مضيـّها ترضع التقليد وتزهر حداثة وبضراوة دوما، كانت البصرة تزخر بالجديد وبالإفلات من العادي والفرار من السكون. فلنسترجع ما كانت عليه وما غدت، فبدون هذا المدخل، لا يمكن تصور وجعها ولا تنشيف عرقها وتضميد جراحها.

    أمـّنا البصرة

    للبصرة غريزة أمومة مع أبنائها وتعرفهم عن بعد وتشم رائحتهم مهما ابتعدوا عنها دهوراً ودهوراً. وكما الأم تماما يحملها البصريون ضميرا وأمرا منفذا بلا حجاب أو حجج وتمهيدات ومهما بلغت بها الخطوب وكثرت تجاعيدها وهرم صوتها واغبرت عيناها تعبر بأسئلتها نحوك: لماذا لم تر الساعة ولا الجسر ولا تجمعات المتناقشين والمتنزهين والضائعين والمطربين الجوالين وكازينوهات الكورنيش والبحارة وميدان الدواليب.. وغيرها.. وغيرها.

    وفي أول حوار مع رجل بعمرنا، تأكدنا بأن اندثار المعالم ليس من اكتشافنا، فما أن سألته عن «ألبان البجاري» قال بشكل حاسم: أوه.. أنت بصري أصيل وقديم، راح مع أهله.

    ويبدو أن أشياء كثيرة راحت مع أهلها ورحلت مع زمانها، لابد من استرجاعها كتحية ينبغي تقديمها لتلك السنين وبراءة المدينة.

    الكسلة

    نبدأ بها، لكونها أكبر وأمرح كرنفال شعبي ابتدعته البصرة أيام نوروز التي تتدفق خطانا فيه ضارعة تراص البصرة وفيئها المبعثر. ولا ينافسها في هذا الفرح أي مدينة في العراق والإقليم، ناهيك عن العالم برمته.

    فالبصريون يخرجون لثلاثة أيام عن بكرة مدينتهم ليسكنوا على شواطئ شط العرب في الجهة المعروفة بكورنيش العشار حتى السرّاجي. هناك يفطرون ويتغدون ويتعشون، يرقصون ويغنون، ومن الصعب أن تجد مترا مربعا خالياً من البهجة وحركات الناس.

    وكان بحارة البواخر والسفن، التي أسعفها الحظ ان يكون دورها في التوجه الى ميناء المعقل في العشرة الأواخر من مارس لتفرغ حمولتها، من كل القوميات والأجناس والشركات العالمية، يساهمون في فتح أبواب جديدة للفرح.

    هذه أخلاق وأعراف البحارة، فلا يمرحون في مدينة يضربها الحداد والأمراض والكوارث، بل يشاركون من على اليابسة ويتقاسمون وإياه الألم والزهو على السواء، وحالهم كالأمواج دوما على وشك الرحيل.

    وكل باخرة كانت تقدم لأهل البصرة أيام «الكسلة» ما تيسر لها من إبداعات: الألعاب النارية على اختلاف بهجتها، إنارة السماء بمختلف أنواعها وعزف الموسيقى، وحتى أبواقها المعروفة، كانت أجمل معزوفة يسمعها البصري. والكثير جدا من الطواقم كانوا يستضيفون الناس بالآلاف على متن البواخر لينزهوهم في شط العرب ويفتحون لهم كل خزائنهم من أكل وشرب.

    كانت «الكسلة» عيداً حقيقياً لأي بصري لا يضاهيه أي فرح ومن الصعب جدا العثور على شخص غير سعيد في تلك الأيام.

    وأجمل ما في «الكسلة» انها كرنفال حقيقي، خال من الجمهور، فالكل مشارك فيه، لحظاته دائبة التغيير ومهما كانت زوارق النهر متآكلة، فركابها يزيدون من ألوانها وبريقها. أنها كانت فعلا خروجاً جماعياً الى النور.

    لا يعرف من يسكن البصرة الآن وعمره أقل من ثلاثين سنة مؤلمة، عمّ نتحدث!

    مخيمات الأنس

    ما أن ينقضي العصر، من مارس حتى بلوغ الشتاء، يتدفق البصريون بكل ما أوتوا من وسائل نقل وخيول وحمير الى منطقة الأثل (منطقة صحراوية تكثر فيها الأشجار البرية بما تشبه الغابات في الصحراء).

    يخيمون هناك لعدة ليال من «الأثل» حتى «جبل سنام» ووصولا الى البحر.

    كان منظر الخيام الملتوية كقنوات داكنة تصب في البحر ليس له مثيل في الإقليم كله وعلـّم البصريون الآخرين، كيفية الابتهاج والرفقة الحسنة.

    حاليا، المخيمات للمشردين ومن لا مأوى لهم وللطم والبكاء وتقبل العزاء تلو العزاء.


    سينمات الصيف

    حسبناها بالذاكرة 17 سينما صيفية في البصرة. كانت الفتيات يرتدين فيها أجمل من ممثلات هوليود! مقسمة الى أربعة أقسام طبقية، القريب من الشاشة كنا نتردد عليه بالطبع ويسمى «أبوالأربعين» (ترجمتها: قيمة تذكرته 40 فلسا لا غير ولا توجد فيه مقاعد بل يكتفون بالمصاطب الخشبية، فرواده الفقراء كثيرون جدا ولا تكفيهم الكراسي وأحيانا تصل الجماهير الى الشاشة).

    وما بعده هناك «أبوالثمانين» وفوقه قليلا «أبوالتسعين»، وفي المؤخرة تنتصب الألواج التي كان سعرها لا يتعدى ربع دينار!

    ومثل هذا العدد كانت السينمات الشتوية، أي المغلقة. وبالرغم من هذا العدد الكبير للسينمات، إلا أنها لا تتنافس، فكل واحدة تخصصت بنوع معين من الأفلام، ولها أسلوبها الخاص في استقبال الزبائن وحتى طريقة جلوسهم. والشتويات تعمل صيفا، فكل شيء معد حسب التكييف المركزي، حيث الكهرباء لم تنقطع في تلك الأوقات إلا نادرا.

    وكان «الأعور» وهو مشغل الفيلم كما يطلق البصريون عليه شخصية مهمة، فهو الذي يقرر عرض اللقطات الخاصة وله حظوة بين رواد السينما الذين يتوسلون إليه لكي يروي لهم تفاصيل اللقطات التي قام بقصها.

    وهناك «أبواللايت» الشخصية المهمة الثانية الذي يمكنه أن يدخلك بلا تذكرة لمشاهدة نصف الفيلم بعد التأكد التام من خلو بعض الكراسي، تماما يمكن لـ «أبوالبيبسي» لعب هذا الدور حتى لو بمساعدة «الدرنفيس» الذي يستخدمه لفتح القناني.

    وحملة إعلانات الأفلام الجوالون في العشار يعتبرون أكثر شهرة من المحافظ أو أي فنان محلي أو أديب، فلا يوجد بصري أصيل وقديم لا يعرف «تومان» الذي كان يرفع الإعلان بيد ويعزف «الفيفرة» بأنفه!

    لم يتحسر البصريون على أي فيلم ظهر في العالم، فكانوا يشاهدونها مع جمهور لندن ونيويورك والقاهرة في وقت واحد ولم يمنع عنهم أي فيلم مهما كان مضمونه.

    حاليا، السينمات ممنوعة في البصرة ومن يتفوه بهذه اللفظة يجلدونه!


    النوادي الاجتماعية


    لكل بصري له مهنة، ناد يستريح به في المساء. وكان أشهرها على الإطلاق نادي الميناء أو «البورت كلوب» كما اشتهرت تسميته لدى كبار الموظفين في تلك الأوقات.

    يليه في الأهمية نادي الأطباء والمهندسين والمعلمين والضباط وأساتذة الجامعة. وبالمناسبة هذه لم تكن نواد للشرب والسكر، فقد كانت العوائل والأطفال يقضون أمسياتهم فيها، أما الذين لا مهنة محددة لهم، فكان بوسعهم ريادة الكثير جدا من النوادي الخاصة.

    ولكون البصرة جمعت العديد من الملل والقوميات والأديان، فقد اشتهرت بها الأندية المنشأة حسب هذه الأطياف. واشتهرت كثيراً، في وقتها، أندية الآشوريين والسريان والأرمن والصابئة في عقد الأمسيات الثقافية والأدبية والموسيقية.

    ولعب «نادي الفنون» دورا كبيرا في مطلع السبعينات كمؤسسة ثقافية حيث كان يقدم نحو 15 مسرحية في يوم المسرح العالمي في وقت واحد، ناهيك عن ان قاعاته لم تخل من معرض تشكيلي على مدار العام.

    هذا النادي وغيره التي ذكرناها تحولت إلى إسطبلات ينشر فيها الأميون أيديولوجيا التسلط، وغابت تماما حتى من ذاكرة المدينة.


    قاعات الثقافة


    على منصاتها ألقى شعره الجواهري وأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وسعدي يوسف والبياتي وبلند الحيدري وكل العمالقة الآخرين. وتجرع عليها دريد لحام من «كأس الوطن» وأطرب الناس منها فؤاد سالم وأنجبت أول أوبريت غنائي في تاريخ الفن العراقي.

    لا ينسى البصريون ذلك التدافع الممتع أمام بوابات قاعة الموانئ لحضور جلسة شعر وتلك الناصية المزهوة بالورود أمام قاعة «مبرة البهجة» التي أهدت العراق أكبر مطربيه وفنانيه التشكيليين والممثلين. ولا يمكنهم أن يمحو شعورهم ما أن يمروا على قاعة التربية التي كانت مرضعة للفنانين والشعراء ولا قاعة بهو الإدارة المحلية الذي وقف على خشبته تاريخ المدينة بأكمله، كما كان الحال لقاعة الهلال الأحمر.

    قاعات المخلوقات الجميلة وخيرة ما تفجرت به قريحة البصرة تبدلت وأصبح من الصعب التعرف عليها وبدت كأطلال باعثة للأسى.


    حي الطرب


    ينتشر في منطقة معزولة خارج المدينة، لمن يريد اللهو والاستمتاع وكنس الكآبة من نفسه وشراء الرضا. يعمل 24 ساعة في اليوم وفيه تقاليد خاصة بالغجر الذين يشكلون غالبيته العظمى.

    هو واحة السلام والغناء والرقص والهزل والضحك وابتداع الخيالات وطرد الضجر، وكل من «ينحدر» وتطأ رغباته هذا الحي يعد ضمن سكانه ولديه الحق في فتح باب أي بيت بلا حمرة أو تردد، والانضمام الى من فيه ومشاركتهم يسرهم وعسرهم لقاء مبلغ كان بسيطا على الجميع.

    ليس لهذا الحي ذكر الآن، إلا في مدونات المدينة وضباع الأنس المتساقطة أنيابهم.

    حدائق السلوى


    حين تلبس أجمل ما عندك وتخرج من البيت في البصرة، يعني أنك ستتجول في الحدائق المطلة على شط العرب، قبل أن تختتم أمسيتك في واحدة من أماكن الإمتاع والمؤانسة المذكورة.

    فحديقة الأندلس، صممت على الطراز الإنكليزي، حيث كان اغلبهم يسكنون هناك بالقرب من الميناء ومحطة السكك. وتوارث البصريون وعمال الموانئ حرفة الاعتناء بأرقى الزهور الأوروبية، التي كانت تنتشر بأشكال هندسية تتناسق مع النافورات الملونة التي تسرح بهاء في النفس وتشجعك لإطالة النظر إليها لترصيع القلب بنشوتها.

    ولـ «حديقة الأمة» التي تتوسط الكورنيش رائحة خاصة تدوّر رأسك بالياس وعذوق التمر الدانيات القطوف وذلك الملمس المسموع لنافورتها الموسيقية وحمرة مصطباتها الداكنة والتقدم المهذب للمصورين المتجولين لالتقاط صورة العمر لك.

    وكذا الحال في حدائق «السرّاجي» و «الخورة» التي خططتها الطبيعة بالخضرة والماء والوجوه الحسنة وعباب الألفة الفسيحة.

    احتلوا النهر والضفاف وزمجرت أبواق التحذير في ذلك اليوم الذي قرر فيه «السيد الرئيس» الاستيلاء على حديقة الأمة وإهدائها الى زوجته ووضع يده على حدائق السرّاجي وبناء مجمع رئاسي من القصور التي لم تسمح له الأقدار حتى برؤيتها، بعد أن قام بإغلاق الكورنيش عند تقاطع الجزائر وحتى نهاية السراجي وأغلق شط العرب بالكامل. وأتعس ما قام به، كان تهديم «قصر السباع» التراثي لصاحبه الشيخ خزعل أمير المحمرة وإزالة تلك الأسود التي لا يوجد «بصري أصيل وقديم» لم يصور معها.

    المقاهي


    لعبت المقاهي البصرية دور الجرس وأخذت على عاتقها الصيحة وتبادل الكتب المسموحة والممنوعة وتوديع من أوشك على الهروب من الوطن وكسب الصديق الجديد الى الحزب الثوري ومراجعة الدروس والمحاضرات ووضع السيناريو المحكم لمصارحة الحبيبة.

    وكانت الأحزاب ومثقفيها يركزون تواجدهم على مقهى بعينه، فكانت أشبه بالصالونات الثقافية والسياسية يجلس فيها أستاذ الجامعة مع القصاب والمراهق مع الشيخ.

    وتميزت مقاهي «أبومضر» و«الشناشيل» و«14 تموز» وكازينو البدر التي كانت تطل مباشرة على شط العرب وفيها قاعات للجلوس وممارسة الألعاب كالدومينو والطاولي وقاعة أخرى للمطالعة يرتادها طلاب الجامعة على الأغلب وفيها قسم مظلل بالأشجار يستقبل العائلات.

    وغيرها، فان الكورنيش كله ينقلك من مقهى الى آخر، أزيلت جميعها لتنصب مكانها عشرات التماثيل لضباط سقطوا في الحرب وقتلوا بدورهم فرحة الكورنيش.

    لا تعثر الآن على مقهى في البصرة تجلس فيه، سوى زوايا لبيع الشاي والحامض ومصطبة واحدة أو اثنتين تخصص لمن يطلب أكلا من مطعم مجاور.

    ميدان الدواليب


    كل الناس بمختلف الأعمار والأجناس كانوا يتلهون هناك في الأعياد والمناسبات وأحيانا يبتكر الناس هذه الفرص أو يمددون أوقات الفرح.

    والفرجة مجانية، غير متعالية وسهلة والمحترفون في إيداع السعادة في قلوب الخلق يقدمونها اليك باقات بيضا، وما عليك سوى عبور القنطرة والاندفاع من أعماقك لمسّ فرط طيبتهم.

    تجد هناك كل الألعاب الماكرة، فرارات الحظ و«فوق السبعة وتحتها» والزهر و«اللكو» واختبارات القوة وخيمة السيرك المحلي الذي تنفث فيه نساء غريبات النار من أفواههن وتخرج الطيور والقطط من الصناديق الفارغة وتغرز فيه السكاكين في الجسد دون أن يصاب المرء أذى.

    ستتعرف هناك على «تومان» أسطورة المدينة ومهرجها الأوحد بلا منازع وستسمع كل الأغاني التي ترغب وحسب الطلب وسيملأ أذنيك صوت أبو «الدنبلة» وطلبات الجموع بـ «جرخلة» لتغيير الحظ. سيفضون أفواه من تتعثر كلماتهم وينطقون بذكريات ذلك الميدان الساحر وسيتمنون الاستلقاء على وسادة نحل غاضب، من طرح الاقتراح الشرعي بالحديث عن أيام زمان!

    الخشـّابة


    ألذ ّ المجموعات البشرية التي قطنت البصرة: رعاة «الكيف» وفاكهة البهجة فبرنامجهم الفرح ونهجهم السعادة، أولئك الفتية والرجال السمر الذين يعزفون على الدفوف و«الدنابك» وفي أفضل حال يحمل أكبرهم العود ليضبط الإيقاع على ظهره الخشبي ويوزع الموسيقى بلسانه!

    لم ينجب العراق «كاسور» (وهو ضابط الإيقاع) مثل سعد اليابس ولا ينسى أحد فرق الخشـّابة الذين كانوا يحيون أمسياتهم في الشوارع والساحات.. والفرجة ببلاش.

    واشتهرت فرق «أبو دلم» و«حسين بتور» و«ربيــّع» في الثبات طوال الستينات فيما ابتكره أهل البصرة بفرق الشوارع، أو الفرق الجوالة التي اشتهرت في أوروبا بالمناسبة.

    ولا يطلب هؤلاء الموسيقيون الشعبيون نقودا لإحياء عرس أو طهور أو أي مناسبة أخرى، يكفي أن تمنحهم فرصة للغناء وتعشيهم وتمنحهم «سطل» عرق يغرفون منه حتى الصباح.

    وحفلاتهم بلا جمهور، لأن جميع الموجودين مشاركين، كبارا وصغارا، كلهم يشاركون في الغناء و«الصفكة» البصرية المعروفة، وحتى عندما يقررون العودة بباص خشبي أو مشيا الى بيوتهم، فإنهم يستمرون في الغناء حتى آخر نفس.


    الطبكة


    أو «العبـّارة» التي تنقل الناس ما بين ضفتي شط العرب وكان لها هناك مرفآن، واحد تابع لعبـّارات البلدية وآخر أنشأته جامعة البصرة حين كان مقرها في الشاطئ الآخر الواقع في قضاء التنومة متاخمة للحدود مع إيران تقريبا.

    وكانوا يطلقون عليها أسماء بحارة عرب كابن ماجد وابن بطوطة وغيرهم و«أبوالطبكه» أو سائقها معروف لدى كل أهل البصرة.

    ولـ «طبكة» الجامعة حكايات أجيال بأكملها، فمنها عبر يوميا ذهابا وإيابا كل الأطباء والمهندسين والعلماء والمدرسين. ولا يسمح عبور غير طلاب الجامعة وسيارات الأساتذة (تسع في كل مرة ثلاث سيارات فقط)، وكانت حلم طلاب الثانوية ولا يكلفك معرفة عشاق الجامعة أي عناء، فملتقاهم عادة ما يكون عند «الطبكة».

    وبسبب بطئها ومواقيت حركتها المحددة، كان الناس، بمن فيهم الطلبة المستعجلين، يستخدمون القوارب التي تسمى «الماطورات» فهي قوارب خشبية تتسع لأكثر من عشرين شخصا يسيرها ماطور يعمل بالكاز.

    وإن تسببت «الطبكة» والماطورات والشط، بابتلاع الكثير من العابرين وغرقهم بحوادث مختلفة، إلا أن اندثارها ضيـّق فسحة الذكريات والأيام الحلوة.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن - 2
    الأماكن الممزقة في استنشاق حسرة المدينة

    البصرة ـ د . جمال حسين:
    لا نستطيع الحديث عن البصرة الراهنة دون تقمص معالمها التي انفردت بها، كثقل لابد أن نلقيه عن ظهر الحكي وعاتق الكلمة، كبيان مفعول وتبيان متشابك، قاموسه المدينة التي قصموا ظهرها وأزالوا رقبتها دون ان تفارقها الحياة.

    والبصرة دون تفردها، معوقة، فاقدة الخلان محملقة بأفق غريب عليها، وبلا مراجعة وتعريف وفيض وأسماء، لن يوخز الكلام عن البصرة حقيقتها الحالية.

    فلنعتبرها «وثبة» لقلم سنـّت حروفه الأولى فيها، مغمسا بذلك القدر الذي كتب على المدينة أن تراه، ملوثا بالرمل والغبار متضرعا بالأمل.


    قبل قرنين كانت مقبرة، هذا المكان الذي أصاب كثيرا من أسماه، فالساحة أو المدينة ولا يمكنك العودة الى البيت في المساء دون أن تمر على أم البصريين: ساحة أم البروم.

    في ليلة رطبة للغاية قبل أقل من قرن، أزالوا عنها شواهد القبور والرايات وأكف الحسد وقباب النذور غارزين فيها بعض أعواد الصفصاف وتراب خصب، علـّه يسهل استلقاء موتى الطاعون الكبير، توازيا أمهلوا ماء نهر «الخندك» برش الثرى الملغي لأموات المدينة.

    أم البروم


    ومنذ ذلك العام المبكر من القرن العشرين، ولغاية نهاية السبعينات، كان «الثيل» الذي زرعوه على رمال المقبرة، مهدا لكل المارين المتعبين ومنتظري حافلات «الأمانة» الحمراء التي توزعهم على كافة أنحاء البصرة لغاية الواحدة ليلا . ومن يتأخر بعد هذا الوقت، أما يذهب مشيا أو بسيارة أجرة والغالبية كانوا يفضلون قضاء ليلتهم على «ثيل» أم البروم الحاني والندي، النظيف، المكلل بالورود، عبر السياج نفسه الذي عين به عمال بلدية العهد الملكي حدود الساحة وحقوق مرتاديها.

    وكان سكارى الليل وشعراؤه، يسلمون الساحة الى عمال الفجر والجنود المكلفين والموظفين المناوبين. وقبل أن تشرق وتضيء، سيغطي الساحة مئات من كسبة «المسطر» وهم العمال غير الدائمين الذين يطلق عليهما «الكجول»، أي أولئك المستعدين لعمل أي شيء لقاء مائة فلس في اليوم، تطورت في وقت لاحق لتصبح ربع دينار.

    وقبل الشمس تضيء الساحة فوانيس و«لوكسات» أصحاب العربات المتنقلة الذين يطبخون أمامك شوربة العدس و«الماش» ويذيقونك «الكبة» الأصلية أو الهريس، وربما «التشريب» بكافة أنواعه، علاوة على كل محشيات البرغل، وثمة تدرج غير منتظم لباعة «الباجه». أما الهنود فكانوا مختصين بالفلافل والسمبوسة وليس لديهم عربات، بل كيس من الخوص يحملونه على ظهورهم مع سترة فيها الكثير من الجيوب، وفي كل منها بهارات أو «شطات» كيميائياتها خاصة بهم ولا يعرف أحد أسرارها.

    لم تكن ثمة «وقائع صحية» ومراقبات ولا يشكو أحد من شيء، فالعشرة فلوس تكفيك للفطور وعشرون مثلها للغداء، في ساحة الفقراء التي خصها السياب بقصيدة «أم البروم» التي حملت أسئلة عالقة للآن في ثراها.

    فيها تعثر على المجلات الجنسية تحت قمصان البحارة وتختار خروف النذر وتجرب الحذاء المهرب وتسمع لأول مرة أسماء الحمامات الوفية وتقف كثيرا لتعد ما في جيبك قبل أن تقرر شراء الكتاب المحدث والصرعة الأدبية المترجمة، ستجبر على الخيار ما بين الاسترخاء في سينما الكرنك المشرفة على الساحة ومشاهدة سرقة بنك أو فيلم كاوبوي وما بين تناول سندويتش سمبوسة و«بطل» بيبسي بالمشاركة وستختار الكتاب في النهاية مع الجوع!

    ستمر السنون لتشنق فيها في أشهر السبعينات الأولى جمال صبحي الحكيم، أجمل شبان المدينة وأكثرهم أناقة وزكي زيتو تاجر الساعات اليهودي البصري الرقيق والفائق التهذيب والحاج جيته أكبر تاجر بصري من أصل باكستاني وصاحب الحسينيات العديدة، بدعوى التخابر مع «العدو الصهيوني»، ليلطم هذا الحدث صورة الساحة الأم ويعيدها لزمان الطاعون الذي استواها مقبرة.

    لا يزال منظر الانضباط العسكري وهو يؤرجح الجثث المعلقة بعصاه لكي يريها الجمهور نفثا حارا في ذاكرتنا ونفورنا الإجباري من ساحة وشموها بالمرارة مجددا.

    ستهزل الأجساد بالتدريج وترقع الثياب أكثر فأكثر لتضم الساحة المتسولين والمتشردين والتائهين والقوادين. سينقرض الهنود الذين يطلق البصريون على السوق الذي يتفرع من الساحة باسمهم «سوق الهنود»، لتظهر ملل مهاجرة أخرى من سودانيين ومصريين وقرويين من مدن الجوار ينتظرون من يشغلهم في الكناسة والحراسة والحمل ورعاية الحيوانات وتنظيف المراحيض.

    سيظهر المواليد الجدد الذين سرعان ما حولوهم الى جنود بعد رسوبهم سنتين متتاليتين في المدرسة ليقذفوا بهم الى أتون الجبهة التي حولت المدينة كلها الى حرب.

    وستتحول «أم البروم» الى معسكر غير رسمي لشعب جديد من جنود المحافظات الأخرى وشعوب الدول الشقيقة وأمهر صباغي الأحذية، للمنتظرين حتفهم والمخططين لهروبهم، لمن ينتظر الحكم ومن أسقطت عنه الجنسية وأمر بالسفر حالا، للمديونين والدائنين، للنشالين ولاعبي القمار المدمنين، لباعة السجائر والمطرودين من بيوتهم، للمسرة الضائعة وتحولات الدهر الذي سرعان ما تنبأت به الساحة، لشجيرات الصفصاف المتناقصات بعد تهشيمها في الليل وحرقها حطبا في النهار.

    حين سقطت «أم البروم» سقطت البصرة!

