النظرة الخاطئة لمفهوم الفتنة الطائفية في العراق

مفهوم الفتنة في التاريخ البشري معروف منذ أن حدثت أول جريمة ارتكبت على وجه الأرض , و لكن بمرور الوقت اختلطت المفاهيم على عوام الناس و لم يدركها إلا من كانت لديه البصيرة التي تؤهله لمعرفة الحقائق حتى و إن كانت الحقيقة ضائعة بين أوجه متعددة .. و في عصرنا الراهن و بعد أن حدثت تطورات في هيكلية التركيبة النفسية للأفراد و حدثت تغيّرات في نظم المجتمعات و اختلطت المفاهيم فأصبحت هجينا لا يعرف له معلم و لا تبرز له صورة واضحة . بل وصل الأمر بالشرائح التي يقال عنها بأنّها صاحبة القرار , حيث نراهم قد وقعوا فيما وقع به عوام الناس في الأزمنة الغابرة ؛ من تسطيح للأفكار و نظرة خاطئة في معالجة كثير من الأمور . و هذا ما نراه في تعاطي مفهوم الفتنة الطائفية في العراق على وجه الخصوص , فلحد الآن لم نر سياسيا أو عالما أو مثقفا أو خبيرا اجتماعيا استطاع أن يعطينا تفسيرا دقيقا لما يجري في العراق من جرائم ترتكب بحق شريحة واسعة في بلاد الرافدين .
فلو أخذنا ثلاثة عقود و أكثر من حكم الطاغية صدام و كيف أنه كان يمارس التطهير العرقي و الطائفي بحق القوميات الأخرى غير العربية و بحق الشيعة , لوجدنا بأنه كان يمارس ذلك من منطلقين اثنين , المنطلق الأول أنه كان يدعي القومية العربية فلهذا عادى كل القوميات الأخرى .. و المنطلق الآخر أنه كان يدعي أنه من المذهب السنّي فلهذا عادى المذهب الشيعي و أتباعه .. و كلا المنطلقين لا ينهضان لأن تلك المنطلقات خاطئة لا يمكن أن نفسرها تفسيرا بريئا و أنه كان يفخر و يدافع عن قومه أو مذهبه ؛ بل كان يمتلك نفسا خبيثة استقاها من أفكار هدّامة منحرفة تربى عليها هو و أسلافه على مدى العصور . فلهذا كان الجميع حينها ينظر إليه على أساس أنه لا يمكن أن يمثل القومية العربية أو المذهب السني .. بل هو حالة شاذة و يجب أن يقف ضده العرب و السنة كي يبرزوا للجميع الوجه الناصع للقومية العربية و الفكر السليم لعامة المسلمين بكل طوائفهم .. و لكن الذي حصل و للأسف أن أغلب القادة العرب و شعوبهم وقفوا وقفة مخزية و لم يدافعوا عن المظلومين المقهورين من أبناء الشعب العراقي , و تناسوا قول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ( ليست العصبية أن يفخر المرء بقومه , و لكن العصبية أن يفضل شرار قومه على أخيار قوم آخرين )
و في هذه الأيام و بعد أن سقط النظام الصدامي المجرم و خابت كل مساعيه في طمس معالم هوية الشعب العراقي الأصيلة , نجد أن هناك صداميين جدد كانوا يعملون في الخفاء يمدونه بفكر منحرف و أساليب إجرامية , و الآن هالهم أمر تمكن الشعب العراقي من أن يأخذ زمام الحكم بيده و تعلو إرادته على كل إرادة متمسكا بحبل النجاة الذي منحه الباري تعالى له .. فنرى تلك العصابات الإجرامية و من يقف خلفها من ساسة و كيانات في الداخل و الخارج , كيف أنّها ارتكبت و ما تزال ترتكب كل يوم مجموعة من الجرائم التي يندى لها جبين كل منصف على وجه البسيطة , فلم يراعوا أبدا دينا أو عرفا أو قانونا سماويا أو بشريا .. بل لهم قانون واحد و شريعة واحدة ألا و هو قانون و شريعة الغاب .. يمدونه بحقد متأصل في النفوس ترسخ في أصلاب و أرحام أسلافهم منذ قرون طويلة .
فخلال هذين العامين المنصرمين ارتكبت جرائم مروعة في النجف الأشرف و في كربلاء المقدسة و في الكاظمين المشرفة و في مختلف أمكنة تواجد أتباع شيعة أهل البيت , و آخرها كان في مدينة المدائن ( سلمان باك ) حيث اختطف العشرات من نساء و أطفال و شبان و شيوخ , و أخذوا رهائن و سمعنا هذين اليومين بأن قوات الأمن عثرت على عشرات الجثث ملقاة في نهر دجلة مقطوعة الرؤوس و تم التمثيل ببعضها بأبشع الطرق , و لقد تعاملت أجهزة الأمن مع الحدث بأسلوب غريب , حيث نراها تسمع من الأهالي صيحاتهم المتكررة منذ أشهر , و لكنهم لم يبادروا الى مساعدتهم و الانقضاض على أوكار الإرهابيين و دحرهم و القضاء عليهم , بل نراها تتعمد الإبقاء على تلك الأوكار و هذا ما تقره التصرفات لا أننا نتجنى على السلطات الأمنية التي تشكلت بأساليب خاطئة يعلمها الجميع .
و الذي أريد توضيحه و من أجله كتبت مقالتي هذه , بأن هناك نظرة خاطئة لمفهوم الفتنة الطائفية و تتعالى الصيحات من هنا و هناك بضرورة عدم الانجرار الى فتنة طائفية , و أن ما يجري من قتل و ترويع و خطف لأبناء الطائفة الشيعية , ما هو فتنة يراد لها أن تقع و قتال يدور بين الشيعة و السنة .. و لكن لو تبصرنا و أمعنا النظر بما يجري , لأدركنا بأن ترويجنا لهذا المفهوم و تأكيدنا عليه , ما هو إلا تقديم خدمة مجانية للجماعات الإجرامية و من يقف خلفها , لأنّ الخاسر الوحيد في كل ما يحصل هم الشيعة وحدهم ولو بقينا على التأكيد على رفع شعار ( نبذ الفتنة ) فسيأتي علينا يوم لن نجد أحدا من أهلنا أتباع أهل البيت يستقبلوننا حين العودة , بل علينا زيارة قبورهم الجماعية ( هذا إن سمح لنا بزيارتهم فربما قيل لنا لا يجوز زيارة القبور )

