تصحيح النظرة الأصولية الإسلامية تجاه مصطلح " القانون الوضعي "

د.هادي نعيم المالكي
[email protected]
2005-06-12



[align=justify] يقف الأصوليون الإسلاميون تجاه مصطلح " القانون الوضعي " موقفا سلبيا ، إن لم نقل عدائيا ، وذلك بسبب فهمهم لهذا المصطلح على انه من " وضع البشر " بحسب ما يفهم لأول وهلة من كلمة " وضعي " ؛ هذه النظرة اقترنت من ناحية أخرى بالظروف التاريخية التي نشأت عن الاستعانة التدريجية للدولة العثمانية بالقوانين الأوربية في سعيها الحثيث آنذاك لبعث الحياة في الرجل العثماني المريض .

لذلك فقد وجدنا الاصوليون الإسلاميون دائما يقفون هذا الموقف السلبي والعدائي من " القانون الوضعي " بوصفه قانونا من وضع البشر وليس من وضع الله سبحانه وتعالى ، وهو الأمر الذي لا يمكنهم ، بحسب اعتقادهم الأصولي ، التسامح معه أو فيه . بيد إننا أهل القانون لا نعرف القانون الوضعي على هذا النحو السطحي باعتباره كما يتصور الأصوليون " من وضع البشر " بل " القانون الوضعي " عندنا هو " القانون النافذ والمطبق في زمان ومكان معينين بصرف النظر عن مصدره " ، مثلا القانون النافد في العراق في العهد الملكي ، أو القانون النافذ في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 ، وسواء أكان مستمدا من الفقه الإسلامي أو من القوانين المقارنة للأمم الأخرى . وبهذا المعنى والتعريف للقانون الوضعي ، فحتى الشريعة الإسلامية تكون ، وفقا لنا ، قانونا وضعيا ، أيام كانت الشريعة الإسلامية مطبقة إلى حد كبير في الدولة الإسلامية التاريخية .

وهذا التصور لدى الأصوليين الإسلاميين تجاه مصطلح القانون الوضعي بوصفه لديهم " من وضع البشر " قد ساهم في دفعهم إليه ، إلى حد كبير ، فقهاء القانون العرب الأوائل الذين تصدوا لنقل الفقه القانوني الغربي ، والفرنسي تحديدا ، إلى الثقافة القانونية العربية فترجموا المصطلح الفرنسي Droit Positif أو الإنكليزي Positive Law إلى " القانون الوضعي " فأوحت كلمة " وضعي " بما أوحت لذهن المتلقي من إنه من وضع البشر ، فالمشكلة تدين بأصل وجودها إلى هذا الأمر ، وهو أمر ناتج ، كما هو واضح ، عن عدم تحرز في الترجمة ، وربما لو ترجم المصطلح على نحو أخر لما كان لكل الجدل الذي نشأ أن ينشأ أصلا .
وبعد ذلك لو أردنا متابعة مناقشتنا لإخواننا الأصوليين في دور البشر في وضع القوانين والشرائع ، لقلنا إن القوانين النافذة والمطبقة في البلاد الإسلامية لا تخلو من تلك القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية وأبرزها في ذلك قوانين الأحوال الشخصية ، وهي في الوقت نفسه لا تخلو من عدد من القوانين التي تخالف الشريعة الإسلامية إما مخالفة صريحة أو مخالفة ضمنية في معنى من المعاني أو على فهم للشريعة الإسلامية وفقا لأحد المذاهب الإسلامية ولاسيما المتشددة منها . ولكن بالمقابل فإن الفقه الإسلامي لا يخلو هو الأخر بدوره من حضور لدور البشر كبير أو صغير ، ويتفاوت هذا الدور من مدرسة فقهية إلى أخرى ، وهو الأمر الذي حصل تاريخيا مع " مدرسة أهل الرأي " في العراق وزعيمها العبقري الإمام أبو حنيفة رحمه الله الذي لم يقبل من الأحاديث المروية عن النبي محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا ما لا يزيد عن عشرين أو خمسين حديثا على ما تذكر الروايات ، واعمل رأيه في الحالات التي لم يتوفر له فيها حديث موثوق أو نص قرآني كريم ، فسميت لذلك تلك المدرسة بمدرسة أهل الرأي . هذا تاريخيا ، أما في العصر الحاضر فاختلاف الفتاوى التي تصدر من المجتهدين والعلماء المسلمين المختلفين بصدد قضية واحدة وفي زمن واحد وحتى لو كانوا من مذهب إسلامي واحد ، لهو خير دليل على عظم دور الوضع البشري حتى في الشرائع التي يفترض إنها أحكام الله سبحانه وتعالى . ويا ترى ما الذي يقوله إخواننا الاصوليون بصدد قوانين مثل قانون المرور أو قوانين النقل التجاري بالطائرات أو غيرها من وسائل المواصلات الحديثة أو قوانين استخدام شبكة الانترنت أو غيرها من مفرزات الحضارة المعاصرة وما تتطلبه من قوانين لتنظيم استخدامها . لاشك إن هذه الأمور لا توجد بصددها أحكام تفصيلية لا في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة ولا حتى في الفقه الإسلامي . فبالتالي لا بد أن يصار في تنظيمها إلى دور العقل البشري في ضوء المبادئ الإسلامية العامة للتشريع سواء الواردة في القرآن أو السنة من عدل ومساواة وإنصاف وسعي إلى تحقيق مصلحة من سيتناولهم القانون بالتنظيم وتيسير أمورهم . ودور الوضع البشري كان ومازال حاضرا في الفقه الإسلامي في باب التعازير في الجنايات ، فالجنايات حدود وقصاص وتعازير ، والتعازير هي الجرائم أو الجنايات التي لم يرد بشأنها نص لا في قرآن ولا في سنة ، فيترك أمر تقرير تجريم الفعل وتحديد عقوبته إلى ولي الأمر أو القاضي الشرعي . ولا يخفى دور وضع البشر والمتمثل هنا بولي الأمر أو القاضي الشرعي .