    شارع التنانير


    لم يبلطه الملكيون ولا القوميون ولا الشيوعيون، لغاية إزالته نهائيا في زمان الثمانينات الغامض.

    وكانت الباصات الخشبية التي تحمل عشرين روحا تنزلق في أوحاله طوال الشتاء، فهذا الشارع من النوع الذي لا تجف فيه المياه طوال الفصل. وفيه تخصص الأسطورة البصرية» كنــّو» وهو سائق زنجي سكران طوال الخمسين سنة التي عاشها، بابتداع الحوادث، ومع ذلك لا يمانع أي بصري في الركوب بباصه الخشبي حتى لو كلفه ذلك الانطمار في نهر المستشفى المحاذي لشارع التنانير فقد كان مبتدعا للنكتة لماحا لا يضاهيه احد سوى خليفته في الحوادث والنكات «حميد كلن» (ينتهي عنده البنزين في منتصف الطريق دوما ومنظره حاملا غالون الوقود الفارغ باحثا عن البنزين من أودع هذا اللقب له).

    تخصص هذا الشارع الذي يحيطه نهران آسنان بصناعة تنانير الخبز. ولن تجدوا في أي اتجاه وأي بقعة في الأرض، شبيها له. فشاطئي النهرين غير المسمين أبدا، تغطيهما تربة خاصة جدا، هي مزيج من الغرين و«الطين الحر» الذي كانوا يعالجون به الممسوسين!

    صناع التنانير نساء فقط، اللواتي يرتدين خمس عباءات في آن واحد مهما كان قيظ النهار، ثلاث منها يلففنها حول وسطهن لسبب لا يعرفه أحد بالتأكيد. وبالتأكيد أيضا لم يعرفن مفردة «قفازات»، فكن يستخرجن الطين والغرين من النهر بأيديهن وكصناع الفخار تقريبا، يؤسسن شكلا اسطوانيا من الطين(ليس تماما، فمدخل التنور يكون أضيق من بطنه ليعود الى الحجم نفسه في النهاية).

    هكذا تعمل نسوة التنانير طوال النهارات المشمسة، حيث يشترط وجود التنور في الظهيرة الحارقة، لكي ينشف وييبس ويصبح مكانا تشعل فيه نيران الخبز المئوية.

    كل أهل البصرة يشترون تنانيرهم من هذا الشارع وجميعهم على الإطلاق تناولوا الخبز بفضل هذا الشارع الأسطوري، لذلك فان ميقاته مرهون بالمدينة وإن غاب، غابت، جدلية تطول إن لم يسطع برهان آخر في مبتكرات الأفران الكهربائية وتشقق أكف صانعات الخبز ومطعمات المدينة، أو انقراضهن بالرتابة نفسها التي جفت فيها أحلام البصرة.

    الداكير


    بناه الأتراك على نهر «الخندك» معسكرا لجنودهم. وما إن خسروا البصرة حتى أقام فيه البريطانيون والهنود «الكركة» الذين جلبوهم معهم، ليتحول فيما بعد الى سوق لتجار أعلاف الحيوانات وتوسع فشمل الحمامات الشعبية التي كان الجنود الأجانب يستخدمونها أيضا ومدرسة تخرج فيها الرعيل المتعلم الأول في البصرة.

    والداكير نهر أيضا، والمنطقة برمتها تحولت الى أكبر موقع تصل إليه مئات الأرامل والمسحوقات يوميا ليمارسن فيه «تفشيك» التمر (استخراج النواة من التمر).

    كانت المرأة الواحدة تنهي يوميا 20 - 30 صندوقا لقاء درهم واحد للصندوق.

    لكم أن تتخيلوا مئات النسوة المتشحات بالعباءات السود بتسلسل طويل أمام عمارات الصناديق وأكوام التمر وسط الزعيق والغبار والذباب الذي تجذبه حلاوة التمر. وبعضهن تخصصن في إزالة الأوساخ من التمر في عملية تعليبه لغرض تصديره الى الخارج.

    وتنتشر هناك «الجراديغ» التي تتولى كبس التمر بعد» تفشيكه» وتنظيفه وثمة أنواع معلبة يضيفون إليها الجوز ليوضع في النهاية في صناديق خاصة تنقلها الشاحنات الى» المهيلات» الراسية عند شط العرب ومنها الى بومباي ليعاد تصديره من هناك.

    لم تستخدم نساء الداكير «القفازات» بالطبع ولا السكاكين، وكن يستخرجن النواة بأظافرهن، وليس هناك صورة ثابتة في ذاكرتنا، أكثر من تساقط أظافر الفتيات وتلمسهن العملية بأسنانهن بعد سريان الدماء من أصابعهن بإرادة عمل مكنونها الحرمان الكامل وتقتير قطرات الحليب لإرضاع الطفل.

    سيبقى الظفر الفالت من أصابع البصريات على أرض الداكير وبين الصناديق وأبواق الشاحنات وصراخ السواق ومراقبي الجراديغ، اللوحة غير العادلة لجمر إشارات المدينة الفائقة الثراء والليل المزعزع نشوة الدرهم المستحيل هدمة وقطعة خبز أسمر.

    سايلو البصرة


    على منصات شط العرب مباشرة، ذلك السايلو المهيب الذي كانت صورته تتوسط ربع الدينار العراقي.

    وكان الشبان الفقراء للغاية، يقفون بالمئات يوميا عند مدخل السايلو، بانتظار ان يختاروا منهم حمالين لأكياس الحنطة القادمة من البحر والراسية بواخرها عند السايلو مباشرة، أو تحميل الأكياس من مخازنه الى الشاحنات ومنها الى كل البلاد.

    يمكنك شم رائحة الحنطة على ظهور الشبان المحنية من آلاف الكيلوغرامات التي يحملونها يوميا ولم يبق أي من الكادحين كما كانوا يسمونهم من أهل البصرة، إلا واشتغل حمالا في السايلو. وفي عام «انتحار الطيور»، استدعوا المئات من الشبان، لكي ينقلوا مئات الأطنان من الحنطة المسمومة من السايلو ليتركوها في «هيمة الوينبي» وهي مربع من مساحة فارغة تحيط به أربعة أنهر بين منطقة الأصمعي القديم والجديد.

    تركوا تلال الحنطة المسمومة هكذا في العراء مبللة رائحتها النتنة المنطقة كلها، الذي حصل أن الطيور المحلية وكذلك المهاجرة برمتها غزت تلال الحنطة المطرودة من السايلو لتلتهمها وتموت مباشرة على تلالها.

    كان منظر آلاف الطيور الميتة على تلال الحنطة طيفا مقددا لخبز الصباح المفقود، فلغاية نهاية السبعينات كان البصريون يتناولون «خبز التموين» وهو من الطحين الأسمر لأن سعر الرغيف 4 فلوس وليس 5 فلوس للخبز الأبيض، ويفهم من ذلك أن الفلس الواحد كان يسبب فارقا طبقيا مهما ما بين الأبيض والأسمر!

    السجن والمستشفى


    « وجهك سجن وقفاك مستشفى» مثل بصري فرضته الأمكنة. فسجن البصرة يقع أمام مستشفى غازي الذي سماه الثوار المستشفى الجمهوري. وكان السجن مقابل المستشفى بالضبط والاثنان يستقبلان الداخلين الى المدينة الى «باب الزبير»، مفتتح البصرة القديمة وطلاء سناها وانتظار وافديها في الاستطاعة والمقبول، القرين بصور الدعامات الإسمنتية المثبتة بيوتها الأولى.

    وبعد مضي قرون طويلة من الثورة الصناعية، كان زوار السجن ورواد المستشفى يذهبون الى هناك بواسطة «الربل» الذي يجره حصان أو اثنان، مظللة جلسته بالقماش أو الجلد غير المدبوغ جيدا.

    هناك قضى أشقياء المدينة حكمهم وأمامهم ولدت أجيال البصرة جيلا بعد جيل. وبين السجن والمستشفى كثر المسنون والمتسولون وباعة هدايا المرضى والمسجونون على السواء في زحام الجمعة التي يفضلها الناس للزيارة، يغوص بهم مفتتح المدينة من فروتها حتى أخمصها، ستار لكوميديا إنسانية بين الجاني والمجني عليهم، لا يفصلهم غير شارع عربات الخيول والحمير ملقيا بهم في نهاية النهار لجامع الكوّاز ليسيـّجوا دعواتهم لمرضاهم ومسجونيهم، لتلك المآسي التي تخفف من وطأتها البنايتان، اللتان سيأتي اليوم الذي تتدهور فيه أحوال المستشفى الذي أنجب شعب المدينة ويزال فيه السجن من عروقه الإنكليزية، لإنكليز جدد، سيلقون بالمسجونين بعيدا جدا عن مفتتح المدينة وهدايا الزوار وقناني الشربت وعلب القند وسجائر اللف وبركات أقمشة الأولياء الخضراء.

    كازينو التأميم


    هو الوحيد الذي بنيت على شط البصرة مباشرة وانطلقت منه أول مسابقة تشهدها المدينة لزوارق التجديف وشاهد شبان السبعينات أول بلياردو وسمح فيه لأول مرة أيضا بلعب «الدنبلة» وفيه نزل أول تلفزيون ملون شاهده فقراء المدينة.

    والمقهى الأول الذي تقام فيه حفلات لمطربين مشهورين وعلى تخوته نمت الأفكار والمسرحيات وتبادل الأدباء الشباب مخطوطاتهم القصصية والروائية والشعرية.

    فيه كانت مجلات «شعر» وعطايا «أبولو» وآخر أعداد «الآداب» و«الهلال» وتلهى صبيانه بصور «الموعد» و«حواء».

    استحث المقهى تلاطم السياسيين وتنوع المسرحيين وخواطر كتاب الأغاني والشعر الشعبي ومبتكري «الأوبريت» في البلاد ودرب أبطال الشطرنج وأخفت مصائب المحبين وخففت مصائر الفاشلين.

    حي الأرمن


    ملتصقة بيوته كلعبة أطفال. وكلها ذات طابق واحد، على الطراز الجبلي لكنها على أرض منبسطة.

    حافظ البصريون الأرمن على ذوق رفيع للغاية في استكمال مشهد المدينة وكانت زيارة صديق في الحي تثير البهجة أوقات العصر، حيث الجميع يجلسون عند عتبات البيوت يتبادلون الحديث الزاعق بلكنة واضحة، دون أن يكترث احد بمقدم الزائر الغريب.

    وبالرغم من أن منظر بيوت الأرمن من الخارج متواضع ومتهالك أحيانا ويعطي انطباعا بأن البيت صغير جدا وغرفه تبتلع الأخرى، إلا أن مشاهدته من الداخل تحسم الجدل في صغره، حيث يظهر أوسع كثيرا مما يوحي منظره، ناهيك عن الترتيب الفائق العملية وتزيينه بالزهور والتحف وكل ما يحتاجه البيت من أثاث.

    خمسة أميال


    مهد الأشقياء والملاكمين، النشالة والمهندسين، العاملين بأيديهم من السادسة فجرا حتى العاشرة مساء، تلك المنطقة المنزوية عن المعقل والعشار والجمهورية التي تبعد خمسة أميال عن مركز البصرة التي لا يرغب سائق تاكسي في الوصول إليها خوفا من تناثر زجاج سيارته من حجارة الصبيان الذين إن سألتهم عن مكان بيتهم أجابوا: من أهل خمسة أميال!

    منسوجة من أعراق الشعب المسحوق للغاية، لكنها الوحيدة ممن ذكرناهم بدأت تعيسة وانتهى بها الحال كمستوى الأحياء البصرية الراقية الأخرى من مهانة ومستنقعات وحفر وزبالة ومجار طافحة وانعدام الماء والكهرباء. لم يتطور الحي وكان في وضع سيئ لا يمكنه أن يكون أسوأ في كل الأزمات، لذلك تلاشى الفارق بين الواقع والاستعداد حين انحدرت المدينة برمتها الى قاعها.

    المدينة الأزلية


    ومع ذلك فالبصرة وإن كبا جوادها فهي متربية على تحويل الفوضى نظاما والرطوبة رحيقا والأحايين همسات والظلام تكاتفا.

    خصلتها وطبعها وجدائلها كوجدانها، برك من القذارة تعوم على الذهب وقميص مشقق يخفي قلبا كبيرا وعقلا نابغا. جبلت المدينة على أن تأكل ذيل السمكة فقط، مركونة تقرفص أوجاعها وتعطشها لقطرة ماء صحيحة الى أن يأتي اليوم الذي يسقط الكرى عن جسدها المهلهل ويرفعوا الفأس عن رأسها ويملأوا سلالها بالتفاح والأرجوان والخبز الأبيض.


    شارع بشار


    توازن لا يحدث إلا في البصرة: مركز شرطة المدينة مقابل أزقة الداعرات ودورهن العتيقة!

    هكذا كانت لوحة البصرة عندما كانت واثقة من نفسها ومراعية نجواها ومحترمة «ليبراليتها» التي لم تسمح لأحد أن يتسلط عليها. وقد يكون سر رحيقها الخاص، أن تخرج من وسط حي المومسات، أفضل دكتورة متخصصة في الأدب الفرنسي في العراق.

    لم تعتد الشرطة على «حقوق الإنسان» في هذا الجانب، فالمسحوقات اللواتي ارتضين هذه المهنة كن يجلسن بمنظر ليس فيه إباحية عند عتبات الدور، والمارين قرب مركز الشرطة يتفاهمون معهن بالحسنى وآخره نور بالتزام الشروط.

    كانت هذه المنافسة العميقة العذوبة بين القانون والانحراف شديدة التلقائية، كما لو كانت تسير على حافة سكين لطابع المدينة وجوهرها، حقيقتها العارية بلا أردية، منسقة الشكر والوحدة، الغياب والوجع، مبتدعة أرق حل لمعاناة وكبت كل الأطراف مجتمعة.

    مقبرة اليهود


    تنتشر فوق المستوى العادي لسطح المدينة، تحيط بها البيوت من ثلاث جهات والرابعة ثبت شبان المنطقة هدفين لكرة القدم وعدلوا الأرض لتصبح مقرا لمباريات الفرق الشعبية في البصرة القديمة.

    المقبرة تطواف نهائي لأهل البصرة اليهود الذين عاشوا طوال قرون في المدينة بالآلاف وقد يزيدون. عاشوا فيها قبل «الفرهود» وماتوا دون أن تبتل أسماعهم بكلمة واحدة لا تدل على أنهم من سكان البصرة الأصليين وأبناء «الولاية» كما كانوا سابقا يطلقون على أهل المدينة الواحدة.

    وبعد أن حصل ما حصل، لم يمسس بصري قبورهم وبقت محافظة على تنسيقها وترتيبها القديم، لكنها تحولت بالتدريج، وعلى الأرجح، لكونها منطقة عالية ومعزولة ومرتبة، الى مكان يسهر فيه الشبان ليلا بمجموعات.

    هناك يتسامرون ويضعون خطط مباريات الغد ويتبادلون المنشورات السرية وعلى هامش هذه اللقاءات يجلبون معهم الرقي (البطيخ) والعرق.

    وعلاقة البطيخ بالعرق غير متجانسة للوهلة الأولى، لكن الذي يربطهما رخص الاثنين. فما إن يكرعوا العرق حتى يشقوا البطيخة ليستخدموها كمزة وكذلك الحب الذي بداخلها.

    وهكذا تحولت «مقبرة اليهود» الى أكبر بار شعبي لا يتطلب الدخول إليه شيئا حيث كل سكانه من الأموات.

    ثلج الـجمهورية


    المدينة حارة وأوقات رياح «الشرجي» صيفا يختنق الناس من الرطوبة. وكان أكثر الموظفين رخاء يحتاج الى قرض لكي يشتري ثلاجة. وفي حقيقة الأمر لم يتعد محلات الأجهزة الكهربائية في البصرة أصابع اليد، فقد كانت مئات الثلاجات فقط قد دخلت الى البصرة التي يقطنها مئات الآلاف.

    والبصريون ابتكروا ثلاجة الفقراء وهي: صندوق الثلج. وهو عبارة عن صندوق خشبي يغلف من الداخل بطبقة غير سميكة من الصفيح مهمتها عزل داخل الصندوق عن خارجه حراريا. ويستطيع أي نجار صناعته، بإضافة حنفية يسري فيها الماء البارد من صندوق معدني صغير داخل الصندوق الكبير.

    وبالرغم من فقر الغالبية العظمى من أهل البصرة، إلا أنهم عاشوا التقاليد الأوروبية في الخدمات، فقد كان «أبو الثلج» يوصل لهم ربع القالب الى البيت، كحال باعة الحليب والصمون والجبن والزبدة واللبن، وحتى الحلاقين ومركبي الأسنان الذهبية والسحار والمشعوذين وقراء الفال كانوا يمرون على البيوت مع الزبالين وعمال البالوعات والخاطبات وملقحي النخيل.

    وتكفل معمل الثلج الواقع في حلق منطقة الجمهورية بالتوزيع العادل وتخفيض درجة حرارة المدينة، مثل دوي مكائنه التي يسمعها كل أهل البصرة النائمين على السطوح.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن - 3
    جدولة الحاجات والادعاءات في مراجعات القيل والقال
    البصرة - د . جمال حسين:

    غدا، أو بعد غد، وربما قريبا، ولعله سيأتي أو لا يأتي، في رجاء المطالبات وتنشيف المتاعب بحمد الادعاءات فيما سيكون أو لا يكون، تئن البصرة للغاية من الجملة وأسبابها وكان ومثيلاتها، وفاعل محسوب على الذي ضمه بلا رجعة ومفعول نصبوه بشرك التيمم إن فقد الماء من مدينة الأنهر وبندقية الشرق، بتعفف الذين صابروا وسامروا وسامحوا كثيرا لغاية اللقاء الموعود بين الضمير المستتر عن حفرها وجسورها المتهالكة والغائب عن معجون ثمارها حين يصدر أمام جياعها والمخاطب ما أن يلحّ بالسؤال تلو التوسل فيما قلتم وفعلتم وصرختم وعملتم وشتمتم وبنيتم، لهذه الحلوة المثخنة بالألم والمودة، كمركبها وصبيتها الغامضة، حافية تذرع البصرة دروب الزمن، طافحة بالقيظ والذباب والملاريا والتلوث بأشكالها رغما عن شطها العريض الطويل ونخلاتها الملايين، ودمعها وزرعها ومصانعها الكبار وما يقدمها على البشر أجمعين بترولها الذي لم يمسسه بصراوي لا في يده ولا في أنفه ولا في قلبه ولا أضعف الإيمان.

    لننزل لمستوى القيل عنها والقال عنهم، تفكيك لشفرة الواقع والحال والمحال، ببرق أصداف الوعود إن كذبت والمراسيم إن جفت والسواد حين يسخم الوجوه ببدعة التهليل للذي سيأتي، ولعله لدهور من الانتظار لا يأتي.


    ما أن يمل أطفال البصرة من البحث عن دماهم في ساحات القمامة، يشعلها الكبار نارا، وهكذا يوميا تسير دورة الزبالة التي تتسع لتغطي المدينة من كل حدب.

    اختفىَ«أبو الزبالة» تماما وغابت سيارات البلدية وتحولت المدينة الى محرق لأكوام القاذورات واستبدل الزمن حدائق وخضرة أيام زمان باشتعال الريح وترطيب الغبار بما كسبت أيديهم وما ذرت أكياسهم وقواطيهم وكراتينهم وما نبضت عنه أفئدتهم المسمرة بساحة واحدة بلا زبالة.

    بحيرات المساء

    والمجاري تسير في كل الأرض تحتها، عدا في البصرة فهي تنمو على سطح الأرض وتتمشى مع الخلق. وثمة أحياء كاملة يسكنها مئات الآلاف يعيشون مع مجاريهم منذ أكثر من خمسة عشر عاما وخاصة في القبلة والحيانية وصبخة العرب والعالية والأصمعي وخمسة ميل وغيرها من التي لم نجد ضرورة للمرور بها.

    ما الذي تفعله مؤسسات دولة شعبها يمشي على المجاري والمياه الفظيعة القذارة ويتنفس في حياته وخلوته ومنامه وصحوه دخان زبالته؟!

    قال لنا مدير المجاري انه لا توجد لديه سيارات لسحب المجاري ويأمل أن تصل له سيارتان مساعدة من الكويت.

    قلنا له ان الحل ليس بالسيارات التي تسحب المجاري، فالبصرة لا تكفيها آلاف من هذه السيارات فكلها عائمة على القذارة. وحتى لو توفرت هذه السيارات.. ستقول بأنك لا تملك البنزين لتشغيلها، وإن توفر فستقول بأنه لا يوجد لديك سواق وان توفر كل شيء ستدين العمليات الإرهابية في الموصل لأنها أعاقت سحب مجاري البصرة!

    جسور الموت

    الجسر الذي بنته هندسة الفيلق السابع أيام الحرب الطويلة مع إيران لإيصال البصرة بالعالم الآخر في التنومة، يتسع لدبابة واحدة تذهب ولا تؤوب، فالدبابة التي تعقد العزم للذهاب الى الحرب لا ترجع كما جرت أعراف الحروب الصدامية.

    لم يبنه أحد لأهل البصرة والكتيبة بنته للواء واللواء أخبر الفرقة والفرقة منحته للفيلق. وعندما حصل الذي صار، بقى الجسر وهو عسكري مؤقت، لخمسة عشر عاما. ولا يوجد أي متفائل توقع صموده هذه المدة، حتى أولئك الذين سقطوا منه في عرض الشط وماتوا غرقا لأن أمتارا بأكملها فيه اختفت أو أعوج صفيحها أو طارت فحسب.

    هذا واقع جسر استراتيجي يربط البصرة بإيران، فكيف حال الجسر الذي يربط البصرة بأبي الخصيب، وهو لا يقل استراتيجية كون ميناء أبو الفلوس حيث يصدرون النفط ويهربون معظمه يقع على مساره، فهو الآخر صغير مسكين يتسع لعبور سيارة واحدة على الحظ، فإما تعبر أو تسرح من بين الكسور فيه لتلاقي حتفها.

    وجسر الكزيزة الاستراتيجي الرهيب الذي تصدر نشرات الأنباء أوقات الحرب، فقد ضربه المحتلون ولم يصلحوه حتى هذه اللحظة، لأنهم ببساطة لا يحتاجون الى جسور، لأنهم يطيرون!

    أما جسور البصرة القديمة على شط البصرة فحالها كما تركناها، ولن يصلحها احد على الأرجح، لأن الشط لم يعد شطا ولا نهرا ولا جدولا ولا نهيرا، هو مجرى المجاري ومأوى الإطارات والقمامة، فالذي سيقع به الجسر لا يغرق، بل يتقافز على الإطارات مثل السيرك.

    من غير الممكن أن مديرية الطرق والجسور لا تعرف عم يدور الحديث، والقوات التي بدأت جنسياتها تقل غير مغتمة بالتأكيد لرداءة الجو، فهي تستريح في براد الشعيبة ومطار البصرة وموانئ السعادة.

    أقوال المدير

    حسب مدير بلدية البصرة ماجد مناتي فإن تنظيف البصرة يحتاج 254 مليار دينار خصصوا له منها آخر رقم فقط: أي 4 مليارات لا غير، وهذا سينظف به المناطق المحيطة بمديريته فقط. فكيف بتلال نظران والصبخة الكبيرة ومحلة الباشا وجسر الغربان ومنتزه (!) لبنان الذي تحول الى محرقة للقمامة.

    يقول المدير انهم سيكسون الشوارع المؤدية الى « أم البروم» وشوراع التنومة وسيسقون الجزرات الوسطية والحدائق العامة تحت شعار نهديكم صورته: «من اجل بصرة أنظف»!

    ويقول ان لديهم مشاريع لتنظيف الكورنيش وزراعة المنطقة وبناء المصاطب بدل التماثيل المحطمة.

    سيردمون المستنقعات التي ظهرت في مركز المدينة حسب مشاريع الطمر الصحي التي أقرتها الوزارة مشكورة وسيحملون النفايات كلها ليلقوا بها خلف شط العرب (!)

    وأخيرا وجه المدير عتبه الشديد على الأطفال لأنهم يحرقون الزبالة (التي تغطي بيوتهم) ونصحهم بان هذا التصرف سيلوث الهواء وطالبهم بانتظار تنفيذ قرارات الطمر!

    مشاريع الإنكليز

    صمموا شيئا ما أطلقوا عليه» فريق التعاون العسكري - المدني» لا يوحي اسمه بشيء ولم نفهم منه سوى أن القوات المتعددة الجنسية (البريطانية في حالتنا) ابتكرت هذه الهيئة لكي ينفذوا مشاريع ما في البصرة، وربما وهو أمر لا يمكن أن نستبعده يحذون حذو «أورها» أو «مجلس إعمار العراق» الذي تخصص بإشراف إدارة المنقول بريمر بسرقة العراق.

    بعد مشاورة سريعة مع مهندس فاهم للعبة، تبين أن شكوكنا في محلها وفلوسنا في جيبهم. فمثلا، أن قائد الفريق الإنكليزي قال انه «ينسق أعمال الفريق مع القادة الدينيين».

    هذه أول خطوة مشكوك في نجاحها، فلو قال انه يعمل مع مهندسي المدينة أو كذا شيء مشابه لبلعناها من الإنكليزي، لكن ما الذي يستطيع أن يفعله «القادة الدينيون» لفريق التعاون من «أجل بصرة أنظف»؟!

