هل النفس مجردة عن المادة؟ (ونعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا؛ وبتجردها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان).
إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة، فإنا ربما غفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، ولا غفل قط عن المشهود الذي نعبّر عنه: بأنا، فهو غير البدن وغير أجزائه.
وأيضاً لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجودة فيها ـ وهي جميعاً مادية، ومن حكم المادة التغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي ـ لكان مادياً متغيراً وقابلاً للانقسام وليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدد وتغير، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصه ـ وكل مادة وأمر مادي كذلك ـ فليست النفس هي البدن، ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصة من خواصه، ساء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعاً مادية كيفما فرضت، ومن حكم المادة التغير، وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شيء من هذه الأحكام فليست النفس بمادية بوجه.
وأيضاً هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليس فيه كثرة من الأجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل انسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحاداً ما له بالبدن وهو التعلق التدبيري وهو المطلوب.
وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، وجمع من الإلهيين من المتكلمين، والظاهريين من المحدثين، واستدلوا على ذلك، وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو من تكلف من غير طائل.
قال الماديون: إن الأبحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها وتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، ولم تجد أثراً روحياً لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة.
قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الأعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية وسرعة وروها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملو دائماً، فما فيه من الماء يجده الحس واحداً ثاباً، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتاً وليس واحداً ثابتاً بل هو كثير متغير تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.
قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الإدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزء المركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.
أقول: أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أُقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمراً مجرداً خارجاً عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.
والذي جرّأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعاً مبدئاً لهذه الأفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.
وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن البتة وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر.
وأما قولهم: إن الإنية المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدة من الإدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة ـ ولها وحدة اجتماعية ـ فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى وروج المشهودات الحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليت شعري إذا فرض أن هناك أموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها البتة، وهذه الأمور الكثيرة التي هي الإدراكات أمور مادية ليس وراءها شيء آخر إلا نفسها، وأن الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟ ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً؟ والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة وإنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة والخط الواحد مثلاً، لا في نفسه، والمفروض في محل كلامنا أن الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم إن هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الادراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الادراكات الكثيرة في نفسها نفس الادراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إن المدرك ههنا الجزء الدماغي يدرك الادراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإن المفروض ان ادراك الجزء الدماغي نفس هذه الادراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الادراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صوراً حسية، فافهم ذلك.
والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجزئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته.
مع أن هذا الفرض أيضاً ـ أعني أن تكون الادراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة ـن فسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها، وهي جميعاً أمور مادية، ومن شأن المادة والمادي الكثرة، والتغير، وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلمية شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شيء؟.
قولهم: أن الأمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحداً بسيطاً ثابتاً غلط واضح، فإن الغلط والاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأمور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الأجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين العلمية، وكثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الأغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً البتة.
والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا وقوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج وأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها البتة، ولا يمكن أن يقال للأمر الذي هذا شأنه: إنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.
فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدَّعاهم) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجد أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق، لا الأصول المادية المسلمة بالحس والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.
وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية، من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعاً ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.
وقال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الأمور المربوطة بحياة الإنسان كالتشريح الفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأصول في حياة الإنسان وسائر الحيوان، وتتعلق بها، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي يسميه الإنسان روحاً لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد والاجتماع، ومن المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلولات وتفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الأمر أن الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول: إن العلل الطبيعية لا تفي بايجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس والتجربة، هذا.
أقول: وأنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنها مخدوشة أولاً: بأن عدم وفاء الأصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة لا ينتج عدم وفائها أبداً ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الأمر على جهل منا، فهل هذا إلا مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم؟.
وثانياً: بأن استناد بعض حوادث العالم ـ وهي الحوادث المادية ـ إلى المادة، بوضعها الآخر وهي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة ـ وهو الصانع ـ قول بأصلين في الايجاد، ولا يرتضيه المادي ولا الإلهي، وجميع أدلة التوحيد يبطله.