و على ما تقدم أقول .. يجب علينا أن ندرك حقيقة يتغافل عنها الجميع أو لم يدركها البعض , بأن من يريد الفتنة يجب أن يكون من طرف ثالث , يعني لا يكون من الشيعة أو السنّة , و كيفية معرفته تكمن من أنه يستهدف الطرفين على حدّ سواء , لا أن يستهدف طرف دون طرف آخر .. و ما نراه الآن أن الطرف المستهدف هم الشيعة فقط . و هذه ليست فتنة بل هي حرب معلنة من قبل السنة ضد الشيعة و إن لم نقف لها بحزم فلن تتوقف تلك العمليات الإجرامية بحق الشيعة , و ما دمنا نردد المصطلح الخاطئ ( أنها فتنة و يجب عدم الإنجرار الى حرب طائفية ) فلن يبقى لنا أحد من أهلنا . فكفانا ذلا و مهانة , و كفانا خنوعا و خضوعا , و علينا أن نبادر الى ممارسة دورنا الحقيقي في الدفاع عن المظلومين و إلا استبدلنا بقوم آخرين و حينها نكون قد خسرنا الدنيا و الآخرة .

اللهم اشهد بأنّي قد بلّغت .. اللهم اشهد بأنّي قد بلّغت

أمير علي الساعدي
21 _ 4 _ 2005
السويد
[email protected]