    فلينسقوا مع الملالي والسادة حتى مع الدراويش، لكنهم لم يضعوا قطعة صفيح واحدة على» الجسور الاستراتيجية» طوال سنتين حيث لم تشتهر البصرة بأعمال النهب والإرهاب، فما الذي أعاقهم طوال 24 شهرا من عمر التحرير؟!

    زد على ذلك، هذا الفريق من مخلفات» الإدارة المدنية للتحالف» ولم يلغ بإلغاء المرجع الأعلى، وهذه نقطة نظام حقوقية لا أكثر.

    عموما يقول مدير الفريق انهم سينجزون 200 مشروع ضخم في البصرة وسيصلحون الكهرباء وشبكات المياه النقي وسيطورون الزراعة والصحة والتربية.

    سينظف الفريق شوارع الحيانية والجمهورية وسيبلطون الطرق وسيستحدثون المنتزهات والأماكن الترفيهية ورياض الأطفال وسيصلحون أنابيب الصرف الصحي.

    وسيعيدون البصرة الى زمان الفتوحات بعد أن خصصوا الدولارات لحفر الآبار لتزويد أم قصر وصفوان بالمياه العذبة.

    بانتظار الحر

    أقبل الصيف مبكرا كعادته في البصرة دون أن يحلوا مشكلة الكهرباء ويقول مهندس مختص في الكهرباء ان المشكلة تنحصر في أن كل العقود السابقة والأموال صرفت على مواد الصيانة وليس على شراء مولدات جديدة. ومحطة الهارثة التي تزود البصرة والعراق عموما أكملت الخمسين من عمرها، مؤكدا على أنهم في مديرية كهرباء البصرة يسمعون الوعود فقط دون ان يتحقق منها شيء.

    مدير محطة كهرباء الهارثة عبد العزيز عاشور قال انه تم ربط المنطقة الوسطى والشمالية مع شبكة الجنوب لسد النقص في تلك المناطق، لذلك اضطروا الى قطع الكهرباء عن البصرة حسب المصطلح المؤلم «القطع المبرمج».

    كما ان الوقود لا يكفي المحطة التي تغذي البصرة ذات المصانع الكثيرة، أضف الى ذلك تهالك المعدات والأجهزة فكلها قديمة والأدوات الاحتياطية، حسب المدير، لا تتطابق مع هيكل المحطة ولا للمواصفات الفنية.

    وحول ربط كهرباء البصرة بالكويت، قال ان الأمر تعطل بسبب عدم وجود منظومة لنقل القدرة كالأبراج العالية التي تتحمل الضغط الفائق وتفاصيل فنية أخرى.

    النفط لمدينة النفط

    في أغسطس 2003 انتفضت البصرة بسبب انعدام الوقود التام ولشعور أهالي المدينة بأن من غير الممكن اختفاء البنزين والنفط والديزل والغاز السائل من المدينة التي تصدر للعالم، وتملك احتياطيا عالميا ضخما ولا تعرقل مسيرة عمل القطاع النفطي اي أعمال إرهابية. استمرت الانتفاضة ثلاثة أيام مظلمة حارة وصل فيها قالب الثلج الى 10 آلاف دينار.

    ومن ذلك التاريخ الذي أقنعوا الناس بالعودة بالقوة والوعود، لا تزال الطوابير قائمة للحصول على الوقود مع تماسك السوق السوداء التي فرضت تعريفتها.

    يعلم كل بصري - لأنهم يرون بأعينهم - كيف أن نفطهم وغازهم يهرب باللنجات الصغيرة الى البواخر التي تنتظر في عرض البحر وكذلك عن طريق ميناء أبو الفلوس.

    وإن توفر الوقود، بإحدى الطريقتين، فهو سيء للغاية ويسبب تعطيل السيارات بشكل مفاجئ وخاصة المستوردة التي لم تتعود على «بنزين العراق».

    فالعارفون بأمور السيارات قالوا ان هذه السيارات الجديدة تتعطل فجأة بسبب نوعية البنزين المحلي الذي يضخ بطريقة الاحتراق بآلية» البخ». ولكون البنزين العراقي يحتوي على مخلفات ومواد ثقيلة مختلفة ليست لها علاقة بالوقود، فتؤدي الى تعطيل الكاربيريتر» ومن ثم احتراق المحرك.

    مدينة الموارد

    بالإضافة الى الاحتياطي النفطي الهائل الذي تملكه البصرة، فيها أهم مصافي النفط في البلاد ومصانع ضخمة كالحديد والصلب والبتروكيمياويات والأسمدة الكيميائية والورق، ناهيك عن موانئها العملاقة.

    ومدن الموارد عادة ما يتم التعامل معها على أساس مواردها، فإما حصولها على مواردها بالكامل على مدى سنوات لحين استكمال إنفاقها على بناها التحتية وبناء قاعدة قوية ومتوازنة مع مواردها، وإما تخصيص نسبة معينة من موارد المدينة للانفاق بصورة دائمة على مشاريع البنية التحتية بإضافة مشاريع تنموية كبرى لها.

    لكن الذي حصل - ومستمر للآن - تجاهل هذه القواعد، والمدينة عموما وإهمالها بشكل فظ، فإذا كان النظام السابق يهملها بشكل متعمد ومقصود، فالورثة لم يحلوا أيا من مشكلاتها ومعضلاتها التي أصبحت مزمنة.

    فلؤلؤة الخليج كما يطلقون على البصرة صدئة للغاية، وبحاجة الى عملية نهوض كبيرة، باتت أكثر ضرورة من أي وقت مضى، فالحال في المدينة لا تتحمل تخلفا أكثر مما هو موجود.

    علاوة على أن حال البصرة لا ينسجم مع جيرتها لمدن خليجية مبهرة، وهذا الفارق الشاسع له نتائجه وعقده وتأثيراته المبيدة، وستبعد المدينة كثيرا عن زمانها وحركة الإقليم برمته.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانـت.. البصرة كما هـي الآن - 4
    شارع الكويت ما حاله اليوم؟!

    الـــبصـــرة ـ د. جــمــال حســين
    منذ سقوط الملك الصالح، اهتم جنرالات العراق بقشور الأمور فيما يخص فائدة الشعب، وجوهرها فيما تنتصب فيه حاجاتهم ومصالحهم. ومن عثرات الدنيا، التي قدر للعراقيين تجربتها، كانت «الاشتراكية» كما فهموها وليس بالضرورة كما صاغها الاشتراكيون الأوائل.

    وعلى هداها منعوا الاستيراد والتصدير للقطاع الخاص واحتكرت الدولة ومؤسساتها كل هذه العمليات، بما في ذلك المصرفية والتجارية وما يتعلق بها من قريب وبعيد.

    أطعمونا حسب شهيتهم وألبسونا على ذوقهم وزيـّـنوا عرائسنا وفق نظراتهم وعالجونا بالأدوية التي تطيبهم وأثثوا أحلامنا وأحصوا اسماءنا بدل المرة ألف مرة دون أن يلهموا الحكمة من الخرقة والثبات من الجبل والمسرى من الجدول.

    هم الذين كانوا يقررون نوع المسحوق الذي ينظف ياخاتنا والمحجر الذي يعيد لمجانيننا العقل واللعبة التي تجمـّـل صباحات أطفالنا. كانوا الخيط والمغزل والبيه والباشا، السائق والمدفع، والطلقة والعصفور.

    بمشيئتهم نفطر وبفضلهم نصوم وإن عنّ على أحد الاستراحة فيجعلون استجمامه الأخير فيما تلتهمه عيناه من تساؤلات وما تطحنه معدته من رغبات.

    ولم يكن أمام البصريين المولدين أحرارا، غير اكتشاف أعيادهم بأنفسهم وهم المجاورون لثلاثة بلدان منفتحة في مجال الاستيراد: إيران الشاهنشاهية السائرة على النمط الأوروبي والكويت المجبولة بالجديد والسعودية الناهضة.

    وكان من المستحيل ايضا على البصري ّ الذي يرى بأم عينيه ما تحمله البواخر وما تنوء به المرافئ وما تشدو عنده المراسي، قبول سلعة فرضها ضابط تموين أو معلم قرأ عن «العدالة الاجتماعية» بكراس مترجم يوزع مجانا للكادر المتقدم للحزب لكي يطبق أصولها وفصولها على رأسه.

    وكان من المستحيل ايضا على البصريين المزهو ريشهم بالفخار وبعمق تاريخيّ لا تنافسهم عليه إلا مدن قلائل في الكوكب، الارتضاء بما سنـّوه ودبـّجوه ونشروه كمرسوم وحاشية لدستور في «الوقائع العراقية».

    لقد انتصر البصريون دوما على القمع والغباء والتخلف والنفور والعزل وكانوا دائما سرب زرازير ولمعة نوارس وعشبا لا ينام حتى يروى ودماغا لا يستكن حتى يفهم. وكانوا السباقين في أن يلونوا مدينتهم ويحملوا الفكرة التي يتحملونها والصورة المولودة في سمت أيامهم.

    وكغيرها من النكبات، وجدوا الحل للعزلة غير المواتية المفروضة عليهم من المركز المتسلط، أن استدرجوا الزمان وطوّعوه، فارضين عليه الشكل والجوهر، النبع والمصب، لكي تتزوق عروسهم كما تشاء وتغتسل الحامل كما ينبغي، ويتذوق الطفل بهجة اللعبة ويدخن الناس كما يشتهون ويدهن الشيخ رأسه بالمرهم الذي يطرد عنه الأرق، فكان افتتاح شعبي لأول منطقة للتجارة الحرة في العراق، لم يختلف اثنان في البصرة على إطلاق تلك التسمية المنطقية عليها والتي مهما اشتدت الخطوب ستبقى محافظة على ترتيبها وأحرفها: شارع الكويت!


    تعلو قليلا عن النصف الثاني للعشار، الذي يقسمه نهره الخالد، منطقة اختارها التجار المهتمون بالخضار في عرض بضاعتهم وبناء مخازنهم التي يسمونها «العلوة» ومن هذه الابتكارات كانوا يطلقون على زحام البطاطا والطماطم والخيار وغيرها اسم شارع «الخضّارة».

    لم يكن ثمة تنظيم في الأماكن التي يباع فيها الخس والرقي والبصل بطبيعة الحال، وكانت هناك بيوت شناشيلية على طراز «البكاري» تستقر على مرتفع هنا وآخر هناك، متهالكة للغاية كساكنيها الأرامل واليتامى والمقطوعة ذريتهم والمنسيين لنهاية الدهر.

    وبعد انفجار أسعار النفط في السبعينات وما تلا ذلك من انتفاضات عمرانية في الإقليم برمته، طالت سوق الخضارة وشناشيله القديمات بالرافعات وعمليات الهدم والبناء، مفتتحة عهدا جديدا لشارع سيدخل في كل بيت بصري.


    الكنز


    في تلك الأوقات ضاقت أسواق «المغايز» و«حنا الشيخ» و«الهنود» و«الوطني» بالمشترين، بعد أن توسعت التجارة وزادت نفوس مركز البصرة بتقبلها هجرة الريفيين الجماعية الى المدينة ومصاحبة ذلك زيادة في القدرة الشرائية.

    وفرض اختناق الأسواق الرئيسية التفكير بالقطعة الباقية والممتدة بنحو كيلومتر طولا و 50 مترا عرضا والمفروضة بتوازي نهري العشار والخندك.

    وصاحبت عملية هدم الدور القديمة أشهر حادثة بعد أن عثر البناؤون أو الهدامون على كنز فيه ليرات عثمانية ذهبية وقلائد وحلي كثيرة ملتصقة بأحد الجدران لبخيل أو بخيلة، مات أو ماتت، دون أن يخبر أو تخبر أحدا عن مكانها السري، الذي أهدته طبائع الأمور وقوانين الدنيا للفاتحين الجدد لحضارة شارع الكويت.


    النمو السريع


    دورة البصرة الدموية والمزاجية لم يدركها لا السابقون ولا نعتقد بأن اللاحقين متمعنون جيدا في معرفة طبائعها ولا مهمومون في جس نبضها وارتعاشها وتضميد نهارها.

    ومن صفاتها وصفاتهم، أنهم يتقبلون السريع بجري غير معتاد، كما حصل في قصة شارع الكويت.

    فالبسطات والعربات والسقائف والحصران والمظلات التي كانت البذرة الأولى لمنطقة التجارة الحرة، سرعان ما تحولت الى عمارات لم يفلح الناس في تتبع نموها.

    والعمارات كانت تبني المحال في طوابقها الأولى، فبدا الشارع مزدانا بالأنوار والإعلانات وما تيسر لهم من إشارات وألعاب ضوئية، نورت الطريق الذي عبـّد نفسه بالمال الكثير الذي أنفقوه لكي يشيد أهم مركز تجاري في المدينة الوحيدة في العراق التي تخططها الأنهر وفيها نفط وميناء وبحر وأجانب وتحدها ثلاث دول دفعة واحدة.


    الأيام الأولى


    ثمة قانون لم يفكر به أي مجلس لقيادة الثورات العراقية هو: السلعة الجيدة هي السلعة المهربة!

    ومهربة لأن عقول حكام العراق لم تؤمن بأهميتها لا أكثر ولا أقل. فلماذا يكون معجون الأسنان سلعة مهربة وكذلك الصابون أو قطعة الجبن أو الشوكولاتة ؟

    كانت هذه «السلع الغريبة» تصل الى الشارع غير المسمى بعد والذي يزدحم بالرافعات وعمال البناء والحصى والرمل والطابوق والإسمنت، بواسطة النساء اللواتي يخبئنها تحت عباءاتهن.

    بمعنى واسع، أن البضاعة الأولى كانت من الصغر بحيث يمكن حملها وتخبئتها من قبل الباعة. وبتفسير أدق، أن تجارة شنطة بدأت بين البصرة والكويت.


    الطريق الى الكويت


    والكويت في هذه الأوقات كانت أيضا تشهد نهضة عمرانية وتجارية ووصلت بدورها الى البصرة.

    ويجدر التوقف عند بعض حقائق التاريخ:

    أولا، كان انتقال الكويتيين الى البصرة والبصريين الى الكويت سهلا جدا، وكان «سره» الكويت عند سينما الكرنك مقابل ساحة «أم البروم» ونذكر للآن أن السواق كانوا يصرخون طوال اليوم: كويت.. كويت نفر واحد.

    ثانيا، هذا «السره» موجود شبيه له في الكويت، والفارق أن السواق يصيحون هناك: البصرة.. نفر واحد.

    ثالثا: كانت أجرة الذهاب الى الكويت دينارين للشخص الواحد.

    رابعا: لم تكن «الفيزا الكويتية» صعبة أبدا، ووصل الأمر الى أن القنصل الكويتي في البصرة (بموافقات عليا على الأرجح) قرر في وقت ما دخول البصريين بدون فيزا. (تنقل أبناء دول مجلس التعاون الخليجي الآن بالبطاقة المدنية هو اكتشاف كويتي ـ بصري قبل نصف قرن)!

    خامسا، لم يذهب بصري واحد الى الكويت ليضيع في شوارعها والعكس صحيح بالطبع. فالدولتان والشعبان تضبطهم القوانين جيدا وكان كل طرف يسافر الى الآخر بهدف، الراحة وتغيير الجو وزيارة الأقرباء والأصدقاء. وكان كل كويتي وبصري يعرف لماذا وأين وكيف في هذا التداخل الحميمي بين الشعبين، وحميمي لأنه لم تسجل خلاله حادثة مزعجة واحدة في التاريخ وقعت لهما في أي من البلدين، يمكن أن يرويها كويتي أو بصري الآن.


    النمو التجاري


    قوة الارتباط ما بين البصرة والكويت ساهمت في تنشيط «البيزنس» الصغير أو تجارة الشنطة التي وجدت لها منافذ محدودة، لم تشبع حاجة السوق البصرية للبضائع الجيدة القادمة من الكويت.

    وأدت زيادة الطلب على فتح قنوات «البيزنس» المتوسط الذي لم يتعد أكثر من تجارة البضائع المحملة «بوانيت» أو شاحنة صغيرة. حيث لم تسمح القوانين العراقية بأكبر من ذلك. وكان تجار الوانيتات يوصلون بضاعتهم الى شارع الكويت في البصرة بتنسيق وتعاون مشترك، بل بتواطؤ موظفي الجمارك في صفوان.

    ولم يكن ذلك كافيا، بعد الانتعاش الكبير الذي شهده السوق الذي راحت شهرته تعم العراق كله، وأمام القيود الكثيرة التي كانت تفرضها السلطات العراقية على البضائع الكويتية، لم يكن ثمة مفر من حل هذه الأزمة سوى التهريب!


    أنواع التهريب


    في هذه الأوقات عرفت البصرة التهريب بشكل لم يسبق له مثيل. وكانت شرائح كثيرة تمارسه. فسواق النقل البري من العراقيين الذين كانوا ينقلون البضائع من الكويت بشكل رسمي، كانوا يدسون بينها بضاعتهم الخاصة المخصصة لشارع الكويت.

    وثمة تجار الشاحنات الصغيرة الذين ينسقون وضعهم مع مأموري جمارك صفوان بالتناوب، بالإضافة الى التهريب عن طريق الحدود الصحراوية، التي تركها البلدان لمراقبة قوات الجمارك المتواضعة جدا من النواحي الفنية والتسليحية، مع اهتمام بسيط للغاية من قوات محدودة لحرس الحدود، في ظروف كان الأمن يسود المنطقة ولم تتعرف شعوبه الى مفردات مثل «الغزو» و «الإرهاب» وغيرها.

    وحسب روايات شهود العيان من المهربين وعاملي الجمارك، فقد كانت الحدود بين الكويت والعراق شبه سائبة، ولم تكن عملية نقل حقيبة ساعات يدوية وكرتون عرق من هنا و كرتون سجائر من هناك بالمقلقة لأمن أي منهما. وكان ثمة تغاض مريح، طالما أن المهربين لا يخرقون قواعد اللعبة ولا يجتازون الخطوط الحمر.

    واستمر تهريب السلع ونشط للغاية في السبعينات، فقد كانت الكويت هدف المشروبات من العراق، والأخير يتقبل كل شيء من الكويت. ووصل نشاط المهربين درجة عالية من الثقة لغاية تهريب البشر والمعارضين الذين بدأت طلائعهم تظهر ما أن بدأ النظام العراقي يبين ملامح قمعه الأولى.

    وكانت رخاوة الحدود وخبرة المهربين وعوامل أخرى، من أهم أسباب انتعاش وازدهار الفترة الذهبية لشارع الكويت.


    الوقت الذهبي


    لم يمح تطور الشارع ومحلاته التجارية الاكشاك والعربات والبسطات، بل كان الجميع يعمل وكانت البضائع الكويتية «تطير» من الشارع الذي تحول الى منطقة للتجارة الحرة بشكل حقيقي.

    وأدى انتعاش البصرة بشكل عام وتحولها الى مركز جذب لكل العراقيين وخاصة في الفصول الثلاثة عدا الصيف، وانتشرت ظاهرة قضاء شهر العسل في البصرة لمن يتزوج في العراق، وزيادة الوحدات العسكرية العاملة فيها وتوسع الجامعة لتضم كل طلبة المحافظات الجنوبية، الى زيادة الطلب وعدد المشترين في شارع الكويت.

    وأخذ يتوسع بالتدريج ليتحول الى تجارة الجملة، لاسيما السجائر الأجنبية التي كانت تجارتها مقيدة جدا في العراق كما كان الحال بالنسبة للعطور وأدوات الماكياج والأقمشة والملابس الرجالية والنسائية وغيرها.

    وشجع تزايد عدد الباعة والمشترين على السواء ومن ينقل البضائع ومن يحرسها ومن يدفع الأموال ومن يحسبها، الى ظهور جيش من غير البصريين الذين يحتاجون الى راحة ومبيت وسكن. لذلك بنينا بلمحة عين 17 فندقا بمستوى الفنادق الجيدة في المدينة في شارع واحد يمكن أن يمشيه المرء بخمس دقائق كل متر فيه مقهى ومطعم.


    الشارع الآن


    لا يزال هذا الشارع ضاجا ومزدحما ويمكن لهذه الدقائق الخمس أن تصير ساعة لو كنت في سيارة.

    فالشارع تغلقه الشاحنات التي تحمل الأجهزة الكهربائية المختلفة والصوتيات والمرئيات والكمبيوترات والثلاجات، والشارع حافظ على نشاطه، لكنه فقد تفرده السابق بأنه شارع السلع الجيدة (الكويتية). وزادت فيه الأنقاض وكثرت القمامة التي قرروا عدم رفعها ليوم الدين وإن كانت المحال هي السبب فيها.

    هرمت فنادقه واختفت مقاهيه وقلت مطاعمه وخبا نوره وغابت تلك القناديل الملونة والنيونات الراقصة وزعيق المسجلات اليابانية الأصلية بأنواع الطرب.

    تراجع شارع الكويت، كما تراجع الجميع.

    غير أن أطرف ما في الأمر، انه لا في السابق ولا في الحالي، يوجد شيء رسمي يثبت أن هذا الذي نتحدث عنه اسمه: شارع الكويت!
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن
    5انهيار أنهار البصرة في جريان فينسيا الأقاليم الاستوائية
    البصرة ـ د. جمال حسين:

    لا ينقضي يوم البصري، دون أن يعبر جسرا ونهرا. ولولا النهر لما كانت البصرة. بتواصل المعنى يكمن سر المدينة الأوحد: لا توجد بصرة بدون نهر!

    تولوا أمره وجعلوا من النهر كل شيء حي في المدينة المقبلة فقرّت نوايا البصريين الأوائل، أولئك الذين مزجوا التراب والرمل بالنهر ليشيدوا أول القصور بعد اندثار حضارات وادي الرافدين وجمـّلوها بأوراق الشجر وأسندوها بلحائها وجذوعها، في مسيرة بناء الامبراطورية التي ستجتاز الشمس الضوئية نفسها، وتنقلب على محورها لتستلهم الشروق والغياب على أرجائها.

    أدرك المؤمنون القادمون من الرمال العربية العظمى قبلنا بكثير من الدهور أن لا بصرة بلا نهر، فما هادنوا الصحراء.. نبشوها وحفروها على امتداد السنين، لتنفجر الأرض انهارا جددا، ولتولد معها البساتين وزهو النخلات الأولى التي دكت جذوعها في شمال الزبير.


    تصادفك الأنهار أينما حللت في المدينة، صنوفها «الثلاثة الكبار» المعروفات بشط العرب والفرات ودجلة ونحو 600 نهر كبير تتفرع منها ومقبلا من الأهوار التي تنضم اليها «هيدرولوجيا»، هاديا الى أكثر من 10 آلاف نهر فرعي وجدول ونهير وقناة.

    وفي زمانه عدها «البلاذري» بحوالي 120 ألف نهر، درس وطمر وتوارى أغلبها بفعل سلوك الطبيعة مرة واهمال الانسان مرات وعدم درايته واهتمامه لإصغاء موجاتها وسحر فوائدها مرات ومرات.

    ولكثرة الأنهار فيها أطلق عليها الكلدانيون تسمية «بصريا»، أي «القنوات» كدلالة على وجود الكثير من الأنهر الصغيرة فيها منذ تلك الأزمنة.

    ولم تكتب صفحة واحدة أو كتاب أو مذكرات لرحالة أو ولاة أو جغرافيين ومؤرخين، دون التقدمة الحتمية لروح النص العالق بالمدينة: أنهارها.

    المورد المتيسر

    عاش البصريون على بركات الأنهر بموازاة ظرف قاس دبّجه «التصنيف المناخي» لها لوقوعها في منطقة صحراوية حارة لا يتجاوز معدل سقوط الأمطار على أراضيها 133 ملم في العام بتوزيع غير منتظم لا يكفي حاجاتها في ظل ارتفاع كبير في درجات الحرارة طوال أيام السنة حيث تختفي الغيوم نهائيا عن سماء البصرة لـ 224 يوما في السنة.

    وتنحصر هنا أهمية منظومة الأنهار وشبكاتها في حياة الناس وزراعتهم والتي بدونها يصبح السكن فيها مستحيلا.

    وما زالت أنهار البصرة مصارف الحياة ومورد الناس المتيسر مجانا بجريان المجرى القديم للفرات القادم الى المدينة من الناصرية بموازاة الضفة الشمالية لهور الحمـّار ملتقيا بدجلة في القرنة في توليفة أثيرية أنجبت شط العرب.

    وبحساب بسيط تمتلك البصرة 40 كيلومترا من الفرات و90 كيلومترا من دجلة وكل شط العرب البالغ طوله من القرنة حتى مصبه في الخليج 195 كيلومترا.

    هذه الكيلومترات واحدة من أسرار ثراء المدينة، أضف اليها القنوات والأنهر الكبيرة التي عددناها، والمصارف التي تبدأ في «كرمة علي» و«الغميج» و«الشافي».

    وأكثرها هيبة وسعة قبل الوصول الى مركز البصرة نهر كرمة علي المتكون من التقاء نهري «المسحب» و«الصلال» الممتدين الى عمق هور الحمـّار.