إذن من الواضح إن الدور البشري كان وسيبقى ماثلا وموجودا في وضع القوانين والأحكام والتشريعات سواء منها تلك التي تصدر في الدولة الدينية الإسلامية أو الدولة المسلمة المدنية . إذن ، فإذا كان الأمر كذلك فلمَ هذه النظرة السلبية للإخوة الأصوليين المسلمين تجاه القوانين التي تصدر من الدولة المسلمة المدنية بدعوى إنها من وضع البشر ، ما دامَ دور الوضع البشري موجود وبالقوة نفسها في أحكام الفقه الإسلامي نفسه ؟ فإذا قيل إن بعض قوانين الدول المسلمة المدنية إنما تخالف الشريعة الإسلامية صراحة أو ضمنا ؛ فنقول لهم نعم كذلك ، ولكن هذا سيجعل الأمر مختلفا عن موضع المناقشة هنا وهو " دور الوضع البشري في القوانين والأحكام " وسيحيله إلى موضوع أخر وهو " مناقشة مدى مخالفة القوانين الصادرة من الدولة المسلمة المدنية للشريعة الإسلامية " ، وهو بحث أخر مختلف عن الأول ، كما هو واضح . ولكن هذا الأمر الأخير ، أي المخالفة الصريحة أو الضمنية للشريعة الإسلامية ، ليس مقصورا على القوانين التي تصدر من الدول المسلمة المدنية فحسب ، بل هو موجود أيضا وعلى نطاق ليس بالضيق في دائرة الفقه الإسلامي نفسه ، فالفتاوى والاجتهادات يمكن أن تقسم لغرض بحثنا هذا و بشكل عام ، إما إلى فتاوى صحيحة ومطابقة للشرع أو فتاوى غير صحيحة وغير مطابقة للشرع ؛ ومن الواضح إن هذا النوع الأخير من الفتاوى إنما هي تخالف الشريعة الإسلامية على الأقل بصورة ضمنية . ولكننا وللأسف قد وجدنا ، في هذا المجال ، إن بعض المذاهب الإسلامية ولاسيما المتشددة منها قد كَفََّرَ مذاهباً أخرى لاختلافهم عنهم في بعض الحكام الفقهية في العبادات خاصة ، ولا حاجة بنا لذكر الأمثلة على ذلك فإخواننا الأصوليين اعلم بهذه الأمثلة .[/align]