    وتزداد شبكة المياه فائدة وأهمية عندما يلتقي نهر كرمة علي بشط العرب عند جزيرة السندباد الساحرة الجمال.

    غير أن دجلة يفقد الكثير من مياهه قبل دخوله البصرة في الأهوار الوسطية والشرقية المعروفة بـ «هور الحويزة». وفي الوقت نفسه يسترد دجلة جزءا من مياهه الى البصرة عن طريق أنهار الخرص وأم الجري والكسارة والروطة والخفتيري ومن الوسط أنهار الهدامة والصريفة والسفحة وفوت وبريخ والهز، ليزيد عرض دجلة خمس مرات واصلا الى 160 مترا قرب القرنة.

    شبه الجزيرة

    كثرت الأنهار وملتقياتها، فلا يوجد نهر يضيع وحده في البصرة، جعل البصرة تبدو من الجو كأنها شبه جزيرة تلتف حولها الأنهار من كل الجهات ( شمالا نهر كرمة علي وغربا شط العرب وجنوبا نهر السراجي )، ناهيك عن اختراقات نهر الجبيلة والرباط والعشار في المركز وجنوبا الخورة والسراجي.

    الأنهار الآن

    تعاني أنهر البصرة كلها بما فيها شط العرب من التلوث، الذي تتوضح آثاره في نهاياتها وأكثرها في أنهار البصرة والعشار والرباط والخندك، ويمكن ملاحظة ذلك جليا من خلال الصور التي أخذناها لهذه الأنهر في أبريل الذي يعد شهرا للتصريف العالي، أي أفضل أيام السنة من حيث سريان المياه وكميتها وسرعتها في العام.

    ونذكر بأن هذه الأنهر وقنواتها وتفرعاتها كانت صافية عذبة صالحة للشرب، ولا يجري الحديث عن قرون ماضية، عندما كنا نصطاد السمك في شواطئ النهيرات والترع بالأيدي لهول كثرتها، وثمة من كان يصطادها بدشداشته بعد طيها قليلا في الماء.

    بمعنى أن التلوث لم يكن موجودا لغاية مطلع السبعينات، حيث كانت عمليات كري وتنظيف الأنهر الفرعية تجري يوميا على مدار العام، وكذا الحال بالنسبة للأنهر الكبرى.

    مسببات

    بالدرجة الأولى الاهمال وجهل حكام المدينة المعينين من بدو تكريت بطبيعة البصرة وأعراض أنهرها. لذلك عرف البصريون لأول مرة أن أنهرهم تحولت الى مجرى للمياه الثقيلة الخارجة من مساكنهم. زد عليها أتربة ومخلفات الشوارع التي تجلبها على النهر مياه الأمطا،ر التي لم يفكر احد في بناء شبكة لتصريفها، واستسلموا لواقع الطبيعة وتصريف شؤونها باللجوء المنطقي للأنهار.

    وما أن ازدادت المناطق الصناعية والمصانع بالقرب من الأنهار، حتى شوهدت فيها الاطارات والزيوت والمعادن وقطع السكراب فكانت تفرعات نهر الخندك في الداكير والسيمر على نهر العشار واحدة من أول مناظر التلوث التي قدر لأنهار البصرة تحملها الى يومنا.

    وما تلقيه مصانع البتروكيمياويات والأسمدة في أبي الخصيب والورق في القرنة على شط العرب والطحين في الطويسة على نهر الرباط، ومعمل الألبان على نهر الجبيلة ومعملي الثلج والطحين على نهر الخورة في المطيحة ومصنع البيبسي، ومصفى المفتية، ونحو 170 مصنعا متوسطا في البصرة تلقي نفاياتها كلها في الأنهر!

    وهناك عوادم الزوارق والبواخر التي تدخل الأنهر بسبب المد والجزر الذي يصيب شط العرب مرتين كل 24 ساعة. واذ كانت البصرة تستقبل سنويا ألف باخرة كبيرة قبل الحروب المعروفة، فان آلاف الزوارق ذات المحركات تتنقل في أنهرها يوميا.

    الثروة العبء

    اضافة الى عدم كريها لأكثر من ثلاثين عاما من المواد العضوية وغير العضوية، لم يبن أحد ضفافها، فزحفت اليها التربة والرواسب الطينية التي كانت تقذف بالفسفور والمعادن الثقيلة الى المياه الخالية من الأوكسجين المذاب ( الذي يعتبر عماد الحياة في المياه )، الأمر الذي خدم نمو الطحالب والأشنات والأعشاب موزعا البكتريا والروائح الكريهة محولة تلك الأنهر الصافية الى مجرد برك للجيفة، خالية من الأسماك والأحياء النهرية الأخرى.

    الموت الجماعي لأنهر البصرة قتل معه الاصطياد والتنزه وحول الأنهر من ثروة هائلة الى عبء أضاع على المدينة فرصة استغلالها.. ولو للسياحة.

    اتقاء ما حصل

    أكثر المدن في التاريخ التي أضاعت أنهارها هي البصرة. فقد اندرس فيها نهر الزبير الكبير الذي بنيت بفضله. ولا يوجد أثر لأنهار كالأبله وأبي الأسد والمبارك وتتلاشى بالتدريج أنهار البصرة والمعقل وأبي الخصيب، و«بويب» الذي أدخله السياب الى موسوعة الأنهر الأسطورية يمكن للمرء القفز من خلاله وكذا الحال لأنهر «حبابه» و«نهر خوز» و«باب سليمان» و«حمدان».

    وحين تنازلت المدينة عن أنهرها، فقدت السمكة والطير والمرسى والهواء اللطيف وأثقلها «العجاج» ورياح السموم والغبار، فيما كانت المقاهي ومطاعم الأنهر، فواصل الشهيق الذي يعم رئة المدينة بالسلوى ويخلف في كل خطوة شجيرة وموعدا وتألقا مزركشا لجري الماء وتلاطمه مع صخور غمرته بممالك السمك والحوريات.

    والأنهار البصرية منحت أسماءها للأحياء وحين يسأل العالم والضابط والمهندس والمجرم عن مسقط رأسه يذكر اسم النهر الذي يمر بحيـّهم، حتى صارت الأنهر مدنا وتواريخ وجناسي وعناوين تسطر بالجوازات.

    فقد أبناء الأنهار تمائمهم وصرّة النذر المرمية في مطلع الجسر الأول المقبل نحو الدار التي أصابها الشؤم، وذلك الصباح الذي تستيقظ فيه المدينة على رضيع جديد يتلوى بقماطه عند الجرف، بجسده المعزول النامي توا من ازدراء العيون التي تبدأ من هذه اللحظة تسويق اسم وتاريخ جديد له ونعته للنهر بعد أن أسقط عنه الأبوان سيماءه، محملين اياه اسم النهر.

    وحين خرجت الزوارق من بطن البصرة، أصابها المغص وأعيتها العربات وما أن توانت في النهر الأول ضيعت المرسى الأخير.

    حلول الإنقاذ

    ينبغي تخصيص جزء من موارد البصرة لانقاذ أنهرها بخطة يمكن أن تعطى لشركات متخصصة تربط أنهرها الستة الرئيسية المذكورة ببعضها وانشاء بوابات تستغل مياه المد ولا تسمح له بالعودة الى شط العرب أثناء الجزر بآلية معروفة تسمح للمياه بدخول الأنهر الفرعية وتمنع خروجها منها. وستسمح هذه الخطة بتطوير الحدائق المحيطة بالأنهار، وان اتخذت شكلا طوليا بمحاذاتها. وسيساعد انتشار المناطق الخضراء بالقرب من الأنهار، علاوة على فوائده الكثيرة، أهمية علمية تنحصر في زيادة كمية الأوكسجين الذي سينقي جو المدينة ويقضي على التلوث. وسيتحسن صرف المياه وكذلك نوعية التربة ورذاذ الأيام وخامات الناس.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت .. البصرة كما هي الآن - 6 -
    موانئ التهريب تتبع لعبة القرش والدلفين والأخطبوط
    النفط المكرر من الكويت يعاد تهريبه بموجب اتفاقات سرية
    البصرة ـ د. جمال حسين:

    هل تعلم بوجود «موانئ أهلية» في العراق؟!
    ما ان قضمت الحروب أظافر البلاد، وأتت عليها بضراوة فوضى الانهيار الأولى، وسلمتها الى الغموض والظلام، انبعثت فيها طفيليات العتمة نابشة كل شبر فيها لكي تكنسه سرقة وحرقا وتفكيكا ومن ثم تهريبا.

    وحكايات التهريب ليست جديدة على المدن الحدودية كالبصرة، لكنها كانت بحدود الناس والخراف وقناني المشروبات والسجائر وعدد من الساعات اليدوية وبعض الجمال. وان ترى مرة خير من أن تسمع ألف مرة. وما صقلته الأمواج وتتبعته العدسة وتباين في إدراكه الفهم، أكبر بكثير مما كنا نسمع، لشدة تعقيده من جهة وللتنظيم الكبير الذي تمارسه مجموعات هائلة العدد، جاثمة على صدر المدينة، ممتلئة مالا وسلاحا ومفرطة القوة والمكر ونباهة المهربين المحترفين.

    ولن يستطيع تقرير واحد ولا حتى استطلاع فضائي التقرب من كل العمليات الكبرى منها والتافهة والتي تطحن رحاها نوافذ البصرة العديدة للغاية.

    لكن الاستنتاج الأخير الذي يمكن تثبيته قبل استدراج الحدث، أن الصلف بلغ أوجه والخسارة في كل جوانب معانيها، فادحة، والترنم بطائر الديموقراطية، في بلد يفككه أهله فجرا ليبيعه مساء، تغريد بلا زهو ولا في محله، ما ان تمخر مئات السفن تاركة الضفاف بحسرة العراق - الخواء.


    النظام السابق عندما كان محاصرا، كان يسيـّر أموره بالتهريب، فبنى طوال شط العرب، بدءا من العقل ومرورا بأبي الخصيب وأبو الفلوس والسيبة لغاية الفاو، الكثير من مرافئ التهريب.

    وبعد سقوطه، ابتكرت شركات مسجلة وأخرى وهمية وعصابات وعشائر ومتخفون بواجهات أحزاب وحتى صحف، الكثير من الطرق لتوسيع «بيزنس» التصدير غير الشرعي للنفط والأغنام والأسلاك النحاسية وغيرها من المنشآت وخطوطها الإنتاجية بالكامل وحتى سكرابها.

    بدأت العملية بتنظيم تحسدهم الدولة عليه، حتى وصلت الموانئ غير الشرعية على شط العرب وحده نحو 80 ميناء، وصفها مدير عام نفط الجنوب عبد الجبار علي بأنها «كارثة».

    بورصة التهريب


    للجماعة بورصة خاصة بهم يقرون فيها أسعار النفط الذي يسرقونه من الحكومة والذي تقوم المؤسسات الرسمية بتزويد المحطات ودوائر الدولة به وكذلك السعر الذي يبيعونه الى مهربي الخارج.

    والبورصة ليست مبنى لكي يزوره احد، بل جلسات مطاعم فاخرة وعزائم في قصورهم ودواوين عشائرهم أو مقرات أحزابهم. ويمكن القول إن هؤلاء أصبحوا «مافيا» بحق، ولا تستطيع حتى قوة عظمى كبريطانيا التغلب عليهم، حيث يطارد جنودها المنفذون الصغار، تتبعنا على طريق الفاو سيارة «جي أم سي» رفع المهربون الصغار كراسيها وبنوا داخلها حوضا يتسع لنحو 200 الى 300 لترا وقد ألقى البريطانيون القبض عليها وساقوها الى مكان ما في الفاو.

    هذه الجيبات القديمة للغاية يتم استيرادها من الكويت ببلاش تقريبا لأنها سكراب، وفي البصرة يحورونها في المنطقة الصناعية لتصبح «ميني تنكر» ينقل البنزين والوقود من هنا الى هناك.

    بمعنى أن القوات في البصرة والمختصين، يقدرون على هؤلاء الصغار الذين يتعاملون باللترات، فكيف الحال مع 80 ميناء غير شرعي ترسو على جوانبه مئات السفن و«اللنجات» و«الدوب» والبواخر المتوسطة؟

    أوبك الثانية


    عرفت المساحات المائية المنتشرة من ميناء أبي الفلوس حتى الفاو حسب التسمية الشعبية بمنطقة الأوبك!

    هناك تتم كل العمليات على مرأى أو بتغاض من قوات «الدفاع الساحلي» او دوريات الجمارك.

    ولموانئ المافيا (لا نستبعد أن تكون دولية) أفراد حماية مسلحون لهم ضوابطهم في منع الاقتراب والتصوير وربما لديهم تراخيص بحمل الأسلحة بعد أن أجاز بول بول بريمر الحاكم الاميركي السابق في عهده إنشاء مؤسسات الحماية الخاصة على النمط الأميركي، دون دراية بالواقع العراقي طبعا.

    نكرر بأن هذا شغل مافيا وليس شيئا آخر، فالذي لديه قوات مسلحة بزي مدني ويخوت وبواخر ومطاعم وقصور ويهرب في وضح النهار وأناء الليل، يسمونه مافيا!

    لا صلاحيات


    المجالس البلدية في المنطقة يديرها فقراء مسحوقون، لا يكلف المافيا أي شيء لشراء سكوتهم. وفوق ذلك ينكرون بشدة وجود تهريب في مناطقهم. وقال قائلهم، حتى لو يحصل هذا الأمر «فليس من صلاحيتنا نحن ان نكتب للجهات العليا ما نرى ولا نكتب للدولة عن إشاعات»!

    هذه الجمل تعني أن أصحاب الحل والربط في المنطقة لا يريدون لا حلها ولا ربطها. وكذا الحال بالنسبة للشرطة الذين أشغلتهم جدا كاميرتنا وصورنا وكأننا نهدد الأمن القومي بالتصوير، وكانوا يجيبون على السؤال الخاص بالتهريب بالسؤال عنا وما الذي نفعله واستمرت المطاردة الكلامية هكذا نسأل ويسألوننا، وفي النتيجة تبين أن الجماعة ليس من اختصاصهم مطاردة المهربين إن وجدوا وهذه من صلاحيات الشرطة النهرية وليس «الأرضية»!

    عمولات كبيرة


    قوى الأمن الحديثة شكلت على عجالة ووفق اجتهادات معروفة، وكان الملتحقون الجدد يصبحون ضباطا في غضون دورات تدريب سريعة لستة أسابيع، لا يمكن أن يعد فيها جندي أ وشرطي.

    طريقة الإعداد وعامل الوقت والسرعة وسوء التخطيط وعدم وجود آلية للاختيار، سمحت لكثير من «أرباب السوابق » والمستعدين لذلك، بالدخول في سلك قوى الأمن المختلفة.

    ولم تكن مفاجأة، تأكيد العديد ممن حاورناهم بشأن قضايا التهريب، على أن تسهيلات وتواطؤا واضحا من الموظفين ورجال الأمن تقدم الى منفذي عمليات التهريب، لقاء عمولات تتناسب مع الشحنة، بمعنى أن بعض حماة القانون يحصلون على نسبة معينة مقابل تمريرهم كل عملية.

    فالباخرة الصغيرة التي نعرضها لكم، ترسو بشكل مباشر في كورنيش العشار، مقابل فندق الشيراتون المحروق، وليس في عرض البحر. وتتزود بالنفط المهرب يوميا، لكي تسوقه الى الضفة الأخرى التي أصبحت إيرانية بفعل معاهدة تقسيم شط العرب المعروفة باسم عام 1975.

    تحمل هذه الباخرة 120 - 150 طنا وإذا تقوم بعملية تفريغ واحدة في الضفة الإيرانية يوميا، فيمكن تصور كميات النفط المهرب شهريا لو علمنا بأن عشرات من مثيلاتها تقوم بالدور نفسه.

    المصادر


    وهي متعددة، فالنفط الأبيض يباع رسميا في السوق المحلية بسعر لا يتجاوز 10 آلاف دينار للطن الواحد، بينما يرتفع سعره في بورصة التهريب الى نصف مليون دينار.

    الفارق المهول بين سعر الدولة وسعر المهربين يسقط نزاهة الكثير من الموظفين، في وقت انحسرت فيه ضفاف الضمير والعفة عند الناس الذين ذاقوا الأمرين في زمن الحصار.

    شركة نفط الجنوب التي اعتبر مديرها التهريب «كارثة» بكل المقاييس، مهمتها استخراج النفط، حسب أقواله، وليس تسويقه.

    هذا الكلام يعلق المشكلة، فشركات ليس وراءها طائل، تسوق النفط عمليا، أو تهربه حقوقيا، في آن واحد لا يمكن لشركة عريقة كنفط الجنوب، المشكلة بعد إزاحة الشركة العملاقة بعد التأميم 1972 (شركة نفط البصرة) ألا تدري أين تسوق منتجاتها.

    هو ذرّ النفط في الآذان والمال في العيون لكي تعمى، فلو مر النفط من نقطة للتفتيش، لماذا يمر على الثانية وكيف يعبر الثالثة وما عذر القوات البحرية البريطانية التي يدور رحى التهريب أمامها وهي المالكة للقوة والتكنولوجيا العسكرية والفنية الكافية؟!

    إذن، هناك أوراق رسمية وموافقات أصولية يحملها هؤلاء تمكنهم من المرور بالشحنة طوال هذه العقبات، ولعلها كلمة سر اتفقت عليها كافة الأطراف المربوطة بالخيط الرفيع نفسه.

    تهريب المستورد


    ولم يكتف سلاطين «أوبك» البصرية بسرقة وتهريب النفط المحلي فحسب، بل وضعوا أيديهم على النفط المكرر القادم من الكويت وأحيانا من السعودية.

    ويصعب على هذا التحقيق إثبات كميات «النفط الكويتي المهرب» الذي يقدم الى العراق بشكل مساعدات أحيانا وأحيانا أكثر بناء على عقود مع شركات معروفة بفضائحها.

    وفي ظل ظروف التحقيق المتعبة، يكون من المستحيل حساب «التسريب» في الوقود المخصص للقوات المتعددة الجنسية الذي يجد طريقه الى قنوات التهريب.

    وإن كان الأمر مجرد تكهنات وشكوك في أسوأ الأحوال، فان التقصير الكبير والمؤذي لهذه القوات، لا يجادل ولا تشوبه الشكوك.

    الميناء القديم


    لم يخطئ من أسماه «أبو الفلوس»، فهذا الميناء المتداعي للغاية الذي نسيه الناس طوال نصف القرن الماضي، عاد في منتصف التسعينات الى سابق مجده، بعد أن شجعت الدولة على التهريب، بل ومارسته عمليا. وأصبح منذ ذلك الحين «أبو الفلوس» حقا.

    بعد أن دمره الحلفاء في الحرب الأخيرة، أعاد بناءه المستفيدون الجدد، الذين نعتقد بأنهم «مافيا النفط »، بالرغم من أنهم يظهرون كمحسنين الآن وكذلك «شيوخ عشائر» تتصدر أسماؤهم القوائم الانتخابية التي اختارها الشعب!

    ولم يقدم البريطانيون ولا حلفاؤهم برغيا واحدا لهذا الميناء الذي دمروه وكانت جهود المذكورين كافية لإعادة بناء المراسي وهذا هو المطلوب وأكثر من كاف بالنسبة لهم، فلم يطمحوا لأكثر من ممارسة التجارة عبره (التهريب طبعا) لسنتين أ وثلاث سنوات، لغاية استتباب النظام وظهور دولة مؤسسات وتنشيط وسائل الإعلام لكشف ما يحصل.

    هكذا خططوا لأن يسرقوا ما يمكن سرقته في أسرع وقت ليتربعوا على المال الذي سيجلب لهم السلطة ومقاعد البرلمان فيما بعد، ليتحكموا بمسير حتى السمكة في شط العرب ومنفذ الخليج.

    العمليات الأولى


    تساءل العراقيون ومن ورائهم المنطق والتاريخ : أين اختفت أسلحة الدمار الشامل؟

    وإذا كانت الإجابة بأن النظام دمرها منصاعا لقرارات مجلس الأمن ولجان التفتيش، وتوافق الإدارة الأميركية بدورها على ذلك أيضا، فيمكن تحوير السؤال ليكون كالتالي: أين اختفت مصانع ومنشآت التصنيع العسكري العراقية التي كانت تصنـّع أسلحة الدمار الشامل والأسلحة التقليدية على السواء؟!

    في أيام السقوط الأولى وما صاحبها من أعمال نهب تبعها حرق لطمس آثار السرقة، كنا نبحث عن أسلحة الجيش، وعثرنا على قسم كبير منها. ودخلنا إلى كل الدوائر والوزارات والمنشآت الحكومية تقريبا، لكن ما لاحظناه حينها، أن منشآت التصنيع العسكري كلها أحرقت!!

    غير أن جدرانها فقط أحرقت، وسلالمها ومراحيضها، فماذا عن الخطوط الإنتاجية والمختبرات والمخازن؟! ماذا حل بها؟!

    لقد فككتها ميليشيا الأحزاب «المنتصرة» بفضل أميركا وحملتها شمالا وجنوبا، فمن استطاع حملها شمالا، باعها الى إيران، ومن تمكن من حملها جنوبا، (أهداها) الى إيران أيضا، عبر ميناء «أبو الفلوس» بالذات .

    وسنريكم في حلقة قادمة، كم هي بسيطة هذه العملية، وكم كان باستطاعتنا لغاية هذه اللحظة تهريب أي شيء: ناس، خرفان، صواريخ أو أية لعنة أخرى للضفة الصديقة!

    المقيدون


    أهل الجمارك في ميناءي الفاو وأبو الفلوس قالوا إنهم يفتشون السفن الخارجة منهما والراسية فيهما ويتأكدون من «المانفيست» ويسمحون ولا يسمحون.

    واعترفوا بأنهم غير مسؤولين عما يجري في «الموانئ الأهلية».

    لقد وضع هؤلاء أيديهم على أهم مفردتين في تاريخ التهريب العراقي : المانفيست والموانئ الأهلية.

    كيف يمكنكم تصور شكل «مانفيست» في دولة تباع جوازات سفر مواطنيها في بوابة مديرية الجوازات، وفيها يستطيعون تزوير أرقام أي سيارة أو باخرة ولون أي مولود جديد.. ومن يحرر «المنافيست»... غيرهم؟!

    وهل سمعتم قبلا، بأن دولة تحترم نفسها فيها: موانئ أهلية؟!
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت .. البصرة كما هي الآن - 7 -
    النهب الملثم للعراق عبر كل المنافذ
    البصرة - د . جمال حسين:

    المال الفالت يعلم السرقة، والحدود السائبة تعلم التهريب، والموجة المنطوية على نفسها لا تقيس الريح والأسماك في شط العرب غير محددات باتفاقيات تقسيم النهر، كما الأعشاب التي ليس لها صاحب و195 مترا طول النهر ليس لها ضابط ولا من يلجمون.

    قواهم اختلفت، وألوان ستراتهم يزينها العلم المتصارعين على ألوانه، وإن حركوا الأشنات بحثا عن الرغيف.. تركوا الجمل بما حمل، وإن قبضوا على الطيور النابتة أجنحتها توا.. ضيعوا العقبان، وإن اضطربت في مسالكهم البطات النهرية، ضحكت على شباكهم الغربان.

    هكذا حال مؤخرة البلاد المنهوشة، المفروكة والمعصورة كليمونة، في الثغر الذي طالما قالوا عنه بأنه باسم، في الفيحاء المواربة، والتي تقبلت كل عناقيد الغضب وفطائر الصواريخ منذ فجرها حتى مغيبها، والتي لم تبق حرب في الكرة الأرضية إلا ودكتها، فجرت متضرعة للنهر، علـّه يبدأ عدها وتعدادها، فصلها ومثواها، منجـّما أشواكها.


    أكثر المنافذ الحدودية المائية والبحرية التي يمصون دماء البلاد عبرها هي منطقة السيبة وميناء «أبوالفلوس» وميناء الفاو. عدا ذلك فالأمر نفسه يشمل كل «الموانئ الأهلية» ابتداء من المعقل ومرورا بكل البصرة لغاية البحر.

    لكن للثلاثة المذكورة خبرة في الشق والنزع والتمويه وتتميز بالسرعة والتدجين، فالمسألة كما تبين، لا تستغرق أكثر من خمس دقائق، تكون فيها عصارة الوطن في مصافي الغير، الجاهزة، والملونة مستودعاتها، بما لذ ونار.

    الاقتحام

    ولعل أقرب نقطة حدودية تطل على مصافي إيران الحدودية، تقع مقابل «السيبة» (قبل الفاو ببضعة كيلومترات).

    والسيبة إداريا ناحية، لكنها قرية مكتظة بالنخيل والشجيرات ومسالك الجداول والترع وطرق الخيول والناس العميقي الطيبة والممعنين بالبساطة. اخترنا لدخولها وقتا يكون فيه الجميع متعبين من الظهيرة والغبار واليوم الريفي الشاق، وقت ما بعد الغداء الذي لا يكلف الله نفسا فيه إلا وسعها.

    وكان ينبغي علينا رؤية المكان وتصويره، ذلك الذي يأخذ ولا يعطي، يسلب ولا يروي، وكان ينبغي أن يكونوا متعبين لكي نفك ألغاز الحدود، وكان لزاما الانقضاض عليهم من حيث لا يعلمون، بمهل السلحفاة ورويـّة العقرب ومكر الثعالب ودقة الثعابين وفضول الهررة.

    هكذا، وهكذا فقط، يمكن اقتلاع جذور «التحقيق»، لتنضج جذوره وتستقيم جذوعه وتشع أوراقه: نشيج لاكفهرار العقدة التي سيطول الزمن لتبقى من غير حلاّل!

    الخوض

    لا علامات في الطريق الذي تسلكه الحمير فقط، بوابة لحظائر وبساتين مبعثرة معالمها. ليس سوى أفق النهر الهادي، الذي إن اقتربت منه، ستراه ملامسا للشاطئ والمرجة اليابسة.

    ولتبتدع أساليب الكلام والإيماءات والإشارات، حين يقابلك تلان، أولهما يستقر عليها جنديان للحدود بأسلحة عتيقة يقابله مباشرة، تل كما لوكانا حبة ومقسومة نصفين، عليه خروفان يزعقان بلا توقف.

    لوحة لعلها جسدت واقع الحال، تل من جنود جوعانين، وتل آخر من خرفان عطشانين، ولأنهم جنود فسيقتلون الجوع بالصمت، ولكونهم خرفانا فسيستغيثون حتى تركبهم موجة ماء.

    كان هذا مفتتح، وجذر القضية برمتها، أن يحمي حدود البلد الشاهق الغني جنديان لا يشبه أحدهما الآخر بالبزة ولا السلاح، الذي بدا وكأنهم عثروا عليه في زريبة، متداخلين مع خرفان الأهالي، وكل منهما له النظرة الحمراء نفسها، تلك التي تميز العين التي أنهكها التعب والغبار والانتظار.

    ولم يكن اختراق الجنديين والوصول الى حافة الوطن وملامسة آخر موجة فيه، بحاجة الى استنشاق الدروس الماضية، فالمتحدث معهما بلكنتهما وتلك اللهجة البصرية المحتفظين بها في إناء الفؤاد، كافية لأن يقولا: لديك ما تشاء من حرية ووقت، صور ولو حتى الصباح!

    كان ذلك خطأ فظيعا من جنديي الحدود، فالمنطقة أكثر من استراتيجية، وتطل على أهم مصافي نفط في الإقليم وهي مجمع عبادان الشهير، الذي فقدت الدولتان على أعتابه كل قوتيهما العسكريتين تقريبا، في حصار عبادان الشهير الذي استمر سنتين متتاليتين، قبل أن يستعيد الإيرانيون «المحمرة» في معركة دموية لم يبق فيها شارع في البلدين إلا وفقد فيه فلذة شبابه.

    الإبصار

    بقي الجنديان على حالهما فوق التلة مقابل الخروفين العطشانين، مدركين أن احتجازنا ومصادرة الكاميرا مسألة وقت، أسقطنا الصور على العدسة كرذاذ مطر محبوس على فنار مطفأ.

    وغير مرهوبين من القيظ، خرج اثنان آخران، ليصبحوا ستة، بسرعة ابتلاع الريق الناشف، انهم جميعا حراس الحدود المركونون في حوض المستنقع النهري الذي يطلقون عليه في نشرات الأنباء ويخطونه بالأحرف الأولى في بيانات مؤتمرات «دول الجوار» التي لا تنتهي، مصطلح «المنفذ الحدودي».

    ويد على زناد الكاميرا وأخرى تهدئ من روعهم، أوقفناهم على الأرض وأخرسنا نواقيس اعتراضاتهم غير المبنية على ثقة كاملة بالنفس. وسرعان ما تحول الأمر الى بداية صحبة، ونمو مشاعر، واجتذاب مفردات وصور تذكارية مشتركة.

    المحتوم

    الرجل الذي تقدم الينا زاعقا متوعدا، آخر ما كنا نتوقعه أن يكون ضابط المخفر. فبحسب علمنا ان الضباط لا يلبسون الدشاديش في العراق. وحتى إن لبسوها فلا تكون مهلهلة وبلا أزرار، لكنها النهاية المحتومة والمتوقعة التي حسبنا حسابا وجوابا لكل كلمة ستقال فيها.

    هي ذاتها التي تفصل بين الصحافي والشرطي على مر عصور المهنة: ممنوع التصوير! وتنتهي بـ «سلمنا الأفلام»!

    طبعا، الأفلام جهزناها في جيوبنا الكثيرة وسلمناها بعد ترويض مجدول، لكنها كانت الافلام الفارغة فحسب، فكاميرتنا رقمية ولا تشتغل بالأفلام!!

    المرارة

    قال جندي: لوتنتظر قليلا حتى المساء. عندما تغيب الشمس، سيحل في شاطئنا ظلام دامس وعتمة داجية ومن الشاطئ الآخر تنهمر علينا الأنوار وفيض من الأضواء. لو تنتظر قليلا، لترى الليل والنهار يفصلهما نهر!

    المكان الذي نقف عليه تجسيد حي لواقع العراق مع جيرانه ووصف الجندي لمنظر يراه يوميا بين أنوار الجيران وعتمة البيت مختصر للنظرية والبرنامج والفكرة الوطنية والمنهاج، بعيدا عن الردهات والاتفاقات ومحاور التوافقات وقوافي العذب مما يدركه الساسة ويمعن في ترديده الناطقون الرنانون. هي الانشودة الوطنية المباحة: في بيتنا ظلام ولدى جيراننا كل الأنوار.

    الملحق

    ظلامنا لأننا نهرّب لهم نورنا!!

    وظلامنا لأننا أدرنا ضمائرنا عن الوطن.

    وظلامنا لأن القمر يرى والشمس شاهدة على المداخن والضوضاء والفوضى وعبارات الرصيف التي ما أغنت عنا مالنا وما كسبت أيدينا اللحظة المهيبة، الشديدة الرقة، ما إن حطمنا الجدار والصنم ووعاءه.

    المشدوه

    لم نتصور أن التهريب سهل لهذه الدرجة ورخيص وبسيط. تأكدنا من الأمر عند نقطة «السيبة» وفي هرج «أبوالفلوس» ومرج الفاو. ففي السيبة التي جلسنا فيها كثيرا مقابلة الساحل الإيراني، لم يكن ثمة من يمنع وينهي ويأمر.

    القوارب والدوب» و«اللنجات» و«الصهاريج» تسير بهدى الأمواج وما تحمله اليوم يتبدل غدا، و«هوادج» التهريب دفينة كانت أم كنهها مدروك لا تبتعد عن النفط والبنزين والغاز السائل والديزل والأغنام والنحاس والأدوية والسجائر والمشروبات والمكائن والحديد والأسلحة والإرهابيين.

    العوامات

    قال الجندي: «انت ليش مدوخ نفسك، تريد أهربك كلك»!!

    وأردف الجندي: أصعد في هذا القارب وتتبع ذلك المركب، فهي ذاهبة الى «بويه 29».

    وضّح الجندي: «بويه 29» عوامة عليها فنار، يسلمون هناك ويقبضون ويعودون.

    وأفصح الجندي: هناك يتقاولون وكما لكل بضاعة ثمنها، فلكل صفقة تهريب مقاولتها أيضا. وما «تدهن به السير».

    عــدهم الجندي : المهربون بالمئات يعرفهم أهل البصرة فردا فردا. كانوا سابقا من الموسورين الذين يعتمد عليهم النظام والآن بعد أن زال الخوف، أي واحد يمكنه ممارسة التهريب حتى لو كان بالأمس صاحب عربة حمار.

    بسـّطها الجندي: لا يحتاج الأمر الى أموال وفهم، يمكن لأي «عربنجي» عمل ثقب في الأنبوب وتركيب حنفية عليه وبيع النفط لأصحاب عربات الحمير أي الى زملائه السابقين بحماية من بعض أفراد عشيرته المسلحين الذين يمر بهم الأنبوب. وثمة من الذين لا يملكون «ثقبا» يشترون النفط من تناكر الحكومة ليبيعونه بخمسين ضعفا.

    الحُماة

    كان النظام يحمي البصرة (أو يهاجم الآخرين بالأصح) بفيلقين عرمرمين هما الثالث والسابع مع دعم لوجستي مستمر من فرق الحرس الجمهوري. والآن ابتكروا القوة العسكرية التي تدافع وتحمي البصرة (من الإرهابيين بس!).

    وأطلقوا عليها» قيادة الحدود الرابعة الجنوبية» وأوكلوا إليها حماية الحدود الجنوبية (البرية والبحرية) وحماية الأنابيب النفطية وتأمين وصول المنتجات النفطية من الآبار الى مرافئ التصدير في موانئ: خور الزبير، أم قصر، خور العميــّة، «أبو الفلوس» والفاو.

    وتقع على عاتق هذه «القيادة» مسؤولية كل المنافذ الحدودية في البصرة، بما في ذلك صفوان (مخفران على الحدود الكويتية) والشلامجة (ثلاثة مخافر على الحدود الإيرانية)، بقدر تعلق الأمر بحدود البصرة فقط التي يضاف إليها مخفران في «هور الحويزة» (مع إيران أيضا) بالإضافة الى مطار البصرة الدولي (نظريا).

    وهي مسؤولة عن «الثقوب» أيضا التي رقعت الأنابيب بالتنسيق مع وزارة النفط التي تقوم بخياطتها من وقت لآخر.

    المدافعون

    وهم «قوة الدفاع الساحلي» التي أنشئت على أنقاض «القوة البحرية العراقية». وظيفتها «حماية الحدود المائية العراقية».

    للبصرة والعراق عموما، 58 كيلومترا بحريا وموانئ بحرية كثيرة هي الفاو وأم قصر وخور الزبير وخور العمية وميناء البكر وخور عبد الله والبصرة والمعقل وأبي الخصيب.

    وخصصوا حسب ما قاله لنا يوما اللواء الركن الطيار كوركيس هرمز سادة نحو 10 ملاين دولار لإحياء قاعدة أم قصر العسكرية البحرية ليلتحق فيها 400 من أفراد البحرية الجدد مجهزين بخمسة قوارب مطاطية للدورية يتكون طاقمها من ستة أشخاص.

    هذه القوارب المطاطية الخمسة التي تتسع لستة أشخاص بيدهم ستة بنادق كلاشنكوف ستحمي بنظرهم حدود العراق المائية وساحله البحري ومياهه الإقليمية من «عبث العابثين» وسطو «المارقين» وتهريب «الخاسئين». وهم القوة البحرية المحترفة التي ستحمي حتى الديموقراطية لو تطلب الأمر!

    الطوارئ

    وإذا كانت القوات المذكورة تحمي الحدود البرية والنهرية والبحرية، فلابد من وجود قوات تمنع وقوع السرقات وتلجم التهريب من مهده في داخل المدينة. ولأن هذا الأمر من اختصاص الشرطة المحلية، فقد أنشأوا قوات للطوارئ، للإنصاف تبلي البلاء الحسن، حسب الكثير من المعطيات فقد ألقت القبض على الكثير من العصابات المتخصصة بالخطف الذي قل كثيرا عن السابق وكذلك اعتقلت وصادرت الكثير من آليات المهربين الصغار (عجلات حوضية وتناكر صغيرة وعربات حمير وغيرها).

    قوة الطوارئ هذه عبارة عن فرق متخصصة لملاحقة الجرائم المنظمة كالتهريب.

    تجدر الإشارة الى أن عصابات التهريب تتشابك مع عصابات السرقة واللصوص، فهؤلاء يسرقون أبراج الضغط العالي ليبيعونها الى المهربين الذين يصدرونها الى إيران وغيرها نحاسا.

    لذلك فان التهريب يتسبب في انقطاع الكهرباء أيضا وليس نهب الثروات فحسب.

    الغوص

    هذا هو الواقع وما يحصل فيه، وهذه هي جهود الارتقاء بالبلد ومن فيه. فلكل يوم أسود لحظاته البيضاء، ومهما ازداد الأشرار فانها لو خليت من الطيبين لقلبت.

    عالم البصرة يثقل للغاية على قدر ثرواتها وحملها يكبر وحلمها يستطيل وصفحتها الخضراء تتكامل بالمياه التي صارت علتها وجواربها المثقوبة ورداؤها الملوث وباطنها الغدير بالثراء الذي جلب كل لصوص المجرة إليها. لندع صورة الليل والنهار المقسوم بنهر بين عتمتنا ونورهم، لطخ مع سبق الإصرار في جبين الزمن الذي مهما ارتعدت أجنحته لا ينبغي أن نتركه يمنـحنا من فتاته خلسة، الآن وإلى الأبد.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن - 8
    مئات السفن غارقة في مياه الخليج مجهولة المحتويات والمصير
    البصرة ـ د. جمال حسين
    تنهال الضربات وتتوالى المصائب دفعة واحدة وأحشاء التهريب مترابطة ببعض، وما إن تحل لغزا كامنا، حتى يستعلي عليك آخر لتستحيل القضية الى حلزون غير متسق، غزير المتاعب واسع المضاعفات، شديد الخطورة، حاد المخالب.

    والقضية لا تنحصر في نهب الجيل تلو الآخر ولطم المستقبل بالعاهات وبناء فوارق غير محمودة وتوزيع غير عادل للثروة العامة فحسب، بل في الآلام والأذى والمسببات الناجمة عن دس شيء في حبال الأمعاء لا ترتضيه. وأيضاً في الوهن والعجز عندما يفرضان عليك والقدر الأسود كواقع حتمي لا مفر منه.

    ولكي يثري البعض، علينا سقي المريء بالشوربة المسمومة وطلي الجلد بالأشعة المفتتة لنضارته وأن نطبخ في قدر نصفه مبيدات ونأكل في الصحن الملوث بالزيت المنهوب.

    هذا مصير غير عادل للعائلة العراقية والكويتية المضطرة لبلع سموم لا تعرف مصادرها ولا مخاطرها ولا عواهنها ولا تلك المهانة التي توجه لك في عقر حنفيتك ما إن تصب لك ماء لا تستطيع الغوص بمكوناته، وأن تعلق مع البسمة قطرة من خفايا الأشياء وضريبة المستتر ممن لا يعنيهم أمرنا وأعشابنا وأطفالنا وأطيارنا في دورة السقاة الحاجبين الغيوم عن نجومها عند اللحظة التي يهرع فيها البحارة المفزوعون مع جريان النفط المهرب والذخائر المؤدلجة على ضنى مواجعنا وصفاء أنهارنا و كبرياء بحرنا لتندس في مروجه السفن الغرقى، معلنة افتتاح الفصل الخامس للعام القاسي، غائصة في أعماق معداتنا وهناً وضعفاً وشحوباً وهزالاً بفعل أشباح لا يعنّ لأحد مطاردتها في الابتلاء الكبير ما إن يعلن البحر عن حكاية جديدة للصواري النائخة والأشرعة الغائبة والعنابر الملوثة.

    أن يكون لون النهر بنفسجيا مرة و«ليلكيا» في بقعة أخرى وأخضر مسودا في موجاته الخابيات، وأن يكون أزرق وأحمر، فما حال الوردة والشريان؟!

    وتغير ألوان النهر، تباشير أولى لما سيحدث ليس بعيدا في البحر من نفوق غريب ورقاد الأحياء البحرية بلا سكون في قعر مستعمر بالحديد الضال والحبال المهترئة وخزانات الوقود الملحومة على عجل التي إن طلاها ملحه ستنزف بغير هدى وبدون توقف وعلى هواها النفط والزيت والبنادق وقطع العتاد والصواريخ وبراميل لا يعلم في شأنها حتى حمالوها، بفعالية الحنق الذي سيسدل الأمواج عن ذاك الصفاء لغواصين كانوا لغاية هذه السنين يسنون المقطع الأخير لأنشودة البحر الذي لا يخاف من أحد.

    ليلة غرق زينب

    كانت أوقات غرق الناقلة «زينب» في السواحل الإماراتية متوترة تبعثرت فيها الأنواء في الإقليم لحد لا يمكن لأحد فيه التكهن بما سيحصل غدا. ولعلها فرصة لفتح ملف التهريب منذ تلك الأحايين غير المواتية، لكن غرق «زينب» لم يحرك الملف ولم ينفض الغبار عن المشكلة ولم يدق جرس الإنذار.

    فقد اعتقلت «زينب» قبل غرقها خمس مرات من السلطات البحرية الإماراتية وأفرج عنها لغاية اليوم الذي أسلمت نفطها لبارئها في قعر المياه الإقليمية الإماراتية.

    لم يكن مفهوما كيف يتم إلقاء القبض على مخالف، سفينة كانت أم بشرا، ويطلق سراحه ليعيد الكرّة والعمل نفسه خمس مرات، دون التفكير بعمل شيء يمنع النهاية المأساوية التي أفضت إليها «زينب» وما ستسببه من ويلات قد لا تظهر حال غرقها، ومن المرجح، أن الطبيب البحري الذي أعلن وفاتها، لم يهتم بما سيسببه جثمانها من أذى على المدى البعيد، لاسيما أن «زينب» ناقلة مشهورة ببقائها في البحر ولها سجل ضخم في «آداب الموانئ» الخليجية، فكيف باللواتي ليس لديهن سوابق ولا سجلات في الآداب؟!

    على مدار الموجة

    المسؤولون الإماراتيون صرحوا أكثر من مرة بأنهم لا يستطيعون وقف التهريب، وأنهم يصادرون الناقلة المخالفة الواحدة تلو الأخرى وانهم رصدوا نحو 200 ناقلة تعمل على مدار الساعة ما بين شواطئ العراق ومحطات في الهند وباكستان وشمال أفريقيا ومرافئ في الخليج.

    الطريف أن عملية مصادرة ناقلات التهريب تنتهي بمزاد علني يحضره كل المهربين ليستعيدوا سفنهم بثمن بخس!

    أما البريطانيون ولاة البصرة، فقالوا انهم وقعوا في «متاهة كبيرة»، حيث تطارد طائراتهم وزوارقهم سفن المهربين لتتوارى في السواحل الإيرانية وما ان تختفي أو تطاردهم قوات السواحل الإيرانية، حتى تعود الى المياه الدولية، الأمر الذي أدى الى عدد من المصادمات العسكرية المعروفة بين البحريين البريطانيين ودوريات إيرانية سقط فيها العديد من القتلى، ناهيك عن عملية احتجاز البحارة البريطانيين لدى إيران والمعروفة للجميع على أنها حدثت سهوا.

    مراكب سكرانة

    لا يضحي المهربون بسفن غالية في مثل هذه العمليات، ويعتمدون على سفن بالكاد تمخر، لا يقل عمر سباحتها عن 30 عاما، متهالكة، جسدها مقشر وكلها مفاجآت.وخشية من المصادرة يستعينون بالسفن التي لا يمكن أن يذرفوا عليها الدمع أو يمزقوا بسببها الجيوب.

    سعرها لا يتعدى نصف مليون دولار (الخشبية 200 ألف دولار والحديدية نصف مليون)، يمكن للمهربين استعادة سعرها بسفرة واحدة، حيث يمكنهم تعبئتها بنحو 2000 الى 3000 طن من النفط تعود لهم في غضون شهر بمئات الملايين من الدولارات (ألف طن من الديزل يعادل 120 ألف دولار وزيت الوقود يصل الألف طن منه الى 100 ألف دولار ويمكن ضربها وتقسيمها ومعرفة الأرباح قياسا بسعر الناقلة علما بان سعر الطن في العراق يبلغ 10 دولارات فقط).

    ومن هنا تبدأ قضيتنا مع «السفن الغرقى».

    المراكب الذكية


    من خبرتهم يعرف المهربون جيدا المناورة في البحر، ويحفظون الشواطئ الآمنة.

    يلحمون عنابرهم جيدا ويزيدون من ترقيعها بالحديد، ويضعون أسياخا حديدية في كل جوانب سفنهم لكي تمزق قوارب القوات التي تطاردهم.

    والبحارة يتكلمون كل لغات الإقليم: فارسية، هندية، عراقية وحتى أوكرانية وروسية. لا يحملون وثائق ثبوتية محددة، ولا تعرف لهم جنسية، ويمكنك الاطلاع حتى على جوازات هندوراسية على متن هذه المراكب العجيبة.

    الغرق الشامل


    لغاية منتصف التسعينات، حين كان الحصار على العراق في أوجه، وقبل إبرام مذكرة التفاهم المعروفة «النفط مقابل الغذاء» غرقت نحو 50 ناقلة نفط في الخليج بكل ما تحتويه.

    وآخر تقرير أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كشف عن غرق 282 سفينة وناقلة وباخرة مقابل أم قصر وميناء خور عبد الله فقط.

    أضف الى هذا العدد، ما لم يكتشفه خبراء الأمم المتحدة وظروف تحرياتهم الصعبة وفارق التوقيت والدقة وعسر الأمواج وصبر الأجهزة. زد عليه ما غرق أو اغرق من المهربين مرة ومن الذين يطاردونهم مرات. واحسب معها أيضا ما غرق في غضون الحروب الماضية ولا تهمل عمليات المافيا الكبيرة التي كانت تبتز دول الخليج، والإمارات تحديدا، حسب اعتراف مسؤول رفيع كان علق على غرق «زينب» بالقول ان ذلك جزء من «حملة لتخويف الإمارات».

    هذا بدون حساب ما غرق من زوارق و لنجات و» دوب» وصهاريج ومراكب شراعية وما نفق من حمير البحر، فان الناتج الإجمالي لعدد ما غرق في الخليج يصل الى مئات، لا نحن ولا غيرنا يعرف عددها باستثناء الله.

    الخطأ القاتل

    ويخطئ من يظن بأن مئات السفن (الغامضة) الغارقة في فوهة الخليج، بعيدة ولا تضر. فهذه السفن غارقة وتؤثر في «المياه الكويتية» لكون أضرارها تنتقل وتنتشر، لاسيما لمن يحلـّي ويشرب من البحر! وإذا كانت «ظاهرة النفوق» الشهيرة قد مرت بدون حسم، فمن يدري على من جاء دور النفوق الآن؟!

    فأي مختص يمكنه عدّ المخاطر الفظيعة من تركه مئات السفن الغريبة الحمولات التي تستدرج الحياة اليوم نحو الموت البطيء.

    كما أن أحدا لا يعرف مزايا حطام السفن الغارقة: الحجم، المكان، درجة تأثيرها على الملاحة، قدرتها على تلويث الأحياء البحرية وصحة الناس، وزنها، عددها والكثير جدا من معطيات ينبغي توافرها لدى فريق متخصص مهمته عمل مسح ميداني للذخائر الغارقة والنفط السائح.

    ومن يدري، ولماذا علينا استبعاد عدم قيام النظام العراقي بإغراق أسلحة الدمار الشامل أو موادها الأولية في واحدة من مئات السفن الغارقة في الخليج، لاسيما أنه قام في العملية نفسها بإغراق مكونات الصواريخ في دجلة وعثر عليها المفتشون فيما بعد؟

    بمعنى آخر إن عملية الإغراق المتعمد لطمس الآثار حصلت وموجودة في إرث التاريخ الأسود لهذا الإقليم ولا يجوز تحاشي أو طي موجات تسبح في خيلائنا دون معرفة ما تحمل.

    حملة إنقاذ

    ليس في الخليج دولة فقيرة بما في ذلك العراق، لا تستطيع وضع خطة وبرنامج لحل مشكلة مستمرة كحطام السفن الخطيرة في الخليج. والعملية تبدأ من مليون دولار وتنتهي بعشرة لكل سفينة، حسب حجم حطامها وظروف يدركها المختصون بانتشال السفن الغرقى.

    فحسب المعطيات المؤكدة ثمة 40 حطاما كبيرا يعيق الملاحة في الموانئ العراقية، وتضمينا للأنباء التي تتحدث عن بناء الميناء العراقي العظيم في الفاو، فان مشروعا كهذا سيدر على مستثمريه بعدد أمواجه ذهبا لو أزاحوا هذه المخاطر المستمرة بالانتشار عن المنطقة.

    ولا يكلف ترميم القنوات وإعادة عمقها السابق إليها لتستقبل سفن السحب العميق، أكثر من 35 مليون دولار.

    هذا المبلغ بإضافة المبالغ التي يمكن أن تصرف على إزالة السفن الغرقى يعد تافها جدا لأي مستثمر جاد، ناهيك عن ميزانيات دول غنية كالعراق والكويت، بالمقارنة مع الفوائد التي لا تقدر بثمن.

    تراخ وتآخ

    بسقوط مافيا بغداد الكبرى وظهور مافيات على أنقاضها، لا نستطيع الوثوق بأن أحدا في الكويت والعراق يعرف ما الذي كانت تحتويه السفن الغارقة وكم شخصا في العراق والكويت يعرفون أماكن غرقها وعددها بالضبط، ولا يوجد سبب يؤدي الى الاستهانة بمعرفة أسباب غرق هذه السفن قبالة المياه الكويتية طوال 15 عاما، وما القوة والمغزى وراء ذلك.

    ونعتقد بان الوقت قد حان، لانطلاق مشروع كويتي - عراقي، حتى خارج الصعيد الرسمي، لإزالة حطام السفن الغارقة والاعتذار من الأسماك. ومن غير الجائز حساب هذه المشكلة وفق ضوابط وقياسات «المياه الإقليمية»، طالما أن السموم الغارقة لا تعرف القانون الدولي
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت .. البصرة كما هي الآن – 9
    الموانئ دمرتها الحروب.. وعروض مغرية لإعمارها
    البصرة - د . جمال حسين ـ القبس ـ 13/4 ـ
    الحروب والحصار طوحت بالرافعات ودمرت الحفارات وأنهكت الأرصفة ونواصيها وقطـعت الحبـال ووميـض السـفـن المبتهجة بالوصول الى اليابسة.
    وخطــط النهـــوض بواقـع الموانئ العراقية طمـوحة للغاية وتحتاج الى أموال طائلة وخبرات موجودة للإرث الكبـــير الذي يمتلكه العاملـــون في شركة الموانئ العراقية. وبدون تدوين أرقام، يسعى المعنيون لشق البحر وتطويع المرساة وتناول السلع من البحر كونها أرخص وأكثر جدوى من الطرق البرية، غير السالكة في أحيان كثيرة.
    وبذلك، يعد إحياء الموانئ العراقية وبنـــاء المــشروع الحلم الذي أسـموه ميناء العراق الكبيــر مقدمة من شأنها إطلاق العراق مجـددا من زواياه المركونة صوب الاتجاهات كلها ليختال عمال مينائه في يوم ما بأصوات البواخر المودعة.
    الموانئ العراقية تأسست كشركة قبل إعلان الدولة العراقية المعاصرة بعام واحد. وتخصصت بتنفيذ كافة الإجراءات المتعلقة بالشحن والتفريغ والتحميل لكل شيء يدخل الى العراق عبر منفذه البحري الوحيد في البصرة.
    بداية اختار الإنكليز المعقل كميناء رئيسي وكمكان يسكنون فيه، لذلك تميزت هذه المنطقة عن سواها بالأناقة والترتيب على الطريقة الإنكليزية وكانت الحياة تسير هناك، كما لو كانت في أي مدينة بريطانية.
    ويعمل في الموانئ العراقية جيش من الموظفين والعمال والمهندسين ومرشدي البواخر والمشرفين على الممرات البحرية ومختصين بالصيانة وإداريي الرافعات والساحبات والحفارات.

    أم قصر
    واتسع الميناء الوحيد الذي كان يدير العراق ويطعمه من أرصفة ثلاثة في المعقل، ليحول جزءاً كبيراً من الساحل البحري في أم قصر الى ميناء كبير فيه 22 رصيفا ضخما، واحد منها متخصص لنقل الكبريت وآخر للحبوب ورصيف للزيوت بينما تتخصص الأرصفة الأخرى للبضائع العامة وتستوعب في الوقت نفسه 52 ألف طن ويمتد عبر خور عبد الله.
    وثمة خطط أميركية لتطوير هذا الميناء بالاتفاق مع شركة «بكتل» ووكالة التنمية العالمية الأميركية للقيام بحفر وتصليح واعمار الميناء.
    تجدر الإشارة الى أن هذا الميناء يكاد يكون الوحيد الذي لم يتعرض الى تدمير لأن القوات البريطانية سيطرت وحافظت عليه لتأمين وصول امداداتها عبر البحر.

    موانئ النفط
    تتبع موانئ البضاعة والسلع لوزارة المواصلات، وهي ليست الموانئ الخاصة بتصدير النفط التابعة لوزارة النفط، مثل ميناء البكر الذي يطلقون عليه الآن اسم البصرة والميناء العميق (مدمر كليا) وهما عبارة عن منصتين متخصصتين باستقبال ناقلات النفط فقط ويقعان في الخليج.
    وقد تعرضت المنصتان المذكورتان لأضرار بالغة، حيث كانتا مسرحا لمعارك بحرية ـ جوية خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، ناهيك عما حصل لهما خلال الحروب التي تلتها.

    خور الزبير
    أول ميناء عمل بعد سقوط النظام وافتتح مطلع عام 2004 باستقبال باخرة سنغافورية وأخرى بنمية.
    والسبب في تأخر العمل بالموانئ العراقية، لا يعود للأضرار التي تعرضت لها، فقد أبعد الحلفاء نيرانهم عن الموانئ البحرية في حربهم الأخيرة لغاية في أنفسهم. التأخير انحصر في إصرار القوات العسكرية الأجنبية على البقاء في الموانئ وإدارتها لعملياتهم الخاصة.
    وبعد مفاوضات طويلة أعادوا ميناء خور الزبير ومن ثم سلموا ميناء أم قصر لشركة الموانئ، التي يؤكد المسؤولون فيها بأنهم لم يحظوا بأي دعم من الحلفاء ولا من مجلس الإعمار ولا المانحين. وكل ما حصلوا عليه وعود وأوراق واجتماعات طويلة.
    وعلى هذا الأساس فإن ما حصل من تدبير لشؤون الموانئ، كان بجهود ذاتية وما تمتلكه الشركة من إمكانات محدودة تعتمد أساسا على عائدات الموانئ نفسها.
    ويختص هذا الميناء بتصريف منتجات معامل الأسمدة والحديد والصلب والبتروكيميائيات والفوسفات.

    ميناء المعقل
    وهو الميناء العراقي الأول، مقفل ومعطل العمل فيه منذ سبتمبر 1980 بعدما أوقفت الحرب العراقية ـ الإيرانية الملاحة في شط العرب. لكن ما تلاها من أعمال نهب بعد سقوط النظام، جعل البعض يفترس ميناء المعقل ويقوم بنقل محتوياته بما في ذلك قطع بحرية كاملة، الى إيران.
    وسرقت حفارة ضخمة اسمها «النصر» وأخرى اسمها «الموصل» وهما في طريقهما من ميناء المعقل الى ميناء أم قصر وهربتا الى إيران أيضا. ولم تنفع المطالبات العراقية في استرجاعهما.
    وخصص البريطانيون 7 ملايين دولار لإصلاح الميناء ومعداته وانتشال ما غرق فيه وإنشاء المخازن وغيرها. ويمكن استغلال هذا الميناء لاستقبال السفن قليلة الغاطس كما كانت حاله سابقا للتقليل من الضغط على ميناء أم قصر.
    ولكونه متوقفا عن العمل الآن والسبعة ملايين دولار لا تكفي لإعادة تأهيله، فقد تم تأجير مبانيه لتكون مقرا لـ «منظمات إنسانية» ويدفعون من أرباحها رواتب المتقاعدين.

    خطة يابانية
    ولعل أكثر العروض جدية لانتشال واقع الموانئ العراقية المتدهور، تلك العروض التي قدمتها شركات يابانية وضعت فيها خطة شاملة للتطوير بسقف مالي قدره مليار دولار، ينمون من خلالها القطاع البحري العراقي برمته، بما في ذلك تزويدها بالزوارق والرافعات والساحبات وبناء أرصفة حديثة ومخازن متطورة.

    شروط عراقية
    تنحصر في أن يكون كافة العاملين في مشاريع التطوير من الموظفين العراقيين من دون الاعتماد على العمالة الأجنبية. ويفرض الطرف العراقي وضع خطة تفصيلية بعيدة المدى ترفع من مستوى الموانئ العراقية لتضعها في مجال منافسة موانئ الشرق الأوسط.
    وتقدمت إيران وتركيا وسوريا بمثل هذه الخطط حيث يقول المسؤولون في شركة الموانئ انهم بصدد دراستها.

    الميناء الكبير
    يجري التخطيط لإنشاء «ميناء العراق الكبير» في منطقة الفاو يضم 50 رصيفا لاستقبال البواخر الكبيرة جدا.
    وتفاصيل هذا المشروع، الذي يفترض أن يقضي على الفوضى في الموانئ الصغيرة، أنجزت. وتعتزم الحكومة العراقية تنفيذه «مهما كلف من ثمن». ويطمح المخططون له، الخروج الى الخليج واستثمار منطقة «رأس البيشة»، تمثل الاتجاه العراقي الأعلى في الخليج.
    وسيمتد الميناء على مسافة 20 كيلومترا تضم الى جانب الأرصفة الخمسين، مخازن كبيرة وساحات تفريغ البضائع ومباني للجمارك والحدود والجوازات ومطاعم وغيرها.
    ويجري التخطيط أيضاً لربط الميناء بطرق برية سريعة وسكك حديد مع دول الجوار علاوة على إنشاء مطار دولي ومنطقة للتجارة الحرة ومرافق سكنية ومدينة سياحية.
    وإذا قدر لهذا المشروع ان يرى النور، فانه سيحول منطقة مهملة ومتروكة على مر العصور الى أهم قطعة تؤثر بشكل فاعل في تطوير التجارة والاقتصاد في البلاد. وستنهض البصرة مجددا وستنشط فيها الحركة التجارية والسياحية والمالية وستؤمن العمل للآلاف من مواطنيها.
    واستغلال شواطئ الفاو من الناحية الفنية له إيجابيات كثيرة أخرى، فهي ستختصر المسافة على البواخر التي كانت تضطر لقطعها للوصول الى أرصفة أم قصر وخور الزبير، كذلك لا تحتاج هذه البقعة لكثير من الحفر، فعمقها يتجاوز أعماق الميناءين المذكورين بكثير وستحرر العراق من خطوط التالوك والمعاهدات المتعلقة به والتي قيدت نشاطه البحري لسنوات طويلة. وستبلغ مساحة الميناء 30 مليون متر مربع محصورة في الساحل الغربي لشبه جزيرة الفاو ورأس البيشة.
    وتدرس جهات عديدة منها المركز الوطني للمختبرات والبحوث الإنشائية ومختبر الفحص الإنشائي التابعان للشركة العامة للموانئ ومركز علوم البحر والمركز الاستشاري الهندسي التابعان لجامعة البصرة المسائل الهيدروغرافية والطوبوغرافية والظروف المناخية وسرعة الرياح والتيارات المائية وارتفاع الأمواج وعمليات المد والجزر.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن-10
    موقظات الذكريات:
    تمثال السياب ومُزوِّج البصريات وأسد بابل
    البصرة ـ د. جمال حسين

    لنتمش في مسالك البصرة المتسقة، للوقوف على أجفانها غير المتبخرة الأحلام. منسابين في نفسها الفاقدة الذاكرة لنجيـّش حوافر اندهاشها بقوس المدينة وقزحها وأثير أماكن يصعب جدا تلمس البصرة بدونها. مسميات توقظ الذكريات، لولاها لعاندت خلايا النسيان وبوصلة التعرف على أرجائها ومرغت اتحاد الروح بالشاهدة والقصد بالنية والحصاة بالعثرة الواهية.

    قوس البصرة وقزحها، سنختار من بين مئات المحطات، توقفات نعدها مرايا المدينة ومصاهرتها العذبة مع ائتلافها بالأرض وبراءتها الخاصة. وكما تجري الأعراف الآن سنقسم ذكرياتنا حسب المحاصصة الطائفية أيضا، لنرمي السلام على: سني وشيعي ومسيحي وبابلي من الذين ساهموا في رسم لوحة البصرة.

    تداول المفردة والبخت بالوقت بعلاقة طبخت جوهر البصرة، منضمين إليهم في هذه المغامرة والتأويل الأجاج.


    (1)
    التمثال والقبر

    لبدر شاكر السياب تمثال في كورنيش شط العرب وقبر في الزبير وأصدقاء يتناقصون تدريجا وعائلة كريمة لم تكن مرتاحة آخر زياراتنا لها.

    قبل ربع قرن نشرنا تحقيقا مطولا للغاية عن السياب في ذكرى وفاته. اصطحبنا غيداء ابنته الكبرى في غضون هذا العمل، حيث كان ولا يزال ابنه البكر وزميل دراستنا غيلان في الولايات المتحدة.

    كانت المرة الأولى التي تتعرف فيها غيدان على عمها خالد السياب وعبد المجيد خاله الذي كسبه للحزب الشيوعي، فوجئنا بقبره الى جانب بدر في تحقيقنا الراهن.

    زرنا البيت القديم في جيكور ودخلنا الغرفة التي ولد فيها الشاعر وعرفنا «شباك وفيقة» الشباك الحقيقي للقصيدة المؤلمة وجلسنا عند بويب وطالعنا «منزل الأقنان». ضم التحقيق مقابلة نادرة مع طبيبه الخاص في مستشفى الموانئ، ومنحنا نسخة من آخر تقرير طبي سلمه للشاعر قبل توجهه للمستشفى الأميري في الكويت. وقابلنا كل أصدقائه وفتحنا ملفه واضبارته الخاصة في مؤسسة الموانئ وجلسنا على مكتبه وروى لنا أصدقاؤه أيام العسر واليسر والمرض وكيف كانوا يحملونه من على السلم ليصل الى مكتبه. و منحتنا غيداء - وقتها - الكثير من المخطوطات ومترجمات نادرة للسياب وتسجيلات أكثر ندرة بصوته، وصور لم يطلع عليها أحد خارج العائلة، وفي النهاية عندما نشر التحقيق وصفته غيداء بأنه « أفضل ما كتب عن السياب». ضاعت هذه النوادر كما ضيعنا السياب وآلاف الكتب، ونشعر بأن للرجل دينا كبيرا علينا، حتى شخصيا.

    نذكر للآن السيارة التي حملت السياب من الكويت الى دار فؤاد طه العبد الجليل شقيق السيدة إقبال زوجة الشاعر التي كانت تسكن معه مقابل بيتنا في الأصمعي الجديد والسيد فؤاد كان مدير مدرستنا الابتدائية التي قضيناها مع غيلان في صف واحد.

    صعد والدي كعادته في هذه المناسبات وربما اعتبره واجبا حزبيا، ليثبت التابوت جيدا ويلفه ببطانية، لأن مطرا شديدا بدأ في ذلك الصباح وكانت أصوات نسوة مخنوقات العبرة تطلق من دار الأستاذ فؤاد.

    لم يكن عمرنا تلك الأثناء يسمح لتقبل خسارة فادحة كهذه، لكني بكيت لأن أبو غيلان مات، كما نبكي لوفاة أحد في المنطقة. ولم أعرف وقتها، أكثر من أن هذا التابوت الذي رتبه والدي هو لأعظم شخصية ظهرت في تاريخ البصرة والأدب العربي برمته.

    استمرت جيرتنا مع عائلة السياب وزمالتنا مع أولاده، حتى انفضاض الجمع بسبب اختلاف أماكن الدراسة وانتقال عائلة السياب الى مسكن جديد ليس بعيدا عن « شارع التنانير» وهو المنزل الذي نبشنا فيه مع غيداء والسيدة إقبال حقيبة السياب الخاصة.

    كنّ ثلاث نساء وحيدات بغياب غيلان، وهذا ما كان يعصر قلب غيداء بالعتب: هكذا تركتمونا طوال هذه المدة لوحدنا. ولم تكن ثمة إجابة عن هذا النوع من المرارة، لم يكن ثمة إمكان للجواب الصحيح، لعلها الدنيا وتغيراتها غير المواتية وربما شيء آخر أقسى من الدنيا.

    فعلا، لم يهتم أحد بعائلة السياب ولا بذاك التمثال، الذي اضطرت السيدة إقبال الى غسله بيدها مرة أو مرات في ذكرى وفاته، وأهمل مشروع تحويل داره في جيكور الى متحف.

    حين وقفنا آخر مرة في الدار كان يصارع من أجل البقاء وثمة مواد بناء جلبوها ليحققوا المشروع الذي طمرته الحرب مع إيران بعدما حولت جيكور ودار الشاعر الى ساتر أمامي في القتال.

    لم يكدر أحد ممن حطموا تماثيل الكورنيش، السياب ولا وقفته المهيبة، وبقى مؤشرا بالغ الأهمية للذهاب والإياب، والورقة الأكثر أهمية لترتيب فصول السنة في المدينة التي ضيعت الكثير جدا من ماضيها.

    كما الحال مع قبره الذي ضاق بأقرباء جدد لم يكن غير «الردى» الذي تحدته مفردة طالما كررها درعا لشعراء سالف الزمان، وركنا لن ينتزعه أحد للمجدد والمحدث الشاب القادم من أقصى بساتين أبي الخصيب.

    سيبقى منكب الرجل الشاعر عروة المدينة وعرشها ونورها إن أماط الظلام اللثام على صفحاتها البغيضات، مشيئة وكينونة باسترجاع أول عنوان كتبناه نحيي ولادته: أظلمت الدنيا فأضاءها السياب بالحب.

    (2)
    مزوِّج البصريات

    لا يمكن أن تعثر على امرأة بصرية واحدة، من الجيل الماضي أو الحالي، إلا وتناولت غداءها في مرقد «ظاهر بن علي».

    ولا يمكن أن تعثروا على مفارقات كالتي يجسدها هذا المكان الواقع في قلب العشار. فهو المرقد الوحيد الذي يتكئ على مسرح (التربية) بحيث وصلت البصرة في أيام تسامحها وعلوها على الصغائر، أن يمتزج صوت الانشودة والأغنية بالتراتيل الدينية، جنبا الى جنب وفي وقت واحد، دون مزاحمة احد للآخر.

    والمفارقة الأخرى، أن اسم المرقد أطلق على خادم المرقد وليس باسم صاحبه المدفون فيه!

    فالمدفون احسائي وصل الى البصرة وعاش في منطقة الجبيلة واسمه حسن وأنه ممتد نسبا الى موسى بن جعفر (ع) وصار اسمه حسن الجبيلي. وقيل أنه كان ورعا ومثقفا يقضي حوائج الناس ولم يمر به أحد بدون أن تحل مشكلته.

    وعندما مات حسن (الأحسائي) وتقديرا لحياته الكريمة، أقام الأعيان مرقدا له، وكلفوا « ظاهر بن علي « لخدمته.

    وسرعان ما تحول المرقد الى مزار شعبي، ولا نعرف المرأة الأولى التي أطلقت أسم المرقد على اسم خادمه أو « الكيـّم» عليه، حتى انتشرت التسمية وثبتت للخادم ولا يعرف الأغلبية اسم المتوفى الحقيقي حسن الجبيلي.

    ومهما أهدت الأقدار أفعالها، فان بضعة أمتار مربعة هي باحة المرقد وإطلالته على نهر العشار ومبنى المحافظة، تحولت ولغاية الآن الى أكثر مكان تحتشد فيه النسوة في البصرة.

    صار المكان منبع الحب وسر إزالة نحس العنوسة عند الفتيات، فلا طبيب نفسي ولا خبير للتجميل ولا سحر ولا تدجيل، من ترد الزواج، فلتنذر لـ «ظاهر بن علي « ما تيسر لها، وستجد خطيبها إن لم يكن في بوابة المرقد، ففي أقرب نقطة من وثبتها الجديدة.

    نكرر أنه لا توجد عائلة في البصرة إلا وذهبت الى هذا المكان محملة بالحلوى والزاد (يتبركون في تناول الطعام هناك) والبخور والشموع وقطع القماش الأخضر ويعدون الشاي. وثمة رمز تتبعه عجوز عاشت من العمر عتيا في هذا المرقد، بمنزلة قفل تمسكه بيد العازبة، ثم تفتحه بطريقة ما، والطريف والغريب، أن هذه العازبة التي فتحوا قفلها في « ظاهر بن علي « سرعان ما تتزوج!!

    القفل على الأرجح قفل لا يزيد ولا ينقص، وطرد النحس قد يكون في مسألة أخرى وغير مرتبط بصدأ الأقفال ولمعان نوافذ الاحسائي المتوفى في الديار الغريبة.

    وليس في العجوز التي عاشت كثيرا، وربما يستبدلونها بعجوز أخرى ما أن تموت، لأننا رأينا في زيارتنا الأخير العجوز الطاعنة في السن نفسها التي تركناها قبل ثلاثين سنة!!

    المفارقة العجيبة ليس في أن هذه العجوز لا تموت، بل في أن ما يجري حقيقة ونعرفها لعشرات النسوة، فما أن يزرن هذا المرقد، حتى يتزوجن بسرعة البرق!

    ولعل سره فاتك هذا الاحسائي الذي لا يعرفه حتى الناس ويسمونه باسم خادمه ولماذا خصـّه الله سبحانه وتعالى لمعالجة مشكلة العنوسة، فهو متخصص في هذه المسألة بالذات وزواره نساء فقط، فلا يوجد من ينذر له لعلاج مرض أو الفوز باليانصيب أو النجاح بالمدرسة أو أي عقدة أخرى ورغبة وأمنية.

    وبالرغم من كل ما حصل في البصرة، يتفرغ له سادة المدينة الجدد ويخصصون له المزيد من الأموال ليوسعوا المرقد ليصبح مسجدا ويلحقوا به قاعة لإلقاء الدروس الدينية ويهذبوا الشجرة التي تغطي باحته بالظلال والفيء تيمنا بذلك الاحسائي الفقير الذي هدأ الأعصاب وزوّج البصريات جيلا بعد جيل، بلا مبالغة في النذر وطيش في العبادة وخروج عن نص النصيحة التي اتفقت عليها كل نساء البصرة بلا استثناء: لا غيره يفك عقدتك،، روحي لظاهر بن علي!!

    (3)
    ميقات البصرة

    الجريدة الأولى التي ظهرت في العراق كانت في البصرة وأسموها «الأوقات البصرية» ومن ثم انتقلت الى العاصمة كما انتقلت ثروات المدينة من قبلها لتسميها هناك «الأوقات البغدادية».

    وتوقفنا لا يخص الجريدة ولا العاصمة، بل يكمن في «الوقت» الذي كان منتصبا في مركز المدينة عند «ساعة سورين».

    كانت الساعة تطل على البصرة وتراها من كل جهاتها وتسمع دقاتها أينما تكون في المركز، فقد كانت «بيغ بن» البصرة، وليس في الأمر مبالغة، فالبصري الأرمني سورين جلبها من لندن ونصبها على مبنى البنك العربي محتضن ظلالها نهر العشار، وسوق المغايز مقابل جسر سوق الهنود.

    ساعة سورين ضبطت وقت أهالي البصرة وساعاتهم ونومهم وأيقظتهم منذ الأربعينات ولغاية أوقات طفولتنا وانتصبت أعلى برج تماما على الطراز الأوروبي من أربع جهات.

    كان حارسها يصعد إليها على سلم طويل ليشغلها ميكانيكيا بواسطة « الكوك « لتحافظ على ضبط مواعيد البصرة.

    ويقال أن انتعاش « شارع الكويت «كان السبب في هدم ساعة سورين في منتصف الستينات، بعد أن قرروا تهديم جسر الهنود وبناء الجسر الحديدي الحالي الذي يربط «شارع الكويت» بالضفة الأخرى للعشار التي ينتشر فيها سوق حنا الشيخ.

    بقيت ساعة البصري الأرمني في مخازن البلدية، لغاية سقوط النظام حيث نهبها لصوص لا يعرفون قيمتها الأثرية وربما حولوها الى سرير أو حائط أو حتى طباخ.

    لم يتصرف متصرف البصرة محمد الحياني الذي قتل مع الرئيس عبد السلام عارف لدى زيارة الأخير الى البصرة، بشكل صحيح ولم يستشر احد في دائرة الآثار كما قالوا، لكنهم مصرون هناك على إعادة بناء البرج ونصب ساعة في المكان نفسه الذي ودعه البصري الأرمني في نهاية الستينات بإلحاح من زوجته التي أجرت البنك العربي وهاجرا معا الى بيروت.

    يقولون في دائرة آثار البصرة ان «ساعة سورين» واحدة من أهم معالم البصرة القديمة وإعادة نصب شقيقة لها ليس بالأمر الصعب والمكلف، لكنه واجب سيعيد المدينة شيئا فشيئا الى «ميقاتها».

    قد يكون سقوط ساعة سورين، ومقتل الحياني واحتراق الرئيس في سنة واحدة في البصرة نذير شؤم على المدينة وعقرب كراهية تناوله الوقت ناثرا الملح على القمح والجمر على الغصون وبيداء مستغرقة على امتداد الأرض التي كانت أوقات الساعة اللندنية صولة سوسن وشراع يدرك نذره.


    (4)
    الأسد الساحليّ الملون

    كنا نعتقد أن « أسد بابل « الأبيض المنصوب في مدخل شارع الوطني مقابل نادي الفنون وفي حلق جسر الأمير والمطل على « أسكلـّة « الميناء العتيق والموالي لمخازن الداكير، هو « أسد بابل «، الأمر الذي جعلنا نشك في كراسات الدرس وحديثها عن موطن البابليين.

    لم يسأل أي منا لماذا أسدنا أبيض من دون الأسود، لكن لا يستطيع أحد من شبان المدينة شراء بنطلون وقميص جديدين دون أن يجرب التقاط صورة مع أسد البصرة .

    زهت الساحة بسرعة كبيرة وأصبح لها جمهورها، رغم صغرها ووجودها في « دوّار»، لكنه الدوّار الوحيد الذي يجذب الناس، بل يذهبون له خصيصا، فرحين بالأسد الأبيض الذي تلونه الأنوار حينا أحمر ومرة أزرق ودائما أخضر.

    أسد البصرة الملون عاصرنا جميعا، ولم يكن طائفيا ولا قوميا ولا حزبيا بالمرة، مخلوق صار جزءا منا ودخل في كل البيوت ولم يولد طفل جديد في العائلة إلا والتقطوا له صورة قرب الأسد البنفسجي.

    قاعدته كانت مهذبة ومرمرية كحلقات الحديقة وممراتها المنثورة برائحة الياس المكلف برسم حدودها والأنوار المحيطة به والتي لا تنطفئ أبدا، شجعت الكثيرين على التجمهر هناك ومذاكرة الدروس أوقات الامتحانات المصيرية.

    وجد الشبان للأسد وظيفة، فحولوه الى قاعة مطالعة ومكتبة صيفية لا يجرؤ أحد على مسـّه أو ترك ورقة وقصاصة على الثيل المنتشر حوله والذي طالما منحنا القشعريرة المتآلفة مع الوجدان في أن تكون داخل بيتك.

    منتصب لا يزال لكنهم خربوا نافوراته التي كنا نغتسل بها لطرد نعاس القراءة وحولوا قاعدته الناصعة قبلا الى سبورة لأحزابهم وربما علسوا حتى الياس الذي كان يؤكد وجود أسد بابلي في البصرة متعدد الألوان والأطياف.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    البصرة كما كانت.. البصرة كما هي الآن - 11 -
    مسالك المدينة المعطوبة في جفاف الحنفيات وخمائر المستنقعات
    البصرة ـ د. جمال حسين

    للأعشاب حق التنفس، وللخراف صيانة البرسيم، وللأطفال حرية تجاوز طين الأزقة ولسيدة الطبخ هتاف الماء المج ّ وللحوم نقاؤها وللزهور ورديتها وللبضائع مصرفوها ولليلة الزفاف كهرباؤها وللطور نسيمه وللأذان صوته وللأقداح بريقها وللسجائر قرفها وللحداد ساعده وللحفار بئره وللأدخنة سماؤها، لمن عاش في موطن المياه العذبة والأغصان الوفيرة ومتعة العبقرية ونصل الحكماء وعطر الساقية ودجاجاتها الموهوبات بالتبييض في المدينة المفتوحة على كل الأبواب وأسنة الثروات التي لا يحصيها كتاب ولا تعدها مدونة.

    وفوق هذا وذاك، لا الرمل صار حريرا، ولا الموجة وصلت شاطئها، ولا النجم استعجل ضياءه ولا كل هذه الجلبة استرجعت حق تذاكر الفرجة في فيحاء المدن الأكثر غرابة من نورس فرض منفاه على نفسه.


    كلما كنا نسأل عن قريبة أو زوجة صديق معدوم أو جارة قديمة كانوا، يجاوبوننا انها تعمل في البلدية.

    ويبدو أن البلدية تحولت الى معقل ضم كل نساء البصرة اللواتي يفككن الخط. فبأي شهادة أو تحصيل علمي يمكن لنساء المدينة إيجاد عمل في البلدية. وعند التفحص والسؤال وتمحيص النباهة، تبين أن عرائض أرامل المعدومين التي قدمت للأحزاب الفائزة بعد السقوط، كلها تم تحويلها الى البلدية.

    وبذلك حولوا البلدية الى أكبر منتدى لأرامل المدينة ومن فاتهن القطار ومن لم تمر بهن المركبة ولا حتى الشراع.

    وتمسك النسوة المتجمعات في دوائر البلدية عنوة أو بالترغيب وبالراتب الجديد المغري لجلب الحظ وكسر البخت، بمفاصل المدينة ومشاريعها الخدمية.

    وإذا صدقنا المثل الشعبي البصري القديم «المرأة ربت ثور ما كرب» (حتى الثور المعروف بعمله ومثابرته اذا ربته امرأة فلن يعمل)، فأنه وبغض النظر عن تحفظنا لهذا التقريع العنصري ضد المرأة، فإن الوقائع تثبت بأن ثور البصرة فعلا صار تنبلا، وسخا، متهدلا، نحيلا، لا يقوى حتى على أداء واجباته الشرعية!

    ماء الإنكليز

    البلد المسمى بأنهاره والمدينة التي جمعتهم كلهم وزادت عليهم أضعافا، تعاني من ارتفاع كبير في نسبة الملوحة في المياه الطافحة في الأنهر والجوفية منها. والنسبة وصلت الى درجات من الصعب للغاية عدها مصادر للمياه الصالحة للشرب.

    شربت البصرة من مشروع الإنكليز نصف القرن العشرين (بنوا أول شبكة للمياه العذبة عام 1932)، وفي نهايته وتحديدا عام 1996 بنوا محطة متواضعة بالقرب من المطار، تعالج المياه وتوزعها في 22 قناة أو أكثر بقليل.

    ومحطة تبنى في بلد محاصر وعلى ربوع صحراء مدينة «مارقة» ومحاصرة أصلا من المركز، فلا تجد من يصونها وينظفها ويزيتها، فتدهورت أحوالها بسرعة قبل أن يحصل الوسطاء على عمولاتهم، حين بدأ الناس يعنـّون على «مياه الإنكليز».

    فالملوحة زادت حسب المختبرات المتخصصة بنسبة 80 % ووصلت الرواسب في أحواض المحطة (التي تصفي المياه) الى أكثر من مترين من الرواسب (التي ليس لها علاقة بما يرمزون لهH2O ).

    ولم يتوقف الأمر عند رواسب ارتفاعها مترين في أحواض الشرب، بل نمو النباتات والأعشاب والطحالب في الأحواض نفسها، وثمة احتمال على وجود أحياء نهرية فيها أيضا وسرطانات ودود وزوري وحتى بساطيل الحرس الجمهوري.

    ماء النبع

    هذه المفردة يرددها أي بصري يوميا كلما عطش، ودخلت في اللهجة الدارجة الناس، فما إن تحل ضيفا عند أحد ويقدمون لك الماء حتى يصحبوه بالعبارة المعتادة : «لا تخف، اشرب، هذا ماء النبع»! وماء النبع، هو ذلك الذي تحمله عربات الحمير وخيول الشرطة المتقاعدة من القرنة حيث يلتقي دجلة والفرات ويكونا شط العرب ليبيعوه للناس بالعربات والخزانات نفسها التي كانوا يبيعون بها النفط بالأمس.

    وحكمة ماء القرنة لا تحتاج الى دراسة جغرافية، فالأملاح تبدأ في شط العرب الذي يمتاز بتأثيرات البحر عليه لأنه يصب فيه أولا، ولأنه يعاني كالبحر من المد والجزر الذي له تبعات «ملحية» معروفة.

    لذلك اخترع «العربنجية» طريقة يروون بها الناس وجيوبهم بأخذ الماء قبل «نبع» شط العرب، ومن تلك المساحات الكثيرة لدجلة والفرات المارة بالبصرة والتي سبق وأن سلطنا الضوء عليها.

    ماء بدعة

    حتى المياه في البصرة صارت «بدعة» لكن الناس لا يتجنبونها، فهي واحدة من بدع الدنيا التي قدر على البصرة شربها.

    فالبزنس المحلي تجاوز على حقوق الدولة المستهترة، وأقام مشروعا في مطلع القرن الواحد والعشرين في منطقة «بدعة» في الناصرية. ولم يكن مشروعا كبيرا وجديا، بل محطة بسيطة سرقت كل خطوطها الإنتاجية من مصانع الدولة التائهة، لتخصص منتجاتها الى البصرة تحديدا. وكان الماء يعلب في علب خاصة ويباع أغلى من البنزين في البصرة التي لا يكفيها بالطبع الماء المستورد من «بدعة».

    مشروع آخر ومماثل جدا أقامه البزنس في خور الزبير وبدأوا ينتجون ماء ما بطرق صناعية وبمعدل ألف متر مكعب في اليوم، عرفوه لأهل البصرة برمز لم نفك طلاسمه للآن (R.O)، والأمر بحاجة الى خبير في الكلمات المتقاطعة الذي جعل هذان الحرفان يميزان موائد الموسورين في البصرة.

    وثمة في محطة «شط العرب» خطط لتأمين المياه الصالحة للشرب لـ 17 محطة ستوزع مجانا لأقضية شط العرب والهارثة والجبيلة.

    ماء الاميركيين

    لا نستبعد أن يأتي يوم نقرأ فيه بأن شركة «بكتل» الأمريكية ستعمّر حتى المراقد في العراق وقد تجلب مؤذنين يتقنون لغات، وقد يؤم احد وكلائها المصلين وربما ينحرون الأضاحي ويزوجون الناس جماعيا.

    فلغاية اللحظة التي لم نستوعب فيها بعد مشروع الشركة في زراعة النخيل في البصرة وكون «جوني» صار «صاعود نخل» و«توني» تحول الى ملقح نخيل و«جورج» حاوي جمـّار، اصطادت الشركة بالتعاون مع تسمية وقورة هي «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» عقدا بنحو 40 مليون دولار يطورون فيه شبكة المياه الصالحة للشرب في البصرة.

    أرقام من تحت الماء

    منذ مطلع عام 2004 وقعوا هذا العقد الذي بموجبه ينبغي أن يعيدوا تأهيل 240 كيلومترا من قنوات الضخ ويعالجون المياه في 14 محطة، ويكرون الأحواض ويزيلون المستنقعات فيها ويصلحون السدود ويبنون الحواجز الجديدة ويزيدون من كمية المياه التي كانت تبلغ 17 ألف متر مكعب الى ضعف هذا الرقم ليرووا نحو مليوني إنسان في البصرة. و أشاروا في العقد بأنه سينتهي العمل به في صيف 2004.

    في هذه الأثناء لم يكونوا قد نقلوا «السيادة» بعد الى وزارة الموارد المائية ولم يتأكد من وجود وزيرها عبد اللطيف رشيد أو غرقه بتيار المحاصصة، غير أنه كان مغموما جدا في هذه الأثناء بالعلاقة مع دوائر إعمار العراق، مؤكدا بمناسبة وبدونها، بان هذا المبلغ (الخاص بالعقد المذكور) لا يكفي البصرة وحدها، فالمدينة تحتاج حسب دراسات المختصين في الوزارة الى ما لا يقل عن 150 مليون دولار لإيصال المياه الصالحة للشرب للناس (أي أربعة أضعاف قيمة العقد).

    ومع ذلك فربع المبلغ أفضل من لا شيء، حسب التقدير العادي للمشكلة، لكن أي تطور أو تصحيح لمياه البصرة لم يلحظه الناس، الذين بقوا مصرين على ضرورة شربنا لماء النبع!

    مزاج الهواتف

    يحلف بقهر المهندس عبد الزهرة الإمام مدير اتصالات البصرة، ويقسم بأنه ما أن يمدوا «قابلوات» الأسلاك الهاتفية في النهار، حتى يكتشفوا في الصباح التالي أنها سُرقت. ويطرح السؤال اللينيني الشهير: ما العمل؟ ويشكو بتساؤل: كيف باستطاعتنا تأمين شبكة الأسلاك بين البيوت والبدالات ؟ (لقد سرقت أسلاك هاتف مكتبنا في بغداد 6 مرات خلال عام واحد!).

    وفوق ذلك يقتحمون «كابينة الهاتف» ويسرقون توصيلاتها ويبيعون «التقسيمات» بجوار الكابينة مباشرة بعشرة آلاف دينار للتقسيم الواحد!

    ومزاج الهواتف ابتكر ظاهرة جديدة في البصرة والعراق عموما وهي أن المواطنون يصلحون خطوطهم بأنفسهم، فرؤية مجموعة من الرجال بمصعد طويل، معلقين عند برج أو عامود، بات مألوفا في أوقات العصر وبعد انتهاء الدوام.

    المصعوقون

    مات الكثيرون منهم بالصعقة الكهربائية، ودمر مثلهم تنسيق الشبكات، لأنهم يمارسون عملا لا يتقنونه.

    وظاهرة «شهداء التلفون» انتشرت، لأن بعض الناس يسرقون أسلاك هواتف الغير ويربطونها على شبكات الكهرباء لكي توصل لهم تيار المولدات أو كهرباء من حي مجاور يقطع بالتزامن من حيهم لكي يضمنوا حصولهم على التيار الكهربائي بحصتين، الأولى لحيهم والأخرى للحي المجاور.

    و«المصعوقون» لا يعلمون على الأغلب بأن أسلاك هواتفهم تحولت في الليل الى أسلاك كهرباء، فينالون في النهاية صعقة الأخطاء الكبرى للمجتمع.

    تجاوز المجتمع على الدولة صار طبيعيا ويوميا وبكل التفاصيل الصغيرة، فغاب الزمن الذي كان فيه المواطن يراجع (في مثل هذه الحالات) دائرة الهاتف الخاصة بمنطقته ويستدعي المختصين ليحلوا مشكلته، فهذه الأمور كانت تحل في البصرة، حتى بدون مراجعة وثمة عرف تعودنا عليه اسمه «هاتف الشكاوى» كانت مكالمة واحدة تكفي لتسجل شكواك وتحل في وقت معقول. أما أن يحمل كل ذي شكوى سلالمه ويعبث بأسلاك الخلق ويصعق أو يسبب موت غيره، فهذا تدبير لا يستطيع أحد إلقاء اللوم فيه على جهة بذاتها، بل على المجتمع برمته.

    حروب الهواتف

    وما يتعلق بالجهات الرسمية، فلديها مسجل 80 ألف هاتف فقط في البصرة التي يسكنها مليونا شخص والذين يحتاجون الى أكثر من ثلاثة أضعاف هذه الخطوط كحد أدنى.

    ولا تزال ظاهرة «المسؤول» متفشية كمرض هاتفي أيضا، فالمسؤولون الجدد ورجال الأحزاب تعاملوا مع الهواتف بذاك المزاج الذي حاربوه لدى «جماعة الزيتوني» في النظام السابق ووضعوا أيديهم على خطوط الغير من المواطنين المساكين الذين «ليس لديهم ظهر».

    و «الإكرامية» وهي رشوة صريحة، لعبت دورها في توزيع خطوط الهواتف، فلا يكلف المرء أكثر من 200 ألف دينار لزرع هاتف في بيته حتى لو يجلبونه له من قلب «الإيزي» وبالوقت الذي يحدده.

    وتبدأ المشاكل التي تصل الى القتل والتدخل العشائري، ما أن يغتصب مواطن بالرشوة، تلفون آخر، ولا يستطيع أحد حل هذه المنازعات ولا حتى مجلس مصلحة النظام!

    هكذا يموت الناس من أجل التلفون، صعقا وقتلا وحربا وغيظا، في حروب الهواتف التي عكست واقع مجتمع ودولة، كل منهما يتحمل قدرا لا يستهان به من طنين الموت.

    خمائر المستنقعات

    لا يوجد أقسى من غزو المستنقعات لأحياء البصرة كلها بلا استثناء. فهذه المشكلة تخص أيضا المجتمع والدولة، لكن الأخيرة تتحمل القسط الأكبر من الزبالة.

    فالموضوع تجاوز قمامة الشوارع والأزقة، ليتحول الى مهد مثالي للأمراض والأوبئة التي تنعش فيها حالة الأطباء والصيدلانيين والدفانين.

    وصفت بصرية هذا الأمر بـ«الجريمة» وتكون بذلك قد وجدت المفردة الصحيحة.

    فهل للمستنقعات التي ترعرعت في البصرة علاقة بحل وزارة الإعلام مثلا أو حل الجيش، فالذي لا يستطيع إيصال مياه صالحة للشرب الى الناس ولا يرفع عن بيوتهم المستنقعات، الأولى به أن يحل ّ عنهم، لأن ذلك ليس «تقصيرا» في الخدمات، بل قتل يومي وفي كل ثانية للكبار والصغار والهواء، ومذلة صباحية وإهانة مسائية توجه الى شعب مقصر بدوره أيضا، لكن تقصيره نتيجة لكل هذه المصائب التي لم يضع لها الساقطون أي حل، ولم يتداركها اللاحقون لأسباب عاد تكرارها مملا.

    مستنقعات المدن هي تهديد للصحة والسلامة وأسلحة استخداماتها متعددة ضد أناس لم يتحقق بان جميعهم عابثون وراضون عن ما آلت إليه مناطقهم ومدينتهم التي عرفت الأنوار والألوان والبهرجة والزينة، في مركزها الكبير على الأقل.

    تجاهل المعنيين قد لا يكون متعمدا، لكنه إهمال في كل الأحوال لا يكسبهم الاحترام ولا الاستحقاق الذي ذللوه بالانتظار والحجج، في وقت تكاد فيه المدينة تهوي ضراعة، طافية في دسّ اليوم بالآخر دسـّا، متمرغة بلا إرادتها بالوعود والعقود.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي



    البصرة كما كانت .. البصرة كما هي الآن- 12
    الفاو.. النخاع الشوكي للعراق وحلم صياديه
    البصرة ــ د . جمال حسين:
    لكي تحرث العراق، عليك الاستهلال بالفاو ولكي تطفئ قناديله، لابد من عاصفة تشجع أشرعة الفاو، فهي النخاع الشوكي للبلد وخصب عروقه وروايات مغاني بحره وحلم صياديه وإنهاك شباكهم.
    ولكي تنصب تمثالك في بغداد، عليك الدفع بأفواجك على شواطئها، فمنها ستحدد أعياد الوطن ومعزوفته الوطنية ولون رايته وحدود التجوال في مساءاته.

    فعلها الإنكليز في 5 نوفمبر 1914 ومنها هووا في أعماق تخوم البلاد، وارتفع في 2 أبريل 2003 على مبنى بلديتها أول علم أميركي في العراق هزّ «الوسط» السياسي الدولي مكدّرا «التحرير» لولا العثور على علم اللحظة الأخيرة، بلين ملفق خطا التاريخ غماره الجديدة، منها، التي ابتلعت الكثير جدا من الشبان عند احتلالها من إيران واستعادتها من فتيان آخرين.

    ولو وضع كل شاب عراقي مات من أجلها يده بيد آخر، لوصل تشابك الأكف من جمـّارها حتى صهباء زاخو.


    سنرى اليوم مدينة دائمة الفجر الذي يمكن أن نطلق عليه: البحر!

    ويمكن الحديث أيضا عن بوابتها المشيدة في «حملة إعمار» خاصة شاركت فيها كل دول الإقليم ( عدا إيران طبعا ) في نهاية الثمانينات. ولكون النظام حولها الى رمز باعتبارها حسب أدبياته «أول مدينة عربية تؤخذ بالقوة وتسترد بالقوة في التاريخ المعاصر «، فقد طغت عليها وليومنا هذا عقلية مؤدلجة، فيها احتفالية وتسييس واضح متسلل على معالمها القديمة.

    ويبدو أن أموال نهاية الثمانينات لم تسرق، لكنها أهدرت على الشكليات. وأخرق ما في الأمر، أن من خطط لتنظيمها الجديد، لم يعرف عن تاريخها حرفا واحدا، فجعلها نسخة مصغرة من «المنطقة الخضراء» الحالية في بغداد، وملأها بأنصاب «النصر» وأقواس تحرير وأعمدة شاهقة ينبغي أن تنير الساحة، لكنها بلا مصابيح الآن، وبوابة تحملك لأخرى وحتى المسجد الذي بنوه هناك جعلوا تصميمه غير شرقي ودسوا فيه شعارات ورسوما ورموزا تصلح لمبنى «القيادة القومية » وليس لمسجد سموه باسم وزير الدفاع الذي قاد معركة استرداد الفاو عدنان خير الله.

    لم تتحمل الفاو كل هذه الرموز والإشارات والأموال التي أسرفوا كثيرا في إهدارها على المرمر والأنصاب دون أن يقدموا شيئا الى أهل الفاو، كالمساكن مثلا.


    شقق الفاو
    يعرف البصريون جيدا تلك المنطقة التي كانوا يشيدون فيها أول مجمع سكني في نهاية السبعينات والواقعة مقابل «صبخة العرب» وبين الأصمعيين القديم والجديد.

    طالوا في بنائها كثيرا، فالمشروع الذي تبناه محافظ البصرة محمد محجوب وأراد أن يستكمله سلفه ماجد السامرائي، توقف، لان الشخصين أعدما مع نصف القيادة بحركة صدام المعروفة في يوليو 1979 عندما أزاح احمد حسن البكر وأعدم نصف قيادة البلد.

    وبقيت هذه المجمعات السكنية هياكل فقط، بلا أبواب ولا شبابيك ولا ماء ولا كهرباء. فهي جدران فقط، تنعطف بها الرياح عند الاقتضاء ويلهو بها المتسكعون عند الحاجة.

    ولغاية اليوم الذي اشتعلت فيه الفاو في سبتمبر عام 1980 كونها تبعد مرمى كلاشينكوف عن الحدود الإيرانية، داهمت المدينة هجرة جماعية لم تبق عليها ولم تذر.

    واستفاق الاهالي فجر يوم بغيض ليجدوا أمامهم مئات الشاحنات والعربات ومن حمل صرره مشيا، يهجمون بتدافع مذلّ على هذه المجمعات السكنية، ليسكنوا فيها، ويعمروا اسماً جديدا لم يتفق عليه أحد، سوى السواق الذين افتتحوا خطا حديثا اسمه: شقق الفاو !


    العودة
    وكانت عشر سنوات كافية لأن يتزوج فيها الصبي الهارب من جحيم الفاو وينجب في الشقق التي كان نصفها جدرانا والنصف الآخر ملابس مرقعة وحصرانا ويتعود على حياة المدينة الجديدة.

    وتعد هذه الجمل البسيطة، نقطة التحول الكبرى لوضع الفاو الديموغرافي، فشبان المدينة الذين نزحوا منها، لم يرجع أغلبهم إليها، بعد أن صار سائقا ونجارا وحارسا وغيرها من المهن، ولم يمتهن كآبائه الزراعة والصيد ومداراة القوارب.

    لهذا السبب، فالفاو التي استردوها وعمروها بطريقتهم وافتتحوا بواباتها في أواخر عام 1988، ليست الفاو ما قبل الحرب. والرياض التي كانت تزينها من كافة الجوانب، تحولت الى مطحنة حديد وقذائف وملاجئ جنود وحفر للموت.

    لقد شقوا في الفاو أحسن الطرق في البصرة كلها، لكن المدينة القديمة اختفت مع معالمها وكثافة سكانها وتكتلهم مع بعض.

    وشحبت « الأحواز « ( الأرض الزراعية التي يحيطها جدولان) وتملصت السعفات من جذوع النخيل ولم تبق غير « المملحة « محافظة على مستوى الملح الذي يصل أحيانا الى ركبة رجل طويل.

    اندثرت بيوت الريفيين المهتمين بالنخيل، بعد أن قطنها جنود غرباء من دولتين شرستين وغابت المشاركة المعهودة ما بين الكفّ والسنبلة و«المسحة» والطين. وأدى ذلك الى غموض البذرة ومستقبل الورقة ولون الزهرة.

    فأولئك الذين عاشوا دهورا طويلة يلقحون النخيل ويتقنون مسرى «الشاخات» (الممرات المائية في البساتين) ويحيطون مصائرهم بفصول التمرة والجراد ورحابة «الجريب»، عافوا تلقائيتهم وطافوا في طول البلاد وعرضها بعد أن طالت سنوات الحرب كثيرا منتزعة منهم أمل العودة الى التراب الخصب وتغميس أقدامهم في لوعته.


    جزائر الفاو
    ما أن تسير خلفها، ستلج بك المتعثرات نحو «سيحان» بطيورها ونسوة النهر الذي يزداد اخضراره بمشيئة السعفات الهابطة على مويجاته، وفي الأعلى ستنجز تلة أعشاب في «كوت الزين» فقاقيع أسئلة عن خناجر ومناجل وأظافر الأولين الذين قاوموا حتى الرمق المتاح الغرباء المحملين بسفن «الغراب» و«الترانكي» و «الغرافات» التي لا تشبه أساطيل بومبي ولا عادات أشرعتها وبحارتها السمر الذين يعشقون التنزه في جزيرة « أم الخصايف» ويعبئون تمر رحلاتهم القادمة من جزيرة «الشمشومية ».

    ستأخذك الموجة الى «جزيرة أم الرصاص» ليغمرك البعوض الذي يخترق حتى الفولاذ، لتعود الى أصوات مدافع البلجانية التي دفن معها العثماني الأخير في الفاو.

    تضطجع المدينة - الجزيرة على ميادين الجزر الملحقة في وركها، طيف جزائر مثقلة بالطحالب والأعشاب التي ليس لها صاحب، منشأة بمؤازرة نهر يذوب في البحر كقبس يمد النشوى متلفع بملتقى أطيار هاجرت خمرة شواطئها.


    ساحل المخدرات
    هي المرة الأولى التي يسمع فيها أهل الفاو مفردة مخدرات، لكنهم لا يعلمون الأكثر خطورة، أن مدينتهم التي كانت تحجز الغرباء في محجر الكرنتينة في حوز «محنتيني» البالغ الرهبة، حيث يموت نصف البحارة المحجوزين لحين التأكد من سلامة النصف الآخر صحيا، باتت مرتعا لتجار المخدرات الذين لا يريدون أكثر من خمس دقائق في أي قارب ليجنحوا بمصائبهم نحو شاطئ الفاو المقابل لهم، لتبدأ أوسع عملية انتشار للمخدرات في المنطقة.

    اشتكى كثيرون في الفاو من غزو المخدرات، للحد الذي ناشد فيه القائم بأمور دار العدالة في المدينة الى تنفيذ حكم الإعدام، على الأقل في مدينته التي ضيعت مرفأها وسلمته للمجرمين.

    فكل القضايا الجنائية المنسوخة في مدونات «دار العدالة في الفاو » منحصرة في تهريب المخدرات والمتسللين غير معروفي الأهداف والمقاصد.

    فماذا يريد المتسلل من إيران الى شواطئ الفاو وهل يعقل أن يكون هدفه شريفا؟ لاسيما أن أكثر من 20 منفذا حدوديا رسميا موجودة بين البلدين الآن، ويستطيع كل ذي جواز التنقل براحته في العراق، فلماذا التسلل إذن عبر جزر الفاو؟


    مشاريع عملاقة
    وأهمها «ميناء العراق الكبير» الذي سلطنا عليه الضوء في الحلقة الخاصة بالموانئ، يضاف إليه مشروع نفطي طموح، تحدثوا عنه كثيرا في الفاو، ملخصه تطوير الحقول النفطية والغازية ومرافق الإنتاج التابعة لها. وإذا قدر لهذين المشروعين النجاح، فيستطيع العراق تصدير نحو 3 ملايين برميل نفط يوميا من موانئ البصرة وحدها. ولكي يتم ذلك تسعى وزارة النفط إلى بناء مستودعات ضخمة للنفط بطاقة ضخ عالية، وستدعم هذه المستودعات خطط توسيع الطاقة التصديرية للنفط من موانئ البصرة (البكر سابقا) والعميق.

    مستودعات النفط الجديدة، تضم على الورق لحد الآن، 30 خزانا عملاقا ترتبط بها محطات الضخ، الأمر هذا إن تحقق سيمنح مرونة في التحميل وقدرة على الضخ مباشرة الى السفن الراسية في موانئ التحميل.

    بينما يجري الأمر الآن، أن النفط يصل السفن الراسية مباشرة من الحقول، وهذه عملية يعرفها الخبراء، كم تكون بطيئة، لأنها مرتبطة بكمية النفط الذي ينتجه الحقل، لا بقابلية الميناء على الضخ و الناقلة على الاستقبال.

    دكوا حاليا أساس مشروع المستودعات النفطية، إلا أنهم ينتظرون وصول صفائح الحديد التي ستبنى بها الخزانات، ناهيك عن المعدات الإلكترونية المرتبطة بمحطات الضخ وملحقاتها الأخرى.


    المدينة الورشة
    يعمل سكان الفاو كثيرا، نساؤهم ورجالهم. ويواصل صناع السفن الليل بالنهار، بتعبئة البحر بسفن جديدة، خشبية أو حديدية، بأشرعة أو بمحركات، ويبدو أن هذه المهنة البالغة الأهمية في معنى المدينة وجوهرها قد تم الحفاظ عليها وسلمت من جيل لآخر.

    فالشاطئ العراقي المقابل لإيران، ما قبل مصب شط العرب في الخليج، خصص لصناعة السفن من قبل شبان، وصفوا أنفسهم لنا بأنهم يجيدون هذه المهنة ويعتبرون أنفسهم مهرة، في حالة توفر المواد الضرورية.

    وحين سؤالنا عن كيفية حصولهم على هذه المواد، أشاروا الى الساحل الإيراني الذي يبعد دقائق قليلة بالقوارب، بالإضافة الى استغلال المواد وتحويرها من سفن أخرى تعطلت ولم تعد صالحة للعمل.

    يمد صناع السفن كابلات الكهرباء من أعمدة النور القريبة من الشاطئ، واشتكوا كثيرا من انقطاع الكهرباء، لأن أجهزة اللحام تحتاج الى طاقة كهربائية عالية لا توفرها المولدات الخاصة. لذلك فان عملهم في الأغلب يرتبط بوجود الكهرباء.

    وعن السفن الأكثر رواجا التي يقومون بتصنيعها قالوا انها التقليدية التي يعود عليها البحارة وكذلك المياه وتتناسب كثيرا مع الأجواء والرياح وتقلبات البحر في المنطقة . والأهم كما ذكروا، وظيفة السفينة، فالصيادون يطلبون منهم صناعة «البوم» و«البانوش» و«الشوعي» والأقل أموالا من الصيادين يحجزون «الجلبوت» و«النبوك» و«البقارة».

    أما تجار النفط، فيفضلونها حديدية وهي الأغلى وتحتاج لمواد كثيرة ووقت أطول ويصل سعر صناعة الجديدة الى نصف مليون دولار.

    يقول صناع السفن، بأنهم يعملون بـ «اليومية» وأحيانا بـ «المقاولة» لأنهم مجرد عمال، والعملية يقودها أصحاب الورش مع التجار، وفي أحيان كثيرة يوفر التجار أنفسهم المواد، وتقتصر مهمتهم وأجرتهم على « شغل إيديهم»، لهذا السبب، لم يعتبروا مهنتهم الصعبة والطويلة ذات أجر مغر.

    فالسفينة الجيدة الكبيرة التي تنقل النفط، تكلفهم أكثر من ثلاثة أشهر، على عكس سفن الصيد التي يعطونها لـ «صبيانهم» ليتدربوا بها.


    مرافئ الصيادين
    مرفأ الصيادين مقابل سوق السمك التابع للسوق الرئيسية في الفاو، معتنى به الى حد بعيد، وسقائفه جديدة وكذلك أحواضه الإسمنتية المخرمة بالكاشي الأبيض. وثمة خزانات متوسطة الحجم يستخدمها باعة الجملة في السوق، التي قالوا بأنها تغذي العراق كله بالسمك.

    والصيادون بعد رحلة الصيد لا يبيعون السمك بأنفسهم، لأنهم ينشغلون في نهاية رحلاتهم بتنظيف القوارب و«فلي» الشباك وإصلاح ما تعمله سمكة «الجصانة» التي يبلغ طولها متران أحيانا، والتي قالوا أنهم نادرا ما يظفرون بها ويحتاجون شباكا كبيرة لاصطيادها لأنها ضخمة وقوية في الماء. ومن السمك الكبير الذي اعتادوا اصطياده الشبوط والكطان والبني والسمتي والحمري والصبور وأنواع كثيرة جدا لم يتوقف أحدهم من عدها لغاية تذكيرنا إياه بالكواسج (قرش يعيش في شط العرب والأهوار)، فقال انهم اعتادوا عليها ووجودها يرتبط بسوء الحظ، وفي كل الأحوال أكدوا على أنهم يؤمّنون أنفسهم وقواربهم من هجماتها، غير أن صيادا قال من بعيد بأن أوقاتها وأماكن تواجدها ونشاطها معروفة لديهم ويتحاشونها قدر الامكان.

    وعن أسعار السمك، قال الصيادون بأنهم لا يزيدون ولا ينقصون من الأسعار، ولكن هذه الأمور مرتبطة بتجار السوق والطقس والوضع العام للسوق برمته ولا يتدخلون في الأسعار، طالما ثمة ثبات في الرزق والمحصول.


    نساء النخيل
    ونسوة الفاو يتقنّ، علاوة على الفلاحة، مِهنا ترتبط بالنخلة، التي يصنعون منها الكثير جدا من الأدوات المنزلية ويقمن ببيعها في سوق المدينة وتعد هذه الصناعات نسوية مائة في المائة. ويمكنك الحصول على أجود أنواع السلال والأطباق والمراوح اليدوية والمكانس و«الطبك » الذي يشبه الصينية و«السفط «الذي يستخدمونه لتنقية الحبوب من الأوساخ والمواد الغريبة والملاعق وقوالب» الكليجة « وغيرها من مواد كلها تستخرج من النخلة.

    وتتخصص بعض نسوة الفاو بحياكة السجاد المعروف بـ « الأزار « وهو واسع ويمتاز بجودته عن مثيلاته المصنوعات في الزبير وأبو الخصيب. واشتهرت «بسط» الفاو بألوانها ونقوشها ويفضلها البصريون عن تلك التي تصنعها نساء القرنة.


    حنـّة الفاو
    لا حنة في العراق غير تلك الموجودة في المنطقة الممتدة من أبي الخصيب حتى الفاو. وتتميز حنة الفاو بأنها المرغوبة في دول الخليج، والتي كانت تمثل مصدر رزق للكثير من المزارعين الذين تخصصوا في تهيئة الظروف لشجرتها التي تشبه التوت.

    فالحنـّة جزء مهم من الموروث الشعبي البصري وليلتها تسبق الزفاف للعذراء التي يطلونها بها بشعائر دينية واجتماعية، كما أنها صبغت شعر كل العجائز وأوراقها غسـّـلت موتى المدينة.

    وبالرغم من أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) لعُن من يقطعها لكونها أول الثمار في الأرض التي تناولها آدم، إلا أن الحروب أتت عليها ولم ينقذها غير الفاويات الوفيات لها اللواتي أقمن بنشاط ومثابرة عملية شاملة في إعادة زراعتها وتخصيص مناطق معينة لها، وساعدت هذه العملية على بث الروح في الشجرة التي يظنون أنها وصلت الفاو من الهند قبل قرنين.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي


    البصرة كما كانت .. البصرة كما هي الآن -
    أبو الخصيب.. الجنة المختصرة
    البصرة ـ د. جمال حسين

    تصل الى أبي الخصيب بواسطة طرق ثلاثة ونهر. فإما أن تسلكه عبر «المطيحة» أو تدوس جسر السندباد، أو تنثني بالتواءات «مناوي باشا»، ورحلتك عبر النهر ستمنحك منصهرا لـ«الجنة المختصرة».

    ومن أي اختيار تتهاوى عليها، فستأخذك الأسماء المجهولة ومراقد الخيرين ومحاكاة سدرة «برهاما» المنتصبة في مقبل «عويسيان» كمرآة للذنوب لا يجرؤ زمن ولا حروب على اقتلاعها.

    وستجري أمامك العربات وباصات الخشب وحمير منفردة وجمهرة غدير وحدائق في بساتين وبساتين من الجري لا يَخِز فيها الغصن الزهرة ولا يرتطم الجذع بالجذع بتناسق أوراق تدق طبلا واحدا.

    هي أبو الخصيب، الكثيرة الجدوى وشمس العطاء والمخضبة بالمنح والفتيان الذين كان لديهم أجمعين مستقبلا وفيرا.

    برفقة النخلة والسدرة والمشحوف نتوانى في طور سنيـّها في هذه البلدة العجوز الشاحب حصنها القديم في شاخصة «بريم » تسمية خلدوا فيها والي الخليفة المنصور: مرزوق أبو الخصيب!


    يدرك من استطاع إليها سبيلا من الكويتيين، تفوّق سحرها وجوها المنعش في سواحلها المطلة على شط العرب، فبنوا البيت تلو الآخر على طراز «الفلل» الكويتية على شواطئ أبو الخصيب الملاصقة لشط العرب. ويضعون فيها عائلة خصيبية أصلية بمن فيها لترعاها وتحرسها وتلقح نخيلها وتشذب أغصانها وتزهر أورادها.

    وكان تقليدا في الـ «ويك أند» رؤية قنوات من السيارات الجميلة تقف أمام كل «فيللا» ساحلية وتغادرها قبل مغيب الجمعة من كل أسبوع.

    هكذا سارت الحياة الساحلية الخصيبية، وكان متعهدو الدور من الأمان بحيث لم يتكدر أي من الطرفين بسوء فهم واحد، لاسيما أن الخصيبيين والكويتيين يقتربون جدا من بعض حتى في اللهجة التي تكاد لا تفرقها بينهم.

    حدثت الحرب وتحولت هذه الجنائن الى حاجب الجبهة الأمامي، سكنها الجند وماتوا فيها وخربت الدار بما وهبت، لكن الأرض بقيت وكذلك النهر وهي مقومات الجنة. وفي كل الأحوال فان تلك الدور حتى بدون حرب، كانت بحاجة الى ملاحقة تطور العصر ومتطلباته ودشاته، فأغلبها مبني في الخمسينيات وفي النهاية كانت تحتاج الى تهديم وبناء أخرى.


    دعاوى الملكية

    ولكي لا يرهق الكويتيين السؤال عن ممتلكاتهم فانها موجودة كما تركوها، فالطبيعة تداوي نفسها، لاسيما في أبي الخصيب المتعودة على المصائب والأوبئة والغزوات.

    وموجودة ليس فقط لأنها لم تطر الى كوكب آخر، بل حسب تأكيدات العاملين في «هيئة دعاوى الملكية العراقية» - مكتب البصرة، وهي هيئة تخصصت بالنظر في دعاوى الذين صادر النظام العراقي أملاكهم أو حرمهم منها لسبب أو لآخر أو تلك المملوكة من أناس هربوا أو غادروا العراق ولم يعودوا، وما تسبب غيابهم الطويل من مشاكل بشأن تصرف من أودعوا وكالات بحوزتهم وما نجم عنه من بيع وشراء في أطر مختلفة الظروف.

    الهيئة ليست بعيدة عن دار العدالة ومديرية المحاكم ومقر محافظة البصرة حيث تنتشر كل المقار الحكومية هناك. يجلس قبالتها كتاب عرائض ووكلاء محامين وتجار عقارات وغيرهم.

    فيها أجابونا عن الأملاك الكويتية في أبي الخصيب وغيرها من مدن البصرة والعراق، بأن الأمر محسوم من أوقات مجلس الحكم، حيث ألغيت كل القرارات الجائرة التي أصدرها «مجلس قيادة الثورة» أو الهيئات القضائية والأمنية التابعة له بمصادرة أملاك عراقيين وعرب وأجانب في البصرة وغيرها.

    وضربوا لنا بعض الأمثلة عن استرجاع إيرانيين لأملاكهم في البصرة بشكل سلس، متسائلين: «لو كنا أعدنا للإيرانيين، فما بالك بالأشقاء الكويتيين؟!».

    وحددوا المسألة بقوانين «التملك» الخاضعة مناقشتها والبت فيها للحكومة المنتخبة ما بعد الدستور، لكي تحسم عملية التمليك المباشر للعرب، بمن في ذلك الكويتيون والأجانب، حسب الأعراف والقوانين المتبعة في داخل الكويت نفسها ودول مجلس التعاون وباقي الدول العربية.


    بنود قانونية

    أما الأملاك الكويتية، حسب هذه الهيئة فهي تخضع للمعايير التالية:

    1 ـ ينبغي أن يكون «العقد» قانونيا سليما ومصادقا عليه في دوائر العدل العراقية المختصة ومسجل بـ«الطابو»، عندها ينال الصفة الشرعية أيا كان الملاك.

    2 ـ كل الأطراف ملزمة أمام القانون ولا مجال لاستحواذ أحد على أملاك الغير.

    3 ـ كل قرارات «مجلس قيادة الثورة» السابقة والخاصة بالمصادرة وتمليك العقارات والأراضي المصادرة لغير أصحابها باطلة وألغيت.

    4 ـ لا علاقة بتثمين العقارات سابقا وسعرها الآن، لأن عدم استقرار أسعار العقارات كان بسبب إلغاء القرار الخاص بـ «قيد 1957» (أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا منع فيه تملك أي عراقي أي عقار في بغداد ما لم يكن مسجلا فيها حسب إحصاء 1957).

    5- لذلك فأن هذا الإلغاء وارتفاع أسعار العقارات لا يشمل الوضع في البصرة ولا أملاك الكويتيين فيها، ولا توجد جهة قانونية واحدة لها الحق بـ«إعادة التثمين» عند استرجاع الكويتي لأرضه أو عقاره.

    6 ـ في رد على سؤالنا الخاص بالضرائب غير المدفوعة وهل ستؤثر في «النظر بالتثمين» أو عداها من إجراءات تثبيت الملكية، قالوا إن هذا الأمر سيأخذ مجراه على العراقيين والكويتيين وغيرهم وحسب التعريفة المنصوص عليها بقوانين الضرائب، ومن استحقت عليه يمكنه دفعها بأمر المحكمة وبالعملة العراقية طبعا.

    7 ـ وعن إمكان ظهور ملاكين وهميين بعقود «مسجلة خارجيا» قالوا إن العقود الأصولية المسجلة خارجيا لديها قوة القانون، لكن لا مجال للتلاعب والتزوير في هذه العقود، لأن للهيئة مؤشرات ومعطيات خاصة تكشف فيه التزوير بسهولة، مشددين على ضرورة امتلاك المالك الكويتي النسخ الأصلية من العقود وتوابعها، لأنها ستكون «المرجع» النهائي لإثبات الملكية في حال فقدان أو تلف العقود في دائرة الأملاك العقارية و«الطابو» في البصرة نتيجة الأعمال التي أعقبت سقوط النظام.


    أنهرها

    الأنهر في أبي الخصيب لا تكون وحيدة، فدائما فيها ناس، صيادون وعابرون، فتية يسبحون وصبيات يتداركن الحر والغبار، قوارب تنقل البضائع والركاب الى انحاء البصرة، حيث ينتشر 28 نهرا على طريقها فقط البالغ 5 كيلومترات.

    السيل الجارف جعل نهر الراجي يعمر قرى كثيرة ويستضيف أحيانا حتى السفن الكبيرة، كما هي الحال بنهر السراجي الذي تستطيع الحشائش التي تغطيه الآن قراءة أمواجه المنسابة بلا توقف.

    هناك أنهار أبو مغيرة والمناوي واللبان ونهر خوز وتفرعات أنهر جيكور وباب سليمان التي تشبه أنهار «الأخرس» و«القاووس» و«الأعوج» الذي ينقل المحتفلين بالربيع الى «نهر خوز» و«البراضعية» و« حمدان» و«عائشة» و«الزهدي« و«جند»، ولا تزال أصوات ارتطام الماء بالحصى النهرية تصدر موسيقى النقود التي منحت نهر «أبو الفلوس» تسميته.

    تتحاور أنهر أبو الخصيب مع أشجارها وتكسوها بحركة فراشات تنزلق على لوحتها، مطوحة بالقصص وخيوطها.


    مراقدها

    ما أن تعبر جسرا يكاد ينهار بك، حتى يطالعك مرقد لولي وأحد أخيار التاريخ، جائلة منائره بأعلام نحاسية تتطاير منها أوصال خضراء بمثابة عبارة الأشجان الرابطة عواطف الزوار بجرف الموتى.

    للآن يخشى الناس من الحلف بمرقد «أبو الجوزي» الذي أصبح عنوانا رسميا لبوابة البلدة وعلى حاله بقي مرقد سليمان الهاشمي، فيما تغطي حنـّة قديمة وأخرى طازجة جدران عباس بن مرداس.

    من بين ثنايا أزقة تهوى الانحناء ترمي الأبصار نحو مرقد السيدين رجب الرفاعي والرديني، وتواصل الحمامات السكن عند قبة عبد الرحمن بن عوف وباحة المقداد بن الأسود الفسيحة، حتى يتفجر النهار بمقطوعي سبيل وضحايا اللحظات المضروبة في الزمن الذي لا يملكون فيه لا الجوهر ولا القشور.


    نخل المشاكل

    هي مدينة دكتها القنابل ثماني سنوات، وقطـّع المدافعون عنها نخيلها وعبثوا بأزهارها وفواكهها وخضرتها. وربما تكون هذه الأسباب التي جعلت من أعضاء المجلس البلدي يعتبرون أن مدينتهم تعاني أكثر من مدن العراق قاطبة. تجدر الإشارة الى أن المجلس البلدي في أبي الخصيب شكل في 3 أبريل 2003 أي قبل سقوط النظام بأقل من أسبوع وهو أول مجلس إداري يشكل في العراق الجديد وصدام ما زال موجودا.

    يفسرون معنى أن معاناتهم تفوق العراق كله بقولهم ان مدن العراق تنقطع فيها الكهرباء على سبيل المثال، لكن قرانا لا تصل إليها على الإطلاق وكذا الحال بالنسبة للمياه فلا تزال القرى تعيش وتغسل وتشرب من مياه الأنهر الملوثة.

    أما برامج الإعمار فقالوا انها لم تصل، فقد قامت منظمة إنسانية بتصليح محطة حمدان للمياه، وبالكاد تكفي تلك البلدة وقامت منظمة «إنقاذ الطفولة» بترميم مشروع «باب الطويل» ولكن بدون ماء، بينما محطة «اللباني» التي تسقي أهالي مركز أبو الخصيب فعلى حالها لم يصلحها أحد. والاعتماد على مياه شط العرب لكون منسوبه ارتفع (بعد سقوط النظام) محفوف بالمخاطر بسبب تلوثه بنفط المهربين.

    في أبي الخصيب وحدها 35 ميناء ومرسى غير شرعي يمارس من خلالها التهريب تحت مسميات مختلفة كتصليح السفن والصيد.

    ولم تصل الى أبي الخصيب مخططات وزارة الزراعة القاضية بشتل «أمهات النخيل»، كما لم تصل الى المزارعين وحدات مكافحة الآفات الزراعية حيث تصيب آفة «الحميرة» نخيل القرى قبل موسم الجني.

    ثمة مشاكل البطالة و «المستوطنين» القادمين من الأهوار المجففة والجسور المحطمة وهروب الأطفال من المدارس لعمل ومساعدة عوائلهم الفقيرة والخطف والاغتيالات والفساد والمصادمات الطائفية.

    البضائع تخرج منها لتباع في كل أنحاء العراق عدا أبو الخصيب، التي غاب عنها حتى الصبور والزبيدي اللذين يصطادهما أبناؤها.

    لا مكتبات ولا إنترنت ولا أي ملعب للأطفال والحياة فيها مضجرة بالمكانس والمهافيف التي تبقت في سوقها

    عطور وطرشي

    الآن فقط بدأت ورود الرزقي والفلّ الخصيبية الأصل تظهر مجددا، لتشجع على ظهور معامل صغيرة لصناعة العطور سرعان ما دخلت الى السوق العراقية كلها، لندرة هذا النوع من الزهور، ولكون رائحتها تبقى لفترة طويلة كحال العطور الجيدة.

    ولأن أجود أنواع الخل، ذلك المصنوع من التمور، فقد اشتهر طرشي أبو الخصيب، لكونه 100 % طبيعيا ويحتوي، كخل وخضار بداخله، منتجات طبيعية وطازجة ولم تستخدم فيها أسمدة للخضار أو كيمياويات أخرى للخل، ناهيك عن الخبرة الطويلة التي يتمتع بها صناع الطرشي هناك، وفهمهم للأعشاب المضافة لكل نوع من أنواع الطرشي.

    حلاوة نهر خوز

    بدأت صناعتها عائلة واحدة تسكن قرية «نهر خوز» في أواخر القرن الثامن عشر، وما أن سرق «سرّ المهنة» حتى بات الكثيرون يصنعونها، الأمر الذي أدى الى ظهور السؤال الخاص بها: أصلية او تايوان ؟!

    لكن معامل حلاوة نهر خوز الأصلية معروفة للمختصين الذين يعرفون بأنها فقط تأتي من «آل إبراهيم» الذين كانوا أول من صنع هذا النوع من الحلوى الشهيرة جدا في الكويت والخليج.

    سر إعدادها يتحمل بعض مقاييس محدودة جدا من «الراشي والدبس» وأنواعها يتحكم بها أولاد إبراهيم مخترعها الأول مثل السكرية والراشية والجوزية والدهنية، وأوقات صناعتها تكون ما بعد جني التمر من يونيو حتى مدخل الشتاء.

    أما المقلدون فيصنعونها من التمر الحلاوي والساير ويضيفون السمسم إليها ويختلط دبسها بسمسمها ولا يكاد غير العارفين بأسرار الحلاوة التمييز بين الأصلي والتقليد، خاصة في أوقات رمضان التي تصبح فيها جزءا من متناول الناس.

    سدر وبمبر وعنبة

    ذكر القرآن الكريم أن ثمر السدرة من طعام أهل الجنة وتشتهر أبو الخصيب بها، فلثمرتها فوائد كثيرة للمعدة ويعتقدون أنها تعالج الإمساك ويغتسلون بأوراقها بدلا من الصابون!

    والنبق الذي تمنحه أنواع: زيتوني وتفاحي وبمباوي وملاسي (من غير نوى) وتم الآن عملية تركيب الشجرة في أبريل من كل عام (يقوم المحترفون بتركيب برعم سدرة تحمل أنواعا جيدة على أخرى بزراعة أغصانها فيها لتحسين النسل وإكثاره!).

    ويستفيدون من فحلها بتقطيع أغصانه وجذعه وبيعه كحطب أو لصناعة مختلف الأدوات الخشبية منه، فخشب فحل السدر من الأنواع الجيدة التي يثبتون بها الأبواب والسقوف.

    وتخلط ثمرتها بالتوابل لينتج منها الطرشي ، كذلك الحال مع شجرة البمبر الذي يقتل الدود في الأمعاء و «العنبة» التي تشبه المانجو بحجم البطيخة الصغيرة وتنضج ثمارها في يوليو من كل عام وتزدهر زراعتها حاليا لكون أبو الخصيب الموطن الرئيسي لها في كل العراق.

    وللبصريين معتقدات وطقوس ترتبط بهذه الأشجار، لاسيما السدرة، فلا يقطعونها من الجذر لأنها تجلب الشؤم لهم والمصائب، فالشجرة أصلا حزينة ومهابة ويعتقدون أنها تصون أسرارهم وترعاهم، لذلك ينذرون لها ويطلونها بالحنة ويجتمعون حولها مرددين الأذكار بمصاحبة الشموع والبخور ولا أحد يمسك بطير يختار عشه على سدرة